تحميل مصاحف

 حمل المصحف

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الأربعاء، 15 فبراير 2023

ج3وج4.درء تعارض العقل والنقل أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

ج3.درء تعارض العقل والنقل أحمد بن

 عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

الوجه الرابع
أن يقال : معلوم أنه لولا وجود الفاعل لكانت معدومة بنفسها ولم يكن عدمها معلول علة منفصلة عنها
وقول القائل : علة العدم عدم العلة : إن أراد به أن عدم العلة يستلزم عدمها ويدل عليه فهذا صحيح وإن أراد أن نفس عدم العلة هو الذي جعل المعلول معدوما ن فهذا معلوم البطلان بصريح العقل فإن العدم المحض لا يكون له تأثير في شيء أصلا ولأن ما لا يوجد إلا بغيره إذا لم يوجد الغير فهو باق على العدم مستمر على ما كان عليه والعدم المستمر الباقي لا يكون له علة أصلا ولو قدر أن لكل معدوم علة لعدمه للزم تقدير علل لا تتناهى لأن ما يقدر عدمه لا يتناهى وكل هذا باطل فإن العدم نفي محض ليس بشيء أصلا حتى يقدر فيه علل ومعلولات
وإذا كان كذلك فالممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا إذا قدر وجوده وإلا فمع تقدير عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلا فإذا قدر وجوده واجبا بغيره وجوبا قديما أزليا لم يكن هناك ما يقبل العدم ولا يمكن أن يقرن بذاته شرط عدم علته
وهذا الاعتراض يمكن إيراده على قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فهو إما واجب وإما ممكن
فيقال إن قيل بأن الذات هي نفس الوجود المحقق في الخارج فذاك إذا قيل ليس له حقيقة بدون الوجود بنفسه فإذا نظر إليه مجردا عن غيره بطلب حقيقته وكان نفيا محضا لم يكن له حقيقة بيلتفت القلب إيها ألبته
وإن قيل إن له ذاتا مغايرة للوجود فتلك الذات سواء قدر إمكان تحققها دون الوجود كما يقوله من يقول : المعدوم شيء أو فرض انه لا يمكن تحققها بدون الوجود فعلى التقديرين إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيرها لم تكن موجودة بل معدومة وانت قد فرضتها موجودة فهذا جمع النقيضين
وأيضا فهي مع عدم الالتفات إلى غيرها ممتنعة الوجود لا جائزة الوجود فما يمكن وجوده إذا التفت إليه من غير التفات إلى ما يقتضى وجوده كان ممتنع الوجود ن سواء فرض عدم ما يوجده او لم يفرض : لا وجوده ولا عدمه فهو لا يكون موجودا إلا مع ما يوجده فإذا التفت إليه مجردا عما يوجده امتنع وجوده
وإن قال القائل فرق بين التفات إليه بشرط لا أولا بشرط أو قال بشرط عدم الموجد أولا بشرط وجوده فإنه ممتنع في الأول وممكن في الثاني
قيل له : بل هو ممتنع ف يالقسمين فإذا أخذ لا بشرط كان ممتنع الوجود وكذلك إذا أخذ لا مع وجود الفاعل وذلك أنه لا يمكن وجوده إلا بالفاعل ووجوده بدون الفاعل ممتنع فإذا التفت إليه لا مع لازم وجوده كان وجوده ممتنعا والممتنع أعم من أن يكون ممتنعا بنفسه أو بغيره كما أن الموجود أعم من أن يكون موجودا بنفسه او بغيره والامتناع لا يفتقر إلى أنيقترن به شرط وهو عدم علته بل إذا لم يقترن به سبب وجوده كان ممتنعا والعقل يعقل امتناعه بدون ما يوجده وإن لم يخطر له أنه قرن به عدم علته فهو في تجرده عن الاقتران بما يوجده ممتنع كما هو في الاقتران فعدم العلة ممتنع
يبين ذلك أن عدم العلة لا شيء فاقترانه بعدم العلة اقتران بعدم محض فلم تختلف حاله بين تقدير عدم هذا الاقتران وانتفائه إلا إذا قرن به ما يقتضي وجوده وإلا فهو بدون القرين المقتضي لوجوده ممتنع معدوم وسبب هذا ان هذا الاقتران ليس هو الموجب لعدمه في نفس الأمر بل هو دليل على العدم والأدلة تتعدد والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول إلا إذا كان ملازما فالشيء إذا اخذ مع ضده كان ممتنعا ومع عدم فاعله كان ممتنعا وكل من الأمرين يدل على امتنعه وكذلك إذا أخذ بدون شرطه كان ممتنعا وبدون لازمه كان ممتنعا والمقتضى الممكن ألزم اللوازم له وأعظم الشروط ولا فرق بين أن يقدر مع انتفاء اللازم أو يقدر لا مع ثبوت اللازم فالأمر سواء هو في كليهما ممتنع إلا مع اللازم فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ولهذا كل ما يقدر في الخارج فإما واجب بنفسه او بغيره وإما ممتنع بنفسه أو بغيره
فإذا قيل : هو باعتبار نفسه لا واجب ولا ممتنع
قيل : ليس في الخارج شيء لا واجب ولا ممتنع وإنما ذاك شيء يقدر ف يالذهن فيقدر في الذهن ذات يمكن وجودها وعدمها وانت لم تتكلم فيما يقدر في الأذهان بل قلت : كل موجود فجعلت التقسيم واردا على الأمور الموجودة ف يالخارج وتلك إما موجودة بنفسها وإما بغيرها وليس فيها ما يمكن الالتفات إليه مع كونه غير موجود إلا إذا كان في الذهن مع أنه في الذهن موجودا ذهنيا

الوجه الخامس
قوله إن قرن باعتبار ذاته واجبا أو ممتنعا وغن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع
فيقال هذا التقسيم يتضمن رفع النقيضين فإنه لا بد أن يقترن بها حصول العلة أو عدمها 0 لا يمكن رفع النقيضين جميعا وهو حصول العلة وعدمها معا فالتقدير المقابل لهذين وهو أن لا يقترن بها حصول العلة ولا عدمها فهو تقدير سلب النقيضين وهو رفع وجود العلة وعدمها معا وهذا ممتنع
وحينئذ فلا يثبت الإمكان إلا علىى تقدير ممتنع وما لا يثبت إلا على تقدير ممتنع فهو ممتنع فيكون الإمكان الذي أثبتوه وهو أنه لا يجب ولا يمتنع لا يحصل إلا بتقدير ممتنع وهو رفع النقيضين فيكون ممتنعا وهذا يوضح أن هذا الإمكان أمر لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل الإمكان إلا في شيء يكون موجودا تارة معدوما أخرى 0 واما ما يكون موجودا لا يقبل العدم ألبتة فليس بممكن 0 كما أن المعدوم الذي لا يقبل الوجود البتة ليس بممكن مثل نقيض صفات كمال الباري فإن العجز والجهل ونحو ذلك أمور معدومة له لا تقبل الوجود ألبتة كما ان حياته وقدرته وعلمه من لوازم ذاته لا تقبل العدم ألبتة بل يجب وجودها ويمتنع عدمها وليست من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يبين هذا

الوجه السادس
وهو قوله وإن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث
يقتضي أن هذا الأمر الثالث إنما يكون له من ذاته إذا لم يقرن بها احد الأمرين ومعلوم أنه لا بد ان يقرن بها أحد الأمرين فإذا لم يكن لها الإمكان إلا في حال تجردها عن الاقتران وهي لا تتجرد عن الاقتران لم يكن لها من ذاتها إمكان أصلا فإنه جعل ما لا يمكن عدمه واجبا سواء كان واجبا بنفسه او بغيره وما كان واجبا لم يكن ممكنا وإنما يكون ممكنا إذا لم يقرن به لا سبب وجوده ولا سبب عدمه يقرر هذا

الوجه السابع
وهو أن هذا الكلام يقتضي أنها في حال اقرانها بشرط حصول العلة واجبة ليس لها من ذاتها افمكان والتقدير أنها موجودة وان الموجود إما واجب وإما ممكن وفي حال وجودها قد اقترن بها حصول العلة فلا يكون في حال وجودها لها من ذاتها الإمكان
وحينئذ فوصفها بالإمكان في حال الوجود الواجب ممتنع فبطل تقسيم الوجود الواجب إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار بخلاف تقسيم من قسمه إلى واجب وممكن وفسر الممكن بما يوصف بالوجود تارة والعدم أخرى فيكون تارة موجودا وتارة معدوما فإن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا منافاة فيه فإنها توصف بالإمكان حال عدمها لأنه يمكن وجودها وتوصف به في حال وجودها لأنه أمكن وجودها كما امكن عدمها

الوجه الثامن
أن قول القائل له من ذاته الإمكان أو ان ذاته تقبل الوجود والعدم ونحو ذلك
يقال له هذه الذات هي من حيث هي ذات مع قطع النظر عن وجودها كما فرضتم ذلك هي واجبة أو ممكنة او ممكتنعة فإن كانت واجبة أو ممتنعة بطل كونها ممكنة وإن كانت ممكنة فلا تكون ذاتا إلا آخر يجعلها ذاتا كما أنها لا تكون موجودة إلا بامر آخر يجعلها موجودة 0 بل قياس ما ذكروه أنه لا يثبت كونها ذاتا إلا بسبب ولا ينتفى كونها ذاتا إلا بسبب وهذا يفضي إلى التسلسل لأن القول فيما يوصف بكونه ذاتا كالقول فيما يوصف بكونه موجودا

الوجه التاسع
أنه إذا كانت تلك الحقيقة والذات مفتقرة في كونها حقيقة وذاتا إلى سبب فلا سبب إلا واجب الوجود وواجب الوجود يمتنع ان يجعلها حقيقة مع كونها معدومة فلا يجعلها ذاتا وحقيقة إلا مع كونها موجودة 0 وحينئذ فإذا كان وجودها واجبا به فحقيقتها واجبة به فلا تكون قابلة للعدم كما أن نفس الوجود لا يكون قابلا للعدم لما فيه من الجمع بين النقيضين

الوجه العاشر
أنه إذا قدر أن واجب الوجود لم يجعل حقيقتها 0 وهي لا تكون لها حقيقة إلا بسبب لم يكن هناك حقيقة تقبل الوجود والعدم

الوجه الحادي عشر
قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره الخ
يقال نحن إذا التفتنا إلى السماء او غيرها من الموجودات من غير التفات إلى غيرها لم نعقل إلا تلك العين الموجودة فإذا قدرنا انه لا يجب لها الوجود من نفسها لم تكن موجودة إلا بموجد يوجدها فنحن نعقل ان الشيء إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره وإذا قسم الوجود إلى موجود بنفسه وموجود بغيره وسمي هذا ممكنا كان هذا تقسيما صحيحا وهو كتقسيمه إلى مفعول وغير مفعول ومخلوق وغير وخلوق 0 اما كون هذا الممكن له ذات وليس له من تلك الذات وجود ولا عدم فهذا غير معقول في شيء من الموجودات بل المعقول انه ليس في الممكن من نفسه وجود أصلا ولا تحقق ولا ذات ولا شيء من الأشياء
وإذا قلنا ليس له من ذاته وجود فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود بل معناه أنا نتصور ذاتا في أنفسنا ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج فإن هذا باطل
وإذا كان كذلك وعلمنا أن كل موجود فإما موجود بنفسه وهو الخالق أو موجود بغيره وهو المصنوع المفعول والمصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم بل الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم عند عامة العقلاء ولو قدر أنا لم نعرف هذا فتسمية ما وجوده بنفسه ووجود غيره منه خالقا
وتسمية ما أبدعه غيره مخلوقا أحسن وأبين من تسمية هذا ممكنا إذا الممكن لا يوصف به في العادة إلا المعدوم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد وأما وجد فقد خرج عن افمكان إلى الوجوب بالغير فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى وجود وعدم لا يسمونه ممكنا وإنما يسمون بالممكن شيئا يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل
ثم إذا عرف أن كل ما سوى الوجود بنفسه فهو مفعول مصنوع له علم أن المصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا كما قد بسط في موضعه وهذه الاعتراضات ليست اعتراضات على إثبات واجب الوجود فإنه حق لكن على هذا الطريق الذي سلكه حيث أثبت ذاتا ممكنة مع كونها عنده قديمة أزلية ولا يحتاج إثبات واجب الوجود إلى هذا في هذه الطريق
بل إذا قيل كل موجود فإما موجود بنفسه وإما موجود بغيره والموجود بغيره لا يوجد إلا بالموجود بنفسه ثبت وجود الموجود بنفسه وإذا سمي هذا واجبا وهذا ممكنا كان ذلك أمرا لفظيا 0 لكن المقصود أنه لا يثبت واجب الوجود بما يدعي أنه ذات تقبل الوجود والعدم وهؤي مع ذلك قديمة أزلية واجبة فالواجب لا يقبل العدم بحال والله أعلم
وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الموضع عامة النفع ويحتاج إليها في هذا الموضع وغيره لما في القلوب من الأمراض ولكن خرجنا إليها من الكلام على المسالك التي سلكها أبو عبد الله الرازي في حدوث العالم والأجسام ن وذكرنا كلام الآمدي على تلك المسالك فحصل هذا في الكلام على المسلك الأول

فصل تقرير الآمدي للمسلك الثاني
وأما المسلك الثاني فمسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص فقرره الآمدي من وجهين
الوجه الأول
أحدهما ما ذكره الرازي ثم زيفه
قال الآمدي المسلك الثاني هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها وكل ما كان كذلك فهو محدث فالعالم محدث
أما المقدمة الأولى فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين الأول انهم قالوا كل جسم من أجسام العالم فهو متناه وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين وحيز معين
أما المقدمة الأولى فلما سبق تقريره وأما المقدمة الثانية فلأن كل جسم متناه فلا بد له من مقدار معين وأن يحيط به حد واحد كالكري أو حدود كالمضلع وهو المعني بالشكل وأن يكون في حيز بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك
وهذا كله معلوم بالضرورة وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به
وبرهانه أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه أو شكل غير شكله وحيز غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا وإذا كان كذلك فلا بد له من مخصص بما يخصص به وإلا كان أحد الجائزين واقعا من غير مخصص وهو محال
الطريق الثاني أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة أو مجتمعة ومتفرقة معا أو لا مجتمعة ولا متفرقة أو البعض مجتمعا والبعض متفرقا لا جائز أن يقال بالاجتماع والافتراق معا ولا أنها غير مجتمعة ولا مفترقة معا إذ هو ظاهر الإحالة فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخر وأي قسم منها قدر أمكن في العقل فرض الأجسام على خلافه فيكون ذلك جائزا لها ن ولا بد لها من مخصص يخصصها به لما تقدم في الطريق الأول
وأما بيان المقدمة الثانية وهو أن كل مفتقر إلى المخصص محدث فهو أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وأن يكون ما يخصصه حادثا لما تقدم في المسلك الأول يعني مسلك الإمكان فإنه قدمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره فيه وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر والأجسام لا تخلو عن الحادث فتكون حادثة فإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر والأجسام حادثة فالأعراض كلها حادثة ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر والأجسام والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض فيكون حادثا
قال الآمدي وهذا المسلك ضعيف أيضا إذ لقائل أن يقول المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق من المسلك الأول وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق في بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه

تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي
قلت هذا المسلك أضعف من مسألة الحركة والسكون فإن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس إذ كلاهما مفتقر إلى بيان امتناع حوادث متعاقبة وقد عرف ما فيه 0 وهذا يزيد باحتياجه إلى بيان أن الجسم لا يخلو عن صفات حادثة غير الحركة والسكون وهذا يخالف فيه جمهور العقلاء وهذا مبني على مقدمات على أنه لا بد من قدر أو اجتماع أو افتراق وان ذلك لا يكون إلا بمخصص وأن كل ما لا بد له من مخصص فهو محدث
أما المقدمة الأولى فجمهور العقلاء سلموا أنه لا بد له من قدر وأما كونه لا بد له من اجتماع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد
وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد حتى الطوائف الكبار من أهل الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وكثير من الكرامية مع أكثر الفلاسفة وإن كان القول بتركيب الجسم من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أيضا أفسد من دعوى تركبه من الجواهر الفردة فكلا القولين ضعيف
ونحن في هذا المقام مقصودنا التنبيه على جوامع الطرق ومقاصدها وأما كون ما له قدر يفتقر إلى مخصص فهذا فيه نزاع مشهور 0 وذلك أن القدر صفة من صفات ذي القدر كألوانه وأكوانه وسائر ما يمكن أن يتصف به الجسم من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك فإن صفاته نوعان منها ما يختص بالأحياء مثل هذه الصفات ومنها ما يشترك فيه الحي وغيره كالألوان والقدر والطعم والريح
فإذا قال القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون قدرو على خلاف ما هو عليه كان بمنزلة أن يقول كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته 0 فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات كان تحويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا لها أن تكون على خلاف صفاتها بل القدر من الصفات
ولهذا لما تكلم الفقهاء في مفهوم الصفة كقوله صلى الله عليه و سلم في الإبل السائمة الزكاة تكلم بعضهم في مفهوم القدر كقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فقال آخرون القدر من جملة الصفات
ولهذا كان مما احتيج به من احتج به من أهل الكلام على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم أن العالم له صفات وأقدار يمكن أن يكون على خلافها فهو مفتقر إلى مخصص لأن العالم ممكن بالاتفاق والمخصص لا يكون موجبا بالذات
وقد سلك هذا الطريق أبو المعالي في النظامية فسالكو هذه الطريقة ومنازعوهم لم يفرقوا بين القدر وسائر الصفات في إمكان القبول وعدمه والقدر المعين أقرب إلى الذات المعينة من الصفات المطلقة كما أن صفاته المخصوصة ألزم له من جنس القدر فإن نفس الجسم التعليمي الذي يقدر في الذهن لا يمكن فرضه إلا وله قدر يمكن فرضه خاليا عن جميع الصفات لنه فرض جسم شامل لجميع الأجسام ن فلهذا قدر مجردا عن جميع الصفات كما يفرض عدد مجرد عن جميع المعدودات
وكذلك ما يتخيله الإنسان من الأجسام بعد رؤيته له كتخيله الإنسان والفرس والشجر والدار والمدينة والجبل ونحو ذلك يمكنه تخيله مع عدم تخيل شيء من صفاته كألوانه وغيرها ولا يمكنه تخيله مع نفي قدره فاختصاص جنس الجسم بجنس القدر كاختصاص جنس الموصوفات بجنس الصفات واختصاص الجسم المعين بقدره كاختصاصه بصفته المعينة وحقيقته المخصوصة
وكل شيء له حقيقة تخصه وقدر وصفات تقوم به 0فهنا ثلاثة أشياء المقدار والحقيقة وصفات الحقيقة
فقول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك القدر كقوله كل موصوف يمكن وجوده على خلاف تلك الصفات وهو أقرب من قوله كل ماله حقيقة فيمكن وجوده على خلاف تلك الحقيقة
ولكن في هذا المقام يكفي أن يجعل حكم المقدار حكم سائر الصفات فلا ريب أن كيفية الموصوف وصفاته ألزم له من قدره فكيفيته أحق به من كميته فاختصاصه بقدر دون اختصاصه بصفة فالنار والماء والهواء يلزمها كيفياتها المخصوصة أعظم مما يلزمها المقدار المعين
فيقال إن أمكن أن يقرر أن كل جسم يقبل من الصفات خلاف ما هو عليه وما كان كذلك فهو ممكن أو محدث كان هذا دليلا عاما لا يختص بالمقدر وغن لم يمكن ذلك فلا فرق بين القدر وغيره
وأحد الطرق التي ذكرها إبرازي وغيره في إثبات الصانع تعالى الاستدلال بإمكان صفات الجسم أو حدوثها لم يفرق السالكون فيه بين القدر وغيره
ثم لقائل أن يقول قول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر أو كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف ونحو ذلك أتريد به الإمكان الذهني إن الخارجي ؟ والفرق بينهما أن إمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع ن فليس في ذهنه ما يمنع ذلك 0 والإمكان الخارجي معناه العلم بالإمكان في الخارج
والإنسان يقدر في نفسه أشياء كثيرة يجوزها ولا يعلم أنها ممتنعة ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أخر
فإن قال أريد به الإمكان الذهني لم ينفعه ذلك لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة له
وإن قال أريد إمكان الخارجي وهو أني اعلم أن كل موصوف بصفة أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك كان مجازفا في هذا الكلام لأن هذه قضية كلية تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد 0 غايته انه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق ولأن هذا ينعكس عليه
فيقال له لم نر إلا ماله صفة فيقاس الغائب على الشاهد
ويقال كل قائم بنفسه فله صفة وقدر وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم فإن هذا لا يعلم انتقاضه
وأما قول القائل كل ماله صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده فأين القياس الذي لا يعلم افتقاده من القياس الذي لا يعلم اطراده ؟
والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له صفة وقدر وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته وقدره مع بقاء حقيقته التي هو بها هو ولكن مع استحالة حقيقته فاستحالة قدره وصفاته أولى
ثم إن ما نشاهد من السماوات غنما نعلم جواز كونها على خلاف هذه الصفات بأدلة منفصلة لا نعلم ذلك ضرورة ولا حسا 0 ولهذا نازع في ذلك كثير من العقلاء الذين لا يجمعهم مذهب معين تلقاه بعضهم عن بعض 0 ولو كان هذا الجواز معلوما بالضرورة لم ينازع فيه طوائف العقلاء الذين لم يتواطأوا على قول فإن هؤلاء لا يتفقون على جحد الضروريات
ثم يقال هذا بعينه معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها فإنه يمكن أن يقال كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص
ويقال أيضا كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص
ومن المعلوم انه قد علم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أنه لا بد من وجود واجب بنفسه قديم ن وموجود ممكن محدث ن فإنا نشاهد حدوث الحوادث والحادث ممكن وإلا لما وجد وليس بواجب بنفسه وإلا لم يعدم ويعلم بالضرورة أن طبيعة المحدث لا تكون إلا بقديم وطبيعة الممكن لا تكون إلا بواجب كما قد بسط في غير هذا الموضع
فإذا كانت الموجودات منقسمة إلى قديم ومحدث وواجب وممكن فمن المعلوم انهما يشتركان في مسمى الوجود والماهية والذات والحقيقة وغير ذلك ويختص الواجب بما لا يشركه فيه غيره
بل من المعلوم بالضرورة إن الواجب له حقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره ن فإن كان كل مختص يفتقر مباين له افتقرت حقيقة الواجب بنفسه إلى مخصص مباين له فلا يكون في الموجودات قديم ولا واجب فيلزم حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات بلا واجب
وهذا كما أنه معلوم الفساد بالضرورة فلم يذهب إليه احد من العقلاء بل غاية الدهري المعطل الكافر أن يقول : العالم قديم واجب الوجود بنفسه لا يقول : إنه ممكن محدث ليس له مبدع وإذا قال الدهري إن العالم واجب الوجود بنفسه لزمه أن الواجب بنفسه مختص عن غيره بصفات لا يشركه فيها غيره كالحوادث من الحيوان والنبات والمعدن
ففي الجملة كل عاقل مضطر إلى إثبات موجود واجب بنفسه له حقيقة يختص بها عما سواه من غير مخصص مباين له خصصه بتلك الحقيقة
ومن قال : إن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط
فيقال له : هذا القول وإن كان فساده معلوما بالاضطرار كما بين في موضعه قول متناقض وهو مستلزم أنه مختص عن غيره بما يخصه
وذلك أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا ولا يوجد إلا مقيدا بقيد من القيود
فإذا قيل : موجود واجب قيده بالوجوب فلم يبق مطلقا
وإن قال : ليس بواجب قيده بسلب الوجوب فلم يكن مطلقا
وإن ادعى وجود موجود لا واجب ولا غير واجب لزمه رفع النقيضين جميعا وهو أظهر الأمور الممتنعة في بديهة العقل
ثم إنه يقيده بكونه مبدأ لغيره وبكونه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وغير ذلك من الأمور المقيدة المخصصة التي يمتاز بها من غيره ولا يكون وجودا مطلقا
ثم إن قال هو مطلق لا بشرط لزمه ان يصدق حمله على كل موجود كما أن الحيوان المطلق لا بشرط يصدق عليه حمله على الإنسان والفرس وغيرهما من الحيوانات وهذا متفق عليه بين العقلاء فيلزم حينئذ أن يكون كل موجود واجب الوجود إن كان واجب الوجود هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وامثاله من الملاحدة الباطنية باطنية الرافضة وباطنية الصوفية
ومعلوم أن هذا مكابرة للحس والعقل وهو منتهى الإلحاد في الدين وإن قال هو مطلق بشرط الإطلاق كما يقوله طائفة من ملاحدة الطائفتين ممن يرفع عنه النقيضين فهم قد قرروا في منطقهم ان المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم يلزمهم ان لا يصفوه بالوجوب ولا بكونه علة ولا عاقلا ولا معقولا ولا عاشقا ولا معشوقا لأن هذه كلها تخرج الوجود عن أن يكون مطلقا بشرط الإطلاق وتميزه عما ليس كذلك والمطلق لا بشرط ليس فيه اختصاص ولا امتياز
وإن قالوا : مطلق بشرط سلب سائر الأمور التثبوتيه عنه وهو الموصوف بالسلوب والإضافات دون الإثبات كما يقوله ابن سينا وطائفة فهذا مع أنه باطل من وجوه كثيرة ليس هو مطلقا بل موجود مقيد بقيود سلبية وإضافية وذلك نخصيص امتاز به عن سائر الموجودات على أي وجه قدر
ثم يقال كل ما أشار إليه العقل من الأمور فلا بد له من حقيقة تختص به تميزه عما سواه كيفما كان وكل ما هو موجود في الخارج فلا بد له من وجود يختص به يمتاز به عما سواه فإن كان كل ما اختص بأمر يخصه يجب أن يكون له مخصص من خارج امتنع ان يكون في الوجود موجود بنفسه وأن تكون حقيقة من الحقائق موجودة بنفسها وأن يكون ثم وجود واجب
ثم يلزم التناقض والدور الممتنع والتسلسل الممتنع فغنه إذا افتقر كل مختص إلى مباين يخصه فذاك الثاني إما أن يفتقر إلى مخصص وإما ان لا يفتقر فإن لم يفتقر انتقضت القضية الكلية وهو المطلوب
وإن افتقر إلى الأول لزم الدور القبلي وإن افتقر إلى غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء
ولو قدر مقدر أنه يلزم الدور المعي وهو أن يكون كل من المختصين موجودا مع الآخر
فيقال فكل منهما مختص بأمر فهو متوقف على ما اختصت به نفسه وعلى ما اختص به الآخر فيلزم أن يكون هناك اختصاصات فالقول في ذلك الاختصاص كالقول في الأول
وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائص كاختصاصه بنفسه ووجوده وصفاته كلها لازمها عارضها فقول القائل كل مختص لا بد له من مخصص مباين له كقوله كل موجود فلا بد له من موجد مباين له وكل حقيقة فلا بد لها من محقق مباين لها وكل قدئم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين له وأمثال ذلك
فإنه ما من أمر من هذه الأمور إلا ويمكن الذهن أن يقدره على خلاف ما هو عليه ومجرد تقدير إمكان ذلك في الذهن لا يوجب إمكان ذلك في الخارج ولكن طائفة من أهل الجدل الباطل والحكمة السوفسطائية يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة
والرازي و الآمدي ونحوهما يستعملون ذلك كثيرا كاستدلال الرازي وغيره على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا القسمة العقلية تقتقضي أن كل موجود فاما مباين لغيره وإما مجانب له وإما لا مباين ولا مجانب أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خارج عنه وإما لا داخل ولا خارج
ويجعلون مثل هذا التقسيم دليلا على إمكان كل من الأقسام في الخارج وقد يسمون ذلك برهانا عقيا وهو من أفسد الكلام فإن هذا بمنزلة القائل : كل موجود فإما أن يكون قائما بنفسه أو قائما بغيره وإما أن لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره فإن هذا لا يقتضى إمكان وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره بل هذا ما يعلم امتناعه بالضرورة واتفق العقلاء على امتناعه
ومثله أن يقال كل موجود إما قديم أو محدث أو لا قديم ولا محدث ومثله كل موجود غما واجب أو ممكن أو لا هذا ولا هذا وكل موجود إما خالق أو مخلوق أو لا خالق ولا مخلوق ومثله إما عالم أو جاهل أو لا عالم ولا جاهل ومثله إما حي وميت أو لا حي ولا ميت
فهذه التقسيمات وأمثالها لا تدل على إمكان كل قسم منها ولا على وجوده في الخارج باتفاق العقلاء بل العقلاء متفقون على أن الموجود إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره
فأما تقسيم كل قائم بنفسه إلى الحي والميت والعالم والجاهل والقادر والعاجز فهو أيضا صحيح عند جماهير العقلاء وهو قول المثبة لأسماء الله الحسنى وهو انه حي عالم قادر
وإنما ينازع فيه النفاة من الجهمية والباطنية فلا يسمونه بشيء من الأسماء الحسنى التي سمى بها نفسه وسمته بها رسله حتى لا يقولون هو شيء ولا موجود لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه بغيره من الأشياء والموجودات

شبهة للملاحدة
وللملاحدة الفلاسفة سؤال مشهور على قول القائل إما أن يكون حيا أو ميتا أو عالما أو جاهلا وقادرا أو عاجزا وسميعا بصيرا أو أعمى وأصم فإن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والايجاب
والفرق بينهما أن الأول سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كسلب الحياة والسمع والبصر والعلم عن الحيوان فإنه قابل لذلك فإذا سلب عنه لزم أن يكون ميتا أعمى أصم جاهلا وأما الجماد فإنه لا يقبل الاتصاف بذلك فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا سميع بصير ولا أعمى أصم

الجواب عنها من وجوه
قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الشبهة وغن كان الآمدي وأمثاله عجزوا عن حلها بل اعترفوا بورودها وبينا الجواب عن ذلك من وجوه
الأول
أن مالا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال والحي الجاهل الأعمى الأصم لقبوله للعلم
والسمع والبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك ن فإذا كان يمتنع كون الواجب يقبل صفات الكمال ولا يتصف بها فلأن يمتنع كونه لا يقبلها بطريق الأولى

والثاني
أن كل صفة من صفات الكمال إذا لم تستلزم نقصا فالواجب أولى بها من الممكن واتصافه بها أولى من الممكن لأنه أكمل ولأن كل كمال حصل للممكن فهو من الواجب وهم يسلمون أن كل كمال حصل للمعلوم فهو من علته فالمعلول أولى بذلك

الثالث
أن كل ما أمكن اتصاف الربسبحانه فهو واجب له لامتناع توقف شيء من صفاته على غيره

الرابع
أن نفي هذه الصفات نقص وإن لم يسم جهلا وصما وبكما

الخامس
أن ما ذكروه من التفريق بين السلب والإيجاب والعدم والملكة بتسمية هذا ميتا دون هذا اصطلاح لهم لا يجب أتباعه والله قد سمى الجماد مواتا في مثل قوله تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21 وفي قوله تعالى { وآية لهم الأرض الميتة } يس : 33 وأمثال ذلك
فإذا كان قد علم انه لا بد من موجود بنفسه مختص بخصائص لا يشركه فيها غيره مباين له توهما باطلا شيطانيا وهو من جنس ما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لما قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق الله ؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته
وفي حديث آخر لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله كل شيء فمن خلق الله ؟
وهذا لكون الوسواس الشيطاني الباطل لا يقف عند حد الموجود الواجب القديم الخالق وهذا المقام ضل فيه طوائف من الناس صاروا ينفون ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات لعدم علمهم بما يوجب اختصاصه بذلك
ثم إنهم يتناقضون فالمعتزلة فرقوا بين كونه عالما وقادرا وكونه متكلما مريدا بأن العلم عام التعلق فإنه سبحانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والكلام خاص فإنه يتكلم بشيء دون شيء فإنه لا يتكلم إلا بالصدق والإرادة خاصة فإنه يريد شيئا دون شيء لا يريد إلا ما علم أن سيكون
فقال لهم الناس هب أن الأمر كذلك لكن ما الموجب للتكلم ببعض الكلام دون بعض ولإرادة بعض الأمور دون بعض ؟ فلا بد من سبب يوجب التخصيص فلا بد حينئذ أن يكون هو المخصص 0 فقالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص
فيقال لهم هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم فإنكم قلتم لا بد للتخصيص من مخصص ثم قلتم كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص بل رجح المرجح أحد المتاثلين على الآخر من غير مخصص وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص مع أن نسبة القادر واحدة فالموجود بنفسه أولى أن يستغني عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته وذلك أنه من المعلوم أن وجود ذاته وصفاته أولى من وجود مفعولاته وإذا جوزتم أن يكون مخصصا لمفعولاته المختصة بحقيقة وقدر وصفة بلا مخصص أصلا فتجويزكم أن تكون ذاته المختصة الواجبة بنفسها لا تفتقر إلى مخصص بطريق الأولى
وهذا لا ينعكس فإنه إذا قيل إن أفعاله تفتقر إلى مخصص لم يلزم أن تكون ذاته مفتقرة إلى مخصص فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فهي لا تفتقر إلى سبب أصلا بخلاف مفعولاته فإنها مفتقرة إلى سبب وما افتقر إلى فاعل جاز أن يقال هو مفتقر إلى مخصص بخلاف ما لا يفتقر إلى فاعل فإنه لا يجب أن يفتقر إلى مخصص
فإذا قيل ما افتقر إلى سبب أو ما افتقر إلى فاعل أو ما افتقر إلى علم افتقر إلى مخصص وما لم يفتقر إلى شيء من ذلك لم يفتقر كان هذا كاملا معقولا
بخلاف ما إذا قيل المفتقر إلى الفاعل لا يفتقر إلى نخصص والغني عن الفاعل يفتقر إلى مخصص فإن هذا قلب للحقيقة كما قالته المعتزلة الجهمية القدرية من نفي افتقار الأفعال إلى مخصص وإثبات افتقار الذات إلى مخصص قلب للحقائق
وأفسد منه قول الفلاسفة الذين يثبتون مفعولات مختلفة مع حدوث كثير منها ويقولون إن مخصصها مجرد وجود بسيط ثم يصفونه بصفات تفيد اختصاصه بما يتميز به عن سائر الموجودات ويقولون مع ذلك الاختصاص لا بد له من مخصص مباين له ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة وفي القدرة من العموم ما ليس في الإدارة
والمتفلسفة نفوا الاختصاص حتى أثبتوا وجودا مطلقا مجردا ثم أثبتوا له من اللوازم ما يوجب الاختصاص مثل كونه وجودا واجبا وذلك يميزه عن الوجود الممكن وجعلوه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وملتذا به وأنواع ذلك مما يوجب اختصاصه بهذه الأمور عمن ليس هو موصوفا بها من الجمادات
وقالوا صدر عنه العالم المختص بما له من الصفات والأقدار من غير موجب للتخصيص فهل في الوجود أعظم من هذا التناقض ؟
وهو أن يكون وجود مطلق لا اختصاص فيه يوجب كل اختصاص في الوجود من غير سبب يوجب التخصيص ؟
وهؤلاء ينكرون على من أثبت من أهل الكلام الحوادث بلا سبب حادث ثم يثبتون الحوادث بلا محدث ويثبتون التخصيصات في الموجودات بلا مخصص أصلا وهو شبيه بقول من يجعل الممكن الذي ليس له من نفسه وجود يوجد بلا واجب بنفسه
ومن وافق هؤلاء من الكلابية في بعض الأمور يثبت صفات معدودة يختص بها ن ويجعل لها خصائص ثم يطلب المخصص لغير تلك الصفات 0 ولهذا كان منتهى من سلك هذه السبيل إلى أن يثبت وجودا ثم مطلقا ثم يتناقض أعظم من تناقض غيره وذلك لن كل موجود فمختص بما هو من خصائصه سواء عن غيره طلب ما هو ممتنع لذاته فمن وصف الواجب بذلك فقد وصفه بصفة الممتنع لذاته ن وهذا نهاية هؤلاء وهو الجمع بين النقيضين
ثم يقول من يقول من متصوفتهم انه يجوز الجمع بين النقيضين وأنه يثبت في الكشف ما يناقض صريح العقل

كلام الشهر ستاني في نهاية الإقدام
والشهر ستاني لما اعتمد في مناظرته للقائلين بالعلو والمباينة والصفات الفعلية ونحو هؤلاء على هذه الطريقة أورد على نفسه من اللوازم ما اعترف معه بالحيرة فلما احتج بأن الاختصاص بالقدر يقتضي مخصصا والاختصاص بالجهة يقتضي مخصصا قال فإن قيل بم تنكرون على من يقول القدر الذي اختص به نهاية وحدا واجب له لذاته فلا يحتاج إلى مخصص بخلاف مقادير الخلق فإنها احتاجت إلى ذلك لأنها جائزة وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة عليها فلما كانت المقادير المخلوقة مقدورة عرف جوازها واحتاج الجواز إلى مرجح فإذا لم يكن فوق الباري تعالى قادر يقدر عليه لم يمكن إضافة الجواز إليه وإثبات الاحتجاج له ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان أفهى واجبة له على هذا العدد أم جائز أن توجد صفة اخرى ؟ فإن قلتم يجب الانحصار في هذا العدد كذلك نقول الاختصاص بالحد المذكور واجب له إذ لا فرق بين مقدار في الصفات عدا ومقدار في الذات حدا وإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى فما الموجب للانحصار في هذا العدد والحد فيحتاج إلى مخصص حاصر ؟ ثم قال قلنا المقادير من حيث إنها مقادير طولا وعرضا وعمقا لا تختلف شهدا ولا غائبا في تطرق الجواز العقلي إليها واستدعاء مخصص
فيقال له هذا الذي قلته هو أول المسألة فإن المقادير من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج كما ان الصفات والذوات من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج وإنما يوجد في الخارج ذات مخصوصة بصفاتها المخصوصة فالقول فيما اختصت به من المقدار كالقول فيما اختصت به من سائر الصفات به من الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
ثم قال وأما الصفات وانحصارها في ثمان فقد اختلف جواب الأصحاب عنه بوجوه منها أنهم منعوا إطلاق لفظ العدد عليها فضلا عن الثمانية وقالوا قد دل الفعل بوقوعه على كون الفاعل قادرا وباختصاصه ببعض الجائزات على كونه مريدا وبأحكامه على كونه عالما وعلم بالضرورة أن القضايا مختلفة وورد في الشرع إطلاق العلم والقدرة والإرادة ولا مدلول سوى ما دل الفعل عليه أو ورد في الشرع إطلاقه ولهذا اقتصرنا على ذلك فلو سئل هل يجوز أن يكون له صفة أخرى اختلف الجواب عته فقيل لا يتطرق إليه الجواز فإنا لم نثبت الصفات إلا بدليل الفعل والفعل ما دل إلا على تلك وقيل يجوز عقلا إلا أن الشرع لم يرد به فنتوقف في ذلك ولا يضر في ذلك الاعتقاد إذا لم يرد به تكليف
قال ومنها أنهم فرقوا في الشاهد بين الصفات الذاتية التي تلتئم منها حقيقة الشيء وبين المقادير العرضية التي لا مدخل لها في تحقيق حقيقة الشيء فإن الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل بل هي له من غير سبب والمقادير العرضية تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل 0 فإن جعلها له بسبب
ومنها أنه ولو قدر صفة زائدة على الثمان لم يخل إما أن تكون صفة مدح وكمال او صفة ذم ونقصان فإن كان صفة كمال فعدمها في الحال نقص وإن كان صفة نقص فعدمها واجب وإذا بطل القسمان تعين أنه لا يتصف بزيادة على الثمانية
قال ويترتب على ما ذكرناه هل يجوز أن يكون للباري تعالى أخص وصف لا ندركه ؟ وفرق بين هذا السؤال الأول فإن السائل الأول سأل هل يجوز أن تزيد صفاته على الصفات الثمانية ؟ والسائل الثاني سأل هل له أخص وصف تميز به عن المخلوقات ؟ واختلف جواب الأصحاب عنه أيضا فقال بعضهم ليس له أخص وصف ولا يجوز أن يكون لأنه بذاته وصفاته تميز عن ذوات المخلوقات وصفاتها من حيث أن ذاته لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات وصفاته غير متناهية في التعلق بالمتعلقات ولو كان الغرض أن يتحقق أخص وصف به يقع التميز فقد وقع التميز بما ذكرناه ن فلا أخص سوى ما عرفناه 0 وقال بعضهم لا بل له أخص وصف في الإلهة لا ندركه وذلك أن كل شيئين لهما حقيقتان معقولتان فإنهما يتمايزان بأخص وصفيهما وجميع ما ذكرنا من ان لا حد ولا نهاية لا انقسام للذات ولا تناهي للتعلق في الصفات كل ذلك أسلوب وصفات نفي وبالنفي لا يتميز الشيء عن الشيء بل لا بد من صفة إثبات بها يقع التميز وإلا فترتفع الحقيقة رأسا ثم إذا ثبت أخص الوصف فهل يجوز أن يدرك قال إمام الحرمين لا يجوز أن يدرك أصلا وقال بعضهم يجوز أن يدرك وقال ضرار بن عمرو يدرك ذلك عند الرؤية بحاسة سادسة ونفس المسألة من محارات العقول وتصور الأخص من محارات العقول

تعليق ابن تيمية على كلام الشهرستاني
فيقال : هذا وما أشبه هو الذي يقال في هذا المقام من جهة من يفرق بين بعض الصفات وبعض كما يفرق بين الصفة والقدر ومن تدبره علم أنه لا يمكن الفرق
وذلك من وجوه :

الوجه الأول
أن ما ذكره ليس فيه جواب فيه جواب عن الإلزام والمعارضة فإنهم عارضوه بإثبات صفات متعددة سواء كانت ثمانيا أو أكثر أو أقل فغن اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كاختصاص الذات بقدر من الأقدار وإذا كان المسمي لا يسمي ذلك عددا فمنازعه لا يسمي الآخر قدرا وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية بل في المعاني العقلية وما زاد على ذلك سواء نفي ثبوته او نفي العلم به لا يضر فغن السؤال قائم إلا أن يثبت المثبت صفات لا نهاية لعددها وهذا ينقض قاعدة من يقول : غنه لا يوجد ما لا نهاية له وإلا فإذا أثبت الصفات متناهية كانت المعارضة متوجهة سواء عرف عددها أو لم يعرف وتفريق من فرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن هذه تفتقر إلى فاعل دون الأخرى لا يصح لأن هذا إنما يجيء على قول من يقول : الماهيات غير مفعولة ولا مجعولة كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم وإلا فأهل السنة ومتكلموهم متفقون على أن حقائق جميع المخلوقات مخلوقة مصنوعة بل ليس لها حقيقة في الخارج إلا ما هو موجود في الخارج وما سوى ذلك فإنما هو الصورة العلمية وما في الأذهان من ذلك فالله تعالى هو الذي جعله فيها والله سبحانه هو الذي خلق فسوى وهو الذي قدر فهدى وهو الذي خلق خلق الإنسان من علق وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم وهو الذي خلق الإنسان علمه البيان
فقوله : الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل قول باطل بل صفة كل موصوف مخلوق مضافة إلى الله تعالى فإنه خلق كل موصوف بصفاته وليس في المخلوق شيء لا من ذاته ولا من صفاته إلا والله تعالى خلقه وأبدعه
وأيضا فكل صفة لازمة لموصوفها لا يكون الموصوف إلا بها فإن كان مفتقرا إلى الفاعل فالفاعل فعله بصفاته وإن كان غنيا عن الفاعل استغنى بصفاته عن الفاعل وتسمية أهل المنطق لبعضها ذاتيا ولبعضها عرضيا لا يمنع اشتراكها في هذا الحكم
وقول القائل لو قدر صفة زائدة على الثمان لكان صفة كمال أو نقص إنما يفيده نفي ما زاد على الثمان وهذا لا يضر المعارض بل يقوي معارضته فإن تخصيص الصفات بإثبات ثمان دون ما زاد ونقص تخصيص بقدر وعدد فغن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين للموصوف فالسؤال قائم فإن قال القائل هذه الصفات على هذا الوجه من لوازم الذات لا تفتقر إلى موجب غير الذات قيل له : فهكذا مورد النزاع وبطل ما ذكرته من أن اختصاص كل موصوف بصفات ومقدار يفتقر إلى مخصص منفصل عنه

الوجه الثاني
أن ما ذكره من الكلام في أخص وصف هو أيضا لازم لهم كما أن ما ذكره في الصفات هو أيضا لازم لهم فإن هذا معارضة باختصاص الحقيقة في نفسها وذلك معارضة باختصاصها ببعض الصفات دون بعض وبعدد من الصفات دون ما زاد وسواء قيل بإثبات أخص وصف أو لم يقل فإنه لا بد من ذات متميزة بنفسها عما سواها

الوجه الثالث
أن يقال : أهل الإثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة : أحدها : إثبات صفات أخرى كالرضى والغضب والوجه واليدين والاستواء وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وقدماء أصحابه كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثالهم ن وهو قول أبي بكر بن فورك وقد حكي إجماع أصحابه على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد وهو قول أبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي كما هو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل والشريف أبي علي وابن الزغوني وأبي الحسن التميمي وأهل بيته كابنه أبي الفضل ورزق الله وغيرهم كما هو قول سائر المنتسبين إلى أهل السشنة والحديث وليس للأشعري نفسه فيإثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان بل لم يختلف قوله أنه يثبتها ولا يقف فيها بل يبطل تأويلات من ينفيها ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها ثم لهم في التأويل والتفويض قولان فأول قولي أبي المعالي التأويل كما ذكره في الإرشاد وآخرهما التفويض كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم
وأما أبو الحسن وقدماء أصحابه فهم من المثبتين لها وقد عد القاضي أبو بكر في التمهيد و الإبانة له الصفات القديمة خمس عشرة صفة ويسمون هذه الصفات الزائدة على الثمانية الصفات الخبرية وكذلك غيرهم من أهل العلم والسنة مثل محمد بن جرير الطبري وأمثاله وهو قول أهل السنة والحديث من السلف وأتباعهم وهو قول الكرامية والسالمية وغيرهم
وهذا القول هو القول المعروف عند متكلمة الصفاتية لم يكن يظهر بينهم غيره حتى جاء من وافق المعتزلة على نفيها وفارق طريقة هؤلاء وأصل هؤلاء أنهم يثبتون الصفات السمع والعقل بخلاف من اقتصر على الثمانية فإنه لم يثبت صفة إلا بالعقل وقد أثبت طائفة منهم بعضها بالعقل كما أثبت أبو أسحق الإسفراييني صفة اليد بالعقل وكما يثبت كثير من المحققبن صفة الحب والبغض والرضى والغضب بالعقل
القول الثاني : قول من ينفي هذه الصفات كما ذكره الشهرستاني وغيره وهو أضعف الأقوال فإن عندته أنه لو كان لله صفة غير لوجب أن ينصب عليها دليلا نعلمه ولم ينصب فلا صفة له وكلتا المقدمتين باطلة فإن دعوى المدعي أنه لا بد أن ينصب الله تعالى على كل صفة من صفاته دليلا باطل ودعواه أنه لم ينصب دليلا إلا نعلمه هو أيضا باطل كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإن هذه القاعدة إنما هي معدة لجمل المقاصد
والثالث قول الوافقة الذين يجوزون إثبات صفات زائدة لكن يقولون لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا إثباته وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية وهذا أختيار الرازي و الأمدي وغيرهما
وأئمة أهل السنة والحديث من اصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية لكن منهم من يقول لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانا ومنهم من يقول بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول ومنهم من يقول نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقا ومنهم من يقول يعطى كل دليل حقه فما كان قاطعا في الإثبات قطعنا بموجبه وما كان راجحا لا قاطعا قلنا بموجبه فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع وإذا قام دليل يرجح لأحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين وهذا أصح الطرق
وكثير من الناس قد يظن صحة أحاديث فإما أن يتأولها أو يقول هي مثل غيرها من الأخبار وتكون باطلة عند أئمة الحديث
ومن الأخبار ما يكون ظاهرة يبين المراد به لا يحتاج إلى دليل يصرفه عن ظاهرة ولكن يظن قوم أنه مما يفتقر إلى تأويل كقوله الحجر السود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه
فهذا الخبر لو صح عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ظاهرة ان الحجر صفة لله بل صريح في أنه ليس صفة لله لقوله يمين الله في الأرض فقيده في الأرض ولقوله فمن صافحه فكأنما صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به وإذا كان صريحا في أنه ليس صفة لله لم يحتج إلى تأويل يخالف ظاهرة ونظائر هذا كثيرة مما يكون في الاية والحديث ما يبين أنه لم يرد به المعنى الباطل فلا يحتاج نفي ذلك إلى دليل منفصل ولا تأويل يخرج اللفظ عن موجبه ومقتضاه
وإذا كان كذلك فالمعارضة بالصفات ثابتة على كل قول من الأقوال الثلاثة إذ لا بد فيها من اختصاص فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له
ثم رأيت أبا الحسن الآمدي قد ذكر هذا الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه في كتابه المسمى بغاية المرام في علم الكلام فقال في مسألة نفي العلو وتوابع ذلك وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال لو كان الباري مقدرا بقدر متصورا بصورة متناهيا بحد ونهاية مختصا بجهة متغيرا بصفة حادثة في ذاته لكان محدثا إذ العقل الصريح يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصا بغيره فاختصاصه بما اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصصا ولو استدعى مخصصا لكان الباري محدثا
قال الآمدي لكن هذا المسلك مما لا يقوى وذلك انه سلم ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها وأن ما وقع منها لا بد له من مخصص لكن إنما يلزم أن يكون الباري حادثا ان لو كان المخصص خارجا عن ذاته ونفسه
ولعل صاحب هذا القول لا يقول به وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري تعالى حادثا ولا محوجا إلى غيره أصلا فإن قيل : إن ما اقتضاه بذاته ليس هو أولى من غيره لتساوي الجميع بالنسبة إليه في جهة الاقتضاء فهو نحو الخلاف ولعل الخصم قد لا يسلم تساوي النسبة في جهة الاقتضاء إلا ان يقدر أنه لا اختلاف بين هذه الممكنات ولا محالة أن بيان ذلك متعذر جدا كيف وأنه يحتمل أن ينتهج الخصم في تخصيص هذه الصفات الثابتة للذات منهج أهل الحق في تخصيص سائر الممكنات وبه درء الإلزام
ثم استدل على هذه المسألة بما هو أضعف من هذا وهو أن البناء على ذلك مستلزم لكونه جوهرا والجواهر متماثلة وقد عرف ما في هذين الأصلين من المنازعات اللفظية والمعنوية في غير هذا الموضع و الآمدي نفسه قد بين بطلان قول من جعل الجواهر متماثلة
ومما ينبغي أن يعرف في مثل هذه المسائل المنازعات اللفظية فإن القائل إذا قال التخصيص يفتقر إلى مخصص والتقدير إلى مقدر كان بمنزلة من يقول : التحريك يفتقر إلى محرك وأمثال ذلك وهذا لا ريب فيه فإن التخصيص مصدر خصص يخصص تخصيصا وكذلك التقدير والتكلم ونحو ذلك ومصدر الفعل المتعدي لا بد له من فاعل يتعدى فعله فإذا قدر مصدر متعد بلا فاعل يتعدي فعله كان متناقضا بخلاف ما إذاقيل : الاختصاص يفتقر إلى مخصص والمقدار إلى مقدر ونحو ذلك فإن هذا ليس في الكلام ما يدل عليه لأن المذكور إما مصدر فعل لازم كالاختصاص ونحوه أو اسم ليس بمصدر كالمقدار وكل من هذين ليس في الكلام ما يوجب افتقاره إلى فاعل يتعداه فعله فإذا قيل الموصوف الذي له صفة وقدر قد اختص بصفة وقدر فلا بد له من مخصص لم يكن في هذا الكلام ما يدل على افتقاره إلى مخصص مباين له يخصصه بذلك بخلاف ما إذا قيل إذا خص بصفة أو قدر فلا بد له من مخصص فإن هذا كلام صحيح
والناطقون من أهل النظر وغيرهم إذا قصدوا المعاني فقد لا يراعون مثل هذا بل يطلقون اسم المفعول على ما لم يعلم أن له فاعلا فيقول أحدهم هذا مخصوص بهذه الصفة والقدر والمخصوص لا بد له من مخصص فإذا أخذ المخصوص على أنه اسم مفعول فمعلوم أنه لا بد له من فاعل يتعدى فعله وإذا أخذ على أن المقصود اختصاصه بذلك الوصف مان هذا مما يفتقر إلى دليل وهذا مثل الموجود فإنه لا يقصد به أن غيره أوجده بل يقصد به المحقق الذي هو بحيث يوجد فكثير من الأفعال التي بنيت للمعفول واسم المفعول التابع لها قد كثر ف يالاستعمال حتى بقي لا يقصد به قصد فعل حادث له فاعل أصلا بل يقصد إثبات ذلك الوصف من حيث الجملة
وكثير من ألفاظ النظار من هذا الباب كلفظ الموجود والمخصوص والمؤلف والمركب والمحقق فإذا قالوا : إن الرب تعالى المخصوص بخصائص لا يشركه فيها غيره أو هو موجود لم يريدوا أن أحدا غيره خصه بتلك الخصائص ولا أن غيره جعله موجودا
وبسبب ذلك تجد جماعات غلطوا في هذا الموضع في مثل هذه المسألة إذا قيل الباري تعالى مخصوص بكذا وكذا او مختص بكذا وكذا قالوا فالمخصوص لا بد له ممن خصه بذلك والمخصص لا بد له من مخصص خصصه بذلك
والناس قد يبحثون عن اختصاص الشيء بأمور قبل بحثهم هل هي من نفسه او من غيره ويعلمون ويقولون إنه مخصوص بذلك وقد خص بهذا واختص به ونحو ذلك
ونظير ذلك ما ذكره أبو حامد في تهافت الفلاسفة لما رد عليهم مذهبهم ف ينفي الصفات وبين أنه لا دليل هم على نفيها وتكلم في ذلك بكلام حسن بين فيه ما احتجوابه من الألفاظ المجملة المبهمة كلفظ التركيب فإنهم جعلوا إثبات الصفات تركيبا وقالوا متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا وادخلوا في مسمى التركيب خمسة أنواع
أحدها : أنه ليس له حقيقة إلا الوجود المطلق لئلا يكون مركبا من وجود وماهية
والثاني : ليس له صفة لئلا يكون مركبا من ذات وصفات
والثالث : ليس له وصف مختص ومشترك لئلا يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز لتركب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام
الرابع : أنه ليس فوق العالم لئلا يكون مركبا من الجواهر المفردة وكذلك لا يكون مركبا من المادة والصورة فلا يكون مركبا تركيبا حسيا كتركيب الجسم من الجواهر المنفردة ولا عقليا كتركبه من المادة والصورة
وهذان نوعان بهما يصير خمسة وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا فإنه زعم أن نفس الوجود إذا كان يستلزم وجودا واجبا فالوجود الواجب له هذه الخصائص النافية لهذه الصفات ويقول ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم وهذا مراده

كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
وأما قدماء الفلاسفة فلم يكونوا يثبتون واجب الوجود بهذه الطريقة بل بطريقة الحركة فلما جاء ابن رشد الحفيد يعترض على أبي حامد فيما ذكره لم يمكنه الانتصار لابن سينا بل بين أن هذه الطريقة التي سلكها ضعيفة كما ذكر أبو حامد واحتج هو بطريقة أخرى ظن أنها قوية وهي أضعف من طريقة ابن سينا فإن أبا حامد لما ذكر القول المضاف إلى الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وذكر أنهم ينفون تلك الأنواع الخمسة قال ومع هذا فإنهم يقولون للباري تعالى غنه مبدأ وأول وموجود وجوهر واحد وقديم وباق وعالم وعاقل وعقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجواد وخير محض وزعموا ان كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه
قال وهذا من العجائب وهم يقولون ذات المبدأ الأول واحد وإنما تكثر الأسماء بإضافة إلى شيء أو إضافة شيء إليه أو سلب شيء عنه والسلب والإضافة لا يوجب كثرة في ذات المسلوب عنه ولكن الشان في رد هذه كلها إلى السلوب والإضافات وذكر تمام قولهم
قال أبو حامد فيقال لهم بم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه وانتم مخالفون من جميع المسلمين سوى المعتزلة فما البرهان عليه ؟ فإن القائل الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الصفات الموصوفة واحدة يرجع إلى أنه يستحيل كثرة الصفات فيه وفيه النزاع وليس استحالة معلوما بالضرورة ولهم مسلكان أحدهما أن كل واحد من الصفة والموصوف : إن كان مستغنيا عن الآخر فهما واجبا الوجود وإن كان مفتقرا إليه فلا يكون واحد منهما واجب الوجود وإن احتاج أحدهما إلى الآخر فهو معلول والآخر هو الواجب وأيهما كان معلولا افتقر إلى سبب فيؤدي إلى أن ترتبط ذات واجب الوجود بسبب
قال أبو حامد : المختار من هذه الأقسام هو الأخير ولكن إبطالكم القسم الأول لا دليل لكم عليه فإن برهانكم عليه إنما يتم بنفي الكثرة من هذه المسألة فكيف تنبني هذه المسألة على تلك ؟

تعليق ابن تيمية
قلت الجواب عن هذه الحجة يمكن بوجوه :
الوجه الأول
أن يقال : قولكم : إما أن يقال : قولكم : إما أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر وإما أن يكون مستغنيا عنه : تريدون بالاحتياج حاجة المفعول إلى فاعله أو مطلق التلازم وهو كون أحدهما لا يوجد إلا بالآخر أم قسم ثالث ؟
فإن أردتم الأول لم يكن أحدهما محتاجا إلى الآخر بل غنيا عن كونه فاعلا له ولا يلزم أن يكونا واجبي الوجود بمعنى أن كلا منهما هو الواجب بنفسه المبدع للممكنات
وإن قيل : إن كلا منهما واجب الوجود بمعنى أنه لا مبدع له
قيل : نعم ولا نسلم امتناع تعدد مسمى واجب الوجود بهذا التفسير وإنما يمتنع تعدده بالتفسير الأول فإن الأدلة قامت على أن خالق الممكنات رب واحد لم تقم على نفي صفاته بل كل من صفاته اللازمة له قديم أزلي ممتنع عدمه ليس له فاعل فإذا عبر عن هذا المعنى بأنه واجب الوجود فهو حق وإن عني بواجب الوجود ما ليس ملازما لغيره فليست الذات وحدها واجبة الوجود ولا الصفات بل الواجب الوجود هو الذات المتصفة بصفاتها اللازمة لها لا سيما وهم يقولون إنها مستلزمة للمعلول فامتناع ذلك على أصلهم أبلغ وقد عرف أن كلا من الصفات الذاتية ملازمة للأخرى والصفات ملازمة للذات وليس كل منهما مبدعا للآخر
وإن قلتم : كل منهما محتاج إلى الآخر بمعنى انه ملازم له لم يلزم من كونه ملازما أن يكون معلولا

الوجه الثاني
وهذا الجواب الثاني وهو أن يقال : ما تعني بواجب الوجود ؟
أتعني به مالا فاعل له أو تعني به القائم بنفسه الذي لا فاعل له ؟
فإن عنيت الأول لم يمتنع أن يكون كل الصفات والذات واجب الوجود بهذا التفسير ولم يدل على امتنع تعدد الواجب بهذا التفسير دليل كما لم يدل على امتناع تعدد القديم بهذا التفسير دليل وإنما دل الدليل على أنه لا إله إلا الله وأن الله رب العالمين واحد لا شريك له وهو التوحيد الذي دل عليه الشرع والعقل
فأما نفي الصفات وتسمية ذلك توحيدا فهو مخالف للشرع والعقل
وإن أراد بواجب الوجود : القائم بنفسه الذي لا فاعل له كانت الذات واجبة الوجود وهي بالصفة واجبة الوجود ولم تكن الصفة وحدها واجبة الوجود
وإن أريد بحاجة كل من الصفة والموصوف إلى الآخر التلازم أختير إثبات ذلك ولم يلزم من ذلك كون أحدهما معلول الآخر فإن المتضايفين متلازمين وليس أحدهما معلول الآخر وإن أريد بذلك كون أحدهما فاعلا اختير نفي الحاجة بهذا التفسير وهو القسم الأول وهو انه ليس أحدهما محتاجا إلى الآخر
وإن أريد أن أحدهما محل للآخر أختير جواب الغزالي وهو ان الصفة محتاجة إلى الذات من غير عكس
وعلى هذا فقول القائل : إن أحدهما معلول للآخر إن أراد به أحدهما فاعل للآخر فهو باطل فإنه لا يجب من قيام الصفة بالموصوف أن يكون الموصوف فاعلا للصفة بل الأمر بالعكس فإن المفعول يمتنع ان يكون من باب الصفات اللازمة للموصوف
وإن أريد بذلك أن يكون أحدهما قابلا للآخر فلا امتناع في ذلك وإن قيل بل إن المحل علة للحال
واعلم أن هذه الحجة وأمثالها غنما نشأت الشبهة فيها من جهة أن ألفاظها مجملة فلفظ العلة يراد به العلة الفاعلة والعلة القابلة ولفظ الحاجة إلى الغير يراد به الملازم للغير ويراد به حاجة المشروط إلى شرطه ويراد به حاجة المفعول إلى فاعله
وإذا عرف هذا فالصفات اللازمة مع الذات متلازمة وليس أحدهما فاعلا للآخر بل الذات محل للصفات وليس الواحد منهما علة فاعلة بل الموصوف قابل للصفات وهذا لا امتناع فيه بل هو الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول
لكن الغزالي لم يجب إلا بجواب واحد ومضمون كلامهم أنهم في جميع كلامهم في نفي الصفات ينتهي أمرهم إلى أن هذا تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه لأنه محتاج

كلام الغزالي في مسألة صفات الله
فقال لهم أبو حامد : نحن نختار أن يقال : الذات في قوامها غير محتاجة إلى الصفات والصفات محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا فبقي قولكم إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود فيقال إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك ؟ ولم استحال أن يقال كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها وإن أردتم بواجب الوجود أن لا يكون له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه قديم مع هذا ولا فاعل له فما المحيل لذلك فإن قيل : واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولا قلنا تسمية الذات القابلة علة قابلية من اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب الوجود بحكم اصطلاحكم إنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل على هذا القدر وقطع التسلسل يمكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما أنه لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته

تعليق ابن رشد على الغزالي
قال ابن رشد يرد أنه إذا وضع لهم هذا القسم من الأقسام التي استعملوا في إبطال الكثرة آل الأمر معهم إلى أن يثبتوا أن واجب الوجود ليس يمكن أن يكون مركبا من صفة وموصوف ولا أن تكون ذاته ذات صفات كثيرة وهذا شيء ليس يقدرون عليه بحسب أصولهم ثم أخذ يبين أن المحال الذي راموا أن يلزموه على تقدير هذا القسم ليس بلازم قال : فيقال لهم : إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له فاعلة فاعلية فلم قلتم ذلك أي فلم قلتم بامتناع كونه موصفا بالصفات ولم استحال أن يقال : كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفاته قديمة لا فاعل لها
قال ابن رشد وهذا كله معاندة لمن سلك في نفي الصفات طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود بذاته وذلك أنهم يفهمون في الممكن الوجود الممكن الحقيقي ويرون أن كل ما دون المبدأ الأول هو بهذه الصفة وخصومهم من الأشعرية يسلمون هذا ويرون أن كل ممكن فله فاعل وأن التسلسل ينقطع بالانتهاء إلى ما ليس ممكنا في نفسه فإذا سلم لهم هذه ظن بها أنه يلزم عنها أن يكون الأول الذي انقطع عنده الإمكان ليس ممكنا فوجب أن يكون بسيطا غير مركب لكن للأشعرية أن يقولوا : أن الذي ينتفي عنه الإمكان الحقيقي ليس يلزم أن يكون بسيطا وإنما يلزم أن يكون قديما فقط لا علة فاعلية له فلذلك ليس عند هؤلاء برهان على أن الأول بسيط من طريقة واجب الوجود

كلام آخر للغزالي في مسألة التركيب
قال أبو حامد فإن قيل فإذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل تركيب يحتاج إلى مركب ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسما لأنه مركب قلنا قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقوله كل موجود يحتاج إلى موجد فيقال له : الأول قديم موجود لا علة له ولا موجد فكذلك يقال : موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفاته بذاته بل الكل قديم بلا علة وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن تكون العلة الأولى جسما كما سنلزمه عليكم فيما بعد

تعليق ابن رشد على كلام الغزالي
قال ابن رشد معترضا على أبي حامد التركيب ليس هو مثل الوجود لأن التركيب هو مثل التحريك أعني صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب والوجود هو صفة هذه الذات بعينها وأيضا المركب ليس ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره فيلزم أن ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم وأيضا فإذا كان الأمر كما قلنا من أن التركيب أمر زائد على الوجود فلقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
قال والفصل في هذه المسألة أن المركب لا يخلو من أن يكون كل واحد من جزأيه أو أجزائه التي تركب منها شرطا في وجود صاحبه بجهتين مختلفتين أو لا يكون شرطا أو يكون أحدهما شرطا في وجود الثاني والثاني ليس شرطا في وجود الأول فأما الأول فلا يمكن أن يكون قديما لأن التركيب نفسه شرط في وجود الأجزاء فلا يمكن أن تكون الأجزاء علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه وأما الثاني إذا لم يكن واحد منهما شرطا في وجود صاحبه فإن امثال هذه إذا لم يكن في طباع أحدهما أن يلازم الآخر فإنها ليست تتركب إلا بمركب خارج عنها وإن كان أحدهما شرطا في وجود الآخر من غير عكس كالحال في الصفة والموصوف الغير جوهرية فإن كان الموصوف قديما ومن شانه أن لا تفارقه الصفة فالمركب قديم وإذا كان هذا هكذا فليس يصح إن جوز مجوز وجود مركب قديم أن يبين على طريق الشعرية أن كل جسم محدث لأنه إن وجد مركب قديم وجدت أعراض قديمة أحدها التركيب لأنه أصل ما يبنون عليه وجوب حدوث الأعراض أنه لا تكون الأجزاء التي تركب منها الجسم إلا بعد الأفتراق فإذا جوزوا مركبا قديما أمكن أن يوجد اجتماع لم يتقدمه افتراق وحركة لم يتقدمها سكون وإذا جاز هذا أمكن أن يوجد جسم ذو أعراض قديمة ولم يصح لهم أن مالا يخلو عن الحوادث حادث

تعليق ابن تيمية على كلام الغزالي وابن رشد
قلت ما ذكره أبو حامد مستقيم مبطل لقول الفلاسفة وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك وكلامه في ذلك أكثر مغلطة من كلام ابن سينا الذي أقر بفساده وضعفه
وذلك أن هؤلاء قالوا لأبي حامد والمثبتين إذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل مركب يحتاج إلى مركب
قال لهم قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقول القائل : كل موجود يحتاج إلى موجد
ومقصوده بذلك أن هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا ليس معنى كونه مركبا إلا كون الذات موصوفة بصفات قائمة بها ليس معناه أنه كان هناك شيء متفرق فركبه مركب بل ولا هناك شيء يقبل التفريق فإن الكلام إنما هو في إثبات صفات واجب الوجود اللازمة الوجود بنفسه لم يكن أن تفارقه ولا أن توجد دونه ولا يوجد إلا بها فليس هناك شيئان كانا مفترقين فركبهما فركب
ولفظ المركب في الأصل اسم مفعول لقول القائل ركبته فهو مركب كما تقول فرقته فهو مفرق وجمعته فهو مجمع وألفته فهو مؤلف وحركته فهو محرك
قال الله تعالى { في أي صورة ما شاء ركبك } الانفطار 8 يقال ركبت الباب في موضعه
هذا هو المركب في اللغة لكن صار في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة يقع على عدة معان غير ما كان مفترقا فاجتمع كما يقول أحدهم الجسم إما بسيط وإما مركب يعنون بالبسيط الذي تشتبه أجزاؤه كالماء والهواء وبالمركب ما اختلفت كالإنسان وقد يقولون كل جسم مركب من أجزائه لأن هذا الجزء غير هذا الجزء وإن كانوا يعتقدون أنه لم يتفرق قط وأنه لم يزل كذلك ويتنازعون هل الجسم مركب من الواهر المنفردة أو من الهيولى والصورة أم ليس مركبا من واحد منهما ؟ مع اتفاقهم على أنه من الأجسام ما لم تكن أجزاؤه مفترقة فتركبت وقد يعنون بالمركب المركب من الصفات كما يقولون الإنسان مركب من الجنس والفصل وهو الحيوان الناطق وهاتان الصفتان لم تفارق إحداهما الأخرى ولا يمكن وجود الناطق إلا مع الحيوان ولا يمكن وجود حيوان إلا مع ناطق أو ما يقوم مقامه كالصاهل ونحوه
فأبو حامد وأمثاله خاطبوا هؤلاء بلغتهم في أن الموصوف بصفة لازمة له يسمى مركبا وقالوا لهم قلتم إن مثل هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا يمتنع في الواجب الوجود فقولهم إن كل مركب مفتقر إلى مركب مغلطة نشأت من الإجمال في لفظ مركب فإنهم لم يسلموا لهم أن هناك تركيبا هو فعل مركب حتى يقال إن المركب يفتقر إلى مركب بل هناك ذات موصوفة بصفات لازمة له فإذا قال القائل كل موصوف بصفات لازمة له يفتقر إلى مركب ومؤلف يجمع بين الذات والصفات كان قوله باطلا فقولهم في هذا الموضع كل مركب يفتقر إلى مركب من هذا الباب
وكذلك إذا قيل كل مؤلف يفتقر إلى مؤلف كما يستعمل مثل هذا الكلام غير واحد من الناس في نفي معان سماها مسم تأيفا وتركيبا فجعل المستدل يستدل بمجرد إطلاق اللفظ من غير نظر إلى المعنى العقلي فيقال لمن سمى مثل هذا تركيبا وتأليفا أتعني بذلك أن هنا شيئا فعله مركب ومؤلف أو ان هنا ذاتا موصوفة بصفات ؟
أما الأول فممنوع فإنه ليس في خلق الله من يقول إن صفات الله اللازمة له متوقفة على فاعل يؤلف ويركب بين الذات والصفات
وإن عنيت الثاني فمسلم ولا دليل لك على أن الذات القديمة الواجبة المستلزمة للصفات تفتقر إلى من يركب صفاتها فيها فلهذا قال أبو حامد هذا كقول القائل كل موجود يفتقر إلى موجد ولو قال إلى واجد لكان أقرب إلى مطابقة اللفظ
وهذا صحيح فإن الموجود اسم مفعول من وجد يجد فهو واجد فإذا قال القائل : كل موجود يفتقر إلى واجد أو موجد نظرا إلى اللفظ كان كقوله كل مركب يفتقر إلى مركب نظرا إلى اللفظ ولكن لفظ الموجود إنما يراد به ما كان متحققا في نفسه لا يعني به ما وجده أو اوجده غيره كما أنهم يعنون بالمركب هنا ما كان متصفا بصفة قائمة به أو ما كان فيه معان متعددة وكثرة لا يعنون به ما ركبه غيره فالذي جرى لهؤلاء المغالطين في لفظ التأليف والتركيب كما جرى لأشباههم في لفظ التخصيص والتقدير فإن الباب واحد فليتفطن اللبيب لهذا فإنه يحل عنه شبهات كثيرة
وأما اعتراض ابن رشد على أبي حامد بقوله ليس المركب مثل الموجود بل مثل التحريك
فجوابه من وجوه :
أحدها أن يقال ليس الكلام في الموازنات اللفظية بل في المعاني العقلية والمقصود هنا أن الذات القديمة الواجبة الموصوفة بصفات لا يجب أن يكون لها جامع منفصل جمع بين الذات والصفات كما أن الموجود المحقق لا يفتقر إلى موجود غير نفسه بل قد يكون موجودا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل كذلك اتصافها بالصفات لا يفتقر إلى فاعل
الثاني أن يقال وهب أن هذا مثل التحريك في اللفظ
فقولك : هي صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب إن عنيت انها زائدة على الذات والصفة وقيام الصفة بالذات فهذا باطل وإن عنيت انها هي قيام الصفة بالذات أو هي الصفة القائمة بالذات فليس في ذلك ما يوجب كونها انفعالية لها فاعل مباين للموصوف
الثالث أن التحريك إن عني به تحريك الشيء لغيره فليس هذا نظير مورد النزاع فإن أحدا لم يسلم أن في الذات القديمة الموصوفة بصفاتها اللازمة شيء ركبه أحد وإن عني به مطلق الحركة صار معنى الكلام أن اتصاف الذات بالصفات كاتصافها بالحركات وليس في واحد منهما ما يقتضي احتياج الموصوف إلى مباين له
وأما قوله ليس ينقسم الأمر إلى مركب من ذاته ومركب من غيره حتى ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم
فيقال له بل هؤلاء المسلمون كأبي حامد وأمثاله لما خاطبوكم باصطلاحهم وأنتم جعلتم قيام الصفة بالموصوف تركيبا فإنهم يقولون بحسب اصطلاحكم إنه ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره
وحقيقة الأمر أن ثبوت الصفات إن سميتموه تركيبا لم نسلم لكم عدم انقسام المركب إلى قديم واجب ومحدث ممكن وإن لم تسموه تركيبا بطل أصل كلامكم 0 ولكن أنتم سميتم هذا تركيبا ونفيتموه فلهذا قلتم لا ينقسم المركب فكان كلامكم ممنوعا بل باطلا
وأما قوله إن لقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد معدوم من ذاته
فجوابه من وجوه
أحدها منع المقدمة الأولى فما الدليل على أنه إذا وجدت ذات موصوفة بصفات لازمة له يلزم أن توجد ذات متحركة بحركة منها ليس معه في ذلك إلا مجرد الموازنة اللفظية
الثاني أن حقيقة قوله إن افتقار التركيب إلى مركب كافتقار التحريك إلى المحرك فإن أخذ ذلك على أن له فاعلا فلكل منهما فاعل وإن أخذ مجرد التركيب مجرد التحرك قيل فعلى هذا يكون المعنى إذا وجد متصف بصفة بنفسه يوجد فاعل متحرك بنفسه وإذا كان حقيقة كلامه أنه إذا كان متصفا بالصفات من ذاته فسيوجد متصفا بالأفعال من ذاته 0 فيقال له إما أن تكون هذه الملازمة صحيحة وغما أن لا تكون فإن لم تكن صحيحة فليست بحجة وإن كانت صحيحة كانت دليلا على ثبوت أفعال الله تعالى وكان حقيقتها أنه يلزم من ثبوت الصفات القائمة به ثبوت الأفعال القائمة به فأي محذور في هذا إذا كانت الملازمة صحيحة ؟
الثالث قوله وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما هو بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك وليس كذلك الوجود لأنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا لنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلذلك احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال ألقني بقولك فسيوجد المعدوم من ذاته أي نفس ما كان معدوما يوجد من الذات المعدومة أم تعني به أن الحركة المعدومة توجد من الذات المتحركة ؟
أما الأول فغير معقول فإن المعدوم ليس له وجود أصلا حتى يعقل أن يوجد منه ذاته أو غير ذاته ووجوده موجود من غير موجود ممتنع بضرورة العقل وكون المعدوم يوجد بنفسه معلوم البطلان بالبديهية
وإن عنيت الثاني فاللازم والملزوم واحد فإن المتحرك من ذاته توجد حركته المعدومة من ذاته
وقول القائل إنه إذا جاز هذا جاز وجود المعدوم من الذات المعدومة ممنوع بل باطل معلوم البطلان
وقوله لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
فيقال له غاية هذا أنهما يشتركان في أمر من الأمور فمن أين يلزم إذا اشتركا في أمر ما أن يشتركا في غيره مع ظهور الفرق فإن قوله وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل لا يجوز أن يراد به أن نفس المعدوم كان فيه قوة هي مبدأ وجوده فإن المعدوم ليس في شيء ولا فيه شيء
وإنما يقال إن ما منه وجد المعدوم كان فيه قوة وجوده كما في النطفة قوة أن تصير علقة 0 وفي الحبة قوة أن تصير سنبلة وفي النواة قوة أن تصير نخلة فالذي فيه القوة ليس هو المعدوم واما الحركة والمتحرك فنفس المتحرك فيه قوة هي مبدأ الحركة فنظير المتحرك المحل الذي وجد فيه ما كان معدوما من الأعراض كما يوجد اللون في المتلونات والطعم في المطعومات والحياة في الأحياء فكذلك الحركة في المتحركات فمحل هذه الصفات والحركات كان قابلا لها وفيه قوة القبول والاستعداد لها وأما نفس هذه الأمور التي كانت معدومة فوجدت فليس فيها من القوة ولا غيرها شيء
فقياس القائس وجود المعدوم من ذاته بوجود الحركة من المتحرك في غاية الفساد والعلة تكون فاعلة وتكون قابلة فلو قال القائل الموجود أو الجسم أو القائم بنفسه أو نحو ذلك يقبل الصفات والأعراض كالحركات ونحوها وفيه قوة لذلك فيجب أن يكون المعدوم فيه قبول لقيام الصفات والحركات به لكان قوله في غاية الفساد فكيف إذا قال إذا كان المتحرك فاعلا بنفسه لحركته وجب أن يكون المعدوم فاعلا لذاته بل يقال الفاعل يمكن أن يفعل غيره وأما فعله لنفسه فممتنع فلو قال إذا كان المتحرك يفعل حركة وجب أن يفعل المعدوم حركة لكان باطلا فكيف إذا قال وجب أن يفعل نفسه
وقوله فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلهذا احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال له هب أنه سلم لك أن المتحرك وجوده مع القوة المحركة فلم قلت إن الحركة تحتاج إلى محرك منفصل عنه ؟
ثم يقال لك هل يجوز أن يتحرك المتحرك بنفسه بعد أن لم يكن متحركا أم لا ؟
فإن أجزت هذا بطل قولك وجاز وجود المتحرك بنفسه قبل الحركة وقبل القوة المحركة وإن قلت لا يجوز قيل فحركته حينئذ اما أن تكون من نفسه وإما من غيره فإن كانت من نفسه كانت الحركة من نفس المتحرك وبطل قولك وإن كانت من غيره وكان ذلك الغير متحركا فالقول فيه كالقول في الأول وإن كان غير متحرك لزم وجود حركات متوالية عن غير متحرك وهذا قولهم وهو باطل
وذلك أن أجزاء الحركات متعاقبة شيئا بعد شيء فالمقتضى لكل من تلك الأجزاء يمتنع ان يكون موجبا تاما في الأزل لأنه لو كان كذلك للزم أن يقارنه موجبه فإن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها 0 وحينئذ يلزم كون المحدث قديما وهو ممتنع أو يقال إن كانت العلة التامة تستلزم مقارنة معلولها لزم ذلك وإن لم تستلزم ذلك جاز حدوث الحركات المتأخرة عن موجب قديم فيجوز أن يتحرك الشيء بعد ان لم يكن متحركا بدون سبب حادث وهذا يبطل قولكم وإذا لم يكن الموجب التام لها ثابتا في الأزل لزم ان يكون حادثا والقول في حدوثه كالقول في حدوث غيره فيمتنع أن يحدث هو او غيره عن علة تامة قديمة فإذا لم يكن في الفاعل فعل حادث امتنع أن يصدر عنه شيء حادث فامتنع صدور الحركات عن غير متحرك
ومما اعترف به ابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين وقال عن إخوانه لفلاسفة إن الذي يتمسكون به سببان :
أحدهما أن فعل الفاعل يلزمه التغير وإن كل متغير فله مغير
والثاني أن القديم لا يتغير بضروب من ضروب التغير
وقال وهذا كله عسير البيان
قلت وهذا المقام وهو حدوث الحوادث عن ذات لا يقوم بها حادث ن مما اعترف حذاقهم بصعوبته وبعده عن المعقول كما ذكر ذلك ابن رشد والرازي وغيرهما وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن النفس المحركة للأفلاك يحدث لها تصورات وإرادات هي مبدأ الحركة وأن محركها العقل الذي يريد التشبه به او واجب الوجود الذي يطلب الفلك التشبه به بإخراج ما فيه من الأيون والأوضاع وتحريك الواجب أو العقل للفلك أو لنفس الفلك كتحريك المحبوب للمحب والمشتهى للمشتهى والمعشوق للعاشق ليس من جهة المحرك فعل أصلا بل ذلك يحبه فيتحرك تشبها به
وبهذا أثبت أرسطو وأتباعه العلة الأولى وان فوق الأفلاك ما يوجب تحريك الأفلاك
والكلام على هذا من وجوه ليس هذا موضع بسطها لكن يقال كون الفلك يتحرك للتشبه بالواجب أو إخراج ما فيه الأيون والأوضاع كلام لا دليل عليه بل الأدلة الدالة على فساده كثيرة ليس هذا موضعها
فنقول : هب أن الأمر كذلك فهذا إنما فيه أنه أثبت العلة الغائية للحركة
فيقال : أين السبب الفاعل لحركة الفلك ؟ فإن الحركة وإن افتقرت إلى غاية مقصودة فتفتقر إلى مبدأ فاعل بالضرورة
فإذا قالوا نفسه تحركه
قيل لهم فما الفاعل لما يحدث في النفس من أسباب الحركة كالتصورات والإرادات ؟ فإن فإن هذه كانت معدومة ثم وجدت بعد العدم فما السبب الفاعل لهذه الحركة
فإن قالوا النفس هي الفاعلة لهذه الحركة فقد جعلوها متحركة من نفسها وهذا خلاف ما قالوه
وإن قالوا شيئا غيرها قيل لهم الكلام فيه كالكلام في النفس فإنه إن حدث فيه ما لم يحدث سئل عن سبب ذلك
وإن قيل بل المحدث لحركة النفس على حال واحدة أزلا وأبدا قيل لهم فقد لزمكم حدوث حادث بلا سبب وقيل لكم ذلك المحرك للنفس إن كان علة في الأزل وجب وجود معلوله في الأزل فيجب وجود ما حدث للنفس من التصورات والإرادات في الأزل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قيل بل حدث له أمر به صار فاعلا لما يحدث في النفس سئل عن سبب حدوث ذلك
وإذا قيل الحادث استعداد النفس لأن يفيض عليها من الفعل ما تتصور به وتريد
قيل فذلك الاستعداد حادث والقول في سبب حدوثه كالقول في سبب حدوث غيره فلا بد من أحد أمرين غما حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإما حدوث الحوادث عن متحرك وأيهما كان بطل قولهم 0 والأول يقولون إنه معلوم البطلان بالضرورة فيلزمهم الثاني فقد ألزم مناظريه ما يلزمه هو أشد منه وتبين به أن قول إخوانه أشد فسادا فإنه قال والذي لا مخلص للأشعرية منه هو إنزال فاعل أول وإنزال فعل له أول لأنهم لا يمكنهم أن يضعوا أن حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل فهنالك ولا بد حالة متجددة ونسبة لم تكن وذلك ضرورة إما في الفاعل أو في المفعول او في كليهما وإذا كان كذلك فتلك الحال المتجددة إذا أوجبنا أن لكل حال متجددة فاعلا لا بد أن يكون الفاعل لها إما فاعلا آخر فلا يكون ذلك الفاعل هو الأول ولا يكون مكتفيا بفعله بنفسه بل بغيره ن وإما ان يكون الفاعل لتلك الحال التي هي شرط في فعله هو نفسه ن فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا عنه اولا أولا بل يكون فعله لتلك الحال التي هي شرط في المفعول قبل فعله المفعول
قال وهذا لازم كما ترى ضرورة إلا أن يجوز أن من الأحوال الحادثة في الفاعلين مالا يحتاج إلى محدث وهذا بعيد إلا على قول من يجوز ان ههنا أشياء تحدث من تلقائها وهو قول الأوائل من القدماء الذين أنكروا الفاعل وهو قول بين سقوطه بنفسه
فيقال له ك أنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية فيقال له أنت يلزمك ما هو أشد من هذا وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط وذلك أن الحوادث المشهودة أن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وإن قلت : لها فاعل قيل لك : أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته ؟
فإن قلت بالأول قيل لك : فهي دائمة أو لها ابتداء ؟ فإن قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وإن قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت إنه لا يمكن أن يكن حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية
وإن قلت : بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث
قيل لك : الفاعل له : إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعا وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك
وأيضا فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما أن يجوز حدوث المفعول عنه بعد أن لم يكن بلا سبب حادث وإما أن لا يجوز فغن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت أنه فاسد بالضرورة وإن لم يجز لزم أن يكون مفعوله مقارنا له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز أن يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله أنت وإخوانك إنه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولا للعلة التامة ولا مفعولا للفاعل الأول ولا يجوز أن يكون فعلا لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم أن تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث
وهذا لازم لهؤلاء الفلاسفة الإلهيين كما يلزم إخوانهم الطبيعيين وهو القول الذي هو من أظهر المعارف الضرورية فسادا وقد بسط الكلام على هذه المواضع في غير هذا الموضع وإنما كان المقصود هنا التنبيه على جنس ما يغالط به هؤلاء وأمثالهم من الألفاظ المجملة كلفظ المركب ونحوه كما يغالطون بلفظ التخصيص والمخصص وأن كلام أبي حامد وأمثاله في مناظرتهم خير من كلامهم وأقوم
وأما قول ابن رشد لا يخلو إما أن يكون كل من جزأيه شرطا في وجود الآخر أو لا يكون أو يكون الواحد شرطا في الآخر من غير عكس
وقوله القسم الأول لا يكون قديما وذلك أن التركيب نفسه هو شرط في وجود الآخر فليس يمكن أن تكون الأجزاء هي علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه
فيقال له أولا تسمية هذا تركيبا وأجزاء ليس هو من لغات بني آدم المعروفة التي يتخاطبون بها فإنه ليس في لغة الآدميين أن الموصوف بصفات يقال إنه مركب منها وأنها أجزاء له وإذا خاطبناكم باصطلاحكم فقد علمتم انه ليس المراد بالمركب إلا اتصاف الذات بصفات لازمة لها أو وجود معان فيها أو اجتماع معان وأمور ونحو ذلك ليس المراد أن هناك مركبا ركبه غيره حتى يقال : إن المركب نفتقر إلى مركب فإن من وافقكم على اصطلاحكم في تسمية الذات الواجبة الموصوفة بصفاتها اللازمة تركيبا لم يرد بذلك أن هناك مركبا ركبها فغن هذا لا يقوله عاقل ولا انتم أيضا تدعون أن مجرد اللفظ الدال على هذا المعنى يقتضي أن يكون له فاعل ولكن تدعون ثبوت ذلك إما بطريقة ابن سينا ونحوه الذي قد تقدم إبطالها وإما بطريقة المعتزلة التي اختارها ابن رشد واعترف بفساد طريقة ابن سينا
وإذا كان المراد بلفظ التركيب ما قد عرف فمن المعلوم ان الذات الموصوفة بصفات لازمة لها أو فيها معان لازمة لها لا يقال فيها : إن اتصاف الذات بالصفات أمر معلوم مفتقر إلى فاعل حتى يقال إن الأجزاء هي علة التركيب أو يقال التركيب علة نفسه بل هذا المعنى الذي سميته تركيبا هو من لوازم الواجب بنفسه لا يمكن أن يكون الواجب إلا موصوفا بالصفات اللازمة له ثابتة له المعاني اللازمة له وليس لذلك علة فاعلة كما تقدم
وأما قوله إن التركيب شرط في وجود الأجزاء
فيقال له لا ريب أنه لا يمكن وجود الذات إلا موصوفة بلوازمها ولا يمكن أن توجد صفاتها إلا بوجودها فاجتماع الذات بالصفات واجتماع الأمور المتلازمة شرط في وجود كل منها وهي أيضا شرط في وجود ذلك الاجتماع وليس شيء من ذلك معلولا لفاعل ولا مفتقرا إلى مباين ن وتوقف أحدهما على الآخر هو من باب الدور الاقتراني المعي لا من باب الدور السبقي القبلي والألو جائز والثاني ممتنع فغن الأمور المتلازمة لا يوجد بعضها إلا مع بعض وليس بعضها فاعلا لبعض بل أن كانت واجبة الوجود بنفسها وإلا افتقرت كلها إلى فاعل
والذات التي لا تقبل العدم بما هي عليه من الصفات اللازمة هي الحق الواجب الوجود بنفسه وأما مجرد وجود مطلق في الخارج وذات لا صفة لها فلذلك ممتنع لنفسه فضلا عن أن يكون واجب الوجود
واتصاف الذات الواجبة بصفاتها اللازمة سواء سمي تركيبا او لم يسم لا يوجب افتقاره ولا افتقار الذات ولا شيء من صفاته إلى فاعل ولا علة فاعلة ولا ما يشبه ذلك وأما كون بعضها مستلزما لبعض ومشروطا به ولا يوجد إلا معه وثبوته متوقف عليه ونحو ذلك فليس في هذا ما يقتضي افتقار ذلك إلى فاعل مبدع لكن يعلم ان الذات لا تكون إلا بصفاتها اللازمة وصفاتها لا تكون إلا بها
وإذا سمى المسمي هذا افتقارا وسمى هذه أجزاء وسمى هذا الأجتماع تركيبا لم يكن في هذه التسمية ما يوجب أن يكون هذا الموصوف مفتقرا إلى فاعل وما جعله افتقارا ليس هو افتقار المفعول إلى الفاعل والمعلول إلى العلة الفاعلة وإنما هو تلازم ومن سماه افتقارا لا يمكنه أن يفسره إلا لافتقار المشروط إلى الشرط والشرط إلى المشروط
ومثل هذا المعنى لازم للوجود الواجب لا ممتنع عليه وإنما الممتنع أن يفتقر إلى مباين له فيكون وجود الواجب متوقفا على وجود مباين فإن كان المباين علة له لم يكن موجودا بنفسه بل ممكنا له فاعل وعلة وإن قدر انه شرط فيه وهو غني عنه وما كان وجوده مشروطا بما هو غني عنه لم يكن موجودا بنفسه فلا يجوز أن يكون الرب الخالق تعالى الذي له الذات الموصوفة بصفات الكمال متوقفا على شيء مباين له بل ولا على شيء عني عنه بوجه من الوجوده لا على فاعل ولا شرط
وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل فإن الممكنات التي لا وجود لها من نفسها لا توجد إلا بغيرها وما كان خارجا عنها لم يكن وجوده إلا بنفسه ونفسه هي الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة ليست نفسه مجرد وجود مطلق ولا ذات مجردة
ومن ادعى أن ما كان وجوده بنفسه لا يكون إلا وجودا مجردا وذاتا مجردة لأن الذات الموصوفة مفتقرة إلى الصفة فلا يكون موجودة بنفسها
قيل له : الممكنات والمحدثات لم تفتقر إلى ذات مجردة ن حتى يقال إذا قيل إنها موصوفة لزم الافتقار بل افتقرت إلى ما هو خارج عنها كلها
والتعبير عن هذا المعنى يكون بعبارات فإذا قيل : ما لا يقبل العدم أو قيل موجود بنفسه او واجب الوجود بنفسه ونحو ذلك كان المقصود واحدا ومن المعلوم أن مالا يقبل العدم إذا كان ذاتا موصوفة بصفات الكمال لم يجز ان يقال : اتصافها بصفات الكمال يوجب افتقارها إلى الصفات فتقبل العدم فإن فساد هذا الكلام ظاهر وهو بمنزلة أن يقال قولكم : موجود بنفسه أو واجب الوجود بنفسه يقتضي افتقاره إلى نفسه والمفتقر لا يكون واجب الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم وإذا كان هذا فاسدا فالأول أفسد فإن صفات كماله داخلة في مسمى نفسه فإذا كان قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه لا يمنع وجوب وجوده فقوله إنه مفتقر إلى صفاته أولى أن لا يمنع وجوب وجوده
وكذلك إذا سمى ذلك أجزاء وقال : هو مفتقر إلى أجزائه فإن جزء الشيء وبعضه وصفته ونحو ذلك داخل في مسمى نفسه فإذا لم يكن قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه مانعا من وجوب وجوده ن فقوله هو مفتقر إلى جزئه وصفته ونحو ذلك أولى وتسمية مثل هذا افتقارا لفظ فيه تلبس وتدليس يشعر الجاهل بفقره وهذا كما لو قيل : هو غني بنفسه فإنه قد يقول القائل : فهو فقير إلى نفسه فصفاته داخلة في مسمى نفسه وهو غني سبحانه بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه
وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع وقد قال ابن رشد هذا الذي يعبر على من قال بنفي تعدد الصفات هو ان تكون الصفات المختلفة ترجع إلى ذات واحدة حتى يكون مفهوم العلم مثلا والإرادة والقدرة مفهوما واحدا وانها ذات واحدة وأن يكون أيضا العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد معنى واحدا والذي يعبر على من قال : إن ههنا ذاتا وصفات زائدة على الذات ان تكون شرطا في وجود الصفات والصفات شرطا في كمال الذات ويكون المجموع من ذلك شيئا واجب الوجود أي موجودا واحدا ليس فيه علة ولا معلول
قال لكن هذا لا جواب عنه في الحقيقة إذا وضع ان ههنا شيئا واجب الوجود بذاته فإنه يجب أن يكون واحدا من جميع الوجوه وغير مركب أصلا لا من شرط ومشروط ولا من علة ومعلول لأن كل موجود بهذه الصفة : فإما أن يكون تركيبه واجبا وغما أن يكون ممكنا فغن كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعسر إنزال مركب قديم من ذاته أعني من غير أن يكون له مركب وبخاصة على قول من أنزل أن كل عرض حادث لأن التركيب فيه يكون عرضا قديما وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى ما يوجب اقتران العلة بالمعلول
قال وأما هل يوجد شيء مركب من ذاته على اصول الفلاسفة وإن جوزوا أعراضا قديمة فغير ممكن وذلك أن التركيب شرط في وجوده وليس يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها وكذلك أجزاء كل مركب من الأمور الطبيعية إذا انحلت لم يكن الاسم المعقول عليها إلا بالاشتراك مثل اسم اليد المقولة على التي هي جزء من الإنسان الحي واليد المقطوعة بل كل تركيب عند أرسطو طاليس فهو كائن فاسد ن فضلا عن ان يكون لا علة له وأما هل تفضى الطريقة التي سلكها ابن سينا في واجب الوجود إلى نفي مركب قديم فليس تفضي إلى ذلك لأنه إذا فرضنا أن الممكن ينتهي إلى علة ضرورية والضرورية لا يخلو إما أن يكون لها علة او لا علة لها وأنها إن كانت لها علة فإنها تنتهي إلى ضروري لا علة له فإن هذا القول إنما يؤدي من جهة امتناع التسلسل إلى وجود صورية ومادية إلا أن يوضع ان كل ماله صورة ومادة وبالجملة كل مركب فواجب أن يكون له فاعل خارج عنه وهذا يحتاج إلى بيان ولم يتضمنه القول المسلوك في شأن واجب الوجود مع ما ذكرنا أن فيه من الأختلال ولهذا بعينه لا يفضي دليل الشعرية وهو ان كل حادث له محدث إلى أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى أول ليس بحادث
قال وأما أن يكون العالم والعلم شيئا واحدا فليس ممتنعا بل واجب أن ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها وذلك أن العالم إن كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى ان يكون عالما وذلك أن كل ما استفاد صفة من غيره فتلك الصفة أولى بذلك المعنى المستفاد مثال ذلك أن هذه الأجسام الحية التي لدينا ليست حية من ذاتها بل من قبل حياة تحلها فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها أو يفضي الأمر فيها إلى غير نهاية وكذلك يعرض في العلم وسائر الصفات

تعليق ابن تيمية
قلت : ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا بكلام فيه تلبيس وتدليس فإنه ذكر ما يلزم مثبة الصفات وما يلوم نفاتها
فقال : يلزم النفاة أن تكون الصفات ترجع إلى ذات واحدة فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوما واحدا وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحدا وقد قال إن هذا عسير
قلت : بل الواجب أن يقال : أن هذا مما يعلم فساده بضرورة فمن جعل العلم هو القدر والقدرة هي الإرادة وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر كان مخالفته للعوم الضرورية وسفسطته اعظم من سفسطة كثير من السوفسطائية وقود هذه المقالة أن يمكن أن يكون المتكلم هو الكلام والمتحرك هو الحركة والمصلي هو الصلاة والصائم هو الصوم وأمثال ذلك وإن فرق بين الصفات اللازمة وغيرها فلا فرق في الحقيقة بل هذا تحكم ويلزمه ان يكون الإنسان الناطق نفس النطق والفرس الصاهل نفس الصهيل والحمار الناهق نفس النهيق والجسم الحساس المترحك بالإرادة نفس الإحساس والحركة الإرادية ويلزمه أيضا أن يجعل نفس الحس نفس الحركه ونفس الحيوانيه نفس الناطقية ونفس الصاهلية نفس الناهقية
وما أحق هؤلاء بدخولهم في قول الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } الأنعام 39
وبقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الأعراف 179
وبقوله تعالى { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } الملك 10
وقول ابن رشد كون العالم والعلم شيئا واحدا ليس ممتنعا بل واجب ان ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها
فيقال له : هذا من أعظم المكابرة والفسفسطة والبهتان وقوله إن العالم إذا كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما إلى آخر كلامه كلام في غاية الفساد كما أنه إذا قيل إذا كان الضارب ضاربا بضرب فالضرب اولى أن يكون ضاربا والقائم إذا كان قائما بقيام أولى أن يكون قائما والناطق إذا كان ناطقا بنطق فالنطق أولى أن يكون ناطقا والقاتل إذا كان قاتلا ماشيا والخالق إذا كان خالقا بخلق فالخلق أولى أن يكون خالقا والرازق إذا كان رازقا برزق فالرزق أولى ان يكون رازقا والمحيي المميت إذا كان محييا مميتا بإحياء وإماتة فالإحياء والإماتة أولى أن يكون محييا مميتا
وبالجملة فهذا يلزم نظيره في عامة أسماء الله الحسنى وفي أسماء نبيه صلى الله عليه و سلم وأسماء سائر الموجودات المشتقة يلزم أن يكون المصدر الذي اشتق منه الاسم أحق بالاسم من الفاعل ويكون مسمى المصدر الذي هو الحدث أحق بأسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها من من نفس الفاعل الموصوف
وتصور هذا الكلام كاف في معرفة فساده وإنما دخلت الشبهة على من قاله لأن قوله إذا كان العالم عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما كلام اشتبهت فيه باء الاستعانة بباء المصاحبة فظن أنه إذا قيل هذا عالم بعلم أن العلم هو الذي أفاده العلم والعلم هو الذي أعطاه العلم كأنه معلمه فكأنه قال إذا كان المتعلم عالما فمعلمه أولى أن يكون عالما وليس الأمر كذلك بل قولنا هذا عالم بعلم أي أنه موصوف بالعلم أي ليس موجودا عن العلم ولا معرى عنه بل هو متصف به والعلم نفسه لا يعطيه العلم بل نفس العلم هو العلم وإن كان العلم قديما من لوازم ذاته فلم يستفيده من أحد وإن كان محدثا فقد استفاده من غيره ولم يستفد العلم من العلم لكن هل له حال وهو كونه عالما معللة بالعلم أم كونه عالما نفس العلم هذا فيه نزاع بين مثبتة الحال ونفاتها ومن أثبتها لم يقل إنها صفة موجودة
وقوله ما استفاد صفة من غير فتلك الصفة يعني المستفاد منها اولى بذلك المعني المستفاد كما مثل به من الحياة كلام فاسد فإن العالم لم يستفد الصفة التي هي العلم من الصفة التي هي العلم بل نفس علمه هو نفس الصفة ليس هنا صفة مفيدة وصفة مستفادة إلا أن يقال اعلم أثبت العالمية على رأي مثبتة الحال وعلى هذا التقدير فالعالمية ليست صفة وجودية وهو غنما كان عالما بالعلم الوجوب للحال لا بالحال الموجبة للعلم وإذا كان عالما بالعلم لم يكن العلم حصل من علم آخر وإنما العلم عند هؤلاء اوجب كونه عالما والذي عليه الجمهور أن نفس العلم هو نفس كونه عالما فليس هنا شيئان وعلى القولين فإذا استحق الموصوف بالعلم أن يسمى عالما لم يكن العلم أحق بأن يكون عالما فإن هذا لا يقوله عاقل :
وقوله إن الجسم إذا كانت حياته من قبل حياة تحله فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها
فيقال : هذا باطل من وجهين :
أحدهما أن الحياة التي حلته هي الحياة التي صار بها حيا ليس هنا حياة أخرى صار بها حيا حتى يقال هنا حياة حلته وحياة جعلته حيا
الثاني أن حياته إذا قدر أنها مستفادة من حياة أخرى فتلك الحياة الأخرى قائمة بحي هو حي بها لا أن تلك الحياة هي الحية بل الحي الموصوف بالحياة لا نفس الحياة فلينظر العاقل نهايات مباحث هؤلاء الفلاسفة في العلم الإلهي : العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته ن ولينظر هذا المعقول الذي يعارضون به الرسول صلى الله عليه و سلم مع أن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وليس هذا موضع بسطه
والناس شنعوا على ابي الهذيل العلاف لما قال إن الله عالم بعلم وعلمه نفسه ونسبوه إلى الخروج من العقل مع أن كلامه أقل تناقضا من كلام هؤلاء
وأما زعمه أن ما يلزم مثبتة الصفات لا جواب عنه لأن واجب الوجود يجب أن يكون غير مركب من شرط ومشروط
فيقال له : قد تقدم أنكم أنتم سميتم هذا تركيبا هو لا يسمى تركيبا في لغة من اللغات المعروفة لبني آدم بل إنما سماه تركيبا متأخروكم كابن سينا وأمثاله وأما قدماؤكم فقد ذكرتم عن أرسطو طاليس أن كل تركيب فهو كائن عنده فاسد والسماء عنده ليست كائنة فاسدة فهو لا يسمي السماوات وما فيها من الكواكب مركبة مع لأنها أجسام متحيزة متحركة تقوم بها الأعراض فكيف يسمي ما كان حيا عالما قادرا مركبا ؟ وإذا خاطبناكم باصطلاحكم المبتدع لنقطع شغبكم بحثنا معكم بحثا عقليا فإنكم تدعون أن هذه الأمور معلومة بالعقل لا بالسمع وإطلاق الألفاظ ونفيها لا تقفون أنتم فيه عند الشرع فالواجب على أصولكم أن ما علم بالعقل ثبوته أو انتفاؤه اتبع من غير مراعاة للفظ
ونحن نبين فساد ما ذكرتموه من المعنى بالعقل الصريح مع مخاطبتكم بلغتكم فيقال له لم قلت إن ما كان مركبا من شرط لا يكون واجب الوجود ؟
وأما قوله لأن تركيبه إذا كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعسر تقدير مركب قديم من غير أن يكون له مركب
فيقال له هذا هو البحث اللفظي ذكرنا هذا لأجله والمركب الذي يفتقر إلى مركب هو ما ركبه غيره كما أن المحرك الذي يفتقر إلى محرك ما حركة غيره ولم يقل احد من العقلاء إن واجب الوجود مركب ركبة غيره وأنتم إذا سميتم اجتماع الذات والصفات تركيبا لم تريدوا إلا الاجتماع والتعدد والتألف وكثرة المعاني ونحو ذلك لم تقصدوا بذلك ان هناك فاعلا لذلك وإن أردتم ذلك كان باطلا وبطل اللفظ والمعنى جميعا فغن أصل الكلام أن الواجب إذا كان ذاتا موصوفة بصفات كان مركبا فإن أراد المريد : كان له من ركبه من الذات والصفات كان التلازم ممنوعا بل هو باطل ضرورة فإنا إذا قدرنا واجب الوجود بنفسه الغني عن الفاعل موصوفا بصفات لازمة له امتنع أن يكون للواجب بنفسه المستلزم لصفاته من ركب بينه وبين صفاته فإن كونه واجبا بنفسه يمنع ان يكون له فاعل وكون صفاته لازمة له يمنع جواز مفارقتها له ويمنع افتقارها إلى من يجعلها فيه فكيف يقال : إن له مركبا ركبه حتى يقال : إن هذا تركيب يفتقر إلى مركب ويقال يمتنع ثبوت مركب قديم أي من ذاته ومن سمى هذا تركيبا وقال إنه قديم فإنه يقول هو تركب وتألف واجتماع ومثل هذا لا يفتقر إلى مركب مؤلف جامع ولو قيل على سبيل الفرض إن الذات المستلزمة للصفات هي الموصوفة بذلك فليس هنا ما يقتضي افتقارها إلى غيرها

كلام لابن رشد باطل من وجوه
وأما قوله خاصة على قول من يقول كل عرض حادث لن التركيب يكون فيه عرضا قديما فهذا باطل من وجوه :
الوجه الأول
أن القائلين بأن كل عرض حادث من الأشعرية ومن وافقهم لا يسمون صفات الله أعراضا فإذا قالوا هو عالم وله علم وهو متصف بالعلم لم يقولوا إن علمه واتصافه بالعلم عرض ومن سمى صفاته أعراضا كالكرامية ونحوهم لم يلزمهم أن يقولوا كل عرض حادث 0 وما أعلم أحدا من نظار المسلمين يقول كل عرض حادث وصفات الله القديمة عرض فإن هذا تناقض بين فما ذكره لا يلزم أحد من المسلمين ن فلم يقل أحد إن كل عرض حادث مع قوله إن صفات الله اللازمة له أعراض

الوجه الثاني
أن يقال على سبيل التقدير من قال كل عرض حادث فإنه يقول في الأعراض الباقية إنها تحدث شيئا بعد شيء فإذا قدر موصوف قديم بصفات وقيل إنها أعراض والعرض لا يبقى زمانين لزم أن يقال إنها تحدث شيئا بعد شيء وحينئذ فإذا قدر اجتماع أو تألف او تعدد في الصفات ونحو ذلك مما سميته تركيبا
وقيل إنه قديم وإنه عرض وإن كل عرض فهو حادث لا يبقى زمانين كان أولى بتجدد أمثاله من سائر الأعراض فثبوت المعنى الذي سماه تركيبا وجعله عرضا قديما كسائر الصفات القديمة

الوجه الثالث
أن يقال هذا الذي سميته عرضا قديما حكمه سائر الصفات فإن أقمت دليلا على انتفاء الصفات أمكن نفي هذا وإلا فالقول فيه كالقول في أمثاله 0 وأنت لا دليل لك على انتفاء الصفات إلا انتفاء الاجتماع والتعدد الذي سميته تركيبا فإذا لم يمكنك نفي هذا إلا بنفي غيره من الصفات ولا يمكنك نفي الصفات إلا بنفي هذا كان هذا دورا قبليا باطلا وقد تبين انه لا يمكنك لا نفي هذا ولا نفي هذا وان ما ذكرته من لفظ التركيب كلام فيه تلبيس توهم به من لا يفهم حقيقة المقصود أن مثبته الصفات أثبتوا لله تعالى ما يفتقر فيه إلى مركب يركبه معه وكل عاقل يعلم أن مذهب المسلمين المثبتين للصفات أن صفاته القديمة لازمة لذاته لا يفتقر فيها إلى أحد سواه ومن جعل اتصافه بها مفتقرا إلى مركب غيره فهو كافر عندهم فضلا عن أن يقولوا إنه مفتقر إلى مركب جمع بينه وبينها

الوجه الرابع
أن يقال على سبيل الفرض لو نازعك بعض إخوانك الفلاسفة في امتناع مركب قديم من ذاته لم يكن لك عليه حجة فلو قدر أن ذلك يستلزم مركبا قديما من ذاته لم يكن لك على أصول إخوانك الفلاسفة حجة على إبطال هذا فإن الفلك عندكم جسم قديم وهو مركب بهذا الاصطلاح
وأما قولك الفلاسفة وإن جوزوا أعراضا قديمة فغير ممكن وجود قديم من ذاته عندهم ن لأن التركيب شرط في وجوده ولا يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها
فيقال لك إذا كان التركيب شرطا في وجودها نوهي شرط في وجود التركيب لم يكن أحدهما فاعلا للآخر بل إن كانا مفتقرين إلى الفاعل ففاعل الأجزاء هو فاعل التركيب وإن كانا غنيين عن الفاعل لم يفتقر أحدهما إلى الفاعل 0 والكلام على تقدير أن يكون المركب قديما تركيبه بنفسه 0 وقولك مركب من نفسه لا تعنى به أن أجزاءه فعلت التركيب وإنما تعنى به أن نفس الأجزاء متلازمان وهما مستغنيان عن غيرهما

الوجه الخامس
أن يقال قد اعترفت بفساد طريقة ابن سينا وأنها لا تتضمن أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه
وهذا الذي قلته في طريقة ابن سينا يلزمك بطريق الأولى فإنه ليس فيما ذكرته أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه إلا ما أخذته من لفظ مركب وهذا تدليس قد عرف حاله
وأما قولك إن دليل الأشعرية أيضا لا يفضي إلى إثبات أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى إثبات أول ليس بحادث
فهذا أيضا توكيد لإثبات الصفات ن فإن مرادك بالمركب ما كان موصوفا بالصفات ولا ريب أن الأدلة الدالة على إثبات الصانع ليس فيها والحمد لله ما ينفي إثبات الصفات
فإن قلت فهم ينفون التجسيم بناء على انتفاء التركيب ولا دليل لهم على ذلك
قيل لك هذه حجة جدلية وغايته أن تلزمهم التناقض وذلك لا يقتضي صحة قولك الذي نازعوك فيه وهو نازعوك في إثبات الصفات فقلت إن إثبات الصفات يستلزم التركيب وأنت لم تقم دليلا على نفي هذا التركيب فلم تقم دليلا على نفي الصفات وقالوا لك أيضا لا دليل لك على نفي التجسيم فإن عمدتك هو نفي الصفات العائد إلى نفي التركيب وقد ظهر ذلك
فإذا قلت لهم وأنتم أيضا لا دليل لكم على ذلك فإن دليل الحدوث لا يقتضي ذلك
قالوا لك نحن أثبتنا الحدوث بحدوث الجسم وهو المراد بقولنا مركب فإن صح دليلهم ثبت نفي ما سموه تركيبا وغن لم يصح دليلهم لم يكن في هذا منفعة لك
وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك وهي طريق صحيحة وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح وان احتجاجهم بهذا نظير احتجاج أولئك بلفظ التخصيص حيث قالوا إن المختص بشيء لا بد له من مخصص وهذا هو الذي سلكه نفاة الصفات ويسمون نفي الصفات توحيدا وهذا هو الذي سلكه أبو عبد الله محمد بن تومرت الملقب عند أصحابه بالمهدي وأمثاله من نفاة الصفات المسمين ذلك توحيدا

كلام ابن تومرت
ولقب ابن تومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا ويقال إنه تلقى ذلك عمن يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى
قلت ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا إثبات الرؤية ولا قال إن كلام الله غير مخلوق ن ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين والقائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وقد ذكر ابن التومرت في فوائده المشرقية أن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا

ما ورد في كتاب الدليل والعلم
وقال ابن التومرت في كتاب الدليل والعلم فقال
المعلومات على ضربين معدوم وموجود والموجود على ضربين مطلق ومقيد فالمقيد هو المخصص والاختصاص على ثلاثة اضرب الاختصاص بزمان دون زمان سواه والثاني الاختصاص بجهة دون جهة غيرها والثالث الاختصاص بخاصة دون خاصة غيرها ن والموجود المطلق هو الذي ليس بمقيد ولا بمخصص ن فلا يختص بزمان دون غيره ولا بجهة دون غيرها ولا بخاصة دون غيرها فلو اختص بشيء لكان من جنسه ن فلما انتفت عنه الخواص على الإطلاق وجب له الوجود المطلق
قال والموجود المطلق هو القديم الأزلي الذي استحالت عليه القيود والخواص المختص بطلق الوجود من غير تقييد ولا تخصيص وذكر كلاما في نفي الاختصاص إلى أن قال وإذا تساوت المتناهيات في الاختصاص بجهة مقدرة امتنع عليها التخصيص من جهتها ومن مخصص على الإطلاق ثم قال بعد هذا انفرد بالعلم والكمال والحكم والاختيار وانفرد بالقهر والاقتدار وانفرد بالخلق والاختراع وقال مع هذه المخصصات بأسرها يستحيل الكمال عليها وإن تكاملت صفاتها

تعليق ابن تيمية
قلت ومعلوم أن هذا تناقض فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص ودعوى انه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع أن يختص بعلم أو قدرة أو مشيئة ونحو ذلك من الصفات فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل ن والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز ن والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره فإن أثبت شيئا من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك وإن نفى جميع الصفات ولم يثبت إلا وجودا مطلقا تناقض كلامه
وقيل له المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ن فلا يتصور أن يكون في الخارج شيء مطلق لا حيوان ولا إنسان مطلق ولا جسم مطلق ولا موجود مطلق بل كل موجود فله حقيقة بها لا يشركه فيها غيره
وقيل له هذا الوجود المطلق اهو وجود المخلوقات أم غيره ؟ فإن قال هو هو بطل إثبات الخالق وإن قال هو غيره قيل له فوجوده مثل وجود المخلوقات أو ليس مثله ن فإن كان الأول لزم أن يكون الخالق مثل المخلوق والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر فيلزم أن يكون الشيء الواحد واجبا غير واجب محدثا غير محدث وهو جمع بين النقيضين
وإن قال وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد أثبت له وجودا يختص به لا يشركه فيه غيره فلا يماثله غيره وهذا وجود مخصوص مقيد لا وجود مطلق وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام في أن كل مختص بأمر هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه ؟ لأن الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام الذي بين فساده الآمدي والأرموي وغيرهما فإنه مبني على مقدمتين إحداهما أنها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها والثانية أن ما كان كذلك فهو محدث وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم
وأما الأولى فقررت بوجهين
أحدهما أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص ن وقد تبين فساده أيضا
الثاني أن جواهر العالم إما ان تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو البعض مجتمعا والبعض مفترقا وخلوها عنهما وأيضا الجمع بينهما ممتنع واما بقية الأقسام فهي ممكنة ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزا والجائز يفتقر إلى مخصص
وهذا أضعف الوجهين
أحدهما انه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة وان كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق واكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك فإن للناس في هذا المقام أقوالا أحدها قول من يقول إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم
والثاني قول من يقول إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه
والثالث قول من يقول إنها مركبة من المادة والصورة وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة
والرابع قول من يقول إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ كما هو قول الشهر ستاني وغيره
والخامس قول من يقول إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا ن ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي ولكنه يستحيل إذا تصغر كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء ن فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية
وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم ألزمهم الناس بأنه لا بد ان يتميز أحد جانبيه عن الآخر ن وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه
وألزموهم انه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين ما لاقى به هذا امتنع كونه بينهما وإن لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه وألزموهم من هذا الجنس إلزامات لا محيد لهم عنها
ومن نفاه وقال بانه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية ألزمهم الناس أن يكون الجسم الصغير كالكبير وان يكون ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين
ثم إما أن يقول هي غير متناهية مع وجودها كما يقوله النظام والتزم على ذلك ان الظافر لا يحاذي ما تحته من الأجزاء لئلا يقع ما لا يتناهى تحت ما يتناهى وصار الناس يقولون عجائب الكلام طفرة النظام ن وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه
أو يقول إن الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وأمثاله
ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية ن توقف من توقف من أفاضل النظار فيه فتوقف فيه أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه وأبو عبد الله الرازي في نهايته
فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية ولا أثبتوا ما لا يقبل امتياز بعضه عن بعض خلصوا من هذا وهذا ن وقالوا إنه إذا صغر استحال إلى غيره مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجودا
وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم
والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يقولون إن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة إلى آخرها قولهم مبني على هذا الأصل والتزموا على ذلك أن جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن وما يفسد من ذلك غنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها فالحادث صفات الجواهر لا أن عينا من الأعيان يحدث وانكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا : إن أجزاء المني باقية في الأنسان وكذلك أجزاء النواة في الشجرة ولكن زادت أجزاء بما انضم إليها من أجزاء الغذاء كأجزاء الماء والهواء وأن تلك الأجزاء أيضا باقية لم تستحل ولم تعدم بل تجتمع تارة وتفترق أخرى
وجماهير العقلاء على مخالفة وقائلون هؤلاء وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما أطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من أصناف الناس
ولهذا يقولون : النجاسة هل تطهر بالاستحالة ام لا تطهر ؟ فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رمادا أو ترابا أو ملحا ونحو ذلك ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء والقول بطهارته قول أكثر الفقهاء فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك و أحمد بن حنبل واتفقوا على أن الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الإنسان أنها تطهر
والأطباء مع سائر الناس يعلمون أن الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء والنار تسحيل هواء والهواء يستحيل ماء كما هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على أصول هذه الحجة
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين ما يقوله هؤلاء وهؤلاء من التركيب وأن هؤلاء يدعون التركيب من جواهر محسوسة لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة وهؤلاء يدعون التركيب من جواهر معقولة لا تنقسم كما يقولون في تركب الأنواع من الأجناس والفصول وفي تركب الأجسام من المادة والصورة والمركب لا بد له من واحد لا تركيب فيه ولا تقسيم
وقد بين ان ما يدعيه هؤلاء وهؤلاء من هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج ن وإنما تقديره في الذهن وكذلك ما يدعيه هؤلاء من الجواهر العقلية المجردة التي لا تنقسم كالعقول العشرة فقد بين في غير هذا الموضع أنها لا تتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان
وتوحيد القديم الأزلي واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات عند الفريقين ينزه عن مثل هذه الآحاد والوحدات التي يثبتونها في الخارج ولا حقيقة لها إلا في الذهن ولهذا كان منتهى تحقيقهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود واحد لا يميزون بين الواحد بالنوع والواحد بالشخص فإن الواحد بالنوع كما يقال : الموجودات تشترك في مسمى الوجود والأناسي تشترك في مسمى الإنسان والحيوانات تشترك في مسمى الحيوان والأجسام تشترك في مسمى الجسم ونحو ذلك
وهذا المشترك هو الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا ولا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان
وبين ما دخل على المنطقيين من الغلط في دعواهم تركب الحقائق من هذه الكليات وما دخل عليهم من الفساد في العلم الإلهي والطبيعي وأنهم يجعلون الواحد اثنين كالجسم والأثنين واحدا كالعلم والعالم والإرادة والقدرة ويجعلون الموجود معدوما ن كالحقيقة الإلهية وصفاتها وأفعالها والمعدوم موجودا كالوجود المطلق ويجعلون ما في الذهن في الخارج كالمجردات والكليات وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه
الوجه الثاني انه لو سلم أن الجسم مؤلف من الجواهر المجتمعة فالقول في الاجتماع كالقول في المقدار وقوله : إن اختصاصه بذلك الاجتماع يفتقر إلى مخصص قد بين فساده كقوله إن اختصاصه بالمقدار إلى مخصص وهو مبني على أن كل مختص يفتقر إلى مخصص
وأما المقدمة الثانية فإنها قررت بان المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وان يكون ما خصصه به حادثا وقد أبطل الآمدي وغيره كلا المقدمتين
وغاية هذا المسلك أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث

كلام الآمدي في تقرير هذا المسلك
قال الآمدي وبتقدير تسليم حدوث ماأشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز ان تكون هذه الفصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها ينتهي إليه

ذكر الآمدي في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها
قلت : وهذا الذي اعتمده الآمدي في هذه المسألة فإنه ذكر في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها :
الأول : مسلك الإمكان وأنه ممكن وكل ممكن محدث
والثاني : مسلك الاختصاص
الثالث : مسلك الخبز المعين
الرابع : مسلك القدم : أنه قديم
والخامس مسلك الإمكان أيضا لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى
والسادس : مسلك الحركة والسكون الذي قدمه الرازي وقد تقدم ما عترض به هو والأرموي وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها

المسلك السابع الذي اعتمده
قال الآمدي والمسلك السابع : المسلك المشهور للأصحاب وعليه الاعتماد وذكر أن المسلك المشهور للأشعرية والرازي ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وقدح الآمدي في الطرق التي اعتمد عليها الرازي
قال الآمدي : وهو أنا نقول : العالم مؤلف من أجزاء حادثة والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث بيان الأول أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض والواهر والأعراض حادثة فأجزاء العالم حادثة وبيان الأول ما سبق في الوجود والممكن بيانت الثانية إما بيان أن الأعراض حادثة فلانا بينا ان الأعراض ممتنعة البقاء وكل ممتنع البقاء فهو حادث مسبوق بعدم نفسه فكل واحد من الأعراض حادث مسبوق بعدم نفسه وعند ذلم فإما أن تكون متعاقبة في وجودها إلى غير النهاية او هي منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر الأول محال لما بيناه من بيان امتناع حوادث لا أول لها ينتهي إليه في إثبات واجب الوجود فلم يبق إلا الثاني وهو أن تكون جملتها متناهية ومسبوقة بالعدم فتكون حادثة وأما الواهر فلأنا بينا فيما تقدم امتناع عرو الواهر عن الأعراض وإذا كانت الأعراض التي لا عرو للجواهر عنها حادثة ومسبوقة بالعدم فالجواهر كذلك لأن مالا يعرى عما له أول فله أول وهو حادث وإلا فلو كان قديما للزم منه غما عروة عن العرض في حال قدمه وإما أن تكون الأعراض لا أول لها وكل واحد من الأمرين محال لما تقدم
اما بيان المقدمة الثانية من أصل الدليل فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة ولها أول تنتهي إليه فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها تكون حادثة مسبوقة بالعدم وهو معلوم بالضرورة
فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الذي ارتضاه

تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : هذا الدليل أضعف بكثير ممن ذكره الرازي ولهذا لم يعرج الرازي على هذا لضعفه واستدل بدليل الحركة والسكون كما استدل به من استدل من المعتزلة فإن هذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما أن الأعراض جميعها ممتنعة البقاء وجمهور العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك بل يقولون إن هذا خلاف الحس والضرورة ويجعلونه من جنس قول النظام إن الأجسام أيضا لا تبقى
وعمدة من قال بامتناع بقائها : أن العرض لو جاز لامتنع عدمه لأن العدم لا يجوز أن يكون بحدوث ذد فإن الحادث إنما يحدث في حال عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس ولا يجوز ان يكون بفعل القادر المختار لأن العدم نفي محض وفعل الفاعل لا يكون نفيا محضا
ومعلوم ان هذا كلام ضعيف فإنه يمكن عدمه بالإعدام وفعل الإعدام ليس فعلا لعدم مستمر بل هو إحداث لعدم ما كان موجودا كما أن إحداث الوجود إحداث لوجود ما كان معدوما وهذا أمر متجدد يعقل كونه مفعولا للفاعل
وأيضا فالضد الحادث إذا قدر أنه أقوى من الباقي كان إزالته له لفضل قوته فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف
وأيضا فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلا لذلك الباقي دون العكس
ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور وإلا لكان ينبغي أن تبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء فإن هؤلاء يقولون إن الله لا يمكن أن يفني شيئا من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائما فإذا لم يحدثها عمدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم
وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث وقد تقدم كلامهم في إفساد جميع ما استدل به على ذلك والطريقة التي قررها الآمدي قد تقدم اعتراض الأموري وغيره عليها وبيان فسادها
فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة ويسمونه قواطع عقلية ويقولون : إنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها
فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته بمثل هذا الكلام فضلا عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه بل لا يجوز أن تعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالمعومات والأقيسة والظاهر وأخبار الآحاد فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم ؟
بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين وإنما هو كلام طويل بعبارت طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه
وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم

فصل
وإذ قد عرف ما قله الناس من جميع الطوائف في مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى وضعف أدلة النفاة واعتراف أب يعبد الله الرازي وغيره بذلك وانه اعتمد على حجة الكمال والنقصان وهي ضعيفة أيضا كما تقدم وذكر هو و أبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما ادلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به : إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصا وإن كان نقصا لزم اتصافه بالنقص والله منزة عن ذلك

ضعف تضعيف الرازي وغيره لحجة الكمال والنقصان
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة
الوجه الأول
أن يقال : القول في افعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا الفعل إن كان صفة كما لزم عدم الكمال له في الأزل وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال
وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ووجود المقبول في الأزل محال
فأجيبوا بانه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره
فإذا قيل : لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته وذلك في الأزل محال فما كان جوابا عم هذا كان جوابا عن هذا
وقد اورد الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه :
أحدها : أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور لا في مقبول غير مقدور فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه وهو قادر على افعاله القائمة به كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة
قال تعالى : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } القيامة 40 وقال تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الآية الأنعام 65 وقال تعالى { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } يس 81 وقال تعالى { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } الشورى 29 فبين أنه قادر على الإحياء والبعث والخلق والجمع وهذه أفعال وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي مسعود البدري لما رآه يضرب عبدا له لله أقدر عليك منك عليه فتعين انه قادر عليه نفسه
والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ليس في كل مقبول فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل اتمنع وجود الحوادث كذلك فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور إذ كلاهما مقدور
الثاني : أن يقال إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا
الثالث : أن يقال : إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ن فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور بل في حال إمكانه ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقالوا هذا جمع بين المتناقضين وقالوا : أنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع بدون سبب يوجب هذا الانتقال ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك وقد بسط الكلام على ذلك ف يغير هذا الموضع

الوجه الثاني
أن يقال : كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال وهو لم يزل متصفا بذلك وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال

الوجه الثالث
أن يقال : ما تعني بقولك عدم ذلك نقص ؟ أتعني به أن ذاته ناقصة وأنها ليست منتصفة بصفات الكمال الواجبة لها ؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها ؟ أما الأول فباطل وأما الثاني فلم قلت إن هذا ممتنع

الوجه الرابع
أن يقال أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما من أن تنزيهه عن النقائض إنما علم بالسمع لا بالعقل فإذا قلتم إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك لم يبقي ذلك إلا بالسمع الذي هو الإجماع عندكم ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور وإنما نفي ما يناقض صفات الكمال كالموت المنافي للحياة والسنة والنوم المنافي للقيومية واللغوب المنافي لكمال القدرة
ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا فإن العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام دل أيضا على نفي أضداد هذه فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال
وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أحق به لأنه هو الذي خلقه وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث فالموجود الواجب القديم أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أولى بتنزيهه عنه

الوجه الخامس
أن يقال إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة كان صريح العقل قاضيا بان المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال بل القابلة للاتصاف بها أكمل من ذات لا تتصف بهذه أو لا تقبل الاتصاف بها
ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات وهذا الطريق وتحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات
فيقال : وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ولا تأتي ولا تجيء ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها وذاتا تقدر على هذه الفعال ولا تحدث الأشياء بفعل لها كانت هذه الذات أكمل فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع والحي أكمل من الجماد والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم كالجماد أو كالأعمى الصم الأخرس والحي أكمل من الجماد والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس
وإذا كان كذلك فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص فقال لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر معدوما في الأزل وعدمه صفة نقص فكان متصفا بالنقص كان بمنزلة من يقول إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك لأنه لو قدر على ذلك وفعله لكان إحداثه للحادث الثاني معدوما قبل إحداثه وذلك نقص فيكون متصفا بالنقص
فيقال : أنت وصفته بالكمال عن النقص حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص فإن من لا يفعل قط ولا يقدر أن يفعل هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء
وهذه عادة النفاة لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم لما قبل لهم إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة لزم أن يتصف بما يقابل ذلك كالعجز والجهل والموت
فقالوا : إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب كالوجود والعدم إذا عدم أحدهما ثبت الآخر وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فقد يخلو المحل عنهما كالجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا
فيقال لهم : فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكانه ذلك منه فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه ولهذا نظائر مبسوطة ف يغير هذا الموضع
والمقصود هنا أن من نفي الأفعال الاختيارية القائمة به لئلا يكون وجود الحادث منها ناقصا كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا

الوجه السادس
أن يقال : الأفعال التي حدثت بعد ان لم تكن لم تكن وجودها قبل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده وما به يحصل الكمال وما ينبغي وجوده ونحو ذلك والرب تعالى حكيم في أفعاله وهو المقدم والمؤخر فما قدمه كان الكمال في تقديمه وما أخره كان الكمال في تأخيره كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات

الوجه السابع
أن يقال : الحوادث يمتنع قدمها ويمتنع أن توجد معا واو وجدت معا لم تكن حوادث ومعلوم انه إذا دار الأمر بين إحداث الحوادث وعدم إحداثها كان أحداثها أكمل ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل
وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما فلا يقال عدم فعل هذا او عدم تعلق القدرة به صفة نقص بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره

الوجه الثامن
أن يقال : لا ريب أن الحوادث مشهودة وأن لها محدثا أحدثها فالمحدث لها : إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به وإما أن تحث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الاثنين ممكنا فإن الأول فيه وصفة بصفة الكمال بخلاف الثاني فكيف والثاني ممتنع لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع
وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها وهي في الحالين حادثة لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا بل حدثت بذاتها
وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع وبين فساد قول الفلاسفة الدهرية القائلين بان حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء وإن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فغن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى وهو انه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب كالقول فيه فيلزم التسلسل او الترجيح بلا مرجح
فيقال لهم : أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن فاعل قائم بنفسه لا تقوم به صفة ولا فعل ولا يحدث له فعل ولا غير فعل فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء أعظم فسادا من قول من يقول إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة تصدر فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة

الوجه التاسع
إن يقال : أفعال الله تعالى : إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة وإما أن لا يكون والناس في هذا المقام مشهوران أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة والثاني قول من يثبت حكمه قائمة بالمخلوق أو حكمه قائمة بالخالق 0 والأقول الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم
فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال فيقال لهم قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه وهو الفعل عندكم
وإن أثبتم الحكمو قيل لكم الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن سواء كانت قائمة بنفسه أو بغيره اهي صفة كمال أو لا ؟
فإن قلتم صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به
وإن قلتم ليست صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة
فقد لزمكم في الحكمة إن أثبتموها أو نفيتموها ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء وهذا بين واضح

الوجه العاشر
أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به معلوم بصريح العقل ان هذا صفة كمال وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة فلم قلتم إن هذا ممتنع ؟
فإذا قيل لئلا يلزم الكمال بعد النقص
قيل لهم لم قلتم وجود مثل هذا الكمال ممتنع ؟
ولفظ النقص لفظ مجمل كما تقدم فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن لزم أن يكون معدوما قبل وجوده
فيقال ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال ؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ولا استكماله بفعل غيره بل هو الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم الخبير الرحيم الودود لا إله إلا هو وكل ما سواه فقير إليه وهو غني عما سواه لا يكمل بغيره ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ولا ضره فيضروه بل هو خالق الاسباب والمسببات وهو الذي يلهم عبده الدعاء ثم يجيبه وييسر عليه العمل ثم يثيبه ويلهمه التوبة ويحبه ويفرح بتوبته وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها وهو الذي خلق ما لايحبه ولا يرضاه من اعمالهم لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } القصص : 70 فلا إله إلا هو { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الانبياء : 22 إذا كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه فما لا يكون به لا يكون فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم كما قال تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } الفرقان : 23 وقال { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } إبراهيم : 18 وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا
فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله هو المحبوب في الحقيقة وحبنا لذلك بطريق التبع وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله فالله تعالى يحب الذين يحبونه فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود وأن يكون غاية كل حب كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه ويحب الحمد من خلقه
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله
وقال له الأسود بن سريع يا رسول الله إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقد روى انه كان يقول ذلك في آخر الوتر
فهو المثني على نفسه إذا أفضل خلقه لا يحصى ثناء عليه
والثناء تكرير المحامد وتثنيتها كما في الحدث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدني فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد احق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد 0 فذكر الحمد والثناء والمجد هنا كما ذكره في اول الفاتحة فالحمد يتناول جنس المحامد والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها 0 والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها
فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ولا أحد يحسن أن يحمد كما يحمد نفسه ن ولا يثني عليه كما يثني على نفسه ولا يمجده كما يمجد نفسه
كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيح لما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر : 67 قال يقبض الله سماواته بيده والأرضون بيده الأخرى ثم يمجد نفسه فيقول نا الملك انا القدوس انا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبارون أين المتكبرون ؟ أو كما قال
وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى إني جواد ماجد واجد إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون

فصل كلام الآمدي في أبكار الأفكار في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى 0
ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى :
قال وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم كان ذاتا قائمة بنفسها أو صفة لغيره كالأعراض وأما ما لا وجود له كالعدم أو الأحوال عند القائلين بها فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك أو النسب والإضافات فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد ولا يقال له حادث
قال وعند هذا فنقول العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك
غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى بل قال أكثرهم هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال هو قوله كن ومنهم من قال هو الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث ن وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف مذهبهم فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين وهما السمع والبصر
قال وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ولا يعود إليه منها حكم حتى لا يقال إنه قائل بقول ولا مريد بإرادة بل قائل بالقائلية ومريد بالمريدية ولم يجوزواعليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى في الخالق والرازق وغن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق
قال وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به غير أبي الحسين البصري فإنه قال تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد الملومات ن وما كان من النسب والإضافات والتعلقات فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن 0 وما كان من الأعدام والسلوب 0 فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى فلا يكون متجددا بالإجماع مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض إلى غير ذلك 0 وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات فغير ممتنع إن يتصف به الرب تعالى بعد أن لم يكن بالإتفاق فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال الرب تعالى موجود مع موجوده وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن

تعليق ابن تيمية
قلت قد ذكر أن لفظ الحادث مرادهم به الموجود بعد العدم سواء كان قائما بنفسه كالجوهر أو صفة لغيره كالأعراض ن وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات وهذا الفرق أمر اصطلاحي وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث
وأيضا فإن الأحوال عند القائلين بها منهم من يقول بوجودها وقالوا يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها وأن يكون وجودها تبعا لغيرها
وخالفوا أبا هاشم في قوله ليست معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة
وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية وأما المذاهب فيقال لفظ الحوادث والمتجدادت في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة وربما أفهم أو اوهم في العرف استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها إذا قيل فلان حدث به حادث وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك كما قد عرف هذا
وأما مورد النزاع انه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والأستواء عليه والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك وإما من باب الأقوال والكلمات وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد وإذا كان كذلك فقوله إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية إلى آخره ليس بنقل مطابق
أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة صلوات الله عليه وسلامه أو ما أجمع عليه أهل العلم وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه مع منازعة غيره له فلا يجوز إضافته إلى الملة ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه و سلم ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا بل الكتب الإلهية المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات
وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة وشيوخ المسلمين المتقدمين لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر
ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات وذلك بعد المائة الأولى في أواخر عصر التابعين ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته
فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة وقالوا لا تحل به الأعراض والحوادث وأرادوا بذلك انه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ولا فعل كالخلق والاستواء أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف
وعن هذا قالت المعتزلة إن القرآن مخلوق لأنه لو قام بذاته للزم أن تقوم به الأفعال والصفات وأطبق السلف والأئمة على إنكار هذا عليهم
وكل من خالفهم قبل ابن كلاب كان يقول بقيام الصفات والأقوال والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته به لكن ابن كلاب ومتبعوه فرقوا بين ما يلزم الذات من أعيان الصفات كالحياة والعلم وبين ما يتعلق بالمشيئة والقدرة فقالوا هذا لا يقوم بذاته لن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث عليه كما سيأتي
و ابن كرام كان متأخرا بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل وتوفي ابن كرام في حدود ستين ومائتين فكان بعد ابن كلاب بمدة وكان أكثر أهل القبلة قبلة على مخالفة المتزلة والكلابية حتى طوائف أهل الكلام من الشيعة والمرجئة كالهشامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهما كما ذكر عنهم الأشعري في المقالات
وأمثال هؤلاء كانوا يقولون بقيام الحوادث به حتى صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وأمثال ذلك بل هم يقولون إنه إنما ابتدع من ابتداع من أهل الكلام البدع المخالفة للنصوص وللمعقول بهذا الأصل كقول من قال إن الكلام معنى واحد قديم وقول من قال إن المعدوم يرى ويسمع وقول من قال بقدم صوت معين
وأما غير أهل الملل فالفلاسفة متنازعون في هذا الأصل والمحكي عن كثير من أساطينهم القدماء أنه كان يقول بذلك كما تقدم نقل المقالات عنهم حتى صرح بالحركة من صرح منهم بل الذين كانوا قبل أرسطو من الأساطين كانوا يقولون بحدوث العالم عن أسباب حادثة وهم يقولون بهذا الأصل إما تصريحا وإما لزوما وكذلك غير واحد من متأخريهم كأبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهذا اختيار طائفة من النظار كالأثير الأبهري وغيره
وما حكاه عن أبي الحسين البصري فهو قول غير واحد قبل أبي الحسين وبعده كهشام ونحوه وغيره وإبن عقيل يختار قول ابي الحسين وهو معنى قول السلف والرازي يميل إلى قول أبي الحسين بل وإلى زيادة على قوله كما ذكره في المطالب العالية بل ينصره وقوله عن الكرامية إنهم قالوا أسماؤه كلها أزلية أي معاني أسمائه أي ما لأجله استحق تلك الأسماء كالخالقية والرازقية
واما نفس الاسم فهو من كلامه وكلامه عندهم حادث قائم بذاته ويمتنع عندهم أن يكون في الأزل كلام أو أسماء لن ذلك يقتضي حوادث لا أول لها أو يقتضي قدم القول المعين وكلاهما باطل عندهم وحكايته عن الكرامية أنهم يقولون خلق الإرادة والقول في ذاته مستند إلى القدرة القديمة وخلق ما في المخلوقات يستند إلى الإرادة والقول تعبير عن مذهبهم بعبارته وإلا فهم لا يسمون شيئا مما يقوم بذات الرب لا مخلوقا ولا محدثا وغنما يقولون حادث ولا يقولون إن إرادته وكلامه لا مخلوق ولا محدوث

تابع كلام الآمدي وتعليق ابن تيمية عليه
قال وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة :
الأولى قالوا لو كان الباري تعالى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها وضد الحادث وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثا والرب تعالى ليس بحادث
قال وهذه الحجة مبينة على خمس مقدمات الأولى أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد والثانية أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا والثالثة أن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده والرابعة أن مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث والخامسة أن الحدوث على الله تعالى محال أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره
قلت هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ومعلوم بالأدلة اليقينية بل معلوم بالضرورة وقد ذكر انه قرر ذلك وهو لم يقرره فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود وبني ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها وحجته على ذلك ضعيفة
وقد أورد في كتابه المسمى بدقائق الحقائق على إبطال تسلسل العلل سؤلا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا فبطل ما ذكره من تقريره لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير
وقال وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر
قلت لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار وقرر ذلك بان الحادث يمتنع أن يكون أزليا
وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ الحادث يراد به النوع الدائم ويراد به الحادث المعين والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني والنزاع إنما هو في الأول
وأيضا فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في دقائق الحقائق أورد عليه سؤلا واعترف بأنه لا جواب له عنه وإذا كان تقريره لنفى تسلسل العلل قد بين انه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث
ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى
والسؤال الذي أورده يرد على النوعين وقد ذكرنا وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم ومضمونه أنه : لم يلا يجوز أن كان لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلومات التي لا تتناهى وإن كان ممكنا في نفسه لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة وكل واحد واجب بما قبله وهذا وإن كان باطلا لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة وقال إنه ينصر بالمعقول أصول الدين يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين مع انه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين أو ما يعارض ما يثبت انه من الدين
وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله انه يتكلم بالقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والخيرة فيها ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه أو ما يكون وسيلة إلى غيره مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه
وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها بعد أن أبطل حجج موافقيه بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزليا وهذا الوجه ضعيف
فإن المنازع يقول أشخاص الحوادث ليست أزلية وإنما الأزلي النوع فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ثم يقال إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا فأي شيء ينفعك نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه ؟
قال : وإنما الإشكال في المقدمات الثلاثة الأول
قال وذلك أن لقائل أن يقول قولكم إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد فإما أن يراد بالضد معنى وجودي يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما وإما أن يراد به ما هو اعم من ذلك وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما حتى يقال فإن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها فإن كان الأول فلا نسلم انه لا بد وان يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار والاستدلال على موقع المنع عسير جدا وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يلزم أن يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا ولو كان عدمه حادثا كان وجوده سابقا على عدمه وهو محال
قال وإن سلمنا انه لا بد أن يكون ضد الحادث معنى وجوديا ولكن لا نسلم امتناع خلو عن الصفة وضدها بهذا الاعتبار وحيث قررنا في مسألة الكلام والإدراكات أن القابل لصفة لا يخلو عنها وعن ضدها إنما كان بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص فلا مناقضة
قلت هذا كلام حسن جيد لو كان قد وفي بموجبه فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة في إثبات صفات الكمال كالكلام والسمع والبصر وقد اتبعهم في ذلك متكلمة الصفلتية من أصحاب أبي كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم بل أثبتوا بها عامة صفات الكمال
وقد أورد عليها ما يورده نفاة الصفات وزعم أن ذلك قادح فيها فقال أما أهل الإثبات يعني للصفات فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا وهو انهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا 0 فقالوا إن العالم لا محالة على غاية من الحكمة والإتقان وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه كما سيأتي وهو مستند في التخصيص والإيجاد إلى واجب الوجود كما سيأتي أيضا فيجب أن يكون قادرا عليه مريدا له عالما به كما وقع به الاستقراء في الشاهد فإن من لم يكن قادرا لا يصح صدور شيء عنه ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون بعض بأولى من العكس إذ نسبتها إليه واحدة ومن لم يكن عالما بالشيء لا يتصور منه القصد إلى إيجاده
قالوا وإذا ثبت كونه قادرا مريدا عالما وجب أن يكون حيا إذ الحياة شرط في هذه الصفات على ما عرف في الشاهد وما كان له في وجوده أو عدمه شرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما فإن من لم تثبت له هذه الصفات من الأحياء فهو متصف بأضدادها كالعمي والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد أيضا والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات
قالوا وإذا ثبت له هذه الأحكام فهي في الشاهد معللة بالصفات فالعلم في الشاهد علة كون العالم عالما والقدرة علة كون القادر قادرا وعلى هذا النحو باقي الصفات والعلة لا تختلف لا شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن حد العالم في الشاهد من قام به العلم والقادر من قامت به القدرة وعلى هذا النحو والحد لا يختلف شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن شرط العالم في الشاهد قيام العلم به وكذلك في القدرة وغيرها والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا
قلت وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها علي هذا الوجه فإنه يمكن تقريرها على وجه اكمل منه ومع هذا فقد قال هذه الحجة مما يضعف التمسك بها جدا وأورد عليها أنها مبنية على الجمع بين الشاهد والغائب
وقد تكلمنا على ما ذكره هو وغيره في غير هذا الموضع وبينا أن الحجة لا يحتاج فيها إلى هذا الجمع ولو احتيج فيها إلى هذا الجمع فهو صحيح فإنه من باب قياس الأولى وهو أن ما كان من لوازم الكمال فثبوته للخالق أولى منه للمخلوق كما قد ذكر في غير هذا الموضع
لكن المقصود هنا انه اعترض على قولهم لو لم يتصف بهذا لاتصف بضده العام الذي يتضمن النفي وهو قد ذكر هنا أنه قرره
قال وأما قولهم لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه حيا لكان متصفا بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعني المتنافيين
وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وانه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب والعدم والملكة والتضايف والتضاد وان تقابل العلم والجهل أعمى والبصر هو عندهم من باب تقابل أتعدم والملكة
والملكة على اصطلاحهم كل معني وجودي أمكن أن يكون ثابتا للشيء إما بحق جنسه للإنسان فإن البصير يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان أو بحق نوعه ككتابه زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان أو بحق شخصه كاللحية للرجل فإنها ممكنة في حق الرجل
قال والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة
قال فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو انه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ومتكلما أو ليس فهو ما يقوله الخصم ولا يقبل نفيه من غير دليل
وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلا لهما ولهذا يصح أن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارىء تعالى قابلا للبصر والعمى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمي والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه
قلت وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدي فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام قد أورد عليه ما ذكر فكيف يدعي انه قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو إيراد فاسد من وجوه
الوجه الأول لن يقال نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ونفي هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه سواء قيل إنه قابل لها أو لم يقل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر اكمل ممن لم يتصف بذلك وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك
وهو قد سلك في إثبات الصفات طريقة الكمال وهي في الحقيقة من جنس هذه فقال واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك قريبة المدرك يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها والقدح في دلالتها يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية وهي مما ألهمني الله إياها ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيري وهو أن يقال المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة مع قطع النظر عما يتصف به صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن تكون لا صفة كمال وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا أو مساويا من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد فلم يبق إلا القسم الأول وهو انه في نفسها وذواتها كمال وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف الباري تعالى بها لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق
قلت هذه الحجة مادتها صحيحة وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف وغن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التي زيفها بان يقال لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهي صفات نقص فيكون انقص من بعض مخلوقاته
الوجه الثاني أن يقال هب انهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلا
جوابه أن يقال الموجودات نوعان نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان وصنف لا يقبل ذلك كالجماد ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما اكمل ممن لا يقبل واحدا منهما وإن كان موصوفا بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال اكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال فلان يقدس عن كونه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى وهذا معلوم ببداهة العقول
الوجه الثالث : إن نقول : لا نسلم أن في الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات وقد قال تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقا بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى
وإذا كان سبحانه قادرا على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جمادا من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك بل بوجود به له إذ ما كان ممكنا في حقه من صفات الكمال كان واجبا فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته
وهذا فصل معترض ذكرناه تنبيها على تقصير من يقصر في الاستدلال على الحق الذي قامت عليه الدلائل اليقينية العقلية مع السمعية مع مدافعتهم لما دلت عليه دلائل السمع والعقل وإن كنا لا نظن بمسلم بل بعاقل أن يتكلم في جهة الربوبية بما يراه تقصيرا ولكن لا يخلو صاحب هذه الطريق من عجز أو تفريط وكلاهما يظهر به نقصه عن حال السلف الأئمة الموافقين للشرع والعقل وأنهم كانوا فوق المخالفين لهم في هذه المطالب الإلهية والمعارف الربانية
وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم وهي مبنية على مقدمتين أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وأكثر الناس ينازعونهم في ذلك بل جميع الطوائف من أهل النظر والأثر ينازعونهم كالمعتزلة والكرامية والشيعة والمرجئة وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة
والثانية : على امتناع تسلسل الحوادث والنزاع فيها مشهور بين جميع الطوائف قال الآمدي الحجة الثانية أنه لو قامت الحوادث بذات الرب تعالى لكان لها سبب والسبب إما الذات وإما خارج عنها فإن كان هو الذات وجب دوامها بدوام الذات وخرجت عن أن تكون حادثة وإن كان خارجا عن الذات فإما أن يكون معلولا للإله تعالى أو لا يكون معلولا له فإن كان الأول لزم الدور وإن كان الثاني فذلك الخارج يكون واجب الوجود بذاته مفيدا للإله تعالى صفاته فكان أولى أن يكون هو إلاله
وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى فتكون محالا
قال الآمدي ولقائل أن يقول وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب فالسبب إنما هو القدرة القديمة والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه فليس السبب هو المسبب ولا خارجا ولا يلزم من دوام القدرة دوام المقدور وإلا كان العالم قديما وهو محال
قال : فإن قيل : إذا كان المرجح للصفة الحادثة هو القدرة والاختيار فلا بد وأن يكون الرب تعالى قاصدا لمحل حدوثها ومحل حدوثها ليس إلا ذاته فيجيب أن يكون قاصدا لذاته والقصد إلى الشيء يستدعي كونه في الجهة وهو محال ثم ولجاز قيام كل حادث به هو محال
وأيضا فإن الصفةالحادثة عند الكرامية إنما هو قوله كن والإرادة هي مستند المحدثات وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة
قلنا أما الأول فمندفع فإن القصد إلى إيجاد الصفة وإن استدعي القصد إلى محل حدوثها فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل في الجهة أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة وليس كذلك بل بمعنى إرادة إحداث الصفة فيه وذلك غير موجب للجهة
ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة في المحل يوجب كون المحل في الجهة فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض لأن القصد إلى إيجادها يكون قصدا لمحالها ويلزم من ذلك أن تكون محالها في الجهات والقصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال وذلك يفضي إلى أن يكون الرب في الجهة عند قصد خلق الأعراض وهو محال
والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث في ذاته جاز خلق كل حادث فدعوى مجردة وقياس من غير جامع وهو باطل على ما أسلفناه في تحقيق الدليل
وأما الثاني فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير موافق لأصولنا وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم فلعله لا يقول به وإن كان قائلا به فليس القول بتخطئته في القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه في رعاية الحكمة أولى من العكس
قلت هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وامثاله الذين يقولون إن الرب لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفي الحوادث المنفصلة كما يستدل بها على نفي الحوادث المتصلة وهو أن الموجب لحدوث الحادث مطلقا من الذات إن كان الذات لزم دوامه وإن كان الذات لزم دوامه وغن كان خارجا عنها فإن كان معلولا للذات لزم الدور لن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج وذلك المعلول الخارج لا بد أن يكون حادثا وإلا لو كان قديما لكان كمال المقتضي لذلك الحادث قديما وهو الذات ومعولها القديم وإذا كان المعلول الخارج حادثا فلا يحدث إلا بسبب حادث في الذات وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب فيلزم أن يكون ما حدث في الذات من الذات موقوفا على الحادث الخارج وما حدث في الخارج موقوفا على الحادث فيها \ فيلزم الدور وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجبا بنفسه فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفا على ذلك الواحب بنفسه ثم قال فيكون أولى بالإلهية فهذه عمدة هؤلاء الدهرية في نفي فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره
ولهذا بين الآمدي ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية فإن قال الكرامية يقولون في الحوادث بذاته كما تقولون أنتم في الحوادث المنفصلة عنه فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادرا أو بالقدرة أو المشيئة القديمة فهكذا نقول فيما يقوم بذاته
ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لا لمرجح
والمنازعون في هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون إن هذا جحد للضرورة وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح وقد عرف كلام الناس في هذا المقام

الرد على الفلاسفة في مسألة امتناع حلول الحوادث بذاته تعالى من وجوه
ونحن نذكر ما تجاب به الفلاسفة عن أهل الملل جميعا وذلك من وجوه
الوجه الأول
ان يقال الحوادث إما أن يجب تناهيها أو لا يجب بل يجوز أن لا يكون لها نهاية فإن وجب تناهيها لزم أن يكون للحوادث اول ولزم جواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وبطلت حجتكم وقولكم بدوام حركات الفلك وأنها أزلية وإن جاز دوام الحوادث فحينئذ ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث وحينئذ فالأفلاك إذا كانت حادثة لزم أن يكون قبلها حادث آخر وحينئذ فيمكن أن تكون تلك الإرادات المتعاقبة القائمة بذات الواجب أو غيرها من الحوادث هي الشرط في حدوث الأفلاك كما تقولون انتم كل حادث فهو مشروط بحادث قبله
فإن قالوا ذاته لا تحلها الحوادث
قيل لهم دليلكم على نفي قيام الحوادث به إما أن يكون نافيا لقيام الصفات به مطلقا وإما ان يخص الحوادث فإن كان الول فقد عرف فساد قولكم فيه ببيان فساد حجتكم على نفي الصفات وإبطال ما تذكرونه في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات كما بسط في موضعه
وإن كان مختصا فدليلكم على النفي هو هذا الدليل على امتناع حدوث الحوادث عنه فليس لكم ان تثبتوا هذا بهذا وهذا بهذا فإنه يكون دورا وهذا من المصادرة على المطلوب فغن نفيكم لحدوث الحوادث بذاته وبغيره سواء فإذا لم يمكنكم نفي ذلك إلا بنفي حلولها بذاته كنتم قد صادرتم على المطلوب

الوجه الثاني
إن يقال لهم قول القائل سبب الحوادث غما الذات أو خارج عنها أتريدون به سبب كل حادث أو سبب نوع الحوادث فإن أردتم الأول منعوكم الحصر وقالوا لكم بل سبب كل حادث الذات بما قام بها من الحوادث المتعاقبة
فإن قلتم هذا يستدعي تعاقب الحوادث بذاته وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث
قالوا لكم فهذا يبطل قولكم بقدم الأفلاك ويوجب حدوثها
وأيضا فيقال لكم مالا يخلو عن جنس الحوادث إن لم يجب حدوثه بطلت هذه الحجة وغن وجب حدوثه لزم حدوث الأفلاك وحينئذ فالموجب لحدوث الأفلاك إن كان قديما لم يحدث به حادث جاز حدوث الحادث بدون سبب حادث ولا فرق حينئذ بين أن يكون الحادث بذاته أو منفصلا إنه فيلزم قول الكرامية 0 وإن كانت الحوادث لا تحدث إلا بحوادث متعاقبة لزم تسلسل الحوادث وبطل القائل فما لا ينفك عن حنس الحوادث فهو حادث وحينئذ فتبطل هذه الحجة
فتبين انه يلزمكم إما بطلان هذه الحجة وإما تصحيح قول الكرامية وذلك يستلزم بطلان الحجة فثبت بطلانها على كل تقدير
وإن أردتم سبب نوع الحوادث فيقال لكم سبب نوع الحادث المتصل كسبب نوع الحادث المنفصل عندكم وإذا جاز عندكم ان تكون الذات سبب الحوادث التي لا أول لها مع انفصاله عنها فمع قيامها به بطريق الأولى فإن اقتضاء المقتضي لما قام به أولى من اقتضائه لما باينه ولا محيص لهم عن هذا إلا بما ينفون به الصفات مطلقا
وقد عرف فساد قولهم في ذلك وأن حجتهم عليه من أسقط الحجج وحينئذ فيكون جماهير الناس خصومهم في ذلك الأصل

الوجه الثالث
أن يقال هب أن سبب الحادث خارج عن الذات وهو معلول الذات قولهم يلزم الدور له إنما يلزم الدور إذا كان ذلك الحادث الخارج موقوفا على الحادث المتصل والمتصل موقوفا على الخارج وأما إذا كان ذلك الخارج موقوفا على متصل وذلك المتصل موقوف على خارج آخر والخارج الآخر موقوف على متصل آخر فإنما يلزم التسلسل في الآثار وفي تمام التأثيرات المعينة لا يلزم الدور على هذا التقدير
وإذا كان اللازم هو التسلسل في الآثار والتأثيرات المعينة فذلك لا يلزم منه الدور والتسلسل جائز عند هؤلاء الفلاسفة وكثير من أهل الكلام والحديث وغيرهم وليس هذا تسلسلا ولا دورا في أصل التأثير فإن هذا باطل باتفاق العقلاء كالدور والتسلسل في نفس المؤثر فإن الدور والتسلسل في تمام التأثيرات المعينة فإنه كالتسلسل في الآثار المعنية والتسلسل في أصل التأثير كالتسلسل في أصل الآثار
ثم يقال إن كان هذا التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وان تصدر الحوادث كلها عن قديم بلا سبب حادث من غير أن يجب دوام الحوادث 0 وحينئذ فيلزم صحة قول الكرامية كما يلزم صحة قول غيرهم من أهل الكلام الجهمية والقدرية وأتباعهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث بدون سبب حادث وإنما النزاع بينهم في المتصل والمنفصل

والوجه الرابع
في الجواب أن يقال هب أن ذلك الخارج إذا كان ليس معلول الذات يلزم إن يكون مفيدا للإله صفاته فيكون أولى بالإلهية
يقال لهم هذا وغن كان باطلا عند المسلمين وغيرهم من أهل الملل ولكن على أصولكم لا يمتنع بطلانه وذلك أن هذا لا ينافي وجوب وجوده بذاته بمعنى أنه لا فاعل له فإن ما كان لا فاعل له لم يمتنع من هذه الجهة أن يقوم به أمر بسبب منه ومن أمر مباين له وغنما ينتفي ذلك بنفي واجب بذاته مباين له وذلك مبني على نفي واجبين بالذات
وأنتم ادعيتم ذلك وادرجتم في ذلك نفي الصفات كما ادعت الجهمية أن القديم واحد وادرجوا في ذلك نفي الصفات فقلتم أنتم لو كان له صفات لتعدد الواجب بذاته كما قال أولئك لو كان له صفات لتعدد القديم وحجتكم على ذلك ضعيفة جدا وحتى إن منكم من قال بقدم الأفلاك ووجوب وجودها بذاتها لضعف ذلك
وهذا حقيقة قول أرسطو وأصحابه في الأفلاك وهو قول أهل وحدة الوجود في كل موجود الذين أظهروا التصوف والتحقيق وحقيقة قولهم قول هؤلاء الدهرية المعطلة
وحينئذ فنخاطب الجميع خطابا يتناول الطوائف كلها ونقول إما أن تكون الأفلاك واجبة الوجود بذاتها وإما أن لا تكون
فإن قيل : إنها واجبة الوجود بذاتها مع ان الحوادث تقوم بها بطل قولكم : إن الواجب أو القديم لا تقوم به الحوادث
وإن قلتم : إنها معلولة مفعولة لغيرها فالموجب لها : إن كان علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله فلا تصدر عنه الحركات والحوادث فتفتقر الحوادث المشاهدة إلى واجب آخر والقول فيه كالقول فيه وإن لم يكن علة تامة فلا بد لما يتأخر حدوثه أن يكون موقوفا على شرط حادث والقول فيه كالقول في الذي قلبه فيلزم التسلسل وإذا لزم لزم دوام الحوادث المتسلسلة ويمتنع صدورها عن علة تامة أزلية لا يقوم بها حادث فإن ذلك يقتضي مقارنة جميع معلوها لها لوجوب مقارنة جميع معلول العلة التامة لها وامتناع أن يصير علة لشيء ما بعد أن لم يكن علة بدون سبب منها وإذا جاز أن تقوم به الحوادث المتعاقبة فيلزم قيام الحوادث المتعلقة بالقديم على كل تقدير فبطلي هذه الحجة
وأيضا فقدماؤهم يقولون : إن الأول يحرك الأفلاك حركة شوقية مثل حركة المحبوب لمحبه ولم يذكروا أن الأفلاك مبدعة له ولا معلولة لعلة فاعلة
وحينئذ فلا بد أن يقال : هي واجبة بنفسها وهي مفتقرة في حركتها إلى المحرك المنفصل عنها فلا يمكن من قال هذا أن يقول : إن الواجب بنفسه لا يقوم به حادث بسبب مباين له كما لا يمكنه أن ينفي شيئين واجبين بأنفسهما كل منها متوقف على الآخر
إذ حقيقة قول هؤلاء أن الفلك والعلة الأولى كل منها محتاج إلى الآخر حاجة المشروط إلى شرطه لا حاجة المصنوع إلى مبدعه

الوجه الخامس
أن يقال : غاية ما ذكرتموه في الحوادث منقوص بالمتجددات كالإضافات والعدميات فإنهم سلموا حدوثها وهذه الحجة تتناول هذا كما تتناول هذا فما كان جوابكم عن هذا كان جواب منازعيكم عن هذا
فإنه يقال : تلك الأمور الإضافية والعدمية إذا تجددت فلا بد لها من سبب متجدد والسبب إما : الذات وغما خارج عنها فإن كان الأول لزم دوام الإضافات والعدميات وإن كان الثاني لزم الدور أو التسلسل وإن كان الثالث فالأمر الخارجي الذي أوجب تجدد تلك الإضافات والإعدام يجب أن يكون واجب والوجود
وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضا
أما قول القائل : القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له فالكرامية تقول بموجب ذلك وليس هذا محل الأنواع هنا ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المبانية للرب في جهة منه أو لا يجوز ذلك
فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله في مسألة الجهة وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم
وإن أرادا ان ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته
فيقال له : هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا ؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم
يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإدارته وهذا السؤال يرد عليها فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء وإلا فلا
وأيضا فيقال : قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة منم المقاصد وأما أن لا يستلزم ذلك فإن استلزم ذلك لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر من غير عكس كما ذكروه وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة
وإذا كان كذلك بطلب حجتهم لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة بطل نفي هذا اللازم
وإما ان يقال : قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد وحينئذ فبطلت هذه الحجة فثبت بطلانها على التقديرين
وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة فإن أحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة والثانية أن كون الباري في الجهة محال فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا فبطلت الثانية وإن كانت الأولى باطلة بطلت الحجة أيضال لبطلان أحدى مقدمتيها
وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث فإن قالوا : إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهؤلاء يقولون بان الحوادث تحدث عنه بوسائط
وحينئذ فيقال : إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم ؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم
وإن قالوا : بل العالم واجب الوجود بنفسه فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر وبطلان اللازم الذي هو المدلول كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة
وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله : القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات والقصد منه وليس هو في جهة عندهم
بل يقال جوابا قاطعا : القصد في الجهة ممن ليس في الجهة إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الأعتراض وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية
وأما الاعتراض الثاني وهو قولهم : لجاز قيام كل حادث به فظاهر الفساد فإنا إذا جوزنا قيام صفة به لم يلزم قيام كل صفة به فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن تقوم صفات النقص به كالجهل المركب والمرض والسنة والنوم وغير ذلك من النقائض الوجودية وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به وإنما يقوم به ما يليق بجلاله وما يناسب كبرياءه إذ هو موصوف بصفات الكمال ولا يوصف بنقائضها بحال
وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أو الحوادث لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثا فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث كما انه إذا قيل : تقوم به أمور وجودية ولم يلزم أن يقوم به كل موجود لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة حتى يقوم به كل موجود وهذا كما إذا قلنا : إن رب العالمين قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات أن يكون رب العالمين
والناس متنازعون في صفاته : هل تسمى أعراضا أو لا تسمى ؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا
فإذا قيل : لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض لكان هذا أيضا باطلا فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به
والمسلمون متفقون على أن الله خالق كل موجود سواه فلو قيل : لو جاز أن يخلق موجودا للزم أن يخلق كل موجود فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال أو لو قيل : لو جاز أن يخلق عالما قادرا حيا لزم أن يخلق كل حي عالم قادر وهو حي عالم قادر فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال لكان هذا كلاما باطلا
وأصل هذا أن السالب النافي لما نفي نفيا عاما أن يقوم بالله صفة أو أن يقوم به ما يريده ويقدره عليه لكونه حادثا فنفي عاما أن يقوم به حادث ونحو ذلك قابلة المثبت فناقض هذا الخبر العام وهذه القضية السالبة الكلية وكذبها يحصل بإثبات خاص وهو القضية الجزئية الموجبة فيجوز قيام صفة ما من الصفات وحادث ما من الحوادث وذلك الجائز لم يجز قيامه للمعنى المشترك بينه وبين سائر الصفات والحوادث وإنما قام لمعنى يختص به وبأمثاله لا يشاركه فيه جميع الصفات والحوادث
لكن المشترك كما انه ليس هو المقتضي له للقيام بالذات فليس هو مانعا فكون القائم به صفات أو حادثا ليس أمرا موجبا للقيام به حتى يقوم كل صفة وحادث ولا مانعا من القيام به حتى يمنع كل صفة وحادث
فمن نفى نفيا عاما لأجل ذلك فهو معارض بمن أثبت إثباتا عاما لأجل ذلك وكلاهما باطل بل هو المستحق لصفات الكمال العارية عن النقص وهو على كل شيء قدير ولم يزل قادرا على أن يتكلم ويفعل بمشيئة واختياره سبحانه وتعالى
وإذا قال القائل : هذا يقتضي قيام الصفات أو الحوادث به قيل : هذا المعنى عديم التأثير لا هو موجب للامتناع ولا للجواز
والمثبتون يقولون : كونه قادرا على الفعل والكلام بنفسه صفة كمال وكونه لا يقدر على ذلك صفة نقص فإن القدرة على الفعل والكلام مما يعلم بصريح العقل أنه صفة كمال وأن من يقدر أن يخلق ويتكلم أكمل ممن لا يقدر أن يخلق ويتكلم فإنه يكون بمنزلة الزمن ويقولون : بالطريق التي تثبت له صفات الكمال يثبت هذا فإن الفاعل بنفسه الذي يقدر بنفسه على الفعل من حيث هو كذلك أكمل ممن لا يمكنه ذلك كما قد بسط كلامهم في غير هذا الموضع
وأيضا فإن أراد المريد بقوله : تقوم به الحوادث كلها أنه قادر على أن يمسك العالم كله في قبضته كما جاءت به الأخبار الإلهية فهم يجوزون ذلك بل هذا عندهم من أعظم أنواع الكمال كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية وأن الله تعالى يقبض العالم العلوي والسفلي ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟
وفي بعض الآثار : ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة وقال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم
فإن أراد مريد بقوله إن الحوادث كلها تقوم بذاته المعنى الذي دلت عليه النصوص فهو حق وهو من أعظم الأدلة على عظمة الله وعظم قدره وقدرته وعلى فعله القائم بنفسه وفي مخلوقاته
وإن أراد بذلك أنه يتصف بكل حادث فهذا يستلزم أن يتصف بالنقائض الوجودية مثل أن يتصف بالجهل المركب الحادث ونحو ذلك وهذا ممتنع لكونه نقصا لا لكونه حادثا فالموت والسنة والنوم والعجز واللغوب والجهل وغير ذلك من النقائص هو منزه عنها ومقدس أزلا وأبدا فلا يجوز أن تقوم به لا قديمة ولا حادثة لكونه نقاقض ما وجب له من الكمال اللازم لذاته
وإذا كان أحد النقيضين لازما للذات لزم انتقاء النقيض الآخر فكل ما تنزه الرب عنه من الحوادث والصفات فهو منزه عنه لما أوجب ذلك لا للقدر المشترك بينه وبين ما قام به من الكمالات
وأما السؤال الثالث وهو قوله : إنه لا حاجة إلى ذلك فيقال ليس كل مالا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ولا يعلم إلى ذلك حاجة وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره
وأيضا فإن عدم الحاجة إلى الشيء أوجبت نفيه فينبغي أن تنفي جميع المخلوقات فإن الله لا يحتاج إلى شيء
وأما ما يقوم بذاته فما كان الخلق محتاجا إليه وجب إثباته وما لم يكن الخلق محتجا إليه كان قد انتفى هذا الدليل المعين الدال على إثباته وعدم الدليل مطلقا لا يستلزم عدم المدلول عليه في نفس الأمر وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين
وأيضا فإن الرب تعالى يمكن ان يكون له من صفات الكمال مالا يعلمه البعاد ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه
ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر وهو أن يقال : الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه والقدرة والمشيئة الأزلية مكافية في حدوث المخلوقات المنفصلة كما هي كافية في حدوث ما قام بالذات فيكون دليلهم على ذلك باطلا
وهذا الكلام إنما يفيد إن أفاد إبطال هذا الدليل المعين ولا يبطل دليلا آخر ولا يبطل ثبوت المدلول فلا يجوز أن ينفي قيام الحوادث بذاته لعدم ما يثبت ذلك بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه
ثم هم قد يقولون : صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل
ويقولون أيضا : قد علم أن الله خالق لعالم والخلق ليس هو المخلوق إذ هذا مصدر وهذا مفعول به والمصدر ليس هو المفعول به فلا بد من إثبات خلق قائم به ومن إثبات مخلوق منفصل عنه
وهذا قول جمهور الناس وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول جمهور الناس : أهل الحديث والصوفية وكثير من أهل الكلام أو أكثرهم وكثير من أساطين الفلاسفة أو أكثرهم
لكن النزاع بينهم في الخلق المغاير للمخلوق : هل هو قديم قائم بذاته ؟ أو هو منفصل عنه ؟ أو هو حادث قائم بذاته ؟ وإذا كان حادثا فهل الحادث نوه ؟ أو أن الحوادث هي الأعيان الحادثة ونوع الحوادث قديم لتكون صفات الكمال قديمة لله لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال ؟
هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة ويقولون أيضا : إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم وأن المتكلم لا يكون متكلما إلا بكلام قائم بذاته وأنه مريد ولا يكون مريدا إلا بإرادة قائمة بذاته إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاما له ولا إرادة إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ويقولون قد أخبر الله انه { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وان تدل على أن الفعل مستقبل فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع
وبالجملة عامة ما يذكر في هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية وهو عمدة منازعيهم ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر لجواز ان يكون الحق في قول ثالث لا قول هذا ولا قول هذا لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة في كل من القولين الضعيفين

الحجة الثالثة عند الآمدي على امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي الحجة الثالثة : أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل وإلا كانت القابلية عارضة لذاته واستدعت قابلية أخرى وهو تسلسل ممتنع وكون الشيء قابلا للشيء فرع إمكان وجود المقبول فيستدعي تحقق كل واحد منهما ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث في الأزل وحدوث الحادث في الأزل ممتنع للتناقض بين كون الشيء أزليا وبين كونه حادثا
قال الآمدي ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيمالا يزال مع إمكانه القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا والقول بأنه يلزم منه التسلسل يلزم عليه الأيجاد بالقدرة للمقدور وكون الرب خالقا للحوادث فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن فما هو الجواب ههنا به يكون الجواب ثم وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلا فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا ولهذا على أصلنا الباري موصوف في الأزل قادرا على خلق العالم ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلا
قلت : قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين هما منع لكلتا مقدمتيها فإن مبناها على مقدمتين : إحداهما : أنه لو كان قابلا لكان القبول أزليا
والثانية أنه يمكن وجود المقبول مع المقبول
فيقال في الأولى لا نسلم أنه إذا كان قابلا للحوادث في الأبد يلزم قبلوها في الأزل لأن وجودها فيما لا يزال ممكن وجودها في الأزل ممتنع فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع وهذا كما يقال إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال أمكن حدوثها في الأزل
وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات إذ لو كان من عوارضها لكان للقبول قبول آخر ولزم التسلسل
فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث فإنه عند من يمنع تسلسل الأثار من عوارض الذات لا من لوازمها فالقول في قبولها كالقول في فعله لها إذ التسلسل في القابل كالتسلسل في الفاعل
وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم
وأما المقدمة الثانية فيقال : لا نسلم انه يلزم من ثبوت القبول في الأزل إمكان وجود المقبول في الأزل بدليل أن القدرة ثابتة في الأزل ولا يمكن وجود المقدور في الأزل عند هذه الطوائف
وهذا الجواب أيضا جواب لمن وافقه على ذلك والنكتة في الجوابين : أن ما ذكروه في المقبول ينتقض عليهم بالمقدور فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات لكن فارق غيره في المحل فهذا مقدور في الذات وهذا مقدور منفصل عن الذات فإن قدرته قائمة بذاته ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته وإن كانت المخلوقات أيضا مقدورة عندهم فهذا المنفصل عندهم مقدور وفعله القائم بذاته مقدور وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل
والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال : منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة أهل الحديث والكرامية وغيرهم
ومنهم من يقول القدرتان توجدان في غير محل المقدور كالجهعية والمعتزلة وغيرهم
ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور والقديمة لا تكون في محل المقدور وهم الكلابية ومن وافقهم
ومتنازعون أيضا هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور في محلها وخارجة عن محلها جميعا
والمقصود هنا ان ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات
فيقال لهؤلاء : حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى في المقبولات والمقدورات كما في المقدورات المنفصلة لا فرق بينهما
والجواب القاطع المركب ان يقال إما يكون وجود حوادث لا تتناهي ممكنا وغما أن يكون ممتنعا فإن كان الأول كان وجود نوع الحوادث في الأزل ممكنا وحينئذ فلا يكون اللازم منفيا فتبطل المقدمة الثانية
وإن كان ممتنعا لم يجز أن يقال إنه قابل لها في الأزل قبولا يستلزم إمكان وجود المقبول وحينئذ فلا يلزم وجودها في الأزل فتبطل المقدمة الأولى
فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين وأيهما بطلت بطلت الحجة فهذا جواب ليس بإلزامي بل هو علمي يبطل الحجة قطعا
وهنا طريقة ثالثة في الجواب على قول من قال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم فغن هؤلاء يقولون إنه قابل لها في الأزل وإنها موجودة في الأزل
وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء في المقدور والمقبول فإنهم يقولون هو قادر عليها فيما لا يزال وهي ممكنة فيما لا يزال فوجب أنه لم يزل قادرا وأنها ممكنة فإن هذه القدرة والإمكان إما أن تكون قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت قديمة حصل المطلوب وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث وذلك يستلزم التسلسل والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل فثبت أنه لم يزل قادرا على الفعل والفعل ممكن له وهو المطلوب
وإيضاح ذلك أنه إذا كان قادرا على الفعل وجب أن يكون قادرا عليه في الأزل وإلا كانت القادرية عارضة لذاته واستدعت القادرية قادرية أخرى وذلك يقتضي التسلسل فإن كان التسلسل باطلا لزم دوام نوع القادرية لأنه يمتنع أن تكون عارضة إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير وما استلزم الباطل فهو باطل وإذا امتنع كونها عارضة ثبت كونها لازمة لأنه متصف بها قطعا وإن كان ممكنا لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها ويمتنع تجددها له إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادرا بعد أن لم يكن وذلك يقتضي دوام نوع القادرية فلا بد في الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالقدرة على الشيء فرع إمكان المقدور إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور فتستدعي تحقق كل منهما وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا فلا تكون القادرية عليه ثابتة في الأزل فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل
وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل فصار ما ذكروه حجة على النفي هو حجة على الإثبات لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا : لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائما للزم أن لا يحدث شيئا لكنه قد أحدث الحوادث فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات
وبيان التلازم أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص وهذا ممتنع
وإن حدث بالسبب فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره فيلزم تسلسل الحوادث
ثم تلك الحوادث الدائمة : إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وهو ممتنع لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء منه وإما أن تحدث عن غير علة تامة وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذي به يتم فاعليته لذلك الحادث
وذلك الشرط إما منه وغما من غيره فإن كان من غيره لزم أن يكون رب العالمين محتاجا في أفعاله إلى غيره وإن كان منه لزم أن يكون دائما فاعلا للحوادث
وتلك الحوادث إما ان تحدث بغير أحوال تقوم به وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به والثاني يستلزم انه لم يزل قادرا قابلا فاعلا تقوم به الأفعال والأول باطل لأنه إذا كان في نفسه أزلا وابدا على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلا كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر اولى من العكس
وتخصيص الأزمنة بالحوادث المختلفة أمر مشهود ولأن الفاعل الذي يحدث ما يحدثه من غير فعل يقوم بنفسه غير مفعول بل ذلك يقتضي أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق وأن مسمى المصدر هو مسمي المفعول به وأن التأثير هو الأثر
ونحن نعلم بالاضطرار أن التأثير أمر وجودي وإذا كان دائما لزم قيامه بذاته دائما وأن تكون ذاته دائما موصوفة بالتأثير والتأثير صفة كمال فهو لم يزل متصفا بالكمال قابلا للكمال مستوجبا للكمال وهذا أعظم في إجلاله وإكرامه سبحانه وتعالى
وبهذه الطريق وأمثالها يتبين أن الحجة العقلية التي يحتج بها أهل الضلال فإنه يحتج بها على نقيض مطلوبهم كما أن الحجج السمعية التي يحتجون بها حالها كذلك
وذلك مثل احتجاجهم على قدم الأفلاك بأنه إذا كان مؤثرا في العالم فإما أن يكون التأثير وجوديا أو عدميا والثاني معلوم الفساد بالضرورة
لكن هذا قول كثير من المعتزلة والأشعرية وهو قول من يقول الخلق هو المخلوق وإن كان وجوديا فإن كان حادثا لزم التسلسل ولزم كونه محلا للحوادث فيجب أن لا يكون قديما وغن كان قديما لزم قدم مقتضاه فيلزم قدم الأثر
فيقال أولا هذا يقتضي أن لا يكون شيء من آثاره محدثا وهذا خلاف المشاهدة
وموجب هذه الحجة ان الأثر يقترن بالمؤثر التام التأثير وإذا كان كذلك فكلما حدث من الحوادث شيء كان التأثير التام منتفيا في الأزل وكذلك أيضا كلما تجدد شيء من المتجددات وحينئذ فيلزم أنه لم يكن في الأزل تأثير يستلزم آثاره وهذا نقيض قولهم
وحينئذ فيلزم حدوث التأثير وتسلسله وإذا كان التأثير وجوديا وجب أن يكون قائما بالمؤثر وهذا يقتضي دوام ما يقوم بذاته من أحواله وشؤونه التي هي من آثار قدرته ومشيئته
وهذه الحجج الثلاث المذكورة مبناها على جواز التسلسل في الآثار والكرامية لا تقول بذلك لكن يقول به غيرهم من المسلمين وأهلل الملل وغير أهل الملل
والكرامية تجيب من يوافقها على التسلسل بما تقدم من المعارضات أو الممانعات

الحجة الرابعة عند الآمدي
قال الآمدي الحجة الرابعة انه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيرا والتغير على الله محال ولهذا قال الخليل عليه السلام { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76 أي المتغيرين
قال ولقائل أن يقول إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته فقد اتحد اللازم والملزوم وصار حاصل المقدمة الشرطية لو قامت الحوادث بذاته لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد 0 ويكون القول بأن التغير على الله بهذا الاعتبار محال دعوى محل النزاع فلا يقبل وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى فهو غير مسلم ن ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه

تعليق ابن تيمية
قلت لفظ التغير في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشيء كالإنسان إذا مرض يقال غيره المرض ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت والأطعمة إذا استحالت يقال لها تغيرت قال تعالى { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين } محمد : 15 فتغير الطعم استحالت من الحلاوة إلى الحموضة ونحو ذلك
ومنه قول الفقهاء إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير ولا يقولون إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان انه تغير ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد قد تغير اللهم إلا مع قرينة ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت ذاهبة من المشرق إلى المغرب إنها متغيرة بل يقولون إذا إصفر لون الشمس إنها تغيرت ويقال وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمى بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا 0 لونه لون لباس المسلمين وتقول العرب تغايرت الأشياء إذا اختلفت والغيار البدال
قال الشاعر
( فلا تحسبني لكم كافرا ... ولا تحسبني أريد الغيارا )
ويقولون نزل القوم يغيرون أي يصلحون الرحال
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لما أتي بابي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال غيروا الشيب وجنبوه السواد أي غيروا لونه إلى لون آخر أحمر أو أصفر وتقول العرب غيرت الشيء فتغير غيرا
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره أي قرب تغيره من الجدب إلى الخصب
وغار الرجل على أهله يغار إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال
وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقبله وذلك أضعف الإيمان ]
وقال [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ]
وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان وغن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضبا لله
ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل
والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له
والناس إذا قيل لهم التغير على الله ممتنع فهموا من ذلك الاستحالة والفساد مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه
وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء ونحو هذا لا يسمونه تغيرا
ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد : يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال بعضهم في قوله { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76
أي المتغيرين وربما قال غيره المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه
وزعم بعضهم كالرازي في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ الأفول ولفظ الإمكان فإنهم وسائر العقلاء يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوما فأما القديم الأزلي الذي لم يزل فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
ولكن يتناقضون تناقضا بينا فقالوا الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم وهو مع ذلك قديم أزلي
ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والأدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين
وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية أهل الكلام المحدث المتحرك آفلا فجعلوا كل متحرك آفلا وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلا فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلا وفسروا بذلك القرآن
وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال ولا بمعنى التغير الذي هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هومن باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات
وإبراهيم إنما قال { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76 ردا لمن كان يتخذ كوكبا يعبده من دون الله كما يفعله أهل دعوة الكواكب كما كان قومه يفعلون ذلك لا ردا على من قال إن الكوكب هو رب العالمين فإن هذا لم يقله أحد لكن قومه كانوا مشركين ولو كان إبراهيم مقصودة نفي كون الكوكب رب العالمين واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة كما نفاها حين غابت
فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب فإن كان مقصودة نفي كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم وكانوا قد حكوا عن إبراهيم انه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم
وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك كما جعل الأفول مانعا فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبودا عند إبراهيم
قال الآمدي وأما المعتزلة فمنهم من قال المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول محلها فيه والباري ليس بمتحيز فلا تقوم بذاته الصفة ومنهم من قال الجوهر إنما صح قيام الصفات به لكونه متحيزا ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة لم يصح قيام المعاني بها والباري ليس بمتحيز فلا يكون محلا للصفات
قال وهذه الشبهة تدل على انتفاء الصفة عن الله تعالى مطلقا قديمة كانت أو حادثة وهي ضعيفة جدا أما الشبهة الأولى فلقائل أن يقول لا نسلم انه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف في الوجود وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائما بالعلة لكونه متقوما بها في الوجود إذ ليس المعلول صفة ولا العلة موصوفة به
وأما الشبهة الثانية فلقائل أن يقول لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر لكونه متحيزا بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مشترك بينه وبين الباري تعالى وغن كان ذلك لكونه متحيزا فلا يلزم من انتفاء الدليل في حق الله تعالى انتفاء المدلول كما تقدم تحقيقة وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به الباري تعالى ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين في صورتين
قلت أما الحجة الأولى فيقال قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهة وهو أوضح مما حدوه به حيث قالوا إن ذلك هو حصول الصفة في الحيز تبعا لحصول محلها فيه فإن الناس يفهمون قيام اللون والطعم والريح بالموصوف بذلك وغن لم يخطر بقلوبهم هذا الحصول
فإن ادعى مدع أن كل موصوف متحيز وأن قيام الصفة بدون المتحيز ممتنع
فيقال من الناس من ينازعك في هذا ومنهم من يوافقك عليه والموافقون لك منهم من يقول كل قائم بنفسه متحيز ولا اعلم قائما بنفسه إلا المتحيز ومنهم من يقول بل أعلم قائما بنفسه غير المتحيز فقولك لا يصح إلا إذا ثبت لك أن كل موصوف متحيز وثبت لك وجود موجود ليس بمتحيز حتى يستلزم ثبوت موجود ليس بموصوف
وجمهور الخلق ينكرون هذه الدعوى بل يقولون إثبات موجود لا يوصف بشيء من الصفات بل هو ذات مجردة كإثبات وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص وهذا كله ممتنع لمن تصوره بضرورة العقل ويقولون هذا غنما يعقل تصوره في الأذهان لا في الأعيان والذهن يقدر فيه الممتنعات كالجمع بين الضدين والنقيضين
والجواب المركب أن يقال ما تعني بقولك متحيزا اتعني به ما كان له حيز موجود يحيط به أم تعني به ما يقدر المقدر له حيزا عدميا أو ما كان منحازا عن غيره ؟
فإن عنيت الأول كان باطلا متناقضا فإن الأجسام إن كانت متناهية لم تكن في حيز وجودي فإنها إذا كانت متناهية لو كانت في حيز وجودي لزم أن يكون الجسم في جسم آخر إلى ما لا يتناهي في حيز وجودي لأن ذلك الحيز هو أيضا داخل فيما لا يتناهي
فهذا جواب برهاني والجواب الإلزامي أن قولك كل موصوف يحيط به حيز وجودي يستلزم وجود أجسام لا تتناهى وهذا باطل عندك فإن العالم متحيز موصوف وليس في حيز وجودي
وإن قلت أعني به أمرا عدميا قيل لك لاشيء وما جعل في لاشيء لم يجعل في شيء
فكأنك إن قلت المتحيز ليس في غيره وحينئذ فلا نسلم لك امتناع كون الرب متحيزا بهذا الاعتبار
وكذلك إن فسرته بالمنحاز المباين لغيره كان نفي اللازم ممتنعا
فإن قلت قد قام الدليل على حدوث ما كان كذلك لأن ما كان كذلك لم يخل من الحوادث والأعراض أو كان مختصا بقدر أو صفة أو تميز منه شيء عن شيء وهذا تركيب عاد الكلام إلى هذه المواد الثلاثة وقد علم أنها مادة الكلام الباطل
وقد بين فساد ذلك بوجوه وحينئذ بوجوه وحينئذ فلا يمكنك نفي شيء من موارد النزاع إلا بنفي ذلك فيعود الكلام إلى نفي ذلك
وأما الحجة الثانية فقول القائل إن الجوهر إنما صح قيام الصفة به لكونه متحيزا
فيقال أولا لا نسلم أن قيام الصفة بمحلها يحتاج إلى علة أعم من المحل بل صفة لازمة لمحلها وهي محتاجة إلى ذلك المحل المعين لمعنى يخص ذلك المعين لا يعلل كونها فيه بأعم منه لأن العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة
وإن قيل نحن نعلل جنس قيام الصفات لا يحتاج إلى غير محل يقوم به وإن لم يخطر بالقلب كونه متحيزا
وإن قيل إن التحيز لازم للمحل الذي تقوم به الصفات
قيل وقيام الموصوف بنفسه لازم أيضا وغير ذلك
ثم الكلام في التحيز على ما تقدم وبالجملة فهذا كلام في جنس الصفات لا في خصوص الحوادث ولا ريب أن نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة كلامهم الموضعين واحد وفساد اصولهم مبين في غير هذا الموضع

طريقة الامدي في إثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي والمعتمد في المسألة حجتان تقريرية وإلزامية أما التقريرية فهو أن يقال لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فغما أن يوجب نقصا في ذاته أو في صفة من صفاته أو لا يوجب شيئا من ذلك فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل وإن كان الثاني فإما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان الرب تعالى ناقصا قبل اتصافه بها وهو محال أيضا بالاتفاق ولا جائز أن يقال بالثاني لوجهين اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال والثاني أن وجود كل شيء أشرف من عدمها فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب تقصا في ذاته ولا في صفة من صفاته على ما وقع به الفرض فاتصافه إذا بما هو في نفسه كمال لا عدم كمال ولو كان كذلك لكان ناقصا اتصافه بها وهو محال كما سبق

الرد عليه من وجوه
قلت : فهذا عمدته وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين وهي من أضعف الحجج كما قد بسط في غير هذا الموضع

الوجه الأول
وبيان ذلك من وجوه : الوجه الأول : أن عمدته في ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية فلا تكون المسألة عقلية ولا ثابتة بنص بل بالإجماع المدعي ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل ؟
وإذا كانت هذه المسألة مبنية على مقدمة إجماعية لم يكن العلم بها قبل العلم بالسمع لأن الإجماع دليل سمعي وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق
قالوا : لأنه لو خلقه في ذاته لكان محلا للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته وإرادات حادثة بذاته وغير ذلك فلا يكون شيء من هذه المسائل من المسائل العقلية وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التي يتوقف صحة السمع عليها بطريق الأولى وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها ويقال قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقلية فليس هنا عقلي لا قاطع ولا غير قاطع بل غاية ما هنا دعوى المدعي للإجماع
وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج في إثبات الاستواء والنزول والمجيء والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة أدعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل
فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبنى على مقدمة زعموا أنها معلومة بالإجماع كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا ويذكروا من الإجماعات ما هو أبين من هذا الإجماع لا سيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع وهي أقوى دلالة
فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع فضلا عن نفس الإجماع فضلا عما هو مبني على مقدمة مبنية على الإجماع لو كان البناء حقا فكيف إذا كان باطلا ؟

الوجه الثاني
أن يقال : هذا الإجماع لم ينقل بهذا اللفظ عن السلف والأئمة لكن لعلمنا بعظمة الله في قلوبهم نعلم أنهم كانوا ينزهونه عن النقائص والعيوب
وهذا كلام مجمل فكل من رأى شيئا عيبا أو نقصا نزه الله عنه بلا ريب وإن كان من هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إنه موصوف بكل النقائص والعيوب كما هو موصوف عنده بكل المدائح إذ لا موجود إلا هو فله جميع النعوت محمودها ومذمومها
وهذا القائل يدعي أن هذا غاية الكمال المطلق كما قال ابن عربي وغيره لعلي لذاته هو الذي يكون له الكمال المطلق الذي يتضمن جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عقلا وشرعا وعرفا أو مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة
وجمهور العقلاء الذين يتصورون هذا القول يقولون هذا معلوم الفساد بالحس والعقل كما هو كفر باتفاق أهل الملل
ومن المعلوم أن كل متنازعين في هذا الباب فإن أحدهما يزعم أنه وصف الحق تعالى بصفة نقص لكن منازعه لا يسلم له ذلك
فإذا قال أنت وافقتني على تنزيهه عن النقص والعيب
قال له : هذا الذي نازعتك فيه ليس هو عندي نقصا ولا عيبا فأي شيء تنفعك موافقتي لك على لفظ أنازعك في معناه
وإن قال بل اتفقنا على كل ما هو نقص في نفس الأمر فالله منزه عنه وهذا نقص في نفس الأمر فيجب تنزيه الله عنه
قال له : أنا وافقتك على أن كل ما هو نقص في نفس الأمر منزه عنه ولم أوافك على أن كل ما أثبت أنت أنه نقص بدليل تدعي صحته فإنه منزه عنه
وحاصله أن الإجماع لم يقع بلفظ يعلم به دخول مورد النزاع فيه ولكن يعلم أن كل ما عتقده الرجل نقصا فإنه ينزه الله عنه وما تنازعا في ثبوته يقول المثبت أنا لم أوافقك على انتقاء هذا ولكن أنت تقول هذا نقص فعليك أن تنفيه كما نفيت ذلك النقص الآخر وانا أقول ليس هذا بنقص وذلك الأمر الآخر الذي نفيته نفيته
لمعنى منتف فيما أثبته وأنا ما نفيت ذاك إلا لمعنى يختص به فإن كان ذلك المأخذ صحيحا لم تجب التسوية وإن كان باطلا لزم خطئ في نفي ذاك وحينئذ فإن كانا مستويين لزم خطئ في الفرق بينهما وليس خطء في إثبات ما أثبته بأولى من خطيء في نفي ذاك وحينئذ فإن كمانا مستويين لزم خطئ في لافرق بينهما وليس خطئ في إثبات ما أثبته بأولى من خطئ في نفي ما نفيته فإنما يفيدك هذا تناقضي إن صح التسوية لا يفيدك صحة مذهبك وإن ثبت الفرق بطل قولك
فتبين ان هذا الإجماع هو من الإجماعات المركبة التي ترجع إلى حجة جدلية ولو كانت صحيحة لم تفد إلا تناقض الخصم

الوجه الثالث
أن يقال : ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن وهو كونه فاعلا فالفاعلية : إما أن تكون صفة كمال وإما أن لا تكون صفة كمال فإن كانت كمالا كان قد فاته الكمال قبل الفعل وإن لم تكن كمالا لزم اتصافه بغير صفات الكمال وهذا محال لهذين الوجهين
وإذا قلت إن الفعل نسبة وإضافة
قيل لك : وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلا والآخر منفصلا
ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ومتفقون على تنزيهه عن النقص في هذا وفي هذا
وأيضا فهذا منقوص بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص في الثبوت والسلب والإضافة فما كان جوابهم في المتجددات كان جوابا لمنازعيهم في المحدثات
وهم يجيبون في المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها في الأزل
فيقال لهم : وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها في الأزل وهو وأمثاله يجيبون الدهرية بمثل ذلك في مسألة حدوث العالم
فإن من حججهم شبة برقلس قالوا إن الجود صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو كان العالم قديما لكان الرب تعالى في الأزل جوادا ولو كان حادثا لما كان الرب تعالى في الأزل جوادا لعدم العالم عنه وهو محال
ثم قال في الجواب وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية وهو كون الرب تعالى موجدا وفاعلا لا لغرض يعود إليه من حلب نفع أو دفع ضر وعلى هذا فلا نسلم أن الصفات الأفعال من كمالاته تعالى وليس ذلك من الضروريات فلا بد له من دليل كيف وأنه لو كان من الكمالات لقد كان كمال واجب متوقفا على وجود معلوله عنه ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله كما قرروه في كونه موجودا بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه في الأزل نقصا ان لو كان وجود العالم في الأزل ممكنا وهو غير مسلم وهو على نحو قولهم في نفي النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية لتعذر وجودها أزلا من غير توسط ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود إزلا أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه
فهذا الجواب الذي أجاب به في هذا الموضع إذا أجابته به الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك وأدنى أحواله أن يكون مثله فإنه قال صفة الإحداث والفعل مطلقا ليست بصفة كمال مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن
فيقال له لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه والآخر مباين عنه ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه

الوجه الرابع
أن يقال قول القائل إما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال
قلنا ليست في نفسها صفة كمال قوله فيلزم اتصاف الرب بما ليس من صفات الكمال وذلك ممتنع
قلنا متى يكون الممتنع إذا كان ذلك مع غيره صفة كمال أو إذا لم يكن مع غيره صفة كمال وذلك أن الشيء وحده قد لا يكون صفة كمال لكن هو مع غيره صفة كمال وما كان كهذا لم يجز اتصاف الرب به وحده لكن يجوز اتصافه به مع غيره ولا يلزم من كونه ليس صفة كمال منع قيامه بالرب مطلقا
وهذا كالإرادة للفعل الخالية عن القدرة على المراد ليست صفة كمال فإن من أرادة شيئا وهو عاجز عنه كان ناقصا ولكن إذا كان قادرا على ما أراد كانت الإرادة مع القدرة صفة كمال
فلو قال قائل : مجرد الإرادة هل هو كمال أو لا ؟
فإن قيل هو كمال انتقض بإرادة العاجز المتمني المتحسر
وإن قيل ليس بكمال لزم اتصافه بما ليس بكمال
قيل له الإرادة مع القدرة كمال
وكذلك قوله كن إما أن يكون صفة كمال أولا فإن كان صفة كمال فينبغي أن يكون كمالا للعبد ومعلوم أن العبد لو قال للمعدوم كن كان هاذيا لا كاملا وإن لم يكن كمالا فلا يوصف به الرب
فيقال له كن من القادر على التكوين الذي إذا قال للشيء كن فيكون كمال ومن غيره نقص وكذلك الغضب إما أن يكون صفة كمال أولا فغن كان كمالا فيحمد كل غضبان وإن كان نقصا فكيف اتصف الرب به ؟
فيقال الغضب على من يستحق الغضب عليه من القادر على عقوبته صفة كمال وأما غضب العاجز أو غضب الظالم فلا يقال إنه كمال ونظائر هذا كثيرة
وإذا كان كذلك فكونه قادرا على الأفعال المتعاقبة وفعله لها شيئا بعد شيء صفة كمال وكل منها بشرط غيره كمال وأما الواحد منها مع عدم غيره فليس بكمال فإنه من المعلوم أنا إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا تقدر أن تتصرف بنفسها وذاتا تتصرف دائما شيئا بعد شيء كانت هذه الذات أكمل من تلك وكان الكمال قدم هذا النوع
وكذلك إذا قدرنا شيئا يتكلم إذا شاء بما شاء وهو لم يزل كذلك وآخر لا يمكنه الكلام وإلا بعض الأحيان أو حدث له الكلام بعد أن لم يكن كان الأول أكمل
ونكتة الجواب : أن الواحد منها إذا لم يكن وحده كمالا لا يلزم ان لا يكون مع سائر النوع كمالا
لكن هذا الجواب إنما يناسب قول من يقول : لم يزل متصفا بهذا النوع
والكرامية لا تقول بذلك بل تقول حدث له النوع بعد أن لم يكن لكن الكرامية تقول قولنا في هذا النوع كقول غيرنا في الحوادث المنفصلة وهو أن دوام هذا لما كان ممتنعا لامتناع الحوادث في الأزل لم يلزم أن لا يكون متصفا بصفات الكمال لأن عدم الممتنع ليس بنقص

الوجه الخامس
وتحقيق هذا : أن يقال : قول القائل : إذا كان هذا كمالا كان الرب ناقصا قبل اتصافه
يقال له : متى يكون ناقصا إذا وجوده قبل ذلك ممكنا أو لم يكن ممكنا والأول ممتنع فإن عدم الممتنعات لا يكون نقصا والحوادث عندهم يستحيل وجودها في الأزل فلا يكون عدمها نقصا

الوجه السادس
ان يقال : متى يكون عدم الشيء نقصا إذا عدم في الحال التي يصلح ثبوته فيها او إذا عدم في حال لا يصلح ثبوته فيها الأول مسلم والثاني ممنوع
وهم يقولون كل حادث فإنما حدث في الوقت الذي كانت الحكمة مقتضية له وحينئذ فوجوده ذلك الوقت صفة كمال وقبل ذلك صفة نقص مثال ذلك تكليم الله لموسى صفة كمال لما أتى وقبل أن يتمكن من سماع كلام الله فصفة نقص

الوجه السابع
أن يقال الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة أو متعاقبة أيما أكمل عدمها بالكلية او جودها على الوجه الممكن ؟
ومعلوم أن وجودها على الوجه الممكن أكمل من عدمها وهكذا يقولون في الحوادث

الوجه الثامن
أن يقال : قول القائل اتفاق الملل قبل الكرامية على امتنع اتصاف الرب بغير صفات الكمال كلام مجمل
فإن أريد بذلك أن الناس ما زالوا يقولون إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائض فالكرامية تقول بذلك وإن أردت أن الناس قبل الكرامية كانوا يقولون إن الله لا يقوم به شيء من مقدوراته ومراداته فهذا غلط
فإن جمهور الخلائق على جواز ذلك قبل الإسلام وبعد الإسلام فالتوراة مملوءة من وصف الله بمثل ذلك وكذلك الإنجيل وسائر نبوات الأنبياء مثل الزبور ونبوة أشعيا وأرميا وأساطين الفلاسفة كانوا يقولون بذلك والسلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث متواتر عنهم ذلك
ثم هذا الرجل لما أوردت عليه الدهرية هذا في صفة الخالقية قال صفة الخالقية لا صفة نقص ولا صفة كمال

الوجه التاسع
قوله إن وجود الشيء أشرف من عدمه
يقال له : وجوده أشرف مطلقا أم في الوقت الذي يمكن وجوده فيه ويصلح وجوده فيه ؟
أما الأول فممنوع فإن وجود الجهل المركب ليس أشرف من عدمه ولا وجود تكذيب الرسول أشرف من عدمه ولا وجود الممتنع أشرف من عدمه
وإن أريد وجود الممكن الصالح
قيل فلا نسلم أن ما حدث كان يمكن حدوثه ويصلح حدوثه قبل وقت حدوثه وحينئذ فلا يلزم من كونه وقت وجوده كمالا أن يكون قبل وجوده نقصا
ومدار الدليل على مقدمتين مغلطتين إحداهما أن ما وجد من الكمال كان عدمه قبل ذلك نقصا وهذا فيه تفصيل كما تبين والثاني أن ما لا يكون وحده كمالا يجب نفيه عن الرب مطلقا وهذا فيه تفصيل كما سبق فإنه يقال إن كان الحادث كمالا فعدمه قبل ذلك نقص وإن لم يكن كمالا لم يتصف الرب بما ليس بكمال وكلا المقدمتين فيها من التموية والإجمال ما قد بين ويحتمل من البسط أكثر من هذا

رد الآمدي على الكرامية من ثمانية أوجه
قال الآمدي الحجة الثانية من جهة المناقضة للخصم والإلزام وذلك من ثمانية أوجه
الأول
أن من مذهب الكرامية انهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله تعالى فيما لا يزال
كما بيناه من قبل فلو قامت بذاته صفات حادثة لا تصف بها وتعدي إليه حكمها كالعلم فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما
وكذا في سائر الصفات القائمة بمحالها وساء كان المحل قديما أو حادثا وسواء كانت الصفة قديمة أو حادثة إذ لا فرق بين القديم والحادث من حيث أنه محل قامت به صفته إلا فيما يرجع إلى أمر خارج فلا أثر له وإذا ثبت ذلك فيلزم أن يقال إنه قائل بقول ومريد بإرادة ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به وهو مناقض لمذهبهم

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول : هذا أمر اصطلاحي لفظي ليس بحثا عقليا فإن كونهم لا يسمونه إلا بما هو لازم لذاته دون ما يعرض لها أمر اصطلحوا عليه ولا يرد عليهم العلم والقدرة ونحوهما فإنه من لوازم ذاته ولعلهم يدعون في ذلك توقيفا كما يدعي غيرهم في كثير مما لا يطلقه من الأسماء
وأيضا فيقال : هذا إما أن يكون لازما لهم وإما أن لا يكون لازما فإن لم يكن لازما بطل النقض به وإن كان لازما أمكن التزامه وليس فيه إلا تجدد أسماء له مما تجدد من أفعاله
والمنازع يقول بمثل ذلك في جميع الأفعال فإنه تجدد استحقاقه لأسمائها عند تجدد الأفعال كالخالق والرازق ونحو ذلك
وحينئذ فيمكن إذا كان هذا صوابا أن يجمع بين الصوابين فيقال بتجدد الحادث وتجدد الاسم أيضا
وأيضا فيقال : الكرامية قالوا هذا لكونه عندهم متصفا في الأزل بصفات الكمال وكون أسمائه كلها الأسماء الحسنى التي تتضمن مدحا له وثناء عليه وكون ذلك الحادث لا يمكن أن يمكن ازليا فلا يكون مما يوجب أسما
وحينئذ فيقال : إما أن يمكن دوام نوع ذلك الحادث وإما ان لا يمكن فإن أمكن كانوا قد أخطأوا في نفي دوامه وإن لم يمكن فإما أن يكون تجدد اسم له ممكنا اولا يكون فإن كان ممكنا أخطاوا في نفي ذلك الاسم وإن لم يكن ممكنا كانوا مصيبين فبتقدير خطئهم على بعض التقديرات لا يلزم صواب قول منازعيهم

الثاني
قال الآمدي أن الكرامية موافقون على أن القول والإرادة لا يقومان إلا بحي كالسمع والبصر وقد وافقوا على ان الحي إذا خلا عن السمع والبصر لا يخلو عن ضده وعند ذلك فإما أن يقولوا بأن الله يخلو عن القول الحادث والإرادة الحادثة وعن ضده فلا يجدون إلى الفرق بينه وبين السمع والبصر سبيلا وغن قالوا بأنه لا يخلو الرب عن القول والإرادة وعن ضده فلا يخلو ذلك الضد إما أن يكون قديما أو حادثا فإن كان الأول فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ضرورة حدوث ضده وهو محال بالاتفاق وبالدليل على ما سيأتي وإن كان الثاني فالكلام في ذلك الضد كالكلام في الأول ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب تعالى علىوجه لا يتصور خلوه عن واحد منها والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية علىما سبق في إثبات واجب الوجود وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ضرورة

تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : نظير الحادث والإرادة الحادثة عندهم التسمع الحادث والتبصر الحادث فإنهم يقولون : إنه عند وجود المسموعات والمرئيات تجدد ما يسمونه التسمع والتبصر فهذا الحادث نظير ذلك الحادث وعندهم أنه يخلو من وجود مثل هذا وضده العام بخلاف نفس السمع والبصر فإن ذاك عندهم بمنزلة القائلية والمريدية وعندهم انه لا يخلو عن القائلية والمريدية وضدها العام كما لا يخلو عن نفس السمع والبصر وضده العام
فإن قيل : منهم من يفرق بين القول والإرادة وبين التسمع والتبصر
فيقال قد قيل إن هذا ليس هو المشهور عنهم وسواء كان هو المشهور أو لم يكن فإنه يقال : إن كانت صورة الإلزام كصورة الوفاق لزم خطأ من فرق بين الصورتين منهم وإن كان بينهما فرق مؤثر في الحكم لزم خطأ المسوى منهم وعلى التقديرين لا يلزم صواب المنازع لهما
وأيضا فإنه يقال : إما أن يكون تعاقب الحوادث ممكنا وإما ان يكون ممتنعا فإن كان ممكنا كانوا أخطأوا في قولهم : يخلو عن القول والإرادة وعن ضدها إذ يمكن تعاقب ذلك عليه دائما وإن كان ممتنعا كان هذا الامتناع هو الفرق بين ذلك وبين السمع والبصر فإنه يمكن اتصافه في الأزل بالسمع والبصر دون اتصافه بالحادث من القول والإرادة
لكن على هذا لا يلزم تناقضهم في أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فإنهم يقولون ليس هو قابلا في الأزل للاتصاف بالحوادث
لكن يقال لهم : هذا فرع إمكان اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممكن
فيقولون : وهذا الإلزام والمعارضة فرع امتناع اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممتنع ؟
فعلم أن مثل هذا الإلزام لا ينقطع به لا هم ولا خصومهم المسلمون لهم امتناع تسلسل الحوادث
وأما من يقول إنه يمكن تسلسل الحوادث فإنه يبين خطأهم في هذا التفريق ويقول : إذا كان الحي لا يخلو عما يقبله وعن ضده والرب تعالى قابل للاتصاف بالقول والإرادة لزم ان لا يخلو عن ذلك وعن ضده لكن ضده صفة نقص كضد السمع والبصر فيلزم انه ما زال متصفا بالقول والإرادة والاتصاف بنوع ذلك ممكن
ولهم جواب ثالث عما ذكره من الإلزام وهو ان يقال نحن قلنا الحي القابل لهذا لا يخلو عنه وعن ضده العام الذي يدخل فيه عدم هذه الصفات لم نقل إنه لا يخلو عنه وعن ضد وجودي فإن هذا ليس قولنا فإن القابل للشيء ولضده الوجودي قد يخلو عنهما عندنا
ولكن الأشعرية يقولون : إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده الوجودي وإذا كان كذلك فضد القول والإرادة عدم ذلك فلا يقال : القول في ضد ذلك كالقول فيه ويلزم تسلسل الحوادث لأن ضد ذلك عدم والعدم لا يفتقر إلى فاعل عندنا
ولا يضر عدم الشيء في الأزل ووجوده فيما لا يزال كالأفعال المحدثة
وهذا جواب محقق لهم لكنه لا يتم ألا بأن يكون عدم القول والإرادة في الأزل ليس صفة نقص
وقولهم في ذلك كقول المعتزلة وهم خير من المعتزلة من وجهين :
من جهة انهم يجعلون القول والإرادة قائمة بذاته وهذا بحث آخر لا يختص بهذه المسألة
ومن جهة أنهم يثبتون مشيئة أزلية وقابلية أزلية
وأيضا فما ادعاه من انه أثبت أن الحوادث لا بد وأن تكون متناهية ليس كما ذكر
وقد عرف الكلام فيما ذكر هو وغيره وضعف ذلك

الثالث
قال أبو الحسن الآمدي يعني في بيان تناقضهم أن من مذهبهم أن القول الحادث والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم والرائحة وأنه يجوز في الشاهد تعري الجواهر عن الأقوال والإرادات والطعوم والرائح والألوان مع جواز اتصافها بها وقد أحالوا قيام الألوان والطعوم والرائح بذات الله تعالى وجوزوا ذلك في القول والإرادة ولو قيل لهم لم قضيتم بجواز قيام الطعوم والألوان والروائح بذات الله تعالى من غير أن يلزم استحالة التعري عنها كما في القول الحادث والإرادة الحادثة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا

تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : جوابهم في هذا كجواب الأشعرية والسالمية إذا قيل لهم : لم وصفتم الرب بالقول والإرادة ولم تصفوه بالطعم واللون والريح ؟
فإذا قالوا : لأن القول والإرادة من الصفات المشروطة بالحياة وهي صفة كمال بخلاف الطعم واللون والريح أو غير هذا من الفرق قالت الكرامية نظير ذلك فالفرق بين هذا وهذا ليس من خصائص مسألة حلول الحوادث فإن نفي ذلك عند من ينفيه واجب سواء قال بحلول الحوادث أو لم يقل وإنما يفترقان في أن هذا يجوز حدوث ذلك بخلاف الآخر فحاصله أنهم لم ينفوا الطعم واللون والريح لكونه لو قبلها لم يخل منها فإن هذا الأصل عندهم فاسد بل نفوها لما فارقت به صفات الحي
وأيضا فيقال الفرق الذي فرقوا به بين اللون والريح وبين القول والإرادة إما أن يكون مؤثرا وإما أن لا يكون فإن كان مؤثرا بطل الإلزام وإن لم يكن مؤثرا لزم خطؤهم في إحدى الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة قول المنازع لهم فيما أثبتوه فإن أقام المنازع لهم دليلا عقليا أو سمعيا على نفي اللون والريح دون القول والإرادة كان ذلك فرقا مؤثرا وإن أقام دليلا على نفي حلول الجميع كان ذلك حجة كافية دون الإلزام

الوجه الرابع
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن الرب متحيز وانه مقابل للعرش وأكبر منه وليس مقابلا لجوهر فرد من العرش وقد قالوا : بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين ن والصفة الحادثة في ذات الله تعالى وهي القول أو الإرادة كما هو مذهبهم يوجب قيامها مع اتحادها بجزئين فصاعدا وهو مناقض لمذهبهم

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول قولهم : إن العرض لا يقوم بجوهرين مع قولهم بقيام القول والإرادة بالله تعالى أمر لا يختص بمسألة الحوادث فإن العلم والقدرة والمشيئة القديمة عندهم بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة كونه صفة واحدة قامت بجزأين بل هذا بحث يتعلق بمسألة الصفات مطاقا ولها موضع آخر
وأيضا فيقال : إذا كان من مذهبهم أن الرب متحيز كما حكاه عنهم مع أن ابن الهيصم وغيره منهم ينكر أن يكون متحيزا فما ذكر من حجة المعتزلة عليهم غايتها إلزامهم إذا قامت به الصفات والحوادث أن يكون متحيزا فإذا كانوا ملتزمين لذلك كان هذا طرد قولهم ويبقى البحث ليس هو في هذه المسألة بل يبقى الكلام مع المعتزلة يعود إلى مسألة التحيز
والكلام إذا عاد إلى أصل واحد كان الكلام فيه أخف مع انهم يمكنهم أن يلزموا المعتزلة بقيام الحوادث به وإن لم يكن متحيزا إذا كان لكل من المسألتين مأخذ يخصه وبينهما اتفاق وافتراق
وأيضا فإن ذكر قولهم في العرش ههنا لا يظهر له وجه إلا أن يقال هم يقولون بالتحيز والمتحيز مركب من الجواهر المنفردة والعرض الواحد لا يقوم بجوهرين فلا تقوم به إرادة ولا قول
وهذا القول إن توجه كان سؤلا عليهم في أصل إثبات الصفات لله سواء كانت قديمة أو حادثة لا يختص هذا بمسألة حلول الحوادث
والكرامية لهم في إثبات الجوهر الفرد قولان فمن نفى ذلك لم يلزمه هذا الإلزام ومن أثبته كان جوابه عن هذا كجواب غيره من الصفاتية في الصفات القائمة بالملائكة والآدميين وغيرهم وكان لهم أيضا أجوبة أخرى كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

الوجه الخامس
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث أو الإرادة الحادثة ومستند القول والإرادة القدرة القديمة والمشيئة الأزلية ولا فرق بين الحادث والمحدث من جهة تجدده وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا في التجدد فلو قيل لهم لم لا أكتفي بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية في حدوث المحدثات من غير توسط القول والإرادة كما اكتفى بها في القول والإرادة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا

تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : من الصفات ما يثبت بالسمع وقد يكون أثبتوا ذلك بالسمع كما أثبت الصفاتية من السلف والخلف كابن كلاب والأشعري والقاضي أبي بكر والقشيري والبيهقي تكوين آدم باليدين بالسمع مع أن غيره لم يحتج إلى ذلك كما أثبت أيضا الأشعري وغيره التكوين يكن سمعا مع أن العقل يكتفي بالقدرة
ونقل ذلك عن أهل السنة والحديث وقال عنهم إن الله لم يخلق شيئا إلا قال له : كن وذكر أنه : بقولهم يقول
والقرآن قد أخبر أنه إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا
فلما رأوا السمع دل على أن المحدث يتعلق بقول وإرادة يكون المحدث عقبه مع علمهم بأن قول الرب وإرادته لا يقوم إلا بذاته قالوا ذلك
وأيضا فجميع الطوائف فرقوا بين حادث وحادث وشرطوا في هذا ما لم يشرطوه في الآخر
فالفلاسفة يقولون : كل حادث مشروط بما قبله من الحوادث ولا يسوون بين الحوادث
والمعتزلة البصريون يقولون كل المحدثات لا تحدث إلا بإرادة ولا تقوم الصفات إلا بمحل
وقالوا إن الإرادة حدثت بلا إرادة وقامت في غير محل وكذلك الفناء عندهم
والأشعرية فرقوا بين خلق وغيره
وأيضا فلا يخلو : إما أن يكون بين هذين الحادثين فرق مؤثر وغما أن لا يكون فإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن فرق مؤثر لزم خطؤهم في أحد القولين : إما في الاكتفاء في الحدوث بالقدرة القديمة وغما في إثبات شيء حادث للمحدثات المنفصلة
وحينئذ فقد يكونون إنما أخطأوا في الاكتفاء بمجرد القدرة والإرادة القديمة كما يقوله من يقول إن الحوادث لا بد لها من سبب حادث وحينئذ فيلزمهم القول بدوام الحوادث كما هو قول من قاله من السلف وأهل الحديث والكلام والفلسفة
وفي الجملة هذا الإلزام إذا صح يلزم الخطأ في أحد الموضعين لا يلزم صحة قول المنازع

الوجه السادس
قال الآمدي يخص القائلين بحدوث القول وذلك انهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة والحروف متضادة فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض نعلم استحالة الجمع بين الحروف ن وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله : كن وقد وافقوا على استحالة تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها به وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذات الباري تعالى أولا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها : فإما أن يقال بتجزىء ذات الباري تعالى وقيام كل حرف بجزء منه وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : أنه يلزم منه التركيب في ذات الله تعالى وقد أبطلناه في إبطال القول بالتجسيم الثاني : أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس وإن كان الثاني فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد وهو محال وإن لم نقل باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به والحرف السابق الذي عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول : هذا غايته ان يستلزم خطأهم في قولهم : إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه
ولا ريب أن أكثر الناس يخالفونهم في هذا ولا يقولون بدوام الحادث المعين
فمن قال بإثبات الاستواء والنزول وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته لا يقول : إن ذلك يدوم
وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى لا يقولون : إن ذلك النداء بعينه دائم أبدا ونظائره كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون بقاء الحادث الذي هو الحروف والأصوات ممكنا أو ممتنعا
فإن كان ممكنا صح قول الكرامية وإن كان ممتنعا صح قول من ينازعهم في دوام الحادث ويقول : إنه لا يبقى مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به
وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافي لقيام الحوادث به
وأيضا فيقال قول القائل إنه يستحيل الجمع بين الحروف هو من موارد النزاع
فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف والقائلين بحدوثها
وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية
وقد قال بالأول : طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب مالك والشافعي واحمد وغيرهم
وإذا كان هذا من موارد النزاع فإذا قال مثل هذا القائل نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض
قيل له فالذي تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعاني التي هي معاني الحروف المنتظمة هي معنى واحد في نفسه والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد فالذي هو الأمر هو الخبر ن والذي هو الخبر هو النهي وقالوا إن ذلك بالسريانية كان إنجيلا
ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والأخرين القائلين بأن القرآن غير مخلوق والقائلين بأنه مخلوق ن يقولون : إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه :
منها كون الأمر هو عين الخبر
ومنها كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسي هو الخبر عن المخلوق بمثل { تبت يدا أبي لهب وتب }
ومنها كون معاني التوراة إذا عربت تكون معاني القرآن إلى أمثال ذلك
ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ابن كلاب ومن اتبعه
وهذا القول يتضمن أن تكون المعاني المتنوعة معنى واحدا ولو قال : إن المعاني التي للحروف يمكن اجتماعها في زم واحد كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحد
ولو قال قائل إن الحروف المجتمعة هي حرف واحد في الحقيقة وغنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له كان هذا شبيها بقول من يقول إن تلك المعاني المتنوعة معنى واحد
وذلك انه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها تحدث بحدوثها في نفس المتكم
وإذا قال القائل إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين منها في محل واحد أمكن أن يقال إن المعاني متضادة يمتنع اجتماع اثنين في محل واحد
فإن غاية ما يقال إن محل المعاني واحد بخلاف محل الحروف فإنه متعدد لكن تعدد المحل واتحاده لا ينفي التضاد فإن المثلين متضادان وغن كانا متماثلين في الحقيقة والمحل فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء إذ الحرفان يتعدد محلها يمكن اجتماعها ن بخلاف ما يتحد محلهما والضدان إنما يمتنع اجتماعهما في محل واحد لا في محلين
فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا في محل واحد كانت بمنزلة معانيها التي لا تكون إلا في محل واحد وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعا
لكن الواحد منا لا يقدر منا لا يقدر على ذلك لكون حركة بعض آلاته مستلزما لحركة الآخر وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع كالذي ينفخ بيديه في هذه نفاخة وفي هذه نفاخة أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات في زمن واحد مع تعدد المحل وإنما الذي يظهر امتناعه اجتماع حرفين في محل واحد في زمن واحد
ولكن هذا قد يقال فيه إنه بمنزلة معاني الكلام فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معاني الكلام في زمن واحد في قلبه
وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعاني لزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف فكيف من قال إن المعاني تكون معنى واحدا
والفضلاء من أصحاب اعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة

استطرادات مقالة الآمدي في مسألة كلام الله تعالى
حتى الآمدي لما تكلم في مسألة الكلام قال فإن قيل وإذا ثبت أنه متصف بصفة الكلام وان كلامه قديم وأنه ليس بحرف ولا صوت فهو متحد لاكثره فيه في نفسه بل التكثر إنما هو في تعلقاته ومتعلقاته فإن قيل عاقل ما لا يماري نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ونهي وغيره من أقسام الكلام وإن ما انقسم إليه حقائق مختلفة وأمور متمايزة وانها من أخص أوصاف الكلام لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات والتعلقات والمتعلقات ولهذا فإنا لو قطعنا النظر عن العبارات والتعلقات والمتعلقات ورفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما وأيضا فإن ما أخبر به عن القص الماضية والأمور السالفة مختلفة متمايزة وكذلك المامورات والمنهيات مختلفة أيضا فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى هو نفس الخبر عما جرى لعيسى ولا الأمر بالصلاة هو نفس الأمر بالزكاة وغيرها ولا أن ما تعلق بزيد هو نفس ما تعلق بعمرو ولا ما سمى خبرا هو عين ما سمى أمرا إذ الأمر طلب والخبر لا طلب فيه بل هو حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا أو سلبا فثبت ان الكلام انواع مختلفة والكلام عام للكل فيكون كالجنس لها
قلنا قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ومعلوم واحد قائم بالنفس وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى اخص صفة الكلام بل إلى أمر خارج عنه وعلى هذا نقول إنه لو قطع النظر عن التعلقات والمتعلقات الخارجة فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفساني أصلا ولا يلزم منه رفع الكلام في نفسه وزوال حقيقته
قال وعلى هذا فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر واختلاف المخبر واتحاد الأمر واختلاف المأمور وكذلك اختلاف الأمر والخبر مع اتحاد صفة الكلام
قال فإن قيل إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والقدرة والعلم وباقي الصفات راجعة إلى معنى واحد ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات لا بسبب اختلافه في ذاته وذلك بأن تسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص وقدرة عند تعلقه بالإيجاد وهكذا سائر الصفات وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات
وقال أجاب الأصحاب عن ذلك بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والإرادة بسبب التعلقات والمتلقات إذ القدرة معنى من شانه تأتي الإيجاد به والإرادة معنى من شانه تأتي تخصيص الحادث بحال دون حال وعند اختلاف التأثيرات لا بد من الاختلاف في نفس المؤثر وهذا بخلاف الكلام فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا فضلا عن كونه مختلفا
قال وفيه نظر وذلك انه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد مع إمكان النزاع فيه فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات لا انه زائد عليها وإلا كانت الذوات ثابتة في العدم وذلك مما لا نقول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات ثابتة في العدم وذلك مما لا قول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة فتأثير القدرة في آثار مختلفة فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه وليس كذلك وأيضا فإن ما ذكروه من الفرق وإن استمر في القدرة والإرادة فغير مستمر في باقي الصفات كالعلم والحياة والسمع والبصر لعدم كونها مؤثرة في أثر ما
قال والحق ان ما أورده من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل وعسى أن يكون عند غيري حله ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بان كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء

تعليق ابن تيمية
هذا كلامه فيقال : قول القائل : إن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزال ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام
وقد رأيت انه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها ثم رفعها بالكلية وجعلها نفس الذات وهذا يعود إلى قول القائلين بان الوجود واحد ولا يميزون بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وذلك لأنه من جوز على الحقائق المتنوعة أن تكون شيئا واحدا غلا فرق بين هذا وهذا وذلك من جنس من يقول إن العالم هو العلم والعلم هو القدرة
ولهذا كان منتهى هؤلاء النفاة إلى أن يجعلوا الوجود الذي هو نوع واحد واحدا بالعين فيجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات ووجود زيد هو عين وجود عمرو ووجود الجنة هو عين وجود النار ووجود الماء هو عين وجود النار
ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان وهو الجنس اللغوي فيجدونه واحدا في الذهن فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الأعيان المتميزة
ولهذا شبه بعض أهل زماننا الكلام في أنه جنس واحد مع تعدد أنواعه بالنوع الواحد وعلى قوله لا يبقى في الخارج كلام أصلا ولو اهتدى لعلم أن هذا الكلام ليس هذا الكلام كما أن هذه الحركة ليست هذه الحركة وأن اشترك أنواع الكلام في الكلام كاشتراك أنواع الحركة في الحركة بل اختلاف معاني الكلام أعظم من اختلاف أنواع الحركات من بعض الوجوه والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا ان يقال : من جوز أن تكون القدرة والإرادة والعلم حقيقة واحدة كما أن الطلب والخبر حقيقة واحدة فلماذا لا يجوز أن تكون حقيقة الحروف المختلفة حقيقة واحدة وكذلك حقيقة الأصواب ؟ لست أعني واحدة بالنوع بل واحدة بالعين كما جعل الكلام واحدا بالعين وكما سوغ ان تكون الصفات المتنوعة واحدة بالعين
والذين قالوا : إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا وهو مع ذلك واحد إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم وهو لازم لهم مع ظهور فساده وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا
وإذا قيل : هذا كالسواد والبياض
قيل له : ويلزمك ان تجعل السواد والبياض شيئا واحدا كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا
فإذا قال : نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني والسواد والبياض متضادان
قيل : الجواب من وجهين
أحدهما : أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها كالطعم واللون والريح فقل إنها شيء واحد كما أن العلم والإرادة والقدرة والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد
الثاني : أن يقال : تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين فلا يتسع لحرفين وصوتين وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما وما يتضادان لضيق المحل
وإذا كان كذلك كان تضاد الحروف والحركات كتضاد معاني الكلام
فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام فإلحاق حروف الكلام بأسبابها وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها وهي المعاني أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها كالسواد والبياض
وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئا واحدا فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا وإلا فما الفرق ؟
وقد يقال في الفرق : إن الحروف مقاطع الأصوات والأصوات تابعة لأسبابها وهي الحركات والحركات : إما متماثلة وإما مختلفة وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة لا يمكن اجتماع حركتين في محل واحد في زمن واحد فلا يجتمع صوتان فلا يجتمع حرفان
والحركات هي من الأكوان والأكوان كالألوان فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد فلا يجتمع كونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد
بخلاف معاني الكلام كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبعض للمنهى عنه والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه فإنها وإن كانت حقائق متنوعة لكن لا يمنع اجتماعها فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث فلم تتضاد لأنفسها ولكنها لعجز العبد عن جمعها
فالأمور ثلاثة أنواع : ما امتنع اجتماعها لنفسها كالألوان المختلفة وما امكن اجتماعها وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة والطعم واللون والريح وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ولكن العبد يعجز عن جمعها كما أنه لا يمتنع ان يعمل بلسانه عملا وبيده عملا وبرجله عملا وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين
وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين فنفس الحركات متضادة وأما ما يحصل عنها من إدراك فليس هو في نفسه متضادا
فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة أو يحصل بحركة واحدة كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد لم يكن إدراكه لهذه المدركات في آن واحد متضادا فهل يمكن أن يقال في الصوت مثل ذلك وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة في محل واحد في زمن واحد ؟
فيه نزاع وجمهور العقلاء على امتناعه فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعاني الكلام والصفات وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات
وعلى هذا التقدير : فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور لم يكن في قوله من الاستبعاد اعظم من قول من يقول : تكون تلك الحقائق المختلفة شيئا واحدا
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه
وإذا قال القائل : الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات وإرادته باختلاف المرادات ويتعدد ذلك فيه والباري ليس كذلك
قيل : فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه في المخلوقين واحدا لا تعدد فيه ولا تنوع في حق الخالق أمكن منازعكم أن يقول كذلك فيقول : ما يمتنع اجتماعه في حقنا لا يمتنع اجتماعه في حقه لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين بل اجتماع الأمور التي يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التي نعلم اختلافها فإن كون الشيء هو نفس ما يخالفه أمر فيه قلب الحقائق
وأما اجتماع الشيء وغيره في حق الخالق مع امتناع اجتماعهما في حق المخلوقات فيدل على أنه يمكن في حقه ما لا يمكن في حق الخلق وذلك يدل على عظمته وقدرته
وأيضا فقد يقول الكرامية وأمثالهم : إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى والله واسع عظيم لا يحيط العباد به علما ولا تدركه أبصارهم
وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف وإمكان قدمها والنزاع في ذلك قديم ذكره الأشعري في المقالات وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك وكذلك أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الطوائف وكذلك أهل الحديث والصوفية
وحينئذ فيقال : إما أن يكون ذلك ممتنعا وغما ان يكون ممكنا فغن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة التي هي مدلول العبارات المنتظمة ويجعلها مع ذلك معنى واحدا فإن الألفاظ قوالب المعاني ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها فهي معان متنوعة ليست شيئا واحدا
ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء : الحروف متعاقبة والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها
أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغوني وقالوا هذا معارض بمعارض الحروف فإنها متعاقبة عندنا وانتم تقولون بقدمها
الثاني أن التعاقب والترتيب نوعان : أحدهما ترتيب في نفس الحقيقة والثاني ترتيب في وجودها فإذا كانت موجودة شيئا بعد شيء كان الثاني حادثا وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون الصفات تابعة للذات وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطا بالحياة
وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب وهذا الذي يقال له تقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط كتقدم الواحد على الإثنين وجزء المركب على جملته ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول
فقول هؤلاء إن كان باطلا فكون العلم هو الحياة والحياة هي الإرادة ومعنى القرآن هو معنى التوراة ومعنى آية الكرسي وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا أبي لهب هو باطل أيضا سواء كان مثله في البطلان أو أخفى بطلانا منه او أظهر بطلانا منه
وحينئذ فيقال : هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال فقول الكلابية أيضا محال فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل
وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو انه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة وهذا يستلزم قيام الحوادث به فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض
ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف : إما أن يمكن قدم أعيانها وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها بل قدم أنواعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها
وأما القسم الرابع : وهو قدم أعيانها لا أنواعها فهذا لا يقوله عاقل وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها وإما ان لا يمكن فهذه خمسة أقسام
وأيضا فإذا أمكن الاجتماع فإما ان يكون بقاؤها ممكنا وإما أن لا يكون فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث اعيانها وأنواعها لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث وهذا قول من أقوال متعددة
وبإزاء ذلك من يقول : يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها إما مع إمكان الاجتماع وإما مع عدم إمكان الاجتماع
ومن يقول يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع وقد لا يقول
والناس متنازعون في تكليم الله لعباده : هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته أو لا بد من تجدد تكليم ؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة و مالك والشافعي و أحمد وغيرهم
فالأول : قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بان الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته بل هو بمنزلة الحياة
والثاني : قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم
قالوا : ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ولهذا فرق الله بين أيحائه وتكليمه كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى
والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان إلى غير ذلك مما يطول ذكره
وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به فإنه يلزم ان لا يكون كلامه بل كلام من قام به كما قد قرر في موضعه
والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله حمدي عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي فإذا قال : مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يقول هذا لكل مصل والناس يصلون في ساعة واحدة والله تعالى يقول لكل منهم هذا
وقد روي ان أبن عباس قيل له : كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة ؟ فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة وأمثال ذلك كثير
وحينئذ فمن قال : إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته يلزمه أحد أمرين إما أن يقول باجتماعها في محل واحد وإما أن يقول إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها
ونحن نعقل ان يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد
وأصوات مجتمعة في آن واحد لكن لا يكون هذا حيث هذا إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد
وقد يقال : إن مثل هذا يجيء على قول من يقول : إنه يقوم بذاته لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها وقدر لا نهاية لها فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها وهذا على وجهين : فمن قال : إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب فهو كمن يقول إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب
ومن قال إنها كلها أزلية كما تقوله طائفة يقولون إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره فإن هذا يشبه قول من يقول : تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد
لكن قد يقال : اجتماع العلوم بمعلومات والإرادات بمرادات قد يقال إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام بخلاف اجتماع حروف فإنه كاجتماع أصوات واجتماع أصوات كاجتماع حركات
وجماع ذلك ان الحقائق : إما أن تكون متماثلة وإما أن لا تكون وإذا لم تكن متماثلة فإما أن يمكن اجتماعها في محل واحد في زمن واحد وإما أن لا يمكن فالأولى المختلفة التي ليست بمتضادة كالعلم والقدرة وكالطعم واللون والثاني المتضادة كسواد والبياض وكالعجز مع القدرة كالعلم بمعلومات والقدرة على مقدورات والإرادة ليست هي متضادة بل يمكن اجتماع ذلك لكن قد يضيق عنه المحل كما يضيق قلب العبد عن إجتماع أمور كثيرة من ذلك وإن كان قد يجتمع في قلبه من ذلك ما يسعه قلبه
والقلوب تختلف أيضا بذاتها ولهذا يمكن بعض الناس أن يقرأ ويفعل بيده ورجله وآخر لا يمكنه ذلك كما يمكن هذا الحركة القوية الشديدة والآخر لا يمكنه ذلك ويمكن هذا أن يرى ويسمع من المختلفات ما لا يمكن الآخر رؤيته او سماعه
وإذا كان كذلك فالكلام في الصوت في شيئين : أحداهما : في بقائه وقدمه كما في بقاء الحركة وقدمها ولا ريب في إمكان بقاء نوع الصوت والحركة بمعنى حدوث الحركة والصوت شيئا فشيئا كحركة الفلك والكواكب
وأما إمكان قدم نوع الصوت والحركة ففيه قولان مشهوران للنظار فالجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم تنكر إمكان قدم ذلك وكثير من أئمة أهل الحديث والفقه والتصوف الفلاسفة يجوزون قدم ذلك ومنهم من يجوز قدم نوع الصوت لا نوع الحركة
وأما بقاء الصوت المعين والحركة المعينة فجمهور العقلاء يحيلون بقاء ذلك وقدمه بل امتناع قدم ما يمتنع بقاؤه اولى فإن ما وجب قدمه وجب بقاؤه وامتنع عدمه ومن الناس من جوز بقاء الصوت المعين والحركة المعينة وبعض هؤلاء جوز قدم الصوت المعين
ولا فرق بين الحركة والصوت وأما الحروف المنطوق بها فالناس متنازعون : هل هي طرف للصوت أم يمكن وجود حروف منظومة بلا صوت على قولين
وإذ قيل : لا يمكن وجود حرف منطوق له إلا بصوت فالحرف قد يعبر به عن نهاية الصوت وتقطعه وقد يعبر به عن نفس الصوت المقطع كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب ويراد به مجرد الشكل تارة مجردا عن المادة ويراد به مجموع المادة والشكل وهو المداد المصور
والمسألة الثانية : أن الأصوات المتنوعة سواء قيل بوجوب تعقبها شيئا بعد شيء أو قيل بإمكان بقاء الصوت المعين : هل تقوم بالصائت الواحد إذا كان محل هذا الصوت ليس هو بعينه محل هذا الصوت وإن كان الصائت واحدا ؟
و لا ريب أن هذا أولى من قيام الحركات المتنوعة بالمتحرك الواحد إذا قامت كل حركة بمحل غير محل الأخرى
وأما اجتماع الصوتين والحركتين في محل واحد فهو متعذر للتضاد عند اكثر العقلاء أو لضيق المحل عند بعضهم كاجتماع العلمين والقدرتين والإرادتين المختلفتين والإدراكين ثم إذا قدر ان محل هذه الصفات لا يكون إلا جسما فيبقى الكلام في الجسم هل هو مركب هل مركب من الجواهر المنفردة ؟ أو من المادة والصورة ؟ اولا من هذا ولا من هذا ؟

لنظار ثلاثة أقوال في تركيب الجسم
وفي ذلك للنظار ثلاثة أقولا :
فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد : هل هو جزء مفرد في القلب كما يذكر عن ابن الرواندي ؟ او أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة ؟ أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك كما يقوله الأشعري ؟ على ثلاثة أقوال
ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك بل يقول : إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه كما أن الجسم ليس بمنقسم وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة وهؤلاء يقولون : إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه ويقولون : إن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك
وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الأنقسام من الأعراض ببدنه وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل إنها جسم
وعلى هذا فإذا قيل : يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد
وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها مالا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم فيجب أن لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع
ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بان أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت
وليس الأمر كذلك فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد ؟ وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية وحينئذ فيقال قول الكرامية الذي حكاه عنهم من انه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس وأئمتهم من الطوائف كلها حتى من أئمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة أهل الشرع وأهل الرأي وأما هذا القول فموافقهم عليه قليل

عود إلى مناقشة كلام الأمدي في مسألة كلام الله تعالى
قال وعند ذلك فإما ان يقال باجتماع حروف القول في ذاته تعالى أو لا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها : فإما ان يقال بتحري ذات الباري وقيام كل حرف بجزأ منه وإماأن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين : أحدهما انه يلزم منه التركيب في ذات الله وقد أبطلناه في أبطال لقول بالتجسيم
قلت : ولقائل أن يقول : قول القائل : إما أن يتجزأ ويلزم منه التركيب لفظ مجمل كما قد عرف غير مرة فإن هذا يفهم منه إما جواز الافتراق عليه أو أنه مفترقا فاجتمع أو ركبه ونحو هذه المعاني التي لا يقولونها
فإن أراد المريد بقوله إما أن يقال بتجزي ذات الباري تعالى هذا المعنى فهم لا يقولون بتجزئة ولكن لا يلزم من رفع امتناع كون الذات واسعة تسع هذا وهذا وهذا وأن كل واحد يقوم لا يقوم الآخر وهذا هو الذي عناه بلفظ التجزي والتركيب

كلام الآمدي في نفي التجسيم وتعليق ابن تيمية
وقوله إنه أبطل هذا في أبطال القول بالتجسيم فهم يقولون ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهم
وذلك أنه قال والمعتمد في نفي التجسيم أن يقال لو كان الباري جسما فإما أن يكون كالأجسام وإما أن لا يكون كالأجسام فغن قيل إنه لا كالأجسام كان النزاع في اللفظ دون المعنى والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهرا وإن قيل إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية اوجه : منها أربعة وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهرا وهي الأول والثالث والرابع والخامس ويختص الجسم بأربعة أخرى
قلت والذي ذكره في إبطال كونه جوهرا هو أن المعتمد هو أنا نقول لو كان الباري جوهرا لم يخل إما أن يكون جوهرا كالجواهر أولا كالجواهر والأول باطل لخمسة أوجه وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه إلا من وجهة ورد التعبد من الشارع به ولا يخفي أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته
قال وعلى هذا فمن قال إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا في موضوع والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره كما قاله أبو الحسين البصري مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بأزاء القائم بنفسه لا ورد فيه إذن من الشرع
فيقال : إذا كان قول القائل : إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقا لقولك في المعنى وإنما النزاع بينك وبينهم ف ياللفظ قامت حجته عليك لفظا ومعنى أما اللفظ فمن وجهين : أحداهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه وأنت لم تسمه سخيا لعدم إذن الشرع فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع في هذا النفي بل إذا لم يطلق إلا ما إذن فيه الشرع لا يطلق لا هذا ولا هذا
ثم أنت تسميه قديما وواجب الوجود وذاتا ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع والشارع يفرق بين ما يدعي به من الأسماء فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاة عنه ناف لما يستحقه من الصفات كما انه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه إنه قديم وواجب الوجود فإن كان النزاع مع من يقول هو جوهر وجسم في اللفظ فعذرهم في الإطلاق أن النافي ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم كما فعلت أنت وغيرك في اسم قديم وذات و واجب الوجود ونحو ذلك
الثاني : أنك احتججت على نفي ذاك العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه
فيقال لك : ولم ينقل عنها إطلاقة بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ ذات بإزاء نفسه وإنما لفظ الذات عندهم تأنيث ذو فلا تستعمل إلا مضافة كقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله { إنه عليم بذات الصدور } الأنفال 43 وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله ]
وقول خبيب
( وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
وأمثال ذلك أي في جهة الله أي لله تعالى
ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ ذات الله
وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ الذات على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع ولو قال لك قائل : إن الله ليس بذات نازعته فهكذا يقول منازعك في اسم الجوهر والجسم إذا كان موافقا لك على معناهما
وأيضا فإن لفظ الجوهر والجسم قد صار في أصطلاحكم جميعا أعم مما استعملت فيه العرب فإن العرب لا تسمي كل متحيز جوهرا ولا تسمي كل مشار إليه جسما فلا تسمي الهواء جسما
وفي أصطلاحكم سميتم هذا جسما كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف أو كل قائم بنفسه أو كل شيء فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية ولا على إذن الشارع لا في النفي ولا في الإثبات
فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا كان خاصما لك وكان حكمه فيما تنازعتما فيه كحكمكما فيما اتفقتما أو فيما انفردت به من هذا الباب
وأيضا فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهرا والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع إنما قاله ابن سينا ومن تبعه
وأما أرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فيسمونه جوهرا فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض والمبدأ الأول داخل عندهم في مقوله الجوهر
والأظهر أن النصارى إنما أخذوا تسميته جوهرا عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولا من دين المسيح ودين المشركين الصابئين
وأما النزاع المعنوي فيقال : قول القائل إنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام لفظ مجمل فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل جسم فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها ولو أنه واحد
فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر وإما أن يقول باختلافها فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه باعتبار ذاته
وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فكيف يقال في الخالق سبحانه إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه حتى في الجماد والنبات والحيوان
هذا لا يقوله عاقل حتى القائلون بوحدة الوجود فهؤلاء عندهم هونفس وجود الأجسام المخلوقة ولكن هم مع هذا لا يقولون إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا
وهذا وإن قال : إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع لا على كل واحد واحد فهذا أيضا قول معلوم الفساد ولا نعرف قائلا معروفا يقول به فإن هذا هو التشبيه والتمثيل الذي يعلم تنزه الله عنه إذ كان كل ما سواه مخلوقا والمخلوقات تشترك في هذا المسمى فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات لزم الجمع بين النقيضين فإنه يجب له الوجود والقدم فلو وجب ذلك للمحدث مع أنه لا يجب له ذلك لزم أن يكون ذلك واجبا للمحدث غير واجب له ولو جاز عليه الإمكان والعدم مع أن الواجب بنفسه القديم الذي لا يقبل العدم لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم أن يمتنع عليه العدم لا يمتنع عليه وأن يجب له الوجود لا يجب له وذلك جمع بين النقيضين
فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات أو مختصة ببعضها
فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام سواء جعل التشبيه لكل منها أو بالقدر المشترك بينها لم تقل به طائفة معروفة أصلا فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة وبحوثه اللفظية غير نافعة مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا جسم كالجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري مقالة معروفة وقد ذكرها الأئمة كيزيد ابن هارون و احمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهم وأنكروها وذموها ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله
ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الجسام بل ببعضها ولا مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال
وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي
وقد قال الله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 وقال تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } الإخلاص : 4 وقال { هل تعلم له سميا } مريم : 65 وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا } البقرة : 22
وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع ن وأفردنا الكلام على قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 في مصنف مفرد
وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك لا نفيا ولا إثباتا
والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي اخطأ هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه فإن كان النزاع مع من يقول هو جسم أو جوهر إذا قال لا كالأجسام ولا كالجواهر إنما هو اللفظ فمن قال هو كالأجسام والجواهر يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى
فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردودا وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله فكل قول تضمن هذا فهو باطل
وإن فسر قوله جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه
فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا وذلك مثل أن يقول أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات وبين كل حي عليم سميع بصير وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات وإلا فلو قال الرجل هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين وعليم لا كالعلماء وسميع لا كالسمعاء وبصير لا كالبصراء ونحو ذلك واراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله فقد أخطأ
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته يقع من جهة المعنى في شيئين أحدهما انهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين
فمن قال بتماثلها قال كل من قال إنه جسم لزمه التمثيل
ومن قال إنها لا تتماثل قال إنه لا يلزمه التمثيل
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة بحسب ما ظنوه لازما لهم كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية وغثاء وغثراء ونحو ذلك ما ظنوه لازما لهم
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على إنها قول له سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله
وعلى هذا النزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين الكلام على جميع حججهم
والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه هل هو مركب من أجزاء منفردة أو من الهيولى والصورة أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا ؟
وإذا كان مركبا فهل هو جزآن أو ستة أجزاء أو ثمانية أجزاء أو ستة عشر جزءا أو اثنان وثلاثون ؟
هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء فمثبتوا التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك إنه لازم لكم إذا قالوا هو جسم وأولئك ينفون هذا اللزوم
وقد يكون في المجسمة من يقول إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه ويقول لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما اقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة وكلها أدلة باطلة كما بسط في موضعه
وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول هو جسم مثل كونه فوق العالم أو كونه ذا قدر أو كونه متصفا بصفات قائمة به فالنفاة يقولون هذه لا تقوم إلا بجسم وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه وينازعونهم في إتنفاء هذا المعنى الذي سموه جسما فهم ينازعون إما في التلازم وإما في انتفاء اللازم
إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة فإن الحجج الثمانية التي ذكرها الآمدي على نفي الجوهر وأربعة مختصة بالجسم

ذكر الآمدي أربعة حجج على نفي الجوهر مختصة بالجسم
الحجة الأولى
قوله لو كان جوهرا كالجواهر فإما أن يكون واجبا لذاته وإما أن لا يكون فإن كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ضرورة اشتراكها في معنى الجوهرية وإن كان ممكنا لزم أن لا يكون واجبا لذاته وإن كان لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب

الرد عليه
فيقال لا نسلم انه إذا كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود ولا يلزم أن الاشتراك في الجوهرية يقتضي الاشتراك في جميع الصفات التي تجب لكل منها وتمتنع عليه وتجوز له
وكذلك سيقال لا نسلم أنه إذا لم يكن كالجواهر كان تسليما للمطلوب وذلك انه إذا قيل لا كالأحياء وعالم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين لا يلزم من ذلك نفي هذه الصفات ولا إثبات خصائص المخلوقات
فمن قال هو جوهر وفسره إما بالمتحيز وغما بالقائم بذاته وغما بما هو موجود في موضوع لم يسلم أن الجواهر متماثلة بل يقول تنقسم إلى واجب وممكن كما ينقسم الحي والعليم إلى هذا وهذا
فإن قال إذا كان متحيزا فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب لأنه نفي كونه جسما بناء على نفي الجوهر ونفي الجوهر بناء على نفي على نفي المتحيز والمتحيز هو الجسم أو الجوهر والجسم فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة

الحجة الثانية
قال الآمدي انه إما أن يكون قابلا للتحيزية أو لا يكون فإن كان الأول لزم أن يكون جسما مركبا وهو محال كما يأتي وغن كان الثاني لزم أن يكون بمنزلة الجوهر الفرد
ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع أو اجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا
وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول إن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك وأن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما وانه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه كما قد بسط في موضعه وسيأتي الكلام على نفي حجته

الحجة الثالثة
قال لا يخلو غما ان يكون لذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة أولا فإن كان الأول فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى وهو محال خلاف المحسوس

الرد عليه من وجوه
ولقائل أن يقول الجواب من وجوه
الأول أنا لا نسلم حلول الأعراض المتعاقبة وأنت قد اعتمدت في هذا الوجه الذي ذكرته من تناقض أهل هذا القول على نفي الجسم والجوهر فلو جعلت هذا حجة في ذلك لزم المصادرة على المطلوب إذ كنت في كل من المسألتين تعتمد على الأخرى وإن اعتمدت على نفيه بالوجوه الأخر فقد عرف فساد كلامك وكلام غيرك

الوجه الثاني
الثانية أن يقال ولم قلت إنه إذا امتنع حلول الحوادث على بعض الجواهر بعض وبعض القائمين بأنفسهم دون بعض وبعض الموصوفات دون بعض فلو قال لك قائل الاشتراك في كون كل من الشيئين ذاتا قائمة بنفسها موصوفة بالصفات يوجب اشتراكهما في حلول الحوادث لكان هذا القول إما أن يلزمك وإما أن لا يلزمك فإن لزمك كان هذا لازما لك ولمنازعك فليس لك أن تنفيه وإن لم يلزمك فما كان جوابك عن إلزام من يلزمك به هو جواب منازعك
فإن قلت الاشتراك في الجوهرية اشتراك في المعنى الذي لآجله جاز قيام الحوادث به
قال لك كل من الخصمين والاشتراك في الذاتية والموصوفية والقيام بالنفس اشتراك في المعنى الذي لجله جاز قيام الحوادث به وأنت إذا أنصفت علمت أن البابين واحد

الحجة الثالثة
الثالثة أن يقال ما تعنى بقولك الأعراض المتعاقبة أتعني به أحواله التي دلت النصوص على قيامها به أم غير ذلك ؟
الأول مسلم لكن لا نسلم مساواة المخلوقات له في خصائصه والثاني ممنوع

الحجة الرابعة
قال أنه لا يخلو إما ان تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها انها هنا أو هناك او لا تكون قابلة لذلك فإن كان الأول فيكون متحيزا إذ لا معنى للتحيز إلا هذا والتحيز على الله محال لوجهين

التحيز على الله محال لوجهين
الأول أنه إما ان يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه فيكون متحركاوإن لم يكن منتقلا عنه فيكون ساكنا والحركة والسكون حادثان على ما يأتي وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث

الثاني
أن اختصاصه بحيزه إما ان يكون لذاته او لمخص من خارج فإن كان الأول فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى وإن كان لغيره وجب أن يكون الرب مفتقرا إلى غيره في وجوده فلا يكون واجب الوجود وإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر ان يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهرا

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه إذا كان قابلا للإشارة كان متحيزا وقوله : لا معنى للمتحيز إلا هذا : إن أراد به أن المفهوم من كونه مشارا إليه هو المفهوم من كونه متحيزا كان قوله فاسدا بالضرورة وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذا
قيل له : من الناس من ينازعك في هذا ويقول : إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز
فإن قال : هذا فساده معلوم بالضرورة
قيل له : ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه متصف بالصفات مرئي بالأبصار وهو مع هذا لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له
فإن قلت : إحالة هذا من حكم الوهم
قيل لك : وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزا من حكم الوهم بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزا أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه
ثم يقال ثانيا : لم قلتم : أنه يمتنع أن يكون متحيزا ؟ قولك : إما أن يكون متحركا أو ساكنا يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلا للحركة والسكون وثبوت أحدهما فرع قبوله له ؟
فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما
قيل لك : علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره وإما محايث فإن جوزت موجودا قائما بنفسه لا مباين ولا محايث فجوز وجود موجود متحيز ليس يمتحرك ولا ساكن
فإن قلت : المتحيز إما أن يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه والأول هو الحركة والثاني هو السكون
قيل لك : ليس كل متحيز أمرا وجوديا فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي وحينئذ فالحيز أمر عدمي فقولك إما أن يكون منتقلا عنه أو لا كقولك : إما أن يكون منتقلا بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركا أو ساكنا وهذا إثبات الشيء بنفسه
فإن قلت : هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي
قيل لك : ليس هذا بأبين من قول القائل : إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه والثاني هو المباينة والخروج عنه
فإن قلت : يمكن أن لا يكون داخلا فيه ولا خارجا عنه
قيل لك : ويمكن أن لا يكون المتحيز منتقلا ولا يكون ساكنا كما تقوله أنت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت : أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز
قيل : وكيف عقلت اولا ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير ؟
والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج
فإذا قلت أنت : هذا فرع قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلا للمباينة والمحاديثة والدخول والخروج
قال لك : نحن لا نعقل موجودا إلا هذا
فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضا
قال لك : وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضا ممكن في العقل وثابت
فإن قلت الفطرة تدفع هذا
قيل لك : وهي لدفع ذاك أعظم
فإن قلت ذاك حكم الوهم
قيل وهذا حكم الوهم
فإن قلت العقل أثبت موجودا ليس بمتحيز
قيل لك : إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على على مقدماتها فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة كنت مصادرا على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إن مكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه
ويقول له الخصم : ثالثا هب أنك تقول : لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول : إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن
فإن قلت : ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله
قيل لك : هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزا وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون
وإذا قلت : هذان متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول
كان الجواب من وجوه :
الأول : أن يقال مثل هذا فيما سميته متحيزا
الثاني : أن يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت
الثالث أن يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أعظم نقصا كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات
ونقول رابعا الحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا كانت الأولى أكمل
ويقول الخصم : رأبعا قوله لم لا يجوز أن يكون متحركا قولك : الحركة حادثة
قلت : حادثة النوع او الشخص ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقولك مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وانت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزليا وهي ضعيفة كما عرف
إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقيا لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقيا فهو حق وإن أراد به أن ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقيا فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى
وأما قوله في الوجه الثاني : إن اختصاصه بحيزه : إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج
فيقال أتعني بالحيز شيئا موجودا أو شيئا معينا سواء كان موجودا أو معدوما أو شيئا مطلقا فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزا بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته بل هو باختياره وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته
وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى
فكلام ساقط لوجوده :
الأولى : أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له ؟
والثاني إن يقال فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في كل حيز
الثالث : أن كل جوهر مختص من غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجواهرية فكيف لا يختص بحيزه ؟
الرابع : أن الحيز ليس أمرا وجوديا وإنما هو أمر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه ؟
الخامس : أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله
السادس : أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته كما أخبرت عنه رسله وكما انزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش وأمثال ذلك من النصوص
وأما قوله إن كان غير متحيز لزم ان يكون كل جوهر غير متحيز فعنه جوابان :
الأول : أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهر ستاني ونحوهما من المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا : إنه دليل على نفي ذلك : أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم : لا نعلم دليلا على نفيها أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا : إن الخالق تعالى فوق خلقه سعيتم في نفي هذا القول لوازم هذا القول وموجباته وقلتم : لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا
والجواب الثاني : أنك قلت في أول هذا الوجه : إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك أو لا تكون قابلة ثم قلت : فإن كان الأول فيكون متحيزا فكان حقك أن تقول : وإن لم تكن ذاته قابلة للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشارا إليه وأن لا يكون متحيزا
وإذا قلت ذلك قيل لك إثبات جوهرا لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها وقول النصارى الذين ينفون العلو
وحينئذ فيقولون : لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان يكون مشارا إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلا لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفيا يستلزم نفي الصفات
ويقال لك : إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه
وإن قال : أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهرا كالجواهر
فيقال : من قال هذا يقول : هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة فمن نفي هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا

الحجة الخامسة
قال الآمدي أنه لو كان جوهرا كالجواهر لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون بعض ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا او ان يكون كل جوهر معلولا للآخر والكل محال فإن قيل : الجواهر وإن تماثلت في الجوهرية ألا أنها متمايزة بأمور موجبة لتعين كل واحد منها عن الآخر وعند ذلك فلا مانع من اختصاص بأمور وأحكام لا وجود لها في البعض الأخر ويكون ذلك باعتبار ما به التعين لا باعتبار ما به الاشتراك فنقول والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول فهو تسلسل ممتنع فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج وذلك على الله محال

تعليق ابن تيمية
قلت : و لقائل أن يقول : قوله : لو كان جوهرا كالجواهر إن عني به أنه لو كان جوهرا مماثلا للجواهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم ينفعه هذا لوجوه :
الأول أن إذا لا يقوله عاقل يتصور لمافيه من الجمع بين النقيضين كما تقدم
الثاني انه إذا كان يقتضي هذا أنه يماثل كل جوهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم يلزم انتفاء مشابهته له من بعض الوجوه فغن نفي التماثل في مجموع هذه الأمور يكون بانتفاء التماثل في واحد من أفرادها فإذا قدر انه خالف غيره في فرد هذه الأمور لم يكن مثله في مجموها ولكن ذلك لا ينفي مماثلة في فرد آخر وحينئذ فلا يكون قول القائل : هو جوهر لا كالجواهر صحيحا ولا يكون النزاع معه في اللفظ بل لا بد ان ينفي عنه مماثلة المخلوقات في كل ما هو من خصائصها
الثالث : انه على هذا التقدير يكون مشابها لها من وجه مخالفا من وجه وليس في كلامه ما يبطل ذلك بل قد صرح في غير هذا الموضع بأن هذا هو الحق

ذكر الآمدي حجة من حجج القائلين بالقدم
فقال في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالقدم قال : الوجه العاشر أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما ان يكون مساويا له من كل وجه او مخالفا له من كل وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف الفرض وإذا لم يكن موجودا امتنع ان يكون موجبا للموجود كما سبق وإن كان الثالث فمن وجهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث بالعالم فلا حدوث

رده عليها
ثم قال في الجواب : وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلا بأمر آخر وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث واستحالة تماثلها من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية
وإن عني به انه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية فهذا مثل أن يقال : لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية أو عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع إلا أن تكن الجواهر كلها كذلك
ومعلوم أن من يقول هو جوهر لا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري
ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب وأمثال ذلك وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما او متحيزين أو قابلين للصفات وهذا اشتراك في بعض صفاتها لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
الثالث : أنه إن أراد بقوله : إنه جوهر كالجواهر أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر فهذا لا يقوله عاقل وأنما أراد المنازع انه إما قائم بنفسه وإما متحيز وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كاشتراك في كون كل منهما حيا قائما بنفسه ونحو ذلك فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده
وهؤلاء يقولون : لا بل هو اسم لما تختلف أفراده وفي أن هؤلاء يقولون : الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة وهؤلاء ينفون ذلك
ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق كما قد بسط في موضعه
وهؤلاء يقولون : قولنا جوهر كقولكم ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك
فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه فإن أحدا من العقلاء لا يقول إنه جوهر بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع وما قاله المثبتة منه ما سلم لهم معناه ومنه مالا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم
وقوله : إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفي بها الجسم لا يستقيم فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى انه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قال
وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر ومن يقول ذلك لا يقول إنه جوهر ولا جسم فالكلام في هذا الباب فرع على تلك المسألة ولو هذا صحيحا لكان العلم بحدوث الأجسام وإمكانها من اسهل الأمور فإن بعضها محدث بالمشاهدة والمحدث ممكن فإذا كانت متماثلة جاز على كل واحد منها ما جاز على الآخر فيلزم إما حدوثها وإما إمكان حدوثها وعلى التقديرين يحصل المقصود
والنافي لتماثلها لا يقول السؤال الذي أورده إنها متماثلة في الجوهرية لكنها متمايزة ومتغايرة بأمور موجبة للتعين هو الموجب للاختصاص بل تقول أنها مختلفة بحقائقها وأنفسها لكنها تشابهت في كونها قائمة بأنفسها أو كونها متحيزة قابلة للصفات وهذا معنى اتفاقها في الجوهرية كما ذكرة هو في الاعتراض على دليل القائلين بتماثلها
ويقول أيضا إن الأمور المتماثلة من كل وجه لا يجوز تخصيص أحدها بما يتميز به عن الآخر إلا لمخصص وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح ومشيئة الله تعالى ترجح أحد الأمرين لحكمة تقتضي ذلك وتلك الحكمة مقصودة لنفسها وإلا فنسبة الإرادة إلى المتماثلين سواء وتلك الحكمة المرادة تنتهي إلى حكمة تراد لنفسها كما بسط في موضعه
وأيضا فإن القائل : إن هذه الجواهر المشهودة متماثلة في الحقيقة ولكن الفاعل المختار خص كلا منها بصفات تخالف بها الآخر يقتضي أن لها حقيقة مجردة عن جميع الصفات التي اختلفت فيها فيكون الماء المشهود له حقيقة غير هذا الماء المشهود والنار المشهودة لها حقيقة غير هذه النار المشهودة ويكون ما خالف به هذا لهذا في الماء والنار أمرا عارضا لتلك الحقيقة لا صفة ذاتية لها ولا لازمة
وهذا مكابرة للحس وأيضا فعلى هذا القول لا يكن لشيء من الموجودات صفة ذاتية ولا صفة لازمة لذاته أصلا بل كل صفة يوصف بها عارضة له يمكن زوالها مع بقاء حقيقته لأن كل ما اختلفت به الأعيان أمر عارض لها ليس بداخل في حقيقتها عند من يقول بتماثل الجواهر والأجسام وحينئذ فيكون الإنسان الذي هو حيوان ناطق يمكن زوال كونه حيوانا وكونه ناطقا مع بقاء حقيقته وذاته وكذلك الفرس يمكن زوال حيوانيته وصاهليته مع بقاء حقيقته وذاته وهكذا كل الأعيان
ثم يقال : إذا قدرنا عدم هذه الصفات التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها لم يبق هناك ما يعقل كونه جوهرا لا مماثلا ولا مخالفا فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان وقدرنا أنه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك ولا حساس ولا متحرك بالإرادة لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات بل إثبات ذلك نوع من الخيال الذي لا حقيقة له وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة لكن تلك محلها العقل وهذه محلها الخيال فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيوانا ناطقا لكن حينئذ يكون المقدور شكلا مجردا هو عرض ن الأعراض وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعدادا مجردة عن المعدات وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان وكل جسم موجود له قدر يخصه وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر وهي نظير الصورة فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر وأن المادة جوهر آخر هو نظير دعوى هؤلاء أن الصورة الجسمية جواهر متماثلة وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها وما قام بها من الصفات والمقادير التي هي أشكالها وصورها
ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين كأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأمثالهم ممن يوافق أهل المنطق يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي وانقسام العرض إلى لازم للماهية وعارض لها وانقسام العارض إلى لازم و مفارق مع ما في هذا الكلام من الخطأ فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها
وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي وإثبات شيئين في هذه الأعيان أحدهما الذات والثاني هذا الموجود المشاهد فكلام باطل كما قد بسط في موضعه
ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون ان جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها ليس منها شيء لازم للحقيقة ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها فيا سبحان الله أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلون الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية وتقولون إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم ؟
وهنا يقولون ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك كلها فيه وليس لشيء منها لازم يخصه ولا لازم يفارق به غيره بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهرا وجسما
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تلكم به على طريقة أولئك مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر وهذا إما ان يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو وهذا قبيح بمن يدعى النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر وهذا أشبه أن يظن بم له عقل وتصور صحيح لكنه يدل على ان له في المسألة قولين وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام ولا يمشي مع الدليل مطلقا بل يتناقض وإما أن يكون مع فهمه التناقض وحينئذ فإما ان لا يبالي بتناقض كلامه وإما ان يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن

فصل
ومن العجب أنكلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وأن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على انها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة
ثم أنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر انه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع انه في الله تعالى
وقد قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الاعراف 33 وقال تعالى عن الشيطان { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169

كلام الآمدي في أن الجواهر متجانسة غير متحدة
قال في كتابه هذا الكبير الفصل الرابع في أن الجواهر متجانسة غير متحدة : اتفقت الأشاعرة وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة وذهب النظام والنجار من المعتزلة بناء على قولهما بتركب الجواهر من الأعراض إلى أن الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة فهي مختلفة ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر كالاختلاف الواقع بين النار والهواء والماء والتراب ضرورة كما يدرك الاختلاف بين السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الأعراض المختلفة
قال وهو باطل اما كون الجواهر مركبة من الأعراض فيما سبق وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر كالأمثلة المضروبة فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر في أنفسها بل هو عائد إلى الأعراض القائمة واختلاف الاعراض لا يدل على اختلاف المعروض له في نفسه

تعليق ابن تيمية
قلت : النجار ليس هو من المعتزلة بل هو رأس مقالة وهو يخالف المعتزلة في القدر فيثبته وفي غير ذلك من أصول المعتزلة لكنه يوافقهم على نفي الصفات ويخالفهم أيضا في تماثل الأسماء والأحكام والوعيد
وجمهور الناس على ان الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك

تابع كلام الآمدي
والمقصود هنا اعترافه بأنه لا حجة للقائلين بالتماثل فإنه قيل ما ذكرتموه وإن دل على إبطال مأخذ القائلين بالاختلاف فما دليلكم في التماثل والتجانس فلئن قلتم : دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر في صفات نفس الجوهر وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بنفسه فنقول وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات ؟ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات في عوارض عامة لها وإنما يثبت كون ما ذكرتموه صفات نفس الجوهر أن لو لم يكن الجواهر مختلفة وهذه أعراض عامة لها وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة وأن هذه أعراض عامة لها أن لو كانت هذه الصفات صفات نفس الجوهر وهو دور ممتنع
قال واعلم أن طرق أهل الحق في إثبات المجانسة وإن اختلفت عباراتها فكلها آيلة إلى ما ذكر وما قيل عليه من الإشكال فلازم لا مخلص منه إلا بان يقال : نحن لا نعنى بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات وعند ذلك فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية لا إلى نفس المعنى

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو أمكنه فذكر أن جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره وهو مما يعلم بالاضطرار أنه لا يدل على تماثلها بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني وليس جعل ما به الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات باولى من العكس وهذا على سبيل التنزل وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس اختلاف الأجسام المختلفة كما نعلم اختلاف الاعراض المختلفة وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الاعراض لا إلى المعروض فمخالفة للحس فإن نفس النار مخالفة للماء ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء بل نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف عرضا قائما بغيره وهو صفة محسوسة بالمس وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية والقيام بالغير والرؤية بالبصر وغير ذلك من الصفات أعظم من الاشتراك بين الماء والنار ن فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك ف يالكمية فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل فذاك بطريق الأولى
وأيضا فالحرارة قد تنكسر بالبرودة في مثل الفاتر فإنه لا يبقى حارا كحرارة النار ولا باردا برودة الماء المحض واما نفس الماء والنار فلا يجتمعان
وأيضا فالأعراض المختلفة تشترك في محل واحد واما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص وبيان تناقضهم في ذلك وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا ويبعد أو يمتنع في العادة ان يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد مع الفهم التام في الموضعين بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى والغرض ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو مشهورات أقوالها ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن بفزعه ذلك من الصبيان ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان
قال تعالى عن الخليل صلوات الله عليه { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } الأنعام 80 - 81 قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } الأنعام 82
ومن خالف الرسل لا يلم من الشرك والإفك { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات 180 - 182 { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الاعراف 152 قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة
وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن راى العدو المخذول فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ن ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز ولكن قال تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } آل عمران 151
وبسط هذا يطول والمقصود التنبيه فهذا ما ذكره في الجوهر وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة وقد عرف حالها

كلا الآمدي في الجسم
وقال ويختص بأربعة أوجه :
الوجه الأول : أنه إذا ثبت ان الرب غير متصف بكونه جوهرا امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما لأن الجسم مركب من الجواهر ومفتقر إليها ويلزم من انتفاء ما لا بد منه في كونه جسما أن لا يكون جسما

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه بين الضعف وذلك أنه لو قدر انتفاء كون الشيء جوهرا منفردا لم يلزم أن لا يكون جسما مؤلفا من الجواهر فإن الأجسام جميعها كل منها عنده ليس جوهرا منفردا مع كونها مؤلفة من الجواهر وهو لم يقم دليلا على نفي كونه جوهرا ولا نفى ما يستلزم الجوهر
وهذا كما لو أقام دليلا على أنه ليس بعلم أو قدرة أو كلام أو مشيئة لم يستلزم ذلك أن لا تكون هذه من لوازمه فنفى كون الشيء أمرا من الأمور غير نفي كونه ملزوما لذلك الأمر
وأيضا فيقال : أنت لم تقم دليلا على كون الجواهر متماثلة بل صرحت بأنه لا دليل على ذلك فبطل ما ذكرته في نفي الجوهر
وأيضا فيقال لفظ الجوهر فيه إجمال وله عدة معان أحدها الجوهر الفرد وعلى هذا فالجسم ليس بجوهر وفي كونه مركبا منه نزاع
الوجه الثاني : المتحيز وعلى هذا فالجسم جوهر ومن نفى الجوهر الفرد قال كل جسم جوهر وكل جوهر جسم ومن أثبته قال : الجوهر أعم من الجسم
والوجه الثالث : الجواهر العقلية عند من يثبت جوهرا ليس بمتحيز كالعقول والنفوس والمادة والصور فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون ان الجوهر خمسة أقسام وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون : هذه الأمور التي سميتوها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان
وقد يراد بالجواهر ما هو قائم بنفسه فمن كان الجوهر أعم عنده من الجسم فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص وكذلك من كان الجوهر عنده مرادفا للجسم وأما من كان الجوهر عنده لا يتناول معنى الجسم مثل أن يقدر أنه لا يستعمل لفظ الجوهر إلا في الفرد فهذا لا يلزم من نفي كونه جوهرا نفي كونه جسما إلا بالحجة التي ذكرها وهو ان يقال : الجسم مركب من الجواهر فالحجة لا تستقيم إلا على تقدير ثبوت هذا الاصطلاح مع أني لا أعرفه اصطلاحا لأحد مطلقا ولكن بعض الناس قد يخص به الفرد مع أنه هو وغيره دائما يسمون الجسم جوهرا
ولهذا قال هذا الآمدي وغيره ف ينفي كونه جوهرا : إما أن يكون قابلا للتجزية فيكون جسما مركبا وإما ان لا يكون قابلا للتجزية فيكون في غاية الصغر والحقارة وكثيرا ما يقع في كلامهم لفظ الجوهر متناولا للجسم وكثيرا ما يقع مختصا بالفرد فما ذكره اولا في نفي الجوهر بالمعنى العام فالجسم يدخل فيه فإن صح ما ذكره صح نفي الجسم لكن قد عرف ضعفه
وأما إذا كان المنفي هو الجوهر الفرد فقط فيحتاج ان يقول إن الجسم مركب منه لينفي الجسم لكن هذا فيه نزاع معروف وأكثر الناس على انه ليس بمركب من الجواهر المنفردة وهو الصواب كما قد بسط في موضعه
فمن الناس من يقول : إنه مركب من جواهر متناهية لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه حتى ولا بالوهم ومنهم من يقول : هو مركب من جواهر غير متناهية كذلك ومنهم من يقول هو مركب من الهيولي والصورة لكنه يقبل القسمة إلى غير نهاية ومنهم من يقول ليس بمركب لكنه يقبل التقسيم إلى الجواهر المنفردة التي لا تتجزأ
ومنهم من يقول : بل كل موجود فلا بد أن يتميز منه شيء عن شيء فلا يتصور وجود جوهر لا يتميز منه شيء عن شيء لكن إذا تصغرت الأجزاء استحالت وقد لا تقبل القسمة الفعلية بل إذا قسمت استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تصير هواء فهي وإن كان يتميز منها شيء عن شيء لكن ليس لها من القوة ما يحتمل الانقسام الفعلي بل تستحيل إذا أريد بها ذلك وعلى هذا القول فلا نثبت شيئا لا يتميز منه جانب عن جانب ولا يثبت ما لا نهاية له في ضمن مالا يتناهى ولا انقسام إلى غير نهاية بل كل موجود فإنه يتميز منه شيء عن شيء وهو قد يستحيل قبل وجود الانقسامات التي لا تتناهى فتزول بهذا القول الإشكالات الواردة على غيره مع انه مطابق للواقع فتبين ضعف هذا الوجه

تابع كلام الآمدي الوجه الثاني في نفي الجسمية عن الله تعالى
الوجه الثاني
قال الآمدي أنه قد ثبت ان الرب متصف بالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات فلو كان جسما كالأجسام لزم من اتصافه بهذه الصفات المحال وذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه لو اتصف بهذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من اجزائه متصفا بجميع الصفات وإما ان يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء وإما أن يكون كل جزء مختصا بصفة وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء فإن كان الأول يلزم منه تعدد الآلهة وأما الثاني فهو ممتنع لأنه لا أولوية لبعض تلك الأجزاء بان يكون هو المتصف دون الباقي ولأنه يلزم ان يكون الإله هو ذلك الجزء دون غيره لأن حكم العلة لا يتعدى محلها وإن كان الثالث فل أولولية أيضا وإن كان الرابع فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمعتدد
ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه

الرد عليه من وجه
الأول
قولك : لو اتصف بكل واحدة من هذه الصفات فإما ان يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل كا هو جسم فهو مركب من الأجزاء ؟ فإن هذا مبني على ان الاجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع
وجمهور العقلاء على خلافة وهو لم يثبته هنا بالدليل فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه
وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر منفردة متشابهة عرض لها التركيب او من مادة وصورة وهما جوهران من أفسد الكلام وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذي هو الموصوف

الثاني
أن يقال : القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة كالقدرة والحس ـ بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها فإذا بعضت تبعض ولا يقال إنها قام طعم واحد بجملة التفاحة بل إن قيل : إن التفاحة أجزاء كثيرة قيل : أم بها طعوم كثيرة وإن قيل : هي شيء واحد قيل : قام بها طعم واحد فإن قيل فهذا هو التقدير الأول وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل : ليس كذلك
أما أولا : فلمنع التجزي وأما ثانيا فلأنه لم يقل بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجمع لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إليها فإن الإله سبحانه هو المتصف بأنه بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادرا فضلا عن أن يكون ربا إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحي من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم
فإن قيل : كيف يعقل انقسام القدرة والحياة والعلم ؟
قيل : كما يعقل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة ببدنه من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم
فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علما ولا حياة
قيل : وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا لا قادرا ولا حيا ولا عالما ولا حساسا فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال إنه يد أو عضو أو بدن حي عالم قادر فكيف يقال فيه إنه إله

الثالث
أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الإنسان فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة : إن الاعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة بل نذكر من الاعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسيم الذي ذكروه يرد عليه فإنه إن قيل : إن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وإن كان المتصف بجملتها بعض الأجزاء فلا اولوية وبزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلها
والتقدير أن ظاهر البدن كله حي حساس وإن قيل كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية
وإن قيل : تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد فإذا كان هذا التقسيم واردا على ما يعلم قيام الصفات به لم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة

الرابع
قوله والرابع محال لأنه يلزم منه قيام المتحد بالمتعدد
فيقال : لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمعتدد فإنه فرض قيام علم واحد وقدرة واحدة وحياة واحدة بجملة أجزاء
وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حي إذا قيل : هي حياة واحدة قيل هو حي واحد وإذا قيل الحي أجزاء متعددة قيل : الحياة أجزاء متعددة فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد
وحينئذ فقولهم : أنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما فسروا به الاتحاد في احدهما كان موجودا في الآخر وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجوا في الآخر

الخامس
أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال : قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف بجزء من الصفة
وهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة ولا المتصف بجميعها بعض الجملة ولا كل جزء مختصا بجميع صفته ولا قيام واحد بمتعدد
فإن قال : الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم
قيل : هذه مكابرة للحس والعقل بل انقسامها محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتي الجوهر الفرد قولهم : إن الحركة قائمة بالجسم والزمان مقدار الحركة والزمان فيه الآن الذي لا ينقسم فلا ينقسم قدره من الحركة فلا ينقسم الجزء الذي يحلها فإنما استدلوا على وجود الجزء الذي لا ينقسم إلا بوجود جزء من الحركة لا ينقسم فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع أن هذا معلوم بالحس والعقل
وكذلك المتفلسفة القائلون بان النفس الناطقة ليست جسما :
عمدتهم انه يقوم بها مالا ينقسم ومالا ينقسم إلا بما لا ينقسم فقد اتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم

السادس
أن قوله : إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفا بهذه الصفات
يقال له : إن أردت أنه يتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل فإنه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه على الوجه الذي هي به صفة لجمعية وإن أردت انه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف به بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها ؟
وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد بل والجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفردا فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حيا فضلا عن أن يكون فرسا أو بعيرا ؟ فضلا عن أن يكون أنسانا أو ملكا أو جنبا فضلا عن أن يكون إلها ؟
وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله ؟
فإنهم لا يعلمون شيئا من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فكيف يجب في حق الله إذا قامت به الصفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك ؟

السابع
أن يقال : كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان ان يكون انسانا لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من اجزاء الفرس وسائر الحيوان ان يكون فرسا لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة فلماذا يجب في كل ما كان من الإله ان يكونإلها لقيام الإله بالإله الموصوف كله مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون حكم جزئه حكم كله لقيام الصفة بالجميع وهل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من اعظم عمد النفاة ؟

تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال : في بيان المحال من اتصافه بهذه الصفات هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته او لغيره لا جائز ان يقال بالأول وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته ن للتساوي ف يالحقيقة على ما وقع به الفرض وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته لاه لا يكون إلها

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته ؟
قوله : يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض
قيل : الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام وذلك يقتضي الاشتراك في مسمى الجسمية فلم قلت : إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة فإن هذا مبني على تماثل الأجسام وهو ممنوع وهو باطل
وإن قيل : إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقية بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولا لطائفة معروفة وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب ولكن لا يلزم من فساده أن لا يكون النزاع إلا لفظا فإن المنازع يقول : ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع ولكن شاركها غيره في مسمي الجسمية كما إذا قيل : هو حي وغيره حي شاركه في مسمى الحي وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والموجود والذات والحقيقة فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما وما أخص بأحدهما لم يثبت للآخر
ومعلوم ان مسمى الجسمية إن قيل إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر فلا يقول عاقل : إن الله جسم بهذا التفسير ومن قال : إنه جسم لم يقل : إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز ويقول مع ذلك : إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك
وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين فالمنازع يقول : مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية والموجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره وإذا كان أحد النوعين واجبا بنفسه لم يجب أن يكون كل موصوف قائما بنفسه ولا كل موجود وكذلك لا يكون كل جسم فتبين أن كل ما ذكره مغلطة لأنه قال : إما أن يقال : إنه جسم كالأجسام وإما أن يقال : جسم لا كالأجسام فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول : جسم لا كالأجسام ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام فكان حقيقة قوله : إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع وإما أن لا يقال بذلك فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى ومن قال بالأول فقلوه باطل
ومعلوم أن أحدا من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل : إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر ومعلوم أيضا أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه محدثا لا محدثا ممكنا لا ممكنا قديما لا قديما إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات
وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد ولم ينازعه فيه أحد والقول الذي ادعى أنه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائلة بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه وهو قول من يقول : هو جسم كالأجسام بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يكون مماثلا لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه
والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئا من خصائص المخلوقين وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات لكنه يقول : إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق
لكن هذا القول لم يقرر هنا فبقي كلامه بلا حجة مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين : على إثبات الجوهر الفرد وتماثل الجواهر وكلاهما منوع باطل قد قرر هو انه لا حجة عليه مع أن القول بانه جسم كالأجسام ما علمت أنه قاله أحد ولا نقله أحد عن أحد وهو مع هذا لم يذكر دليلا على نفيه فكيف قد أقام دليلا على نفي قول من يقول : هو جسم لا كالأجسام ؟

تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
الحجة الثالثة : قال : هو أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا فإن كان غير متناه : فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من بعض الجهات دون بعض فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني : يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين : الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني : أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على ما تقدم فيكون الرب معلول الوجود وهو محال وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته أو لأمر خارج فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون مختصا بالشكل والمقدار لذاته ؟ قوله : إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال : إنهم بنوا ذلك على أصلهم : أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة
ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم ؟ فإنهم من أعظم الناس إنكارا لذلك
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عله إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة : منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها
وأيضا فقول القائل إما أن تكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج
يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره ؟
أما الأول فلا يقول عاقل فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأم المشترك فلا يقول عاقل إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر مستلزمة للمعلول الملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص كما أن لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم
ومعلوم انه ليس حيث المشترك يوجد المختص إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف
وفي الجملة فهذا ما لا يتنازع فيه العقلاء فلا يكون اختصاص أحد الجسمين عن الآخر بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام
وحينئذ فيقال : معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة وذلك يمنع تماثل الأجسام لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمختص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره ولأن التقدير أنها متماثلة فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصه أيضا ممتنع لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع وإذا قيل المرجح هو القدرة والمشيئة
قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر وحينئذ فذلك يستلزم تفاصيل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب
وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمه الله في خلقه وأمره وهو مبسوط في غير هذا الموضع ونفاة ذلك غاية ما عندهم انهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به والمستكمل بغيره ناق بنفسه
وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها لا يحتاج في شيء منها إلى غيره وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له كان حقيقة ذلك انه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه
ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين له وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه وهذا المعنى حق
وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته او نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم : إن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها ازليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة فيكون وجود تلك المرادات للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي محض بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة
وأيضا فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة فإنه لو كان مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له
وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه مع أنما ذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي فلو قدر ان أثنين أثبت احدهما موجودا قائما بنفسه لا يتناهى وأثبت الآخر موجودا لا يكون متناهيا ولا غير متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما او كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله
وقد حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهى وهؤلاء نوعان : نوع يقول : هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلون قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا : يلزم أن يخالط اقاذورات والأجسام قالوا : كما أثبتم موجودا لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج فنحن نثبت موجودا هو داخل ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل
ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش
وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه إما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصا من هذا الجنس كما تقول إن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك : هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح قلت هذا شان الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى
وهذا للمعتزلة والفلاسفة ألزم فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون : مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرجح آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا ان يمنعوا كونها تستلزم تخصيص أحد الجانبين بلا مخصص
ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لا بد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود واما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وهذا غير معلوم لنا أو هو باطل لكان قوله أقوى من قولهم
والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى أبطال بعد لا يتناهى أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك وهذا مبسوط في موضعه
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعا وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها ؟ وبعض ما تبطل به هذه الحجة يكون من جهة أهل الحق الذين لم يقولوا باطلا

بطلان حجته من وجوه
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس

الوجه الأول
قوله لو كان جسما لكان له بعد وامتداد فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول هو جسم وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه فلا يشار إلى شيء منه دون شيء فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم و الرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل وأن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك قول من قال إنه فوق العرش وإنه مع ذلك ليس بجسم كما يذكر ذلك عن الأشعري وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول القاضي أبي يعلي وأبي الحسن الزاغوني وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه وهو قول أبي العباس القلانسي وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء
فإذا قال القائل : كونه جسما مع كون غير منقسم أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم مما يعلم فساده بضرورة العقل
فيقال : ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال إنه موجود قائم بنفسه فاعل لجميع العالم وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا حال فيه ولا مباين له لا سيما إذا قيل مع ذلك إنه حي عالم قادر وقيل مع ذلك ليس له حياة ولا علم ولا قدرة أو قيل : هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وأن العلم والحب نفس العالم المحب ونفس الحب هو نفس العلم أو قيل مع ذلك إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع يسمع بصير يبصر متكلم بكلام وقيل مع ذلك إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ولا حال فيها ولا مباين لها وأن إرادته لهذا المراد ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا وأن الكلام معنى واحد بالعين فمعنى آية الكرسي وآية الدين وسائر القرآن والتوراة والإنجيل وسائر ما تكلم به هو شيء واحد فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل فصحة قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم او هو جسم وليس بمنقسم أقرب إلى العقل
وإن قيل بل هذا القول باطل في العقل فيقال تلك أبطل في العقل ومتى بطلت تلك صح هذا
وإذا قيل النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم لا العقل وإلا فالعقل بجوز وجود ما ذكر قيل : والنافي لإمكان هذا هو الوهم وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر وإذا قيل البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم قيل والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا
ومن تأمل هذا وجده من اصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

الوجه الثاني
قوله وإذا كان له بعد وامتداد فإما أن يكون غير متناه وإما أن يكون متناهيا
فيقال من الناس من يقول إنه غير متناه وهؤلاء منهم من يقول جسم ومنهم من يقول غير جسم وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في المقالات وحكاهما غيره أيضا ومن الناس من قال هو متناه من بعض الجهات وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء كما ذكره القاضي أبو يعلى في عيون المسائل فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة منها ما يوجد في في بعض أصحاب أبي حنيفة ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي ومنها مايو جد في بعض أصحاب أحمد ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة
قوله إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى
فيقال له أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك ولم تذكر إلا دليلا هو أضعف من أدلة غيرك فبقيت الدعوى بلا دليل
قوله الثاني انه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها ومداخلة القاذورات
فيقال هؤلاء يقولون لا يلزم منه شيء من ذلك بل هو غير متناه مع كونه جسما أو مع كونه غير جسم ويقولون لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها فإذا قيل لهم هذا ينفيه العقل قالوا نفي العقل لهذا كنفيه وجوده قائما بنفسه فاعلا للعالم وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى كما بسط في موضعه
فإن هؤلاء ادعوا أن قول القائل كل موجودين غما أن يكونا متحايثين أو متباينين أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما أن يكونا متبايني أو متلاصقين ن أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون مشارا إليه وان قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا حال فيه ولا مباين له ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يبعد من شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية هو محال في العقل
قالوا إن هذا الموجب لذلك التقسيم والمحيل لوجود هذا إنما هو الوهم دون العقل وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس وهذا باطل
فقيل لهم فأنتم لم تثبتوا بعد وجود مالا يمكن الإحساس به وحكم الفطرة أولى بديهي والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة كإدراك الشاة عدواة الذئب وصداقة اكبش وهذه أحكام كلية والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم
فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم لكن المقصود هنا أن ذلك العذر إن كان صحيحا فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا فيقولون ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش أو لو كان جسما لكان ممتدا متناهيا أو غير متناه هو من حكم الوهم وهو فرع كونه قابلا لثبوت الامتداد ونفيه أو لثبوت النهاية ونفيها ونحن نقول هو فوق العرش أو هو فوق العرش وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتدا ولا غير ممتد ولا أن يكون متناهيا ولا غير متناه كما قلتم أنتم إنه موجود قائم بنفسه مبدع للعالم مسمى بالأسماء الحسنى وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال هو متناه ولا غير متناه بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال هو حال في العالم ولا خارج عنه فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج فإن ذاته لا تقبل الاتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه
فهذا ونحوه قولكم فغن كان هذا القول صحيحا أمكن من أثبت العلو دون التجسيم أو العلو والتجسيم ونفي ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ونفيتم ما يذكر من لوازمه فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء فإن أمكنكم نفي اللزوم وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك ما قلتموه بطريق الأولي
وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة وان الإثبات أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول

الوجه الثالث
وكذلك يقال في الوجه الثالث فإن لإثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم لا يمكن أن يقال فيه هو متناه ولا أن يقال غير متناه
وكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها
قوله فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء فيكون الرب معلولا لغيره
يقال ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا فالكلابية والأشعرية يقولون الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات فإنهم وغن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تناهي بل لا بد إن تكون صفاته متناهية فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد ولصفات معينة دون غيرها من الصفات بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات وبإرادة شيء دون غيره من المرادات مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة
وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص بل بمحض الإرادة ن وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها لا لأمر آخر
فإذا قيل الذات اقتضت تناهيا من جانب دون جانب أو قدرا مخصوصا لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر فالحوادث عندهم لا تناهي من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر
والمعتزلة يقولون إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين والكلام المعين والفعل المعين دون غيره من الأوامر والكلام والفعل وهي المخصصة للإرادة أو لكونه مريدا دون غير تلك الإرادة أو غير تلك المريدية
والفلاسفة يقولون إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير وأنه علة تامة موجبة للمعلول مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص لا بحقيقة دون حقيقة ولا بصفة دون صفة ولا لحادث دون حادث ولا لتأخير ما يتأخر
والعالم يشهد فيه من الحقائق والحوادث الحادثة ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص وهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه فضلا عن إن يكون مقتضبا لتخصيص حقيقة دون حقيقة ن وصفة دون صفة والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسدا فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات
وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة لرؤية والنفاة فرق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي نقيض قولهم وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم

الوجه الرابع
قوله إذا كان متناهيا من جميع الجهات فاختصاصه بالشكل والمقدار إن كان لذاته لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة
فيقال له لا نسلم اشتراك جميع الأجسام في ذلك ولا نسلم أن االأجسام متحدة في الطبيعة وقد عرف أن النزاع في هذه المسألة من النظار من أشهر الأمور وهذا المصنف نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج القائلين بالاتحاد في الطبيعة كان قد أفسد حجته بما ذكره هو من الأدلة العقلية على فسادها فضلا عما يذكره غيره من العقلاء وقد بسط هذا في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كل مقدمة في هذه الحجة يمكن منعها ويكون قول المانع فيها أقوى من قول المحتج

تابع كلام الأمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال أنه لو كان جسما لكان مركبا ممن الأجزاء وهو محال لوجهين الأول أنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه وما افتقر إلى غيره كان ممكنا لا واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوه
بطلان هذا من وجوه
الأول
أن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم إنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزاء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال إنه ليس بمركب وإن كان بناء على أن كل جسم مركب فهذا ممنوع
وإن قيل لا نعني بالأجزاء أجزاء كانت موجودة بدونه وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شيء عن شيء
قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءا غير مفتقر إليه إذ هو لا بد منه في وجود الجملة وليس موجودا دونها فالجملة لا تستغني عنه وهو أيضا لا يستغني عنها فتكون الحجة باطلة

الثاني
أن يقال ما تعني بقولك إنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء
أتعني انه يكون مفعولا للجزء أو معلولا لعلة فاعلة أو تعني انه يكون وجوده مشروطا بوجود الجزء بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلا فإنه من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شيء من أجزائها فاعلا لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شيء من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلا له ولا علة فاعلة له كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام فإنه لا يعلم ثبوتها في شيء من الجزئيات المشهودة فضلا عن أن تكون كلية
وإن قيل نعني بالافتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا
قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلا أو علة فاعلة إذ قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزما للوازم لا يكون موجودا إلا بها فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت

الثالث
ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفا فهو يقول إن ذاته مستلزمة للممكنات المنفصلة عنه فكيف يمتنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له أو لما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضا يسلم أن ذاته تستلزم كونه واجبا وموجودا
وعاقلا ومعقولا وعقلا ولذيذا وملتذا به ن ومحبا لذاته ومحبوبا لها وأمثال ذلك من المعاني المتعددة
فإذا قيل هذه كلها شيء واحد
قيل : هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق
وإن كان من المعتزلة وامثالهم فهم يسلمون ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمي افتقارا أو يسم وسواء قيل إن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل

الرابع
أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعنى بالمركب تلك الأجزاء أو تعني به اجتماعها آو الأمرين أو شيئا رابعا فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب وان الشيء مفتقر إلى نفسه وان الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسه
ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه لا مانع لكونه واجبا بنفسه
وإن قيل إن المركب هو الاجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتكبها
قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل إنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء وغايته أن تكون بعض الأجزاء مفتقرة إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه
وإن قيل إن المركب هو المجموع أي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءا من الأجزاء
وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته انه مفتقر إلى نفسه أي لا يستغني عن نفسه وهذا حقيقة وجوبه بنفسه لا مناف لوجوبه بنفسه وإن عنيت به شيئا رابع فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره
ثم هذا الكلام عليه وإن قال بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء
قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقار إلى سائر الأجزاء وذلك الجزء وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد الأمر إلى انه مفتقر إلى نفسه
فإن قيل فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزأ إلى آخره
قيل أولا ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر آو علة فاعلة له فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلا له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه لم يكن كل مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن في بعض أجزائه علة فاعلة للجزء الآخر ؟
وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر فهذا غنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطا بالآخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع
وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا ؟
قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا ؟ فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر فليس فيها ما هو مستقل فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غنى عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل مستلزما للوازم
فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده والواجب هو الذي يكون بنفسه لا بموجد يوجده فكونه بنفسه مستلزما للوازم لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للأخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزءا فهو ملازم للآخر
وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب
قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وغن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه أجزاء له فلم قلتم إنه كان كل من هذه واجبا بنفسه ن أي هو موجود بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود الآخر يكون ممتنعا ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعا ؟
وهذا كما تقوله المعتزلة إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم
فيقال لهم إن قلتم إن ذلك بتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل
وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإلهة القديم
فلم قلتم إن هذا محال ؟
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات

الخامس
أن يقال قولك إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ليس فيه ما يدل على افتقار المركب إلى أجزائه فإن كونه يستحيل وجوده دون الأجزاء يقتضي أنه لا يوجد بدونها بل لا يوجد إلا وهي موجودة
وكون الشيء لا يوجد إلا مع الشيء لا يقتضي افتقاره إليه بل إنما يكون مفتقرا إليه إذا كان لا يوجد إلا به ألا ترى أن المتضايفين لا يوجد أحدهما دون الآخر ولا يقال إن أحدهما مفتقر إلى الآخر كالنبوة والأبوة بل كلاهما معلول علة منفصلة فمعلولا العلة لا يوجد أحدهما دون الآخر وهما جميعا مفتقران إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر انه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر أنه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى الآخر ولا إلى علة

السادس
أن يقال قولك وكل منهما غير مفتقر إليه خطأ ظاهر فإنه ليس من ضرورة كون المركب متوقفا على كل من أجزائه أن لا يكون شيء من تلك الجزاء متوقفا عليه وذلك أن المركب إن أريد به نفس الجزاء المجتمعة كان المعنى أن المجتمع متوقف على أو أن كل جزء متوقف على سائر الأجزاء أو على جزء آخر أو المجتمع على نفسه وأي شيء فرض من ذلك لم يلزم أن يكون أحد الجزأين هو المفتقر دون الآخر وإن قدر أن المركب هو الاجتماع أو الاجتماع مع الأجزاء فإنه إذا قدر أنها متلازمة لم يكن أحد الأجزاء واجبا بنفسه بمعنى إمكان وجوده دون سائر الأجزاء لا الاجتماع ولا غيره بل لا يوجد شيء منها إلا بالآخر فلا يكون شيء من الأجزاء غير مفتقر إلى المركب بل كل منها مفتقر إليه
وهذا لا يقاس بالواحد مع العشرة الذي يمكن وجوده دون وجود العشر فإن أجزاء العشرة ليست متلازمة وغنما الكلام في أمور متلازمة لا يمكن وجود بعضها دون بعض كالصفات اللازمة للرب تعالى
وما سماه النفاة أجزاء فإنه لا يمكن وجود صفة من تلك الصفات دون الذات بل ولا دون الصفة الأخرى وكذلك ما سموه جزءا لا يمكن وجوده دون الجميع ولا دون جزءا آخر فامتنع أن يقال إن كل جزء من الأجزاء غير مفتقر إلى المجموع المركب مع أن المجموع المركب مفتقر إليه بل إذا سمي هذا التلازم افتقارا فافتقار الصفة وما سموه جزءا إلى المجموع اعظم من افتقار الذات الواجبة بنفسها أو ما سموه المجموع المركب الواجب بنفسه إلى الصفة أو الجزء فإن المجموع هو الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم أصلا وكل جزء من أجزائه فلا يتصور وجوده بدون وجود الآخر وهذا كما يقولون إن الحيوانية والناطقية جزء من الإنسانية ومع هذا يمتنع وجود الجزء دون هذه الماهية المركبة وكذلك يقولون إن الجسم مركب من المادة والصورة ويمتنع وجود أحدهما بدون الجسم بل والجوهر الفرد عند عامة القائلين به يمتنع وجوده بدون وجود الجسم

السابع
أن يقال قولك إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه كلام باطل وهو بالعكس أولى
وذلك أن ما قدر انه جزء إذا كان مفتقر إليه لزم أن يكون واجبا بنفسه وإذا كان واجبا بنفسه فإما أن يكون مستقلا لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة أو لا بد له من ذلك فإن كان مستقلا بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة التي يستغني بعضها عن بعض ولا يتوقف واحد منها على الآخر ولا على الجملة
ومعلوم أنه إذ كان هذا جائزا لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه والمجموع واجب بتلك الواجبات فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلا لأصل هذا الكلام فضلا عن فروعه
ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزما لثبوت التركيب فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله
وإن قدر أن للمجموع غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجبا ويبقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد غنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه لزم أن تكون العشرة واجبة قطعا وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى
وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه إذا قدر ذلك لا يوجب ضعفا لأحدهما بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعا فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة
ومن العجب أن هؤلاء القوم كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة ابن سينا الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه يوردون في طريق إثبات واجب الوجود أسولة تفسد ما ذكروه في انتفاء التركيب بالضرورة وهي لا تفسد امتناع التسلسل وهو مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالا على إبطال القول بالتسلسل الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته حتى يبقوا دائما في نصرة التعطيل بالباطل وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل
وبيان ذلك أنهم لما أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفا على إبطال التسلسل لما قالوا إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزا كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع
ومن أعظم أسولتهم قولهم لم لا يكون المجموع واجبا بأجزائه المتسلسلة وكل منها واجب بالآخر وهذا السؤال ذكره الآمدي وذكر انه لا يستطيع أن يجيب عنه ومضمونه وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر والمجموع معلول بالأجزاء
ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعا واجبا بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم كان أولى في العقل من مجموع يجب بأجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان أما الذي يكون وجوده لازما للواجبات فلا يمكن عدمه
والعقل الصريح الذي لم بكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضا ممكن لا وجود له وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه فإنه لا يمتنع كونه واجبا بنفسه أي بتلك الأجزاء التي منها واجب
وإذا قيل الإجتماع نفسه مفتقر إلى الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه كان ذلك نزاعا لفظيا
والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن ن والمجموع واجب بها وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية فقالوا إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب الوجود وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل مع تصديق ما جاءت به الرسل وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجودا إلا بها فكان بمكنهم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب أو المركب الواجب أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم ؟
وكان هذا خيرا من أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه أو واجبا بأجزائه ؟
وهذا الآمدي مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفه بالكلام والفلسفة اضطرب وعجز عن الجواب عن الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود هو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل ويقول إن ذلك يستلزم التجسيم وأن المخالفين في الجسم جهال
ولو أعطى النظر حقه لعلم أن الجهل المركب فضلا عن البسيط أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق فإن من شك في أوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه كان أولى بالجهل ممن قال بما قات به الأنبياء وارسل وأتباعهم وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية
وذلك أنه لم يجوز أحد من بني آدم وجود فاعل للعالم ولذلك الفاعل فاعلة إلى ما لا نهاية له من غير أن يكون هناك فاعل موجود بنفسه فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة كان جهلة بينا وكان أجهل من افحش الناس قولا بالباطل المحض من التشبيه والتجسيم حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقضة لله من اليهود وغيرهم مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن وعض اليد حتى جرى الدم ورمد العين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص لم يكن هذا أبعد في العقل من وجود فاعل ليس موجودا بنفسه له فاعل ليس موجودا بنفسه إلى ما لا يتناهى فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية فكيف عدم ما يقدر فاعلا للعالم ؟
فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المريل وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا عن التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة

كلام الأمدي في مسألة هل وجوده تعالى زائد على ذاته أم لا ؟ والتعليق عليه
ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة هل وجوده زائد على ذاته أم لا ذكر حجة من قال لا يزيد وجوده على ذاته فقال احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل إما أن يكون واجبا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لم كان واجبا فلم يبق إلا أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فلا بد له من مؤثر والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها والأول ممتنع لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها فالوجود مفتقر إلى نفسه وهو محال وإن كان المؤثر غيرها كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره فلا يكون الوجود واجبا بنفسه
ثم قال وهذه الحجة ضعيفة إذ لقائل أن يقول ما لا مانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه قولكم لأنه مفتقر إلى الماهية والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه قلنا لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقر إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقوله الفيلسوف في العقل الفعال بانه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
قال وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر بل الممكن هو المفتقر إلى الغير والافتقار إلى الغير أعم من الافتقار إلى المؤثر وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة
فيقال ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير وإن كونه ممكنا بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية
وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن
فيقال له : لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا بنفسه وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها
ويقال : قولك إن المجموع يكون ممكنا اتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر أم ما يفتقر إلى الغير ؟
فإن قلت الأول كان باطلا وإن قلت الثاني فلم إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا بمعنى انه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل ؟
فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والاحرى فإن توقف المجموع الواجب باجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه التي هي المجموع مع الأجزاء اما توقف الوجود على الماهية المغايرة له فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه
ومعلوم ان افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزاه بل الأول لا ينفي كمال وجوبه إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا
ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا : إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجود في الخارج وأن وجود واجب الوجود زائدا على ماهيته وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم حتى من أصحاب الأئمة الأربعة احمد وغيره كأبن الزاغواني وهو احد قولي الرازي بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه وكذلك أبو حامد
فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك وأدنى الأحوال ان يكون مثله فإن من قال : إن الوجود زائد على الماهية لزمه ان يجعل الماهية قابلة للوجود والوجود صفة لها فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره والصفة مفتقرة إلى محلها وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة من افتقاره إلى صفته اللازمة له وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه ؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فإدل على إمكان الصفة بنفسها فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع ان يكون صفة لماهية فكيف يمتنع أن يكون مجموعا ؟
وغاية ما يقال : إن الاجماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة ومعلوم أن صفة الأجزاء الواجبة بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجودا
فهذا الذي ذكره هناك حجة عليه هنا مع انه يمكن تقريره بخير مما قرره فإنه قد يقال : إن هذا تقرير ضعيف
وذلك أنه قال : لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع ان يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
فقد يقال إن هذا التقدير ضعيف لوجوه
الوجه الأول : أن الكلام فيما هو واجب بنفسه لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له وإذا قدر ان الموجب الفاعل يقف على غيره لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره
الوجه الثاني : أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره وإنما يقف تأثيره ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال فإن أحدا لا يقول : إن نفسه تتوقف على غيره الذي يقف عليه تأثيره فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب
بل هم يقولون : إن نفس إيجابه يتوقف على غيره بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل
الوجه الثالث : ان هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره ولا فعله على غيره فإن القوابل هي أيضا من فعله فالكلام في فعله للمقبول لها كالكلام في فعله للقابل فكل ما سواه فقير إليه مفعول له وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه بخلاف الفاعل المخلوق الذي يتوقف فعله على قابل فإنه فعل مفتقر إلى شيء منفصل عنه لكن يمكن ان يجاب عنه بان يقال : إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجبا بنفسه كما قالوا في العقل الفعال فإن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع ان يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى فإن الموجب لغيره واجب وزيادة إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب
والعقل الفعال يقولون : هو واجب بغيره وهو موجب بغيره لا واجب بنفسه ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات لا يمنع توقف ذلك على غيره وإنما يمنع كونه مفعولا للغير
وتلخيص الكلام : أنه إذا قيل : إن الوجود زائد على الماهية كانت الماهية محلا للوجود الواجب فيكون الواجب لنفسه مفتقرا إلى قابل لا إلى فاعل
فنقول : الواجب هو الذي لا يكون مفتقرا إلى فاعل ليس هو الذي لا يكون مفتقرا إلى قابل فإن الذي قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة
أما كون الوجود الواجب له محل هو موصوف به أم لا ؟ فذاك كلام آخر لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله فكذلك الواجوب بالذات لا ينفي أن يكون له محل يقبله واستشهد بالعقل الفعال لكنهم يقولون العقل الفعال ليس بموجب بالذات واما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله
فتبين ان الاستشهاد بهذا لا يصح وليس التمثيل به مطابقا
والمقصود هنا أن الذي يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر واحتجوا به في موضع آخر وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه
وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على إبطال التركيب فإنه قال :

كلام الأمدي عن إبطال التركيب
الوجه الثاني في امتناع كونه مركبا من الأجزاء أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها أو ممكنة أو البعض واجبا والبعض ممكنا لا جائز أن يقال بالأول على ما سيأتي تحقيقه في إثبات الوحدانية وإن كان الثاني أو الثالث فلا يخفي أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته ومالا يكون واجبا لذاته لا يكون إلها

رد ابن تيمية عليه من وجوه
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الوجه أيضا فاسد من وجوه :
الوجه الأول
أن يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة
قوله : على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد
يقال له : الذي ذكرته فيما بعد مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لأبن سينا وأتباعه من الفلاسفة وهي وجهان :
الوجه الأول : مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه وهذا هو الوجه الأول الذي ذكرته هنا فصار مدار هذا الوجه الثاني على الأول فلم يذكر إلا الأول وقد نبين فساده
الوجه الثاني : الذي ذكرته في التوحيد : مبناه على كون الوجوب يصير معلولا وهذا هو الذي ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية لئلا يكون معلولا للماهية وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبما أفسدته به يفسد الآخر أيضا
فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد وأنت قد قدمت فساده فالحوالة على ما سيأتي وما سيأتي منه ما هو مكرر فكلاهما فاسد
وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة حتى أنه لما استدلت الفلاسفة أتباع ابن سينا وغيرهم على أن الأجسام ممكنة بهذه الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال قد احتج الأصحاب بمسالك : الأول قولهم : العالم ممكن الوجود بذاته وكل ممكن بذاته فهو محدث
وقرر الإمكان بأن قال أجسام العالم مؤلفة ومركبة لما سبق بيانه في الأجسام وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته فالأجسام ممكنة لذواتها والأعراض قائمة بالإجسام ومفتقرة إليها والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا
ثم ضعف هذا المسلك : قال وقولهم : إن العالم مركب مسلم ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة ؟ وما ذكروه من الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها وأحال على ما ذكره في الوحدانية فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة ويحيل على ما ذكره في التوحيد
ومعلوم انه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك لكان مع ما فيه من التناقض أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء

الوجه الثاني
أن يقال : أنت أيضا قد بينت في الكلام على إثبات وحدانية الله تعالى فساد هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وغيره من الفلاسفة التي أحلت عليها هنا وذلك أنه قال الفصل الثاني في امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة : المسلك الأول : وهو ما ذكره الفلاسفة وذلك أنهم قالوا : لو قدر وجود واجبين كل واحد منهما واجب لذاته فلا يخلو : إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو باختلافهما من كل وجه أو باتفاقهما من وجه دون وجه فغن كان الأول فلا تعدد في مسمى واجب الوجود إذ التعدد والتغاير دون مميز محال وإن كان الثاني فما اشتركا في وجوب الوجود وإن كان الثالث فما به الاشتراك غير ما به الأفتراق وما به الاشتراك إن لم يكن هو وجوب الوجود فليسا بواجبين بل أحدهما دون الآخر وإن كان الاشترك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود : إما أن يتم تحققه في كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق أو لا يتم دونه فغن كان الأول فهو محال وإلا كان المعنى المشترك المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وهو محال وإن كان الثاني وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به وهو ما قيل بوجوب وجوده أولى أن يكون ممكنا الوجه الثاني : أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركبا من أمرين وهو وجوب الوجود المشترك وما به الافتراق فيكون مفتقرا في وجوده إلى كل واحد من مفردية وكل واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما ولهذا يتصور تعقل كل أحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها والمعلوم غير المجهول وكل ما كان مفتقرا إلى غيره في وجوده إلى غيره ممكنا لا واجبا لذاته إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته إلا ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته فيكون محالا
قال : وربما استروح بعض الأصحاب في إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه والافتراق من وجه وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود ولكن لم قلتم بالامتناع ؟ وما ذكرتموه في الوجه الأول إنما يلزم ان لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجوديا وأما بتقدير أن يكون امرا سلبيا ومعنى عدميا وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا
ثم بسط الكلام في كونه عدميا بما ليس هذا موضع الكلام فيه

تابع كلام الآمدي
قال وعلى هذا فقد بطل القول بالوجه الثاني فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب فلا يوجب ذلك التركيب من ذات واجب الوجود وإلا لما وجد بسيط أصلا فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه وإن سلمنا أن وجوب الوجود أمر وجودي ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم وإن كان واجب الوجود واحدا من حيث ان مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ومن الوةجوب الذاتي فما هو العذر عنه مع اتحاد الوجود فهو العذر مع تعدده

تعليق ابن تيمية
قلت : الوجه الأول ذكره الرازي قبله في إبطال هذا والوجه الثاني ذكره الرازي كما ذكره الشهرستاني قبله وهو أن هذا منقوض بمشاركة واجب الوجود لسائر الموجودات في مسمى الوجود وامتيازه عنها بوجوب الوجود فقد صار فيه على أصلكم ما به الاشتراك وما به الامتياز
والآمدي يقول : إن وجوب الوجود بالاشتراك اللفظي وقاله قبله الشهرستاني و الرازي وأتباعه في ذلك يبين بطلان ما أحال عليه في قوله لا يجوز أن تكون الأجزاء كلها واجبة على ما سيأتي تحقيقه في مسألة التوحيد
ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق وتقويتها إذا نصر بها باطل : أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد والمدلول حق لا ريب فيه وإن قدر ضعف الحجة ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد
وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فإن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والآحرى
واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة : أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا والثاني المعارضة : أما المعارضة فوارده على هؤلاء الفلاسفة لا مندوحة لهم عنها ومعارضة الشهرستاني و الرازي وأظن الغزالي أجود من معارضة الآمدي ومن اعتذر عن ذلك بان الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر
فبكل حال يلزم : إما لزوم التركيب وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب وهذا يبطل امتناع التركيب
ولا ريب أن أصل كلامهم بل وكلام نفاة العلو والصفات مبنى على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج وأبطلوا واجب الوجود في الخارج
ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء : فنقول : قول القائل إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو اختلافهما من كل وجه أواتفاقهما من وجه دون وجه إن أريد به انهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ولكن يشتبهان من بعض الجوه مع أن كلا منها مختص بما قام به نفسه كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين مع أنه ليس في أحدهما شيء مما في الآخر وغن أراد بقوله أو اختلافهما من كل وجه أنهما لا يشتبهان في شيء ما ولا يشتركان في شيء ما فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما ولو انه مسمى الوجود وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من كل وجه وإن كانا مشتركين في أشياء بمعنى اشتباهما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار
وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول هم مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص كالموجودين والحيوانين والإنسانين والسوادين اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه وإنما اشتركا في مطلق الوجود
والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كليا لا في هذا ولا في هذا بل هو كلي في الأذهان مختص في الأعيان وإذا قيل : الكلي الطبيعي موجود فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد ف بالخارج لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كليا كما يقال العام موجود في الخارج ن وهو لا يوجد عاما
وقوله : غما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه
قلنا : إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه فقد يقال : ليسا مختلفين من كل وجه وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه
وقوله : إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الأمتياز فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد
والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر بل لا بد أن يكون غيره
وحينئذ فقوله : ما به الاشتراك غير ما به الامتياز
قلنا : لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجا أشتراكهما فيه إلى الامتياز بل هما ممتازان بأنفسهما وإنما تشابها أو تماثلا في شيء والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما بل كل منهما ممتاز عن الأخر بنفسه
وقوله : ما به الاشتراك : إما وجوب الوجود أو غيره
قلنا : كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك والامتياز بوجوب الوجود المختص والاشتراك أيضا في كل مشترك والامتياز بكل مختص
وقوله : إن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : أن المشترك غما أن يتم بدون ما به الافتراق وذلك محال وإلا كان المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره
قلنا : أن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال : إنه يلزم أن يكون المطلق في الأعيان من غير مخصص وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي فذاك لا اشتراك فيه الأعيان فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه لا يفتقر إلى مخصص فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفتقرا إلى مخصص وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا وأما المشترك الكلي المطلق من الوجوب فذاك ليس موجودا لهذا ولا لهذا ولا متحققا في الأعيان وحينئذ فلا يلزم أن الكلي يتحقق في الأعيان بلا مخصص
وأيضا فيقال : هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص فهذا لا يمنع وجوب وجوده إذا الواجب هو مالا فاعل له ليس هو مالا لازم ولا ملزوم له
وهذا الآمدي ذكر هذا فيما تقدم وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل وإنما يمتنع توقفه على الفاعل
وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابهه بهذا الآخر وهو الوجوب واتصاف الموصوف بصفة يشابهه بها غيره من وجه وأمر يختص به إنما يوجب ثبوت معان تقوم به وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني وهذا لا ينافي وجوب الوجود بل لا يتم وجوب الوجود إلا به ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع كما تقدم بيانه
فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين وبطلان الوجه الثاني من وجهين غير ما ذكروه والله اعلم
والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشارته وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم وعلى من أتبعهم كالرازي والسهرورودي والطوسي وغيرهم
وقد ذكرنا عنه هناك جوابين :
الأول : أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم والخصوص ففرضوا بعضها مختصا وبعضها عاما بمجرد التحكم كالوجود والثبوت والحقيقة والماهية ونحو ذلك
فإذا قيل : الواجب والممكن كل منهما يشارك الآخر في الوجود ويفارقه بحقيقته أو ماهيته
قيل لهم : معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما وكل منهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما يمتاز عنه بحقيقته التي تختص به فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصا باولى من العكس
وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهمما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة فما قلتم به الامتياز متلازم وما قلتم به الاشتراك متلازم ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز ولا ما جعلتم به الامتياز إلى به الاشتراك بل كل منها موصوف بما به الامتياز وهو ما يخصه وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه فذلك القدر المشترك الذي لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك
فإذا قيل هذا لون وهذا لون كانت لونية كل منهما مختصة به واللونية العامة مشتركة بينهما
وكذلك إذا قيل : هذا حيوان وهذا حيوان وهذا إنسان وهذا إنسان وهذا أسود وهذا أسود وأمثاله ذلك فليس شيء من الموجودات في الخارج مركبا من نفس ما ب الاشتراك وما به الامتياز بل هو مختص بوصف وذلك الوصف يشابه غيره لكن هو مشتمل على صفات بعضها اعم عن بعض أي بعضها يوجد نظيره في غيره أكثر مما يوجد نظير الآخر وأما هو نفسه فلا يوجد في غيره
وأما الجواب الثاني : فلا ريب أن كلا منهما فيه وجوب وفيه معنى آخر غير الوجوب بل نفس الواجب الواحد فيه الوجوب وفيه ذاته وهذا هو النقض الذي عارضهم به الآمدي
لكن قول القائل : وجوب الوجود حينئذ يكون ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به أولى أن يكون ممكنا كلام مجمل
فإنه يقال : ما تعني بكون الوجوب مفتقرا إلى غيره : أتعني به انه مفتقر إلى مؤثر أم مستلزم لغيره ؟
فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا يحتاج الوجوب سواء فرض مختصا أو مشتركا إلى فاعل ولكن لا بد له من محل يتصف به فإن الوجوب لا يكون إلا لواجب وافتقار الوجوب إلى محله الموصوف به لا يمنع المحل أن يكون واجبا بل ذلك يستلزم كونه واجبا
وقول القائل : إن الوجوب يكون ممكنا إن أراد به افتقار \ ه إلى محل فهذا حق لكن هذا لا يستلزم كونه مفتقرا إلى فاعل ولا كون المحل مفتقرا إلى فاعل
فقوله وإن كان الثاني كان الوجوب ممكنا فالموصوف به أولى مغلطة فإن الإمكان الذي يوصف به الوجوب إنما هو افتقاره إلى محل لا إلى فاعل ومعلوم أنه إذا كانت صفة الموصوف تفتقر إليه لكونه محلا لها لا فاعلا لم يلزم أن يكون الموصوف أولى بان يكون محلا ولو قدر أن الوجوب يفتقر إلى مميز غير المحل فهو من افتقار الشرط إلى المشروط واللازم إلى الملازم ليس هو من باب افتقار المعلول إلى العلة الفاعلة
ومثل هذا لا يمتنع على وجوب الوجود بل لا بد لوجوب الوجود من تلك إذ وجوب الوجود ليس هو الواجب الوجود بل هو صفة له مع أن الواجب الوجود له لوازم وملزومات وذلك لا يوجب افتقاره إلى المؤثر فالوجوب أولى أن لا يفتقر إلى مؤثر لأجل ما له من اللوازم والملزومات فهذان وجهان غير ما ذكره هو وأمثاله هنا
الوجه الرابع : أن يقال : لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا ؟
قوله الموقوف على الممكن أولى بالإمكان
قيل : متى إذ كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس وهذا كما أن مجموع الوجود : بعضه واجب لنفسه وبعضه ممكن والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة
وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع أحدها في الذات مع الصفات
فإذا قيل له : الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء فغما أن تكون واجبة كلها أو بعضها واجب وبعضها ممكن أمكنه أن يقول : الذات الجبة والصفات ممكنة بنفسها وهي واجبة بالذات كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس
فإذا قيل : المجموع متوقف على الممكن
قال : إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه
وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل والصفات لا بد لها من محل وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب وهو الذات
وقولهم : إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا من أفسد الكلام كما قد بسط في موضعه فيقول هؤلاء الذات موجبة للصفات ومحل لها والذات واجبة بنفسها والصفات واجبة بها والمجموع واجب وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ولا اجتماع المجموع
وأيضا فيقوله من يقول : إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئة وقدرته فإن تلم أيضا ممكنة بنفسها وقد تدخل في مسمى أسمائه
ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره
وإذا قيل : المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج
قيل : هب أن الأمر كذلك لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه وحاصلة أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها
وإذا قيل فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم
قيل : هذا نزاع لفظي فإن الممكنات لا بد لها من فاعل عن الفاعل والدليل دل على هذا وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا وغن سمى الملزوم واجبا بنفسه واللازم واجبا بغيره كما قاله من قاله في الذات والصفات
فيقول المنازع له فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا قد تبين انه لا دلالة في شيء منها بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب
وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير محل الآخر يلزم التركيب وقد أبطلناه في إبطال التجسيم
ثم قال الوجه الثاني انه قال ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس
ولقائل أن يقول هذا الوجه في غاية الضعف وذلك انه إذا كانت الحروف مقدورة له حادثة بمشيئته كما ذكرته عن منازعيك فتخصيص كل منها بمحله كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة
وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة وإما إلى حكمة جلية أو خفية وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص على قولين مشهورين وأما اختصاصها بمحالها في حق الأدميين بسبب يقتضي الاختصاص فهذا لا نزاع فيه فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى
واما قوله إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين وان القائلين باجتماع ذلك إن كان قولهم فاسدا فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة وأنها شيء واحد وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا
وأما قوله وغن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه فكلام صحيح ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث وهذا اللازم فيه نزاع معروف وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم
فمن قال إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه لم يكن مناقضا
والذين قالوا منهم إنه لا يجوز عروه عما اتصف به عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يكن ذلك إلا بحدوث ضد ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث فيلزم تسلسل الحوادث بذاته وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل

عود إلى كلام الآمدي في الرد على الكرامية : السابع
قال الآمدي في تناقض الكرامية أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ومنعوا ذلك في العلم والقدرة ولو سئلوا عن الفرق لكان متعذرا

تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول إن كانوا هم فرقوا فغيرهم لم يفرق بل جوز تجدد علوم وقدر وحينئذ فهم في الفرق على ما اعتمدت عليه المعتزلة في الفرق بين كونه عالما قادرا وبين كونه متكلما مريدا حيث قالوا العلم والقدرة عام في كل معلوم ومقدور فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وإلإرادة والكلام ليسا عامين في كل مراد ومقول بل لا يقول إلا الصدق ولا يأمر إلا بالخير ولا يريد إلا ما وجد ولا يريد إرادة محبة إلا لما أمر
فهذا مما احتجوا به على حدوث كونه مريدا متكلما دون كونه عالما قادرا قالوا لأن الاختصاص يتعلق بالمحدثات بخلاف العموم فإنه يكون للقديم

فصل
ومما يبين الأمر في ذلك وان الأدلة التي يحتج بها هؤلاء على نفي لوازم علو الله على خلقه هم يقدحون فيها ويبينون فسادها في موضع آخر أن عامة هذه الحجج التي احتج بها الآمدي وغيره على نفي كونه جسما هم أنفسهم أبطلوها في موضع آخر

تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي وذلك انه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها ن واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض وان العرض لا يبقى زمانين فتكون الأعراض حادثة ويمتنع حدوث ما لا نهاية له وما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول فله أول وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك المشهور للأشعرية وعليه اعتماده
والرازي وامثاله لم يعتمدوا على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء وقالوا إن قائليها للحس ولضرورة العقل فرأي أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف
والآمدي قدح في الطرق التي اعتمد عليها الرازي كلها والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حجج نفسه التي احتج بها على نفي كونه جسما ونفي قيام الحوادث به وقد تقدم ان حججه المبنية على تماثل الجواهر والأجسام قد قدح فيها وبين أنه لا دليل لمن أثبت ذلك وحجته المبنية على التركيب قد قدح هو فيها في غير موضع كما ذكر بعضه
وأما حجته المبنية على نفي المقدار والشكل وانه لا بد له من مخصص وكل ما له مخصص فهو محدث فإنه قال المقدمة الأولى وغن كانت مسلمة غير أن الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق في في المسلك الأول
قال وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات المتعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه فقد ذكر هنا وغن كان لا بد للمختص من مخصص فلا يلزم أن يكون حادثا بل جاز ان يكون قديما في ذاته وصفاته أو قديما في الذات مع تعاقب الصفات المحدثة من المقادير وغيرها عليه إلا إذا قيل ببطلان حوادث لا تتناهى
وحينئذ فيقال القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره فإن كان واجبا بنفسه بطلت حجته وغن كان واجبا بغيره لزم من كون المعلول مختصا أن تكون علته مختصة أيضا وإلا فبتقدير أن تكون العلة الموجبة وجودا مطلقا لا تختص بشيء من الأشياء كما يقوله من يقول هو وجود مطلق تكون نسبته إلى جميع أجناس الموجودات ومقاديرها وصفاتها نسبة واحدة وحينئذ فلا يخص مقدارا دون مقدار بالاقتضاء والإيجاب إلا أن يقال لا يمكن غير ذلك المقدار وإذا قيل ذلك لزم أن يكون من المقادير ما هو واجب لا يمكن غيره فإذا قيل هذا في الممكن ففي الواجب بنفسه أولى فإن تطرق الجواز إلى الممكن بنفسه أولى من تطرقه إلى الواجب بنفسه فإذا قدر في الممكن مقدار لا يمكن وجود ما هو أكبر منه فتقدير ذلك في الواجب بنفسه أولى
ونكته الجواب أن الموجب الذي يسمونه علة إن كان له مقدار بطل أصل قولهم وإن لم يكن له مقدار فإما أن تكون جميع المقادير ممكنة بالنسبة إليه وإما أن لا يكون كذلك فإن كان الأول لم يخص بعضها دون بعض بلا مخصص لما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وإن لم يمكن إلا بعضها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة فحينئذ لزم أم يكون من المقادير ما هو ممتنع لنفسه ن بل منها ما هو متعين لا يمكن وجود غيره
وإذا جاز أن يمتنع بعضها لنفسه فوجوب بعضها لنفسه أولى وأحرى وإذا جاز أن يتعين ممكن من المقادير دون غيره لنفسه فتعين مقدار واجب لنفسه أولى وأحرى
وهذا كلام لا محيص لهم عنه فإن العالم إن كان واجبا بنفسه فقد ثبت أن الواجب بنفسه يختص بمقدار وإن كان ممكنا فوجد ما هو أكبر منه أو أصغر إما أن يكون في نفسه ممكنا وغما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا ثبت امتناع بعض المقادير لنفسه دون بعض في الممكنات في الواجب اولى
وحينئذ فبطل قول القائل : إنه ما من مقدار إلا ويمكن ما هو أكبر منه وأصغر وإن كان غير هذا المقدار ممكنا فتخصيص أحد الممكنين بالوجود يفتقر إلى مخصص والوجود المطلق لا اختصاص له بممكن دون ممكن فلا بد أن يكون المخصص أمرا فيه اختصاص وذلك الاختصاص واجب بنفسه وإذا كان الواجب لنفسه فيه اختصاص واجب لم يمكن أن يقال : كل اخصاص فلا بد له من مخصص إذ الاختصاص ينقسم إلى : واجب بنفسه وممكن
يوضح هذا أن المتفلسف إذا قال إن الموجب لتخصيص الفلك بمقدار دون مقدار كون الهيولى لا تقبل إلا ذلك المقدار مثلا أو امتناع بعد وراء العالم أو ما قيل من الأسباب
قيل له ما ذكرته من الهيولى وامتناع وجود موجود وراء العالم وإن كان باطلا فيقال ما الموجب لكون الهيولى لا تكون على غير تلك الصفة ولم لا كانت الهيولى غير هذه بحيث تقبل شكلا أكبر من هذا ثم إذا زعمت ان الممكن له مقدار لا يمكن ان يكون أكبر منه لعدم القابل مع انه لا يعلم وجود مخصص لمقدار دون مقدار ولا لكون حيز هذا المقدار يقبل الوجود دون الحيز الذي يجاوره فإن الأحياز المجردة المحضة متشابهة أبلغ من تشابه المقادير
فإذا ادعيت التخصيص في هذا ففي الواجب بنفسه اولى وأحرى ثم بتقدير ان تكون المقادير والصفات حادثة فالحجة المبنية على نفي حوادث لا تناهي قد عرف ضعفها وقد أبطل هو جميع أدلة الناس التي ذكرها إلا حجة واحدة اختارها وهي أضعف من غيرها كما قد ذكر غير مرة
وإذا كانت هذه الحجة لا تمنع جواز تعاقب الحوادث على القديم لم يمتنع كون القديم محلا للحوادث فبطل استدلالهم على نفي ذلك بمثل هذه الحجة0
فهذه الحجج الثلاث قد قدح هو فيها واما الرابعة وهي تعدد الصفات فالقدح فيها تبع للقدح في هذه الثلاث فإنها مبنية عليها إذ عمدة النفاة هي هذه الثلاث وكلامهم كله يدور عليها حجة التركيب وحجة الأعراض بأن مالا يخلو عن الحادث فهو حادث وحجة الاختصاص
وحججه الأولى على نفي الجوهر مبنية على نفي تماثل الجواهر وهو قد بين ان جميع ما ذكروه فإنه يرجع إلى ما قاله وقال إنه لا دليل فيه على نفي تماثلها
وأما الثانية وهي قوله إما أن يكون مركبا فيكون جسما أو لا يكون على نفي الجسم وقد عرف كلامه وقدحه في حجج نفي ذلك
واما حجته الثالثة فإنها مبنية على تماثل الجواهر أيضا وهو قد أبطل أدلة ذلك ومبنية على امتناع حلول الحوادث به أيضا وقد أبطل هو أيضا جميع حجج ذلك واستدل بحجة الكمال والنقصان كما احتج بها الرازي وهو أيضا قد أبطل هذه الحجة لما استدل بها الفلاسفة على قدم العالم كما ذكر عنه
وأما حجته الرابعة على نفي الجوهر فبناها علي نفي التحيز وبنى نفي التحيز على حجتين على حجة الحركة والسكون وعلى تماثل الجواهر
وهو قد بين انه لا دليل على تماثل الجواهر وأبطل أيضا حجة الحركة والسكون لما أحتج بها من احتج على حدوث الأجسام فإنه قال المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا يعني به الرازي وهذا المسلك آخذ الرازي عن المعتزلة ذكره أبو الحسين وغيره : أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل إما أن تكون متحركة او ساكنة والقسمان باطلان فالقول بأزليتها باطل
ثم اعترض عليه بوجوه متعددة :
قال ولقائل أن يقول إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا مخلص عنه
قلت : هذه مسألة نزاع بين أهل النظر : أن الجسم في أوقات حدوثه : هل يوصف بأحدهما أو يخلو عنهما ؟ والذي قاله الرازي هو قول أبي هاشم وغيره من المعتزلة ومضمونه : أنه في أوقات حدوثه ليس متحركا ولا ساكنا
واعترض عليه بتقسيم حاصر فقال : إن كانت الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز والسكون البقاء في حيز بعد حيز فالجسم في أوقات حدوثه : لا متحرك ولا ساكن وإن لم يكن الأمر كذلك فقد بطل ما ذكره من كون السكون أمرا وجوديا فإنه اعتمد في ذلك على أن السكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد ان كان في ذلك الحيز
تابع كلام الآمدي
قال الآمدي فإن قيل : الكلام إنما هو في الجسم ف يالزمان الثاني والجسم في الزمان الثاني لا يخلو عن الحركة والسكون بالتفسير المذكور فهذا قول ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام ف يالجسم إنما هو الزمان الثاني فوجود الجسم بالزمان الثاني ليس هو حالة الأولية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون

تعليق ابن تيمية
قلت : بل بتقدير قدمه لا يخلو عن الحركة والسكون لأنه حينئذ إما أن يبقى في حيز او ينتقل عنه والأول : السكون والثاني الحركة
وما ذكره الآمدي من جواز خلوه عنهما على أحد التقديرين فإنما هو بتقدير حدوثه ومعلوم انه إذا كان بتقدير قدمه لا يهخلو عنهما وكلاهما ممتنع كان بتقدير قدمه مستلزما لأمر ممتنع وهو الجمع بين النقيضين فإنه إذا صحت المقدمتان لزم أن يكون حادثا بتقدير قدمه وهو انه لو كان قديما لم يخل من حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وما ذكره الأمدي إنما يتوجه إذاقيل الجسم مطلقا لا يخلو عن الحركة والسكون وحينئذ فإما أن يخلو عنهما أو لا يخلو فإن خلا عنهما لم يكن ذلك إلا حال حدوثه فيكون حادثا وإن لم يخل عنهما لزم ان يكون حادثا فيلزم حدوثه على كل تقدير
ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وأمثاله في حججهم التي احتجوا بها في موضع آخر وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق ولكن يعطي كل ذي حق حقه قولا بالحق واتباعا للعدل
وقد ذكرنا كلام الآمدي على سائر ما ذكره ف يامتناع كن الحركة أزلية مثل قوله : لم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية ؟ وما ذكروه من الوجه الأول فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات الشخصية حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى انها متعاقبة إلى غير نهاية إلى آخر كلامه
والمقصود هنا التنبيه على أنه نقص في موضع آخر عامة ما احتج به هنا

فصل
ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه الذين يستدلون على ذلك أو عليه وعلى غيره بنفي التجسيم فإنهم ينقضون الحجج التي يحتجون بها فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج كما ذكرناه عن الرازي والآمدي وأمثالهما من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يعلم بصريح العقل موافق لها بما يعلم الصريح انه باطل وتارة كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ن بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدة
وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين : من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة انه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول
بل المقدمة التي تدعى طائفة النظار النظار صحتها تقول الآخرى هي باطلة وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية لا ترجع إلى العقل الصريح وهو يدعى أنها عقلية فطرية
ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأ عليه وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بادلألة المجلة والمفصلة
والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو أو العلو وغيره من الصفات بناء على نفي التجسيم ففحول أهل الكلام كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري ومحمد بن الهيثم وأبي المعالي الجويني وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي منهم من يبطل أصولهم المنطقية وتقسيم الصفات إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية وعارض لها ودعواهم ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية وبناءهم توحيد واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات على هذه الأصول
وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية وليس هذا قول من قال : المعدوم شيء فإن أولئك يثبتون ذواتا ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة وأرسطو وأتباعه غنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة
وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ظنوا ثبوته في الخارج وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي ورسمي أو لفظي أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم هو بناء على هذا التقسيم
وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم وبينوا فساد كلامهم وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره بل وأكثرهم منعوا بتركيب الحد كما هو مبسوط في موضعه وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف كأبي هاشم وغيره من المعتزلة وأبن النوبخت وغيره من الشيعة و القاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات
واما أبو حامد الغزالي فإنه وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق وأتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه فقد بين في كتابه تهافت الفلاسفة وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية حتى انه بين انه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا وإن كان أبو حامد قد يوجد كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى وبهذا تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ومن الفلاسفة أيضا كابن رشد وغيره حتى أنشد فيه
( يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معديا فعدناني )
فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل وليس ذلك إلا فيما وافق فيع الرسول صلى الله عليه و سلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول البتة
وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كرمه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة وما يوافق به المثبتة للصفات بل للصفات الخبرية أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل وهو الموافق لما جاء به الرسول
والمقصود هنا أن نبين ان فحول النظار بينوا فساد طرق من نفي الصفات أو لاعلو بناء على نفي التجسيم وكذلك فحول الفلاسفة كابن سينا وأبي البركات وابن رشد وغيرهم بينوا فساد أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية التي نفوا بها التجسيم حتى أن ابن رشد في تهافت التهافت بين فساد ما أعتمد هؤلاء كما بين أبو حامد في التهافت فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة
ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات بل وعلى قيام الأمور الاختيارة في ذاته وعلى العلو كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق افعال العباد فأخذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري ومن عرف حقيقة كلامه علم انه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس كونه قادرا لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون : ليست موجودة ولا معدومة
وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات فنزاعه معهم نزاع لفظي كما انه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور
وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون : إن الله خالق أفعال العباد وهو أيضا يقول : إنه سبحانه مع علمه بما سيكون فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة
وابن عقيل يوافق على ذلك وكذلك الرازي وغيره وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به
وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية وأظنه من أصحاب أبي الحسين
وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة أبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع وتقدم بعضها
والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة

كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم
قال أبو حامد مسالة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم فنقول هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث وكل حادث فيفتقر إلى محدث فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده مع أنه لا يخلو عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسما إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره فإن قيل لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام وواجب الوجود واحد لا يقيل القسمة بهذه الوجوه
قلنا وقد أبطلنا هذا عليكم وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له لم يبعد تقدير مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه
فإن قيل الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلا وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولا
قلنا أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديما جاز أن لا يكون لهما علة
فإن قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم ؟
قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الأول فيقال هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجودا فلا يقال كيف اتفق فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد منهما موجودا لم يبعد أن يكون صانعا
فإن قيل لأن الجسم من حيث إنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس والأشياء لا تناسب الأجسام
قلنا ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لن توجد الأجسام وغير الأجسام منها فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد أضافوا إلى الموجود الأول مالا يضاف إلى موجود أصلا ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذا في نفس الجسم والجسم
فإن قيل الفلك الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولا
قلنا بم تنكرون على من يقول إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو اكبر لم يجز كما أنكم قلتم إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدرا بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقا به فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلا لم ينقطع السؤال إذ يقال ولم أراد هذا المقدار دون غيره كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعيين نقطتي القطبين فإذا ظهر انهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين إن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين أن يتوجه في العلة فيقال ولم خصص هذا القدر عن مثله فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بان هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ولم يفتقر إلى علة وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذي لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله خصوصا على أصلهم وهم ينكرن الإرادة المميزة وغن لم تكن مثلا له فلا يثبت الجواز بل يقال وقع كذلك قديما كما وقعت العلة القديمة بزعمهم
قال وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلا

تعليق ابن تيمية
فهذا أبو حامد هو وغيره يبينون فساد ما ذكروه من نفي كون الأول جسما ويقولون لا طريق إلى ذلك إلا الاستدلال على حدوث الجسم وقد سبقهم الأشعري إلى بيان فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الجسم
والرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول والمحصل وغير ذلك ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر مثل المباحث المشرقية وكذلك في المطالب العالية التي هي آخر كتبه بين فساد حجج من يقول بحدوثها وانه فعل بعد ان لم يكن فاعلا ويذكر حججا كثيرة على دوام الفاعلية ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك
وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالا تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل نستلزم كليهما والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين يذكرون فيه إلا أقوالا ضعيفة
والقول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم فإنهم لا يذكرون إلا قولين قول من يقول بقدم الأفلاك وإن كانت صادرة عن علة توجبها فالمعلول مقارن ازلا وقول من يقول بل تراخى المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع انه لم يزل متكلما إذا شاء ويفعل ما يشاء
والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام فهو سبحانه إذا كون شيئا كان عقب تكوينه له كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس : 82 وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب التطليق والاعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويذكرون في كونه موجبا بذاته وفاعلا بمشيئته وقدرته قولين فاسدين أحدهما قول من يقول المتفلسفة وان معلوله يجب ان يكون مقارنا له في الزمان أزلا وأبدا
وهذا القول من أفسد أقوال بني آدم فإنه يستلزم ان لا يحدث في العالم حادث فإنه إذا كانت علة تامة ازلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير واسط لزم ان لا يكون في العالم شيء إلا أزليا فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة
ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذي يفتقر إلى محدث فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذي به أثبتوا الواجب ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود وهو إخلاء للوجود عن النقيضين وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذي كان بعد أن لم يكن واجب الوجود
وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له وغن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد وهو تسلسل في العلل وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور
والناس فيه على أربعة أقوال قيل يمتنع في الماضي والمستقبل كقول جهم وابي الهذيل ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما
وقيل : يمتنع في الماضي دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم
وقيل : يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك سواء قيل : إنه محتاج إلى مبدع كقول أبن سينا وأتباعه أو قيل : إنه محتاج إلى ما يتشبه به كقول أرسطو وأتباعه
وقيل : يجوز فيهما لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب فإنه مخلوق مفعول وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره والمحتاج لا يكون إلا مربوبا والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها فغن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها وعلى التقديرين فهو حادث بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء كان ذلك من كماله وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث
والثاني : قول من يقول : انه فاعل مختار لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح إما بمجرد كونه قادرا أو لمجرد كونه قادرا عالما أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ويقولون : إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام
وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضا بين فإنه إذا قيل : إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول كان حاله بعد حصول الأثر وقبله حالا واحدة متشابهة ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح مرجح وحدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل
والقول الثالث : قول أئمة السنة : إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته لا بذات خالية عن الصفات وهو موجب له إذا شاءه لا موجب له في الأزل كما قال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس 82 : وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته لا مناف لذلك بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء وهو موجب له بمشيئته وقدرته والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الوجه العشرون

متابعة الملاحدة للنفاة في إنكار النصوص وتأويلها
أن نقول : ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر اله به عباده من أمور اليوم الآخر حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 62
فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم والآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحدا وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق
وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن وهو قول فرعون ولهذا كانوا معظمين لفرعون ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها كما يتنعم أهل الجنة في الجنة فكفروا بحقيقة اليوم الآخر ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة وأن خاتم الأولياء وهو شيء لا حقيقة له زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء بل ومن جميع الأنبياء وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق
وكان قولهم كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس والأنبياء أفضل من غيرهم فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات كما كان يفعل أبرع محققيهم : التلمساني وأمثاله
هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب وأبعدهم عنه وأعظمهم نكيرا عليه وعلى أهله وللشيوخ المشهورين بالخير كالفضل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع لعشره
بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل ؟ فقال : لا كان ولا يكون والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع وإلا فهو كتاب الله وسنة ورسوله حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف : معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد ابن حنبل
وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين فظهرت بهم السنة وطفئت بهم نار المحنة فصاروا علما لأهل الإسلام وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين : أهل السنة والجماعة وصار كل منتسب إلى السنة لا بد أن يواليه وإياهم ويوافقهم في جمل الاعتقاد إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان
وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة

كلام الأشعري في الإبانة عن متابعته للإمام أحمد
ولهذا قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة فإن قال قائل : قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين : التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وبما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد أحمد بن حنبل قائلون ولما خالف قوله مجانبون فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام معظم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
والمقصود هنا ان صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هو على مذهب أهل السنة والجماعة أهل الإثبات للأسماء والصفات وهم من أبعد الناس عن مذهب أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد وإن كان كثير من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية وخلطوا التصرف بالفلسفة اليونانية كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية
ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم كما ذكر الشهرستاني في أول كتابه في الملل والنحل أن مبدأ انواع كل الضلالات هو من تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على الشرع فسرى في المنتسبين إلى لا علم والدين من أهل الفقه والكلام والتصوف من أقوال الملاحدة بسبب هذا الأصل مالا يعلمه إلا الله وأما ملاحدة الشيعة من القرامطة الباطنية والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فأولئك أمرهم أظهر من أن يخفى على من عرف حالهم ممن فيه نوع إيمان بالله ورسوله ولهذا كثر الكاشفون لأسرارهم الهاتكون لأستارهم من جميع أصناف أهل القبلة حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة ومن انتسب إليهم من متكلمة الإثبات وغيرهم
وصنف القاضي أبو بكر كتابه المشهور فيهم ووصف فضائحهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو يعلي وأبو الوفا بن عقيل وأبو حامد الغزالي والشهرستاني والخبوشاني وغير واحد من العلماء وتكلموا في العبيديين الذين كانوا بالمغرب ومصر الذين ادعوا النسب العلوي وأضمروا مذهبهم تكلموا فيهم بما بينوا فيه بطلان نسبهم كما عرفوا بطلان مذهبهم وأن باطن مذهبهم أعظم كفرا من أقوال كفار أهل الكتاب ومن أقوال الغالية الذين يدعون نبوة علي أو إلهيته ونحوهم إذ كان مضمون مذهبهم : تعطيل الخالق وتكذيب رسله والتكذيب باليوم الآخر وإبطال دينه
وقد ذكروا منتهى دعوتهم في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي لهم وأن أقرب الطوائف إليهم الفلاسفة مع أنهم خالفوا الفلاسفة في إثبات واجب الوجود فإن الفلاسفة الإلهيين يثبتونه وهؤلاء أصحاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم أنكروه كما فعلت الدهرية الطبيعية
وقول الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله يؤول إلى قول هؤلاء وهو القول الذي أزهره فرعون وأما المشاؤون أرسطو وأتباعه ومن اتبعهم من المتأخرين : كالفارابي وابن سينا وأمثالهم فهم يقرون بالعلة الأولى المغايرة لوجود الأفلاك لكن دليلهم الذي احتجوا به على الطبيعيين منهم هو دليل الحركة الذي احتج به أرسطو وقدماؤهم أو دليل الوجود الذي احتج به أبن سينا ومتأخروهم وهو منهم دليل ضعيف إذ مبناه على حجة التركيب وهي حجة ضعيفة كما قد بين في غير هذا الموضع
وكان أهل بيت ابن سينا من أتباع هؤلاء القرامطة من المستجيبين للحاكم الذي كان بمصر قال ابن سينا : وبسبب ذلك دخلت في الفلسفة
كما كان أصحاب رسائل إخوان الصفا من الموافقين لهم وصنف الرسائل على طريقتهم في الزمان الذي بنيت فيه القاهرة في أثناء المائة الرابعة وكان أمر المسلمين قد اضطرب ف يتلك المدة اضطرابا عظيما

كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات والإعراض عن دلالة الآيات كما ذكر ذلك أبن سينا في الرسالة الأضحوية التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبة منهم من الجاه والمال وصرح بذلك في أول هذه الرسالة قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن وان الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال : وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد : وهو أن الشرع والملة الآتية على نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد : من الإقرار بالصانع : موحدا مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع ولا داخلة فيه ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك : ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لتسارعوا إلى العناد واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلا ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن لقوم أن لا يقبلوه فإذا كان الأمر في التوحيد هذا فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية ؟ ولبعض الناس أن يقولون : إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا وان الألفاظ التشبيهية مثل : اليد والوجه والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحة ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازا
قال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل محققة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس وأما قوله { في ظلل من الغمام } البقرة 210 وقوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام 158 على القسمة المذكورة وما جرى مجراه فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا وأما قوله { يد الله فوق أيديهم } الفتح 10 وقوله { ما فرطت في جنب الله } الزمر 56 فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر ثم ذهب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد ؟ والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة ؟
وقد قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم جاءت أفضل ما يمكن أن تجئ عليه الشرائع وأكمله ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل
قال : وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد : مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه متحيز الذات أو منزهها عن الجهات ؟ فإنه لا يخلو : إما أن تكون هذه المعاني واجبا والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل التصريح المستقصي فيه والمنبه عليه : والموفي حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف على معانيه فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه ولعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير مهمل فيه ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها لكلفه شططا وأن يفعل ما ليس في قوة البشر اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية وقوة علوية وإلهام سماوي فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغى عنها وتبليغه غير محتاد إليه ثم هبك الكتاب العزيز جائيا على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف ؟ وليس لقائل أن يقول : إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم وبلادهم متنائية وأوهامهم متباينة منهم يهود ونصارى وهم أمتان متعاديتان ؟ فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقربا مالا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة
قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد واو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة بعيدة عن إدراك بدائة الأذهان لحقيقتها لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبها بالدلالة عليها بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب
قلت فهذا كلام ابن سينا وهو ونحوه كلام أمثاله من القرامطة الباطنية مثل صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله من الملاحدة والكلام على هذا من فنين :
أحدهما : بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفاة الذين سموا نفيها توحيدا من الجهمية المعتزلة وغيرهم
والثاني بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه
أما الأول فإن هؤلاء وافقوه على نفي الصفات وأن التوحيد الحق هو توحيد الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا رحمة ولا يرى في الآخرة ولا هو فوق العالم فليس فوق العرش إله ولا على السماوات رب ومحمد لم يعرج به إلى ربه والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقا خلقه في غيره أن لم يكن فيضا فاض على نفس الرسول وأنه سبحانه لا ترفع اليدي إليه بالدعاء ولم يعرج شيء إليه ولم ينزل شيء منه : لاملك ولا غيره ولا يقرب أحد إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتقرب هو من أحد ولا يتجلى لشيء وليس بينه وبين خلقه حجاب وأنه لا يحب ولا يبغض ولا يرض ولا يغضب وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مباينا للعالم ولا حالا فيه وإنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده بل كل الخلق عنده بخلاف قوله تعالى { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } الأنبياء 19 وأنه إذا سمي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فهو حي بلا حياة عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر إلى أمثال هذه الأمور التي يسمي نفيها الجهمية توحيدا ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد كما يلقب الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنفسهم بذلك وكما لقب ابن التومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا وأمثالهما
ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا ف بالتوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا أثبت الرؤية ولا قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد كما يقال إن أن التومرت ذكره في فوائده المشرقية إن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا
والمقصود أن هؤلاء لما سموا هذا النفي توحيداصوهي تسمية ابتدعها الجهمية النفاة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا أحد من السلف والأئمة بل أهل الإثبات قد بينوا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وعبادة الله وحده لا شريك له كما ذكر الله ذلك في سورتي الإخلاص وعامة آيات القرآن فلما وافقه هؤلاء الجهمية من المعتزلة وغيرهم على نفي الصفات وأن هذا هو التوحيد الحق احتج عليهم بهذه المقدمة الدلية على أن الرسل لم يبينوا ما هو الحق في نفسه من معرفة توحيد الله تعالى ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح أو يجب على خاصة بني آدم وأولو الألباب منهم أن يفهموه ويعقلوه ويعلموه من هذا الباب وأن الكتاب والسنة والإجماع لا يحتج بها في باب الإيمان بالله واليوم الآخر لا في الخلق ولا البعث لا المبدأ ولا المعاد وأن الكتب الإلهية غنما أفادت تخييلا تنفع به العامة لا تحقيقا يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها وهو العلم بالله لم تبينه الرسل أصلا ولم تنطق به ولم تهد إليه الخلق بل ما بينت لا معرفة الله ولا معرفة المعاد لا ما هو الحق في الإيمان بالله ولا ما هو الحق في الإيمان باليوم الآخر بل ليس عندهم في كلام الله ورسوله من هذا الباب علم ينتفع به أولو الألباب وإنما فيه تخييل وإبهام ينتفع به جهال العوام ولما كان هذا حقيقة قول الملاحدة القرامطة الباطنية صاروا يجعلون أحد رؤوسهم مثل الرسول أو أعظم من الرسول ويسوغون له نسخ شريعة محمد صلى الله عليه و سلم كما زعموا أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعته
وصار كل من هؤلاء يدعي النبوة والرسالة أو يريد أن يفصح بذلك لولا السيف كما فعل السهروردي المقتول فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي : قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول : لقد زرب أبن آمنة حيث قال : لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي
وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده وهو ختم الولاية وخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي بمعرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون
وأما أئمة القرامطة والإسماعلية كابن الصباح الذين تلقوا أركان الدعوة عن المستنصر أطول خلفائهم مدة وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وأمثاله وأما سنان وأمثاله من الملاحدة فتظاهروا بإظهار الكفر بين أصحابهم وقالوا قد أبحنا لكم كل ما تشتهونه من فرج وشراب عنكم ونسخنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة
وهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الملاحدة على نفاة الصفات لإثبات إلحادهم هي من حجج أهل الإثبات عليهم لإثبات إيمانهم فإن الله سبحانه أخبر أنه { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } التوبة : 33 وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } إبراهيم : 1
وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } المائدة : 15 - 16 وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } الشورى : 52 - 53 وقال تعالى { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } البقرة : 1 - 2 وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } النحل : 89 وقال تعالى { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } يوسف : 111 وقال تعالى { قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } النساء : 174 وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } الأعراف : 157 وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } العنكبوت : 18 وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } النحل : 44 وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } المائدة : 3 وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } التوبة : 115
وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق وبين لهم وانه أخرجهم من الظلمات إلى النور لا أنه لبس عليهم وخيل وكتم الحق فلم يبينه ولم يهد إليه لا للخاصة ولا للعامة فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان اعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلا به أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة
وكل من كان عارفا بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي انه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة التي لا يتنازع أهل المعرفة في صحتها عن علي رضي الله عنه أنه لما قيل له هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله لعبد في كتابه وما في هذه الصحيفة وفيها عقول الديات وفكاك الأسير أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ في الصحيح هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا لم يعهده إلى الناس ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الحديث
وقد اجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية يسبون إلحادهم إلى علي وهو بريء من ذلك فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي وكذلك باطنية الشيعة من الإسماعلية والنصيرية وكذلك جعفر الصادق نسبوا إليه من الكلام في المجوم واختلاج الأعضاء والتفاسير المحرفة وأنواع الباطل ما برأه الله منه حتى رسائل إخوان الصفا زعم بعض رؤوسهم أنها كلامه وهذه إنما فيها من حوادث الإسلام التي حدثت بعد المائة الثالثة مثل دخول النصارى بلاد الإسلام ونحو ذلك ما يبين إنها صنفت بعد جعفر بنحو مائتي سنة
ومن هذا الباب ما ينقله آخرون عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر يتحدثان كالزنجي بينهم فهذا وأمثاله من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة
وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يرون من هذه الأمور فنونا مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي صلى الله عليه و سلم لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافرا ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي اوحاه إلى نبيه صلى الله عليه و سلم صبيحة المعراج الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب فإن الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة بالنص والإجماع وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي صلى الله عليه و سلم بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي صلى الله عليه و سلم وانه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله وان أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة كأبي بكر وعمر وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما وهو أفضل الصديقين
وقد ثبت في الصحيحين انه قال إنه قد كان في الأمم قبلك محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فعمر وإن كان محدثا فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه واكمل منه لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ وما يلقي إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها كما جرى له هذا في عدة مواطن
وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول واكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه ومعرفة الحق مما جاء به فكيف بمن يقول ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو اللباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر ؟
وقد قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } النساء : 59
وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب ؟
كما زعم هؤلاء الملاحدة من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه ؟
وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في اعظم الأمور وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخيرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة ؟
وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة فإنه إن كانا مشروعين في وقتين أو رسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا
وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال
وكذلك ما ذكره من أن من المواضع ما لا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحدا لا يحتمل ما يدعونه من الاستعارة والمجاز كما ذكر في قوله تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } البقرة : 21 وقال تعالى { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام : 158 على القسمة المذكورة وانه ليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد بها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة فهذا حجة على من نفى مضمون ذلك من نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا وموافقتهم له لا تنفعه فغن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا بين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا
وكذلك قوله ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان الحكماء قاطبة ؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا فإنه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد يبين أصلا وهذا التوحيد لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم
وقد بينا في غير موضع توحيد ابن سينا وأمثاله وبينا أنه من أفسد الأقوال التي بصريح العقل فساده ولنا في ذلك مفرد مكتوب في غير هذا الموضع
وأما قوله وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل انه عالم بالذات أو عالم بعلم أو قادر بالذات أو قادر بقدرة إلى آخره
فهو خطاب لمن وافقه على ضلاله وإلحاده حيث ظن أن التعطيل هو التوحيد وان الباري تعالى لا علم له ولا قدرة ولا صفات
فأما من لم يوافقه على خطئه فإنه يعلم أن الكتاب بين دقائق التوحيد الحق الذي جاءت به السل ونزلت به الكتب على احسن وجه
فإن الله تعالى أخبر عن صفاته وأسمائه بما لا يكاد يعد من آياته وذكر علمه في غير موضع
كقوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة : 255
وقوله تعالى { أنزله بعلمه } النساء : 166
وقوله تعالى { وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } فصلت : 47 وغير ذلك
وقد قال تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } الذاريات : 58
وقال تعالى { والسماء بنيناها بأيد } الذاريات : 47 أي بقوة وقال تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فصلت : 15
وفي الحديث الصحيح حديث الاستخارة اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك فأي بيان لعلم الله وقدرته أبين من هذا ؟
وأما قول القائل هنا هو عالم بالذات أو عالم بعلم فغن كان يظن أن الذات التي تكون إلا عالمة قادرة يمكن وجودها مجردة عن العلم والقدرة كما يقوله النفاة فهو كلام ضال متناقض فغن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحي بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر مما يعلم فساده بالضرورة عقلا وسمعا
وهذا بمنزلة متكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومتحرك بلا حركة ومحب بلا محبة ومصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وحاج بلا حج وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وحلو بلا حلاوة ومر بلا مرارة وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الألفاظ المشتقة : كاسم الفاعل واسم الفعول والصفة المعدولة عنهما
فإن لم يكن هذا باطلا في بدائه العقول عقلا وسمعا لم يكن لنا طريق إلى معرفة الحق من الباطل ولهذا كان هؤلاء النفاة يعودون في آخر الأمر إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
وغن كان معنى قوله هل هو عالم بالذات أو بعلم ان هنا ذاتا مجردة موجودة بدون العلم وان العلم زائد عليها ن فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها غنما تقدر في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان
ولفظ الذات يراد به الذات الموصوفة بالعلم وحينئذ فقولنا هل هو عالم بالذات أو بالعلم كلام واحد لأن لفظ الذات متضمن للعلم على هذا التفسير فلا يكون قولنا أو بالعلم قسما آخر
ويراد بالذات المجردة عن العلم فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لاتكون إلا عالمة كما أن ما لا يكون إلا حيا لا يمكن وجوده منفكا عن كونه حيا وما لا يكون إلا متحيزا لا يمكن وجوده منفكا عن التحيز فما لا يمكن وجوده إلا عالما وقادرا ويمتنع وجوده غير عالم قادر كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكنا في الخارج ؟
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور الذين ينفون أن تكون الأحوال زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالى في أول قوليه فهؤلاء يقولون ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال وإثبات الملزوم مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات لها وجود في الأذهان في الأعيان
ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالما لذاته أو بالعلم أو قادرا لذاته أو بالقدرة كثير منه نزاع لفظي بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته وانه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر وينكرون وجود ذات مجردة عن العلم والقدرة وإذا قالوا هي زائدة على الذات فلا يعنون أنها زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة إلا من يقول منهم إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما فهؤلاء مثبتوا الحال وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال
وأما النفاة فيسلمون ثبوت الأحكام وهي انه عالم قادر وينازعون في ثبوت الصفات ويتنازعون بينهم في ثبوت الأحوال ثم الأحكام التي يثبتونها لا يجوز أن يراد بها مجرد حكمنا بأنه عالم قادر واعتقادنا لذلك وخبرنا عنه وهو الوصف بالقول فإن هذا الوصف والحكم إن لم يكن مطابقا لمضمونه كان باطلا فكونه حيا عالما قادرا ليس هو مجرد الحكم بذلك والخبر عنه ووصفه بالقول ولا هو نفس الذات التي هي العالمة القادرة فإن كون الذات حية عالمة قادرة ليس هو نفس الذات فتعين أن يكون هو الصفة
وأئمة المعتزلة يعترفون بذلك لكن يشنعون على الصفاتية بكلام لم يحققوا قولهم فيه بل ذكروا عنهم ما يفهم منه معنى فاسد إما لكونهم لم يفهموا قول أولئك أو لكونهم ألزموهم ما ظنوه لازما لهم أو لنوع من الهوى الموجب للافتراق الذي ذمه الله ورسوله

كلام أبي الحسين البصري في عيون الأدلة
واعتبر ذلك بما ذكره أبو الحسين البصري أفضل متأخري المعتزلة فإنه قال في كتاب عيون الأدلة قال باب القول في أن الله قديم وحده عندنا أنه لا قديم إلا الله وذهب قوم إلى إثبات قديم أكثر من قديم واحد فالكلابية والأشعرية أثبتوا ذواتا قديمة قائمة بذات الباري تعالى منها ذات توجب أن يكون عالما ولولاها لم يكن عالما وذات توجب كونه قادرا ولولاها لم يكن قادرا وذات توجب كونه حيا ولولاها لم يكن حيا وكذلك القول في السمع والبصر والإرادة
وأثبتت كلامه قديما وقالوا هذه المعاني لا هي الله ولا غيره ولا بعضه وكل منها ليس هو الآخر ولا غيره ولا بعضه وقالوا لو لم يكن في ذات الباري تعالى وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي وعندنا أن الله تعالى قادر عالم حي لذاته ونعني بذلك أن ذاته متميزة عن سائر الذوات تمييزا يجب معه أن يعلم الأشياء ويقدر على ما لا نهاية له ويحيا ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم وإلى معنى به يحيا ولو لم يكن في الوجود إلا ذات الله تعالى فقط لكان عندنا عالما حيا قادرا سميعا بصيرا
قال فإن قالوا لله علم وقدرة وحياة قيل لهم إن أردتم بذلك أنه قادر عالم حي فنعم لله علم بكل شيء وقدرة على كل شيء مما لا نهاية له بمعنى أنه عالم قادر حي وإن أردتم بالعلم ذاتا كان بها عالما ولولاها ما كان عالما تسمونها علما وأردتم بالقدرة ذاتا بالعلم قادرا تسمونها قدرة وأردتم بالحياة ذاتا بها كان حيا تسمونها حياة فالله تعالى مستغن عن ذلك
قال وذهبت الثنوية إلى إثبات قديمين لا يقوم أحدهما بذات الآخر نور وظلمة ونسبوا الخير كله إلى النور ونسبوا الشر كله إلى الظلمة وقالوا إنهما لم يزالا متباينين ثم امتزجا فحدث من امتزاجهما العالم فكل خير في العالم فمن النور وكل شر فيه فمن الظلمة ولم يقل أحد بإثبات قديمين مثلين حكيمين ونحن نفسد ذلك وغن لم يذهب إليه ذاهب ومن المجوس من يقول بحدوث الشيطان وقدم الله تعالى وأما النصارى فإنها تقول إن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وذهبوا بذلك إلى قريب من مذهب الكلابية ونسخة أمانتهم يعني النصارى تدل على انهم أثبتوا ذواتا فاعلة
قال ونحن نفسد هذه المذاهب كلها ليصح ما ذهب إليه شيوخنا من أنه لا قديم إلا الله

تعليق ابن تيمية
فيقال هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد وانهم أثبتوا ذاتا قديمة قائمة بذات الله تعالى فيقال له أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه كأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة فلا يقولون العلم قديم ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة فلا يقول إن الذات والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ الذوات فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات ولهذا يفرق بين الذات والصفات
وأصل الذات تأنيث ذو ومعناه الصاحبة أي صاحبة الصفة فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار وإنما يسمونها معاني
وإذا قال بعضهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما إن العلة ذات من الذوات موجودة لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة فمرادهم بذلك أنها شيء موجود كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوما مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال
لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها بل معنى من المعاني وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتا نوجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما فهذا أولا ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم بل هذا قول من يثبت الحال منهم وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه لا يثبتون هناك ذاتا أوجبت كونه عالما
وأنت قد اعترفت بأن له علما وقدرة وحياة بمعنى انه عالم قادر حي لا بمعنى أن له ذاتا بها كان عالما فقولك موافق لقول جمهورهم ثم مثبتة الحال تقول قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالما وأما نقلك عنهم أنهم يقولون لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي فلبي الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت قولهم بلفظ الذات ولفظ الذات مجمل فإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة وغن أردت انهم يقولون لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع فهو كما تقول أنت لو قدر انه ليس في الوجود إلا هو مع كونه غير عالم ولا قادر ومعلوم انه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع
ويقال له أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته
قلت ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزا يجب معه أن يعلم ويقدر هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات ؟
فإن قلت إن نفس الذات هو نفس أن يعلم ويقدر فهذه مكابرة للضرورة فإن العلم ليس هو نفس العالم ولا القدرة نفس القادر وهذا أيضا متفق عليه بين المعتزلة وأهل الإثبات
وأيضا فيكون حقيقة قولك إن الذات متميزة تميزا تجب معه الذات وأنت لو قلت الذات أوجبت الذات لم يصح فكيف إذا كان تميزها هو الموجب لها وإن قلت ليس هذا هو هذا فهذا قول الصفاتية والعلم الذي يثبتونه هو قولك أن تعلم فإن أن والفعل هو بتأويل المصدر فقول القائل علم علما وله علم كقوله هو موصوف بأن يعلم يعلم وإذا قالوا عالم بالعلم لا بذاته لم يرد جمهورهم بذلك أن العلم هو أوجب صفة غير العلم وهو كونه عالما بل نفس علمه هو كونه عالما فيقولون عالم بصفة له هي العلم لا بذات مجردة عن العلم ومعلوم أن ذاته هي الموجبة لكونه عالما فلا ينازعون في انه عالم بالذات بمعنى أن ذاته أوجبت كونه عالما وأنه نفسه مستغن عما يجعله عالما وليس هناك شيء غيره جعله عالما
وأما قولك ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم فهذا لفظ مجمل فإن هذا إنما يصلح أن يكون حجة على مثبتة الأحوال الذين يقولون هناك معنى هو العلم أوجب كونه عالما فقولك هذا كقول القائل لا يحتاج إلى كونه عالما قادرا ولا يحتاج إلى أن يعلم ويقدر وانتم تسلمون لهم انه لا بد أن يعلم ويقدر وهذا هو عندهم العلم والقدرة فقول القائل بعد هذا يحتاج إلى هذا أو لا يحتاج سؤال لا يرد عليهم ولا على أحد وذلك أن معنى الحاجة إن أريد به أن اتصافه بصفات الكمال لا يستلزم كونه عالما قادرا فهذا باطل وإذا قيل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى صفة فهو كقول القائل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى ذاته وهو غني بنفسه عن كل ما سواه ولا يقال هو غني عن نفسه فغن نفسه المقدسة الموصوفة بصفة الكمال المستلزمة لذلك هي الغنية فإذا قيل هو غني عن ذلك كان مثل قول القائل هو غني عن نفسه أو غني عن غناه أو غني عما لا يكون غنيا إلا به وكقوله الحي الذي تجب الحياة له غني عن حياته أو واجب الوجود غني عن وجوده والقديم عن قدمه ونحو ذلك
فإن قال هم يقولون عالم بعلم ولا يقولون موجود بوجود ولا باق ببقاء ولا قديم بقدم
قيل منهم من يقول ذلك ومنهم من لا يقول به ويفرق بأن نفس الذات القديمة الباقية إذا قدرت غير قديمة ولا باقية لم يرجع الخلاف في ذلك إلى معنى ثبتي قام بها فإن البقاء هو الدوام والشيء الباقي إذا قدر أنه لم يتغير فحاله مع البقاء ودونه سواء بخلاف العلم والقدرة فإن الذات العالمة القادرة إذا قدر أنها غير عالمة ولا قادرة علم ذلك اختلاف حالها في نفسها بتقدير عدمه ليس هو مجرد نسبة وإضافة كالبقاء ونحوه
وأيضا فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل مالا يخفى على منصف
وقولك عن النصارى إنهم ربما أومأوا إلى مذهب الكلابية فيقال له لو كان قول النصارى ليس فيه إلا إثبات أن الله حي بحياة عالم بعلم لكان قولهم وقولك وقول الكلابية سواء والنصارى لم يكفرهم الله بهذا وغنما كفرهم الله بما ذكره عنهم في كتابه مما لا يقول به أحد من الصفاتية المسلمين وقول النصارى فيه من التناقض والاضطراب ما يتبين لكل عاقل ساده حيث يثبتون الابن صفة أقنوما ويجعلونه مع ذلك إلها فاعلا ويجعلون مع ذلك الإله واحدا ويقولون إن المتحد بالمسيح هو الابن وهو الكلمة دون الأب فهو مذهب متناقض كتناقض الفلاسفة بل والمعتزلة متناقضون ايضا في نفي الصفات وإثبتها كما تراه وهذا كلام افضل متأخريهم
ثم إنه لم يحتج على الصفاتية إلا بحجتين إحداهما انه لو كان له علم لكان علمه مثل علمنا والمثلان لا يكون أحدهما محدثا والآخر قديما
والثانية أن كونه عالما قادرا واجب والصفة إذا كانت واجبة استغنت بوجوبها عن معنى يوجبها فقد سمى ذلك صفة وهذه الحجة غنما تلزم مثبتة الحال وهم يقولون يعلل الواجب بالواجب وأما الأولى ففسادها ظاهر جدا لا سيما وأبو الحسين لا يسلم لهم أن الواحد منا عالم لمعنى ولهذا عدل عن طريقتي شيوخه المذكورتين في نفي الصفات إلى طريقة ثالثة أضعف منهما فقال إنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني ومالا طريق إليه لا يجوز إثباته فكان مضمون كلامه نفي الشيء انتفاؤه في نفس المر بل النافي عليه الدليل لا ينعكس ولا يلزم متى انتفى الدليل على الشيء انتفاؤه في نفس الأمر بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات فعليه أن لا ينفي ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته يبين ذلك أنه ذكر في حجة أهل الإثبات أن الواحد منا عالم لمعنى لا يكون عالما إلا به فوجب مثل ذلك للباري سبحانه وتعالى
قال والجواب يقال لهم ولم وجب أن يكون حكم الباري سبحانه وتعالى ؟ فما أنكرتم أن يكون الواحد منا عالما لمعنى ويكون الباري عالما لذاته على أن الواحد منا عالم لا لمعنى وغن لم يكن ذلك مذهب أصحاب أبي هاشم وقد فرق أصحاب أبي هاشم بين الواحد منا وبين الباري تعالى في ذلك فقالوا الواحد منا علم مع جواز أن لا يعلم فلم يجز أن يكون عالما إلا لمعنى يرجح به كونه عالما على كونه غير عالم والباري تعالى علم الأشياء ويستحيل أن لا يعلمها فلم يحتج إلى معنى يترجح به كونه عالما على كونه غير عالم
تعليق ابن تيمية
فيقال لأبي الحسين إذ كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى والباري عالم لا لمعنى فقد صحت حجة الصفاتية وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما فيقولون كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علما به صار عالما بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة والحال الجائزة تستلزم علة جائزة وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وان لا يكون عالما والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالما فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال وجواز الصفة والحال أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما دون الآخر وهذا كله مما تبين لمن علم وانصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقا معقولا بين قولهم وقول أئمة الصفاتية وإذا قدر أنهم يذكرون فرقا فحجتهم على النفي في غاية الفساد والتناقض فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهية لا سيما مع قول اكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله إن أخص وصف الرب هو القدم وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله وهذا وإن كان في غاية الفساد فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم القائم بنفسه القديم الواجب الوجود المقيم لكل ما سواه ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها
فيقال القدم هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك
وأما الصفات التي لا تقوم إلا به فإن قيل بقدمها أو وجوبها فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال وأما ذات مجردة عن هذه الصفات أو صفات مجردة عنها فلا وجود لها فضلا عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة فقولهم مع فساده أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعا وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي و الخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك

كلام أبي الحسن التميمي في جامع الأصول
كما قال أبو الحسن في كتاب الإشارة له في جامع الأصول قال مسألة إن سأل سائل فقال هل يقال إن الصفات قديمة قيل له هذا سؤال ضعيف لا يسأل عنه من عرف حقائق الكلام لآن القديم الأزلي لم يكن قديما بغير صفة وغنما كان قديما بصفاته التي هي مضافة إليه في نفسه فإثبات القديم قديما بصفاته يسقط المسألة عن قدم الصفات لإضافة الصفة إلى الموصوف فكل صفة للقديم في نفسه لم يزل بها ألا ترى أن المحدث جميعه محدث فإذا سألت عنه مفرقا كانت كل طائفة منه محدثة وكل شيء منه محدث لأنه كله محدث بكماله أو لا ترى أن الإنسان محدث بجميع جوارحه وآلته فيقال هو محدث عند المسألة عنه في الجملة ويقال يده محدثة عند المسألة عنها في التفسير ولا يقال إن الإنسان ورأسه محدثان فكذلك أيضا يقال القديم بجميع صفاته قديم وكل شيء من القديم فهو قديم غير محدث
فإن قال قائل يقولون إن الموصوف قديم وصفته القديمة قديمان قيل له هذا خطأ لا يجوز أن يقال كما أنه لما لم يجز حين كان المحدث محدثا بجميع صفاته أن أجبت من سألني عنه منفردا وعن صفاته مفردة أن أقول إنه وصفته محدثان لنه واحد هو وصفاته فهو كله محدث وهي على حالها محدثة ولا يجوز أن أقول هما جميعا محدثان لأن في قولنا إنهما جميعا محدثان فسادا لإثبات الواحد المحدث وإيهام أنه اثنان وليس بواحد فكذلك في قولي في الأول الواحد القديم الذي له صفات إنه قديم وصفاته قديمة فإذا قلت هو وصفاته قديمان ففيه إثبات تعطيل لتوحيده وقدمه وإيجاب أنه اثنان دون واحد ففسد من ذلك أن يقال هو وصفته قديمان كما فسد أن يقال للمحدث هو وصفته محدثان وكان الواجب أن يقال إن القديم الأزلي لم يزل موصوفا فمن سأل عن صفة صفة مفردة جاز أن يقال له هي قديمة صفة لقديم لم يزل بها ولم تزل به كما لا تكون صفة المحدث إلا محدثة فما جرى على القديم في شرط القدم فهو واقع عليه بصفاته وليس بواقع عليه دون صفاته
فإذا قال القائل الموصوف قديم فقد قال إن صفاته قديمة كما إذا قال الموصوف محدث فقد أوجب أن صفاته محدثة

تعليق ابن تيمية
قلت فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء في انهم يقولون عن الذات إنها قديمة وعن الصفات إنها قديمة ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان من الإشعار بالتغاير وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذات
ولهم في لفظ المغايرة ثلاث طرق احدها وهي طريق الأئمة كالإمام احمد وغيره وأظنها قول ابن كلاب وغيره وقد ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني انهم لا يقولون عن الصفة إنها الموصوف ولا يقولون غنها غيره ولا يقولون ليست هي الموصوف ولا غيره لأن لفظ الغير مجمل فلا ينفونه عند الإطلاق ولا يثبتونه
والطريقة الثانية وهي المحكية عن الأشعري نفسه انه قال أقول مفرقا إن الصفة ليست هي الموصوف وأقول غنها ليست غير الموصوف لكن لا أجمع بين السلبين فأقول ليست الموصوف ولا غيره وهكذا أبو الحسن التميمي ومن سلك هذه الطريقة يقولون في العلم ونحوه من الصفات إنه ليس غير الله وان الصفات ليست متغايرة كما يقولون إنها ليست هي الله كما يقولون إن الموصوف قديم والصفة قديمة ولا يقولون عند الجمع قديمان كما لا يقال عند الجمع لا هو الموصوف ولا غيره
والثالثة قول من يجمع بين السلبين كما هي طريقة ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلي وغيرهما وهؤلاء قد يطلقون القول بإثبات قديمين : أحدهما الصفة والآخر الموصوف كما ذكروا ذلك في كتيهم وإذا احتج عليهم المعتزلة بانه إذا كانت صفاته قديمة وجب إثبات قديمين ولو كان علمه قديما لكان إلها أجابوهم بان كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله لأن القديم هو ما بولغ له في الوصف بالتقدم ومنه بناء قديم ودار قديمة إذا بولغ له في الوصف بالتقدم وليس معنى الإله مأخوذا من هذا ولأن النبي محدث وصفاته محدثة وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون إلهة لكونها قديمة وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر

كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية في مسألة الصفات وتعليق ابن تيمية عليه
وأما قول ابن سينا وهل هو : واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة ؟ تعالى عنها بوجه من الوجوه
فيقال له : الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض
ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن الحق ونقيضه فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق من غير ذكر للحق فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق وإن كان هذا جائزا فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد بل وفي الشرائع أيضا فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بانا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل كان هذا جوابا بعينه لأهل الإثبات فإنهم يقولون : إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم وأنه عليم قدير رحيم له العلم والقدرة والرحمة إلى أمثال ذلك من الصفات
والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله بعد تدبر النصوص الإلهية علم ضروري لا يرتاب فيه وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة وميراث الجدة وتحريم المرأة على عمتها وخالتها وسجود السهو في الصلاة ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى وإثبات صفاته وأسمائه هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة كعلمهم بعدد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة ولا تجد أحدا من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين وإنما ينقل قوله في النفي عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات
وقوله : أو قابل لكثرة تعالى عنها لفظ مموه فإنه إن عني كثرة الآلهة وهو لم يعن ذلك فقد علم أن الله سبحانه قد بين أن الإله إله واحد في غير موضع والقرآن ملآن من نفي تعدد الآلهة ونفي الشرك بكل طريق وإن عني كثرة صفاته التي دلت عليها أسماؤه آياته فتعليته الرب عنها كتعلية المشركين له أن يدعى ويعبد بلا واسطة وتعليتهم له عن أن يرسل رسولا من البشر فتنزيهه له عن صفاته كتنزيه المشركين له عن أن يكون إلها واحدا وأن يكون له رسول من البشر
وقد أنكر الله تعالى على المشركين نفيهم اسم الرحمن كما قال تعالى { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } الفرقان 60 وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن } الرعد 30
ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد ولو كانت أسماؤه أعلاما لم يكن فرق بين الرحمن والجبار كيف وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المعروف في السنن : يقول الله : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتته
فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن امتنع أن يكون علما لا معنى فيه
وفي الصحيح عنه الرحم شجنة من الرحمن
فإذا كان هذا قوله سبحانه فيمن ينكر الرحمن فما الظن بمن ينكر جميع معاني أسمائه وصفاته ؟ وحمية هذا الملحد وأمثاله أن يكون له صفات حمية جاهلية شر من حمية الذين قال الله فيهم { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الفتح 26 فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما اصطلح هو والمشركون عام الحديبية أمر عليا أن يكتب في أول كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو وكان إذ ذاك مشركا لا نعرف الرحمن ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فأمر عليا فكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقالوا لو علمنا أنلك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله
فهؤلاء أخذتهم حمية جاهلية في إثبات أسماء الله ونبوة رسوله والملاحدة شاركوهم في ذلك من وجوه كثيرة فإنهم ينفون حقائق أسماء الله وحقيقة رسالة رسوله صلى الله لعيه وسلم وغايتهم أن يؤمنوا بها من وجه ويكفروا من وجه كالذين قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويقال له ذات لا صفة لها لا وجود إلا في الذهن بل لفظ ذات تأنيث ذو ولا تستعمل إلا مضافا وذات معناه صاحبة كقوله تعالى { عليم بذات الصدور } آل عمران 119 وقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله خبيب
( وذلك في ذات الإله )
أي في سبيل الإله وجهته
ثم استعملها أهل الكلام بالتعريف فقالوا الذات أي الصاحبة والمعنى صاحبة الصفات
فتقدير المستلزم للإضافة بدون الإضافة ممتنع وهذا كما أثبته ابن سينا وأمثاله من هؤلاء الملحدة حيث جعلوه وجودا مطلقا إما بشرط النفي وإما بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فكيف بالمطلق المشروط بالنفي فإنه أبعد عن الوجود من المشروط بالإطلاق وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقوله أهو متحيز الذات أم منزهها عن الجهات ؟
هو أيضا من حججهم على نفاة الصفات فإن الكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية ولم تنف أن يكون فوق العالم كما تقوله النفاة
وإذا كانت النصوص الإلهية قد بينت أن لعلي الأعلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الذي تعرج الملائكة والروح إليه الذي نزل منه القرآن والملائكة تنزل من عنده الذي خلق السماوات والأرض في ستته أيام ثم أستوى على العرش ونحو ذلك من النصوص المبينة لمباينته لخلقه وعلوه عليهم فأي بيان للمقصود أعظم من هذا ؟
وأما لفظ التحيز والجهة فلفظان مجملان ومراد النفاة منهما غير المراد في اللغة المعروفة فإن المتحيز اسم فاعل من تحيز يتحيز فهو متحيز مثل تعوذ وتكبر وتجبر ونحو ذلك والحيز ما يحوز الشيء ويحوطه والمفهوم من ذلك في اللغة الظاهرة أن يكون هناك شيء موجود بحوز غيره
ولا ريب أن الخالق مباين للمخلوقات عال عليها كما دلت النصوص الإلهية واتفق عليه السلف والأئمة وفطر الله تعالى على ذلك خلقه ودلت عليه الدلائل العقلية
وإذا كان كذلك وليس ثم موجود إلا خالق ومخلوق فليس وراء المخلوقات شيء موجود يكون ميزا لله تعالى فلا يجوز أن يقال هو متحيز بهذا الاعتبار
وهم قد يريدون بالحيز أمرا عدميا حتى يسموا العالم متحيزا وإن لم يكن في شيء آخر موجود غير العالم وإذا كان كذلك فكونه متحيزا بهذا الاعتبار معناه انه في حيز عدمي والعدم ليس بشيء وما ليس بشيء فليس في كونه فيه أكثر من كونه وحده لا موجود معه وانه منحاز عن الخلق متميز عنهم بائن عنهم ليست ذاته مختلطة بذات المخلوق فإذا أريد بالمتحيز المباين لغيره وقد دلت النصوص على أن الله تعالى عال على الخلق بائن عنهم ليس مختلطا بهم فقد دلت على هذا المعنى فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعه إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن قصر عنه
ولما كان لفظ المتحيز فيه إجمال وإبهام امتنع طوائف من أهل الإثبات عن إطلاق القول بنفيه أو إثباته ولا ريب أنه لا يوجد عن أحد من السلف والأئمة لا إثباته ولا نفيه كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ الجسم والجهر ونحوهما
وذلك لأنها ألفاظ مجملة يراد بها حق وباطل وعامة من أطلقها ف بالنفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل لا سيما النفاة فإن الصفات كلهم ينفون الجسم والجوهر والمتحيز ونحو ذلك ويدخلون في نفي ذلك صفات الله وحقائق أسمائه ومباينته لمخلوقاته بل إذا حقق الأمر عليهم وجد نفيهم متضمنا لحقيقة نفي ذاته إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال أو ذات مجردة لا توجد إلا في الذهن والخيال أو إلى الجمع بين المتناقضين بإثبات صفات ونفي لوازمها
فعامة من يطلق ذلك إما متناقض في نفيه وإثباته يثبت الشيء بعبارة وينفيه بأخرى أو يثبته وينفي نظيره أو ينفيه مفصلا ويثبته مجملا أو بالعكس أو يتكلم في النفي والإثبات بعبارات لا يحصل مضمونها ولا يحقق معناها
وهكذا كثير في الكبار فضلا عن الصغار وكثير منهم لا يفهم مراد أكابرهم بهذه العبارات وهم يعلمون أن عامتهم لا يفهمون مرادهم وإنما يظنونه تعظيما وتسبيحا من حيث الجملة والواجب على المسلمين أن يتلقوا الأقوال الثابتة عن الرسول بالتصديق والقبول مطلقا في النفي والإثبات
وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام فلا تتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول وإلا كان من المردود ن ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفا للعقل الصريح أبدا كما لا يكون ما خالف قوله مؤيدا ببرهان العقل أبدا كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع
وكذلك لفظ الجهة لفظ مجمل فإن الناطقين به من أهل الكلام والفلسفة وقد يريدون بلفظ الجهة أمرا وجوديا غما جسما وغما عرضا في جسم
وقد يريدون بلفظ الجهة ما يكون معدوما كما وراء الموجودات
فقول القائل إن الحق في جهة
إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مباينا لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه ؟
وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى

فصل
وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفاة وهم المخاطبون بهذه الجملة واما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة
وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصي فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصي فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السماوات
وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ؟
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضا من قول النصارى كما قد بين في موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكيا ولا بليدا بحقيقة قولهم إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها تتضمن ألفاظا مجملة يلبسون بها لعيه الحق بالباطل فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات مع ما فيه من التلبيس والإبهام حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه إلى أن يخرجوه أن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين فإن من درجات دعوتهم الخلع والسلخ وأمثال هذه العبارات
وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة كما احتج ابن سينا على المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول والسمع المنقول وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء الذين فيهم نوع من التهجم عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة لما ظهر قول الإثبات في بلدهم بعد ان كان خفيا واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة
وهو كما قال : فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما ان في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر امرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان وعمل الذهب المغشوش والفساد في الأرض والقليل منهم من ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدا وغالبهم محروم مأثوم يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين
كما قال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الأعراف 152 ولهذا تجد أهل هذه الأباطل الصعبة الشديدة في الغالب : إما ملحدا من أهل النفي والتكذيب وإما جاهلا قد أضلوه ببعض شبهاتهم
وأما قوله : فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ؟ فيقال له : نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصرا عن بعض دقيق العلم لكن إذا وازنت من كان من محمد صلى الله لعيه وسلم من العرب الخاصة والعامة ومن كان مع موسى عليه الصلاة و السلام أيضا بمن فرضته من الأمم وجدتهم أكمل منهم في كل سب ينال به دقيق العلم وجليله فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى اولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم : انه إمام معصوم يعلم علم الأولين والآخرين بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم احذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم
وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان ؟
أو ليس من أعظم علومهم السحر الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم ويصلي ويقرب له القرابين حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا فساده أعظم من صلاحه وأثمه أكبر من نفعه ؟
أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة ؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة ؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلا عن مدينة من المدائن ؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع ؟
ثم يقال له : أنت وأمثالك أئمة أتباعكم وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواهم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان
وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وعبادته وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب الذي هو أجل المطالب وأرفع المواهب فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى : إما عجزا وغما تفريطا
ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى بعد أن بدلوا الكتاب ودخلوا فيما نهوا عنه احذق وأعرف بالله من أئمتكم وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف
واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية والعرباء وعوام التتر المشركين الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك وتجد أولئك أفسد عقلا ودينا
وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال وهل كان الطوسي وامثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين ومكايد المحتالين المنافية للعقل والدين ؟
وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته ان يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما صار فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة وتسع وعشرة سنة او اكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره وهذا جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير وكان مسلما موحدا حنيفا وقد قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك
وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل لمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفضلاء الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء ؟
فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين : إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يقال لهذا الأحمق : أن كل أمة فيها ذكي وبليد بالنسبة إليها لكن هل رأى في أجناس الأمم امة أذكى من العرب ؟
واعتبر ذلك باللسان العام وما فيه من تفصيل المعاني والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة على الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف ؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان وهي كما قال فيها ابو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن أثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل
ثم يقال له : هب أن ما ذكرته من غتم العرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس
واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك و الأوزاعي والليث بن سعد و أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي و البخاري و مسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من امثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة أنهم فوقنا في كل عقل وعلم وفضل وسب ينال به علم أو يدرك به صواب ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه
وأما قوله لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه
فيقال : لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب بعضها يمكن التعريف به مطلقا وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقا أن يعلمه ولهذا قال تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } السجدة 17
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير وإلا لم يمكن التعريف على وجهه
وفي الدعاء المشهور : اللهم إني أسألك اسم هو لم سميت به نفسك أو انزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره
وفي الحديث الصحيح انه صلى الله عليه و سلم كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وفي حديث الشفاعة ينفتح على محامد أحمده بها لا احسنها الآن
فإذا كان اعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه فكيف غيره ؟ وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره ؟
ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون ان يكذب الله ورسوله ؟
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل تفسير أية فقال : ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين انه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم
ولهذا قال تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { يضرب الله الأمثال } الرعد 17 فإن هذا مثل ضربة الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر وشبه القلوب بالأودية والأودية منها صغار وكبار فكل واد يسيل بقدره
فهذا ونحوه حق ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية أعظم مما تنكرها قلوب العامة وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه
وقوله : هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني هو من أوله إلى آخره تشبيه صرف ؟ إلى آخر كلامه
فيقال : هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما
قال تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } القصص 43 إلى قوله : { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا } القصص 48 إلى قوله { قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } الآيات القصص 49
وقال تعالى حكاية عن الجن { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } الأحقاف 30
وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها } الأنعام 91 92
وقال تعالى : { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } الأنعام 154 - 155 فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع
ومن المعلوم ان موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه ولم يأخذ عنه شيئا وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه و سلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتن في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه إذا كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف ويبين أن المقصود واحد
وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله وذمهم على ما وصفوا الله تتعالى به من النقائص كقولهم : إن الله فقير وإن الله بخيل وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض فاستراح فقال تعالى { وما مسنا من لغوب } ق 38
فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة متن التشبيه والتجسيم وأمثال هذه العبارات فلما كان الرسول العربي مقرا لما في التوراة من الصفات ومخبرا بمثل ما في التوراة كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضا ليس مما كذبه أهل الكتاب
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن خبرا من اليهود لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على اصبع والأرضين على أصبع والجبال على اصبع والشجر والثرى على اصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجبا وتصديقا لقول الخبر ثم قرأ قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه و سلم : عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدرا ورواه أيضا عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من اعظم التباعين علما وقدرا عند الأمة
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيهما أيضا من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية { وما قدروا الله حق قدره } الزمر 67 ما يناسب هذا الحديث ويوافق قول أهل الإثبات ويبين أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيما وتشبيها وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون : لا بمدح ولا ذم ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف
فإنه يقال له : ما تعني بقولك : إنه تشبيه أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله ؟
فإن أردت الأول فهذا كذب على التوراة فليس فيها الإخبار بأن صفات كصفات عباده بل فيها نفي التمثيل بالله
وإن أردت الثاني فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد فإنك وأمثالك تقولون : إن الله موجود مع قولكم : إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وتقولون وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول مع قولكم : إن اسم العقل يقع على العقول العشرة وتقولون : إنه علة للعالم مع قولكم : إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وتقولون : إن له عناية مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد وتقولون : إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول وتطلقون الإبداع على العقول وتقولون : إن كل عقل أبدع ما دونه والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر وتقولون : إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره
ويقولون : إنه عاشق ومعشوق وعشق مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص مالا يخفى على عاقل وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق
ويقولون أيضا : إنه يلتذ ويبتهج ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركا ومدركا
ثم أعجب من هذا كله انكم تقولون : الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد وقالوا : إن الإنسان مثل الله وأن قوله : { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبها بما فوقه فيجعلون العبد قادرا على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله أو يتشبه بالعقل المشبه لله
فإذا كان في التوراة : أنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقا لمن يشبهه بوجه وأنتم قد جعلتم العبد قادرا على أن يتشبه بالله بوجه فإن كان التشبه بالله باطلا من كل وجه ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب لأنكم جعلتم العبد قادرا على ان يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه
فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدورا للعبد وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدورا للرب فأي الفريقين أحق بالذم والملام ؟ أنتم أم أهل الكتاب ؟ إن كان مثل هذا التشبيه منكرا من القول وزورا وإن لم يكن منكرا من القول وزورا فأهل الكتاب أقوم منكم لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية التي أثبتت مقدورا لرب البرية وانتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله
وأيضا فيقال : إنه ما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان وأن كلا منهما له حقيقة : هي ذاته ونفسه وماهية حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافا ظاهرا كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك بل وفيما هو أخص من ذلك مثل كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره ونحو ذلك وهما مع هذا مختلفان
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء : لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز ان يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل : مسمى الوجود والحقيقة والعالم والقادر ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته فكيف يكون للخالق شريك في ذلك ؟ لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته والله تعالى لا مثل له أصلا والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى فما وجب للقدر المطلق المشترك لا نقص فيه ولا عيب وما نفي عنه فلا كمال فيه وما جاز له فلا محذور في جوازه
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والافات فهي ليست من لوازم ما يختص به ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع
وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار والأمر بكتمانها عن الجمهور وقصور الجمهور عن إدراك حقائق هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق
والمخالفون من نفاة الصفات الخبرية أو نفي الأوامر الشرعية من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاة ونحوهم يشيرون إلى ذلك ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك فالأثر المروي : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكروه إلا أهل الغرة بالله تعالى وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وأبو حامد الغزالي وغيرهما
لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات
و أبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة
وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة ومن المعلوم ان أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله وإنما لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله
والأمور الباطنة فيها إجمال فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان موافق لما جاء به الكتاب والرسول يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيمانا بخلاف الملاحدة كلما امعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله
وقول ابن سينا هو الإقرار بالصانع مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون له شريك في النوع أو يكون له جزء وجودي كمي او معنوي إلى آخره
فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى ومراده انه ليس لله علم ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام ولا محبة وأنه لا يرى ولا يباين المخلوقات
قلت : وقد تكلمنا على هذا وعلى ثبوت الكليات في الخارج التي ذكرها في إشارته وشرحها شارحو إشاراته كالرازي والطوسي وابن كمونه اليهودي وأمثالهم فإنه ذكر دليل توحيدهم وقدم قبله مقدمات

كلام ابن سينا عن الصفات الذاتية والعرضية تعليق ابن تيمية عليه
قال في الإشارات : كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها : فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما من لوازم ما تختلف فيه فيكون للمختلفات لازم واحد وهذا غير منكر وإما أن يكون ما تختلف فيه لازما لما تتفق فيه فيكون الذي يلزم الواحد مختلفا متقابلا وهذا منكر وإما أن يكون ما تتفق فيه عارضا عرض لما تختلف فيه وهذا غير منكر وغما أن يكون ما تختلف فيه عارضا عرض لما تتفق فيه وهذا أيضا غير منكر
قال الشارحون لكلامه : كل شيئين فلا بد أن يكونا متخالفين في هويتهما وتشخصهما لأن تشخص هذا لو كان حاصلا لذاك لكان هذا ذاك لا غيره والأشياء قد تكون متوافقة في شيء من المقومات كالأجناس العالية فإنها لا تكون متوافقة في شيء من المقومات وإن كانت ربما توافقت في شيء من الصفات العرضية
وإذا كان كذلك فإذا اتفقت في أمر مقوم لها كان ما به الاختلاف مغايرا لما به الاشتراك لا محالة فتكون هوية كل واحد منهما مركبة مما به شارك الآخر ومما به امتاز عن الآخر وعند ذلك فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الاختلاف أو بالعكس أو يكون ما به الاشتراك عارضا لما به الاختلاف أو بالعكس
فأما الأول فهو غير منكر كفصول الأنواع الداخلة تحت جنس فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع تلك الفصول وكالوجود اللازمين للمقولات والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة المختلفة فإن السواد والبياض وإن كانا مختلفين لكنهما مشتركان في كون كل منهما ضد الآخر
وأما الثاني وهو كون ما به الاختلاف لازما لما به الاشتراك فهو محال كالناطق مع الحيوان لو كان لازما له لكان كل حيوان ناطقا
وأما الثالث والرابع فهما جائزان
قلت : وهذا الكلام مبني على أصول سلمها لهم من لم يفهمها مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات المقومة والعرضية اللازمة وكلامهم في تركب الأنواع من الأجناس والفصول ونحو ذلك
ونحن نبين ما يعرف الحق به فنقول : معلوم أن هذا الإنسان يشابه غيره في الإنسانية ويشابه سائر الحيوانات في الحيوانية وهذا معنى قولهم : متفقان في مسمى الإنسانية أو الحيوانية أو يشتركان في ذلك لكن نفس إنسانيته التي تخصه وحيوانيته التي تخصه لم يشركه فيها غيره أصلا وإن كان قد ماثله فيها وشابهه فمشابهة الشيء الشيء ومماثلته لا تقتضي أن يكون عين أحدهما يشاركه الآخر فيها أو في شيء من صفاتها القائمة بها فزيد المعين ليس فيه شيء من غيره أصلا ولا في شيء من صفاته القائمة به
فقول القائل : اشتركا في الإنسانية أو اتفقا فيها ونحو ذلك فيه إجمال فإن الاشتراك يراد به الاشتراك في الأمور الموجودة في الخارج كاشتراك الشركاء في العقار بحيث يكون لهذا بعضه ولهذا بعضه مشاعا أو مقسوما وإذا اقتسما ذلك كان لهذا بعضه ولهذا بعضه والمقسوم لا يصدق على كل من القسمين ولا يعمهما فهذا اشتراك في الكل وقسمة للكل إلى أجزائه كالقسمة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم وقسمة النبي صلى الله عليه و سلم الغنائم والمواريث ومنه انقسام الكلام إلى اسم وفعل وحرف
ومعلوم أن اشتراك الأعيان ف بالنوع أو الجنس وانقسام الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ليس من هذا فإن هذا قسمة الكلي إلى جزئياته واشتراك الجزئيات في كلي يتناولها فالكليات لا توجد في الخارج كليات فلا بد إلا مشخصة معينة
وإذا قال القائل : الكلي الطبيعي موجود في الخارج وهو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو والحيوان من حيث هو هو فإن أراد بذلك أنه يوجد ما يصدق عليه المعنى الذي يقال له إذا كان في الذهن كليا مثل أن يوجد الشخص الذي يقال له إنسان وحيوان وجسم ونحو ذلك فقد صدق وإن أراد أنه يوجد الكلي كليا فقد أخطأ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه والمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فكيف يكون ذاك جزءا من هذا منحصرا في هذا ؟ وهو يصلح لأن يدخل فيه من الأعيان أضعاف هذا ؟ وكيف يكون الكبير جزءا من لا قليل والعظيم جزءا من الصغير ؟ ولا ريب أن الذهن يتصور إنسانا مطلقا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فيكون كليا في التصور والذهن فإذا وجد فلا يوجد إلا معينا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن أراد بقوله : الكلي يوجد في الأعيان ما يراد بوجود الصور الذهنية في الخارج مثل قول القائل : ما كان في نفسي فقد حصل ولله الحمد وما كان في نفسي فقد فعله زيد ونحو ذلك فإن أول الفكرة آخر العمل والإنسانية يتصور في نفسه أشياء ثم يفعل ما تصوره ولا يريد بذلك أن نفس الصورة الذهنية التي تصورها وقصدها وجدت في الخارج بعينها ولكن وجد في الخارج ما هو مطابق لها موافق لها
وقد يقال : إن هذا هو هذا كما يقال للمكتوب أنه الملفوظ وللملفوظ إنه المعلوم وللمعلوم إنه الموجود فإن الأشياء لها وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان : وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي فإذا كتب اسم زيد وقيل إن هذا هو زيد لم يرد بذلك أن الخط هو الصوت ولا أن الصوت هو العلم ولا أن العلم هو الشخص المعين بل الناس يعلمون أن القائل إذا قال : هذا هو زيد فالمراد هذا المكتوب اسمه زيد ونظائر هذا كثيرة فإذا قيل : إن الكلي وجد في الخارج بهذا الاعتبار فهو صحيح لأن الكلي يتصوره الذهن مطلقا غير مشروط بشرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط إذا قيل : هذا حيوان هذا إنسان لكن إذا صدق عليه المطلق لا بشرط لم يلزم أن يكون قد وجد المطلق مطلقا لا بشرط فإن صدقه عليه يقتضي أن يكون صفة له ومحمولا عليه وهذا عين التقييد والتخصيص
وهذا كما إذا قلنا : هذا حيوان هذا جسم لم يلزم من ذلك أن يكون قد وجد حيوان مطلق فضلا عن أن يكون إنسانا أو فرسا أو نحو ذلك من الأنواع أو جسم معين مجرد عن أن يكون معينا من الأجسام المعينة
وقول القائل : المطلق لا بشرط ينفي اشتراط الإطلاق فإن ذلك هو المطلق بشرط الإطلاق وذاك ليس بموجود في الخارج بلا نزاع من هؤلاء المنطقيين أتباع أرسطو فإن المنطق اليوناني يضاف إليه ولهذا لا يذكرون فيه نزاعا وإنما يثبته في الخارج أصحاب أفلاطون وإذا لم يكن الإطلاق شرطا فيه لم يمتنع اقتران القيد به فيكون وجوده مقيدا وإذا كان وجوده مقيدا امتنع أن يكون مطلقا فإن الإطلاق ينافي التقييد
وإن قلت : المقيد يدخل في المطلق بلا شرط
قلت : وإذا دخل فيه هو إياه في الذات مغايرا له في الصفات كما إذا قلت : الناطق حيوان لم يكن هناك جوهران : أحدهما مطلق والآخر مقيد
وهذا أمر يشهد به الحس ولا ينازع فيه من تصوره فليس في الموجودات المعينة إلا صفاتها المعينة القائمة بها وكل ذلك مشخص معين وما ثم إلا عين قائمة بنفسها سواء سميت جوهرا أو جسما أو غير ذلك أو صفة لها : سواء سميت عرضا أو لم تسم بذلك
والمقصود أن الشيئين إذا اتفقا واشتركا في شيء كالإنسانية والحيوانية واختلفا وامتاز كل منهما عن الآخر بشيء كتعينة وتخصصه فكل ما اتفقا فيه واختلفا فيه يمكن أخذه مطلقا ومعينا فإذا أخذ معينا لم يكن واحد منهما شارك الآخر ووافقه في ما تعين فيه وإذا أخذ مطلقا أو كليا كان كل منهما قد شارك الآخر ووافقه في الكلي المطلق الذي يصدق عليهما ولكن الكليات في الأذهان وليس ف بالأعيان إلا ما هو معين مختص
لكن بين المعينات تشابه واختلاف وتضاد فإذا قيل : هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية ويمتاز عنه بالتعين
قيل له : يشاركه في إنسانيته التي تخصه أو في مطلق الإنسانية ؟ فالأول باطل ومخالف لقوله : ويمتاز عنه بالتعيين وإن أراد الثاني قيل له : وكذلك التعين فإنه يشاركه في مطلق التعين فلكل منهما تعين يخصه ويشتركان في مطلق التعين كما قلنا في الإنسانية
فقول هؤلاء : كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما لما تختلف فيه أو ملزوما له أو عارضا له أو معروضا له فالأول والثالث والرابع جائز والثاني يمتنع
يقال لهم : الأشياء المعينة كالإنسانيين والموجودين سواء قدرا واجبين أو ممكنين أو قدر أحدهما كذلك لم تتفق في أمر هو بعينه في هذا وفي هذا سواء سمي مقوما أو لم يسم فهذا الإنسان لم يوافق هذا في نفس إنسانيته وإنما وافقه في إنسانية مطلقة وتلك المطلقة يمتنع أن تقوم بالمعين فالتي وافقه فيها يمتنع أن تكون بعينها موجودة في الخارج فضلا عن أن تكون مقومة لشيء من الأشياء والأشياء المعينة لا تقوم بها ولا يقومها إلا ما هو مختص بها لا يشركها فيه غيره
فهذا الإنسان المعين لا يقومه ولا يقوم به ولا يلزمه ولا يعرض له قط إلا ما هو مختص به سواء كان جوهرا أو عرضا كما أن يده ورجله ورأسه مختصة به فما يقوم ببدنه ونفسه من الحياة والنطق والحس والحركة والجسمية وغير ذلك كل ذلك مختص به ليس بقائم بغيره
فليتدبر العاقل اللبيب هذا المكان الذي حصل بسبب الضلال فيه من فساد العقول والأديان ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى
وباشتباه هذا اشتبه الأمر على هؤلاء المنطقيين وعلى من قلدهم وأتبعهم فضلوا في العقليات المنطقيات والإلهيات ضلالا بعيدا وجعلوا الصور الذهنية الخيالية حقائق موجودة في الخارج حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا لواجب الوجود الخالق للسماوات والأرض رب العالمين وجودا مطلقا في إذ انهم وعرضا ثابتا في نفوسهم ليس له حقيقة في الخارج ولا وجود ولا ثبوت ويقولون : وجوده معقول لا محسوس وإنما هو معقول في عقولهم كما يعقلون الكليات الثابتة في العقول فالوجود المطلق : كالحيوان المطلق والإنسان والجسم المطلق والشمس المطلقة والقمر المطلق والفالك المطلق ونحو ذلك مما لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو نهاية التوحيد الذي زعموا أن الرسل جاءت به ولا ريب أن أقل أتباع الرسل أصح وأكمل عقلا من أن يجعل هذا ثابتا ف بالوجود الخارج فضلا عن أن يجعله رب العالمين مالك يوم الدين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقوله إما أن يكون المتفق لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
فيقال : ما سميته متفقا ومشتركا هو ما جعلته مختلفا مميزا لازما له وملزوما يشتركان في العموم والخصوص والإطلاق والتعيين فالاشتراك والامتياز والاتفاق والاختلاف إذا أخذته باعتبار الذهن والخارج فكل شيئين اشتركا في أمر فذلك المشترك هو في الذهن وكل منهما هو في الخارج متميز فالحيوانان المشتركان في الحيوانية هما مشتركا في الحيوانية المطلقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالحيوانية الموجودة التي تخصه كما يشترك الناطقان في الناطقية ويمتاز أحدهما عن الآخر بالناطقية التي تخصه
وأما الأمور الموجودة في الخارج فبينها تشابه وتماثل واختلاف وتضاد ليس فيها شيء يشارك شيئا لا في ذاته ولا في صفة من صفاته
فقولهم في القسم الأول هو مثل فصول الأنواع الداخلة تحت جنس واحد فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع الفصول كالوجود والوجود والوحدة والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة
يقال لهم : فصول الأنواع : كالناطقية والصاهلية ونحوهما التي هي فصول أنواع الحيوان كالفرس والإنسان وغيرهما مما يدخل تحت جنس الحيوان إذا قيل طبيعة الجنس وهو الحيوان لازمة لطبائع هذه الفصول كما هو لازم لهذه الأنواع فإذا أخذت عين اللازم والملزوم في الخارج كان التلازم من الطرفين يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فلا يقال إن أحدهما أعم من الآخر ولا أخص
وإذا قيل : إنهما يشتركان في الحيوانية وكل منهما متميز عن الآخر بالناطقية والصاهلية فكل من هذه الموجودات متميزعن غيره بحيوانيته كما هو متميز بناطقيته وصاهليته ونوع الناطقية لا يميز معينا عن معين وإنما يميز نوعا عن نوع والأنواع إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فإن الحيوان إذا لزم الناطق والصاهل فنفس الحيوان هو نفس الصاهل ونفس الناطق ليس الحيوان فيه
وهم قد يقولون : إن في الناطق والصاهل حيوانا وهذا غلط فإن الحيوان هو الموصوف بأنه صاهل وأنه ناطق وليس في الجوهر المعين جوهر آخر : لا مطلقا ولا معينا بل هو جوهر واحد موصوف بهذا وبهذا بل وهذا الصاهل المعين هو حيوان وليس هو هذا الصاهل المعين الذي هو حيوان فضلا عن أن يكون هذا الناطق المعين
ولو قيل : إن هذا الصاهل المعين فيه حيوان فليس الحيوان الذي فيه هو الحيوان الذي فيه الصاهل المعين فكيف بما في الناطق وأمثاله ؟
وإذا أراد أن الطبيعة العامة أو المطلقة أو الكلية لازمة لهذه الطبائع الخاصة فالمعنى الصحيح : أن هذا المعنى الذي يوجد في الذهن عاما مطلقا كليا والذي يوجد أعيانه في الخارج أكثر من أعيان الطبيعة الخاصة هو لازم للطبيعة الخاصة فحيث كان ناطق أو صاهل كان هناك ما هو حيوان وليس إذا كان حيوان يلزم أن يكون هناك ناطق أو صاهل
وهنا كلام ليس هذا موضعه وهو أن الحيوانية التي للإنسان مثلا هي مماثلة للتي للفرس مخالفة لها فهؤلاء يقولون : هي مماثلة والمختلفات يلزمها امور متماثلة وغيرهم يقولون : بل لوازم المختلفات مختلفة وليست الحيوانية التي في هذا النوع مثل الحيوانية التي في النوع الآخر
وهذا نظير اختلافهم في الحكم الواحد بالنوع : هل يجوز تعليله بعلتين مختلفتين ؟ فمن قال بالأول جوز ذلك
ومن قال بالثاني منع ذلك وقال : اختلاف العلل يقتضي اختلاف الأحكام ويجيبون عن قول من يقول إن الملك نوع واحد وهو يستفاد بالبيع والإرث والاتهاب ونحو ذلك بأن الملك أنواع مختلفة وليس هذا مثل هذا وإن اشتركا في كثير في كثير من الأحكام وكذلك حل الدم الثابت بالردة والقتل والزنا
وقد عورضوا بنقض الوضوء الثابت بأسباب مختلفة فأجابوا بأنه قد يختلف الحكم بالقوة والضعف
وهذا الآن كلام في تماثل الأحكام والعلل المختلفة وتماثل لوازم الأنواع المختلفة وأما كون هذا المعين ليس هو هذا المعين فهذا مما لا نزاع فيه
والمقصود هنا أن المتفقات في أنر من الأمور إذا قيل : إن ما به الاشتراك لازم لما به الامتياز فما اشتركا فيه لا يفارق ما به من الامتياز من جهة كونه مشتركا ولا يوجد معه فضلا عن أن يلزمه إذ الاشتراك إنما هو فيه إذا كان في الذهن وهو من هذه الجهة لا يوجد في الخارج ولكن الوصف الذي يقال إنهما تشاركا فيه معناه انه يوجد لهذا معينا ويوجد لهذا من نوعه آخر معين والمعين لا اشتراك فيه فلا يظن انه وجد في الخارج ما اشتركا فيه في الخارج وإن كان مشتركا فيه في الذهن
واعتبر عموم المعاني والاشتراك فيهما بعموم الألفاظ والاشتراك فيهما فإذا قلت : لفظ إنسان يشترك فيه هذا وهذا ويعمها ولفظ حيوان يشترك فيه أكثر مما يشترك في لفظ إنسان لم يكن بين المسميات في الخارج شيء اشتركت فيه فليس بين هذا الإنسان وهذا الإنسان ولا بينهما وبين الفرس في الخارج شيء مشترك بينهما لأجل الاشتراك والاتفاق في لفظ إنسان ولفظ حيوان فكذلك اتفاقهما واشتراكهما في المعنى المدلول عليه بهذا اللفظ
وكذلك اتفاقهم واشتراكهم في الخط المرقوم المطابق لهذا اللفظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والثلاثة تتناول الأفراد الموجودة في الخارج وتعمها والأعيان متفقة فيها مشتركة من غير أن يكون بين الأعيان في الخارج شيء اشتركت فيه لكن بينها تشابه بحسب ذلك المعنى الشامل لها واللفظ المطابق له والخط المطابق للفظ وبذلك يتبين الكلام في القسم الثاني وهو أن ما به الاختلاف لازم لما به الاشتراك انه قسم ممتنع فإنه ليس في الخارج إلا ما به الاختلاف الذي هو ضد الاشتراك إذ ليس في الخارج مشترك بل كل شيء فهو نفسه ليس مشاركا لغيره في شيء فيكون مخالفا له إذا جعل الاختلاف قسم الاشتراك وأما الاختلاف الذي هو قسيم التشابه ن فهذا قد يكون في الخارج وقد لا يكون فالبياضان المتماثلان هما غير مختلفين بهذا الاصطلاح وهما مختلفان بالاصطلاح الأول الذي هو بمعنى الامتياز فإذا كان كل من البياضين ممتازا عن الآخر ببياضه الذي يخصه فهو ممتاز عنه أيضا بلونيته وعرضيته التي تخصه وكذلك الإنسانان فما امتاز به كل منهما عن الآخر لازم للمشترك الكلي الذي في الذهن فذاك ليس بلازم ولا ملزوم إذ يمكن تقدير حيوان ولون مجردا في الذهن ليس له لازم ولا ملزوم وأما الحيوان الموجود في الخارج فهو حيوان معين يلزمه معين إما إنسان معين وإما فرس معين وإما نحو ذلك وهذا المعين حاصل مع هذا المعين أبدا ولكن ليس لازما لحيوان آخر فإذا عدم هذا الإنسان المعين عدم هذا الحيوان المعين فإذا وجد آخر لم يكن هو المستلزم لهذا المعين فالحاصل أن كل موجود في الخارج بعينه فجميع صفاته اللازمة متلازمة يلزم من وجود إنسانيته وجود حيوانيته ويلزم من وجود حيوانيته وجود إنسانيته

تابع كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية عليه
وأما المقدمة الثانية فإنه قال : قد يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته وأن تكون صفة له سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشيء إنما هي بسبب ماهيتة التي ليست هي الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود
فيقال له : هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده فنقول : إما أن تعني بالماهية والوجود : الماهية العلمية الذهنية والوجود العلمي الذهني وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج والوجود الثابت في الخارج وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وإما بالعكس
فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته
ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه
وإن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض
وإذا كان كذلك فقول القائل يجوز أن تكون ماهية الشيء أو بعض صفاته سببا لصفة أخرى ولا يجوز أن تكون الماهية سببا للصفة التي هي الوجود لأن السبب متقدم على الوجود ولا يتقدم بالوجود على الوجود
كلام مبني على أصول فاسدة
أحدها كون الموجود الثابت في الخارج صفة لماهية ثابتة في الخارج وهذا غلط بل نفس ما في الخارج هو الموجود الذي هو ماهيته والوجود إن عني به المصدر فذاك قائم بالواحد وإن عني به الموجود فهو الموجود فليس في الموجود وجود يزيد على حقيقته الموجودة
والثاني قوله إن الماهية أو صفتها تكون سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة
فإن عني بالماهية ما في النفس فليس هناك مسبب ولا سبب بل الذهن هو الذي يصور الجميع وإن عني بها ما في الخارج فالفاعل المعين مبدع لصفاتها اللازمة وصفاتها العارضة قد تكون موقوفة على شرط آخر وليست إحدى الصفتين اللازمتين سببا لها وإن كان قد يكون شرطا
الثالث أن لفظ السبب إن عني به الفاعل فالصفة لا تفعل الصفة ولا الماهية تفعل صفاتها اللازمة لا سيما عندهم حيث يقولون الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وإن عني به ما يقف المسبب عليه ولو كان شرطا فالمحل حينئذ سبب وهم يزعمون أن الماهية قابلة لوجودها فتكون سببا لوجودها فتناقض قولهم
وأما عند التحقيق فيجوز أن تكون الماهية أو شيء من صفاتها شرطا في صفة أخرى ولو كنا ممن يقول إن في الخارج ماهية مغايرة لوجوده لجوزنا أن تكون الماهية شرطا لوجودها لأن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بخلاف العلة فإنها تتقدم المعلول ولكن لما لم يكن في الخارج إلا الوجود الذي هو ماهية نفسه امتنع أن تكون هناك ماهية تكون شرطا لوجود نفسها أو لا تكون شرطا لوجود نفسها
ثم قال ابن سينا في تقرير توحيدهم واجب الوجود المتعين إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره وإن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول لأنه إن كان وجوب الوجود لازما لتعينه كان الوجوب لازما لماهية غيره أو صفة وذلك محال وإن كان عارضا فهو أولى أن يكون لعلة وإن كان ما تعين به لخصوصية ما لذاته يجب وجوده هذا محال وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق فكلامنا في ذلك وباقي أقسامه محال
قلت وإيضاح هذا الكلام أنه إذا قدر واجبان كان قد اشتركا في مسمى الوجوب وامتاز كل منها عن الآخر بتعينه فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الامتياز أو ملزوما أو عارضا أو معروضا فغن كان المشترك لازما كلزوم الحيوانية للإنسانية مثلا فهذا لا يجوز في هذا الموضع كما قال لأنه كان واجب الوجود لازما لتعينه كان الوجود الواجب لازما لماهية غيره وصفة وذلك محال
وإن كان المشترك وهو الوجوب عارضا للمختص وهو التعين الذي هو الماهية فهو أولى أن يكون لعلة والوجود الواجب لا يكون لعلة
وإن كان التعين عارضا للوجوب المشترك فهو لعلة كتعين آحاد النوع
ولهذا قال بعد هذا أعلم أن الأشياء التي لها حد نوعي واحد فإنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير على كثيرين فتعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون في طبيعة من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا وأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل مجراه
قال فإذا كان ما تعين به عارضا للوجوب المشترك بالعروض لعلة فإن كانت تلك العلة وما به تعين الماهية واحدا بحيث تكون علة العروض هي علة التعين كانت تلك العلة علة الخصوص ما لذاته يجب وجوده فيكون لذات واجب الوجود علة وهو ممتنع وإن كان عروضه للوجوب المشترك بعد تعين أول سابق فالكلام في ذلك التعين السابق
وبقي من الأقسام قسم رابع وهو أن يكون ما به التعين الذي امتاز به كل منهما عن الآخر لازما للمشترك بينهما وهذا ممتنع في جميع المواد كما تقدم بتعين امتناع واجبي وجود ووجب أن يكون وجوب الوجود مستلزما للتعين فيكون تعينه لأنه واجب الوجود والمعلول لازما لعلته فلا يكون وجوب الوجود لغير المعين فهذا مراده بهذه الحجة
وقد ظن أبو عبد الله الرازي أن مراده بقوله إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره هو القسم الأول من الأقسام الأربعة التي جعل فيها الوجوب بلزوم التعين على تقدير ثبوت واجبين
قال وأما قوله إن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول هو القسم الذي جعل الوجوب فيه معروض ذلك التعين قال وقوله وإن كان ما تعين به عارضا لذلك فهو لعلة هو هذا القسم وأنه لم يذكر في إبطاله إلا قوله لو كان تعينه لا لكونه واجبا بل لأمر آخر فهو معلول وأنه أعاد هذا الكلام مرة أخرى وزاد في بيان بطلانه ما ذكره آخرا وأنه لو ذكر هذا الكلام حينما تعرض لإبطال القسم الثاني كان أقرب إلى الضبط
قلت وليس الأمر على ما ظنه بل الرجل ذكر أول التقدير المستلزم لوحدة الواجب ثم ذكر أربعة أقسام على تعدده وأبطلها بقوله واجب الوجود المتعين إن كان تعينه أي ذلك التعين الخاص لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره لأنه يكون وجوب الوجود يستلزم التعين الخاص فلا يوجد الملزوم بدون لازمة فلا يتحقق الوجوب إلا في ذلك المعين وهو المطلوب وإن لم يكن ذلك التعين لأجل وجوب الوجود فهو معلول وكون واجب الوجود معلولا ممتنع وهذا يعم الأقسام الأربعة لأنه حينئذ يكون المتعين علة غير وجوب الوجود كما ذكر بعد هذا أن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تتعدد لعلل وتتعين بعلل أخرى إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا وإذا كان للتعين علة غير وجوب الوجود فهو معلول كما أن تعين الإنسان معلول لغير الإنسانية ثم بين أنه يكون معلولا على التقديرات الأربعة فقال إن كان وجوب الوجود المشترك لازما للتعين أي لهذا التعين وهذا التعين الذي في الواجبين كما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا التعين الذي في الواجبين مما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان كان الوجود الواجب لازما أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان الوجود الواجب لازما أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان عارضا فهو أولى وإن كان معروضا فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازما للمشترك فهو أولى وإن كان معروضا فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازما للمشترك فهو ممتنع في جميع المواد كما يمتنع أن يكون تعين الإنسان لازما للإنسانية لا يلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المعين وهذا محال

قول الآمدي في الحقائق
وإذا عرف أن هذا مقصودة فاعلم أن هذه الحجة يصوغها بعبارات متنوعة والمعنى واحد كما صاغها الآمدي في دقائق الحقائق في الفلسفة فقال الفصل الثاني في وحدانية واجب الوجود وأنه لا ضد له ولا ند وأنه قديم أزلي أما أن واجب الوجود واحد لا تعدد فيه ولا اشتراك فذلك لأن مسمى واجب الوجود لو كان مشتركا بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه فإن اتفقا من كل وجه فلا تعدد إذ التعدد دون مميز محال وإن اختلفا من كل وجه فما به وقع الافتراق إن كان هو مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه أيضا وإن كان غيره فمسمى واجب الوجود يكون مشتركا بينهما وعند ذلك فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصص والتمايز أو لا يتم دونه الأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك متخصصا في الأعيان بدون ما به التخصص وهو محال والثاني يتوجب أن يكون واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته وهذه المحالات إنما لزمت من القول بالاشتراك في مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه فإذا واجب الوجود لا تعدد فيه بل نوعه منحصر في شخصه
قال والناظر المتبحر يزداد بإمعان النظر في هذه الحجة المحررة والبحث فيها مع نفسه وضوحا وجلاء فإن ما طول به من التشكيكات وأنواع التخيلات على غيرها من الحجج المذكورة في هذا الباب فلا اتجاه له ههنا
هذا قوله هنا وهذه الحجة هي التي ذكرها الآمدي عنهم وعن بعض أصحابه في كتاب أبكار الأفكار واعترض عليها باعتراضين سبقه إلى أحدهما الرازي في شرح الإشارات وهو أن الوجوب أمر سلبي لا ثبوتي فلا يتم الدليل حينئذ والثاني أن هذه الحجة منتقضة بوجود الله سبحانه مع وجود الممكنات فإنهما اتفقا في مسمى الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه فإما أن يكون المطلق مع المعين لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا واعترض الرازي بإعتراض ثالث وهو أنه منع كون التعين وصفا ثبوتيا كما منع كون الوجوب وصفا ثبوتيا

تعليق ابن تيمية
قلت أما إلزامهم لهم الوجود الممكن مع الواجب فهذا إلزام لازم لا محيد للفلاسفة عنه ولكن ليس فيه حل الشبهة واما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا فهو من نوع السفسطة فإن الوجود إذا كان ثبوتيا فوجوبه الذي هو توكده المانع من إمكان نقيضه كيف يكون عدميا ومعلوم أن اسم الوجود هو بالواجب أحق منه بالممكن
وأيضا فإن ما ذكره من التقسيم وارد سواء قيل إن المفهوم ثبوتي أو سلبي فإنه إذا كان سلبيا مشتركا امتنع أن يكون ملزوما للمختص فإن المشترك سواء كان وجوديا أو عدميا لا يستلزم المختص فإنه يقتضي أنه حيث وجد المشترك المطلق العام وجد كل واحد من أفراده الخاصة وامتنع أيضا أن يكون لازما للمختص إلا إذا كان الوجوب معلولا ولازما لغيره وهو قد ذكر إبطال هذا
وقد اعترض الرازي باعتراض آخر على احد قوليه في أن الوجود زائد على الماهية بان الماهية تكون علة للوجود وذكر أنه لا محذور في أن تكون الماهية إذا أخذت مطلقة لا بشرط وجود ولا عدم علة لوجود نفسها والماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة
قلت الحجة مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء وامتاز كل منها عن الآخر بشيء وهذا عين الغلط
قلت والشخص المعين ليس له تعين غير هذا الشخص المعين لا ثبوتي ولا عدمي فإنه لم يكن مشاركا لغيره في أمر خارجي حتى يحتاج تعينه وتميزه عنه إلى وصف آخر ثبوتي أو سلبي وقولهم في القاعدة الكلية إن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فيعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه هو قول باطل وذلك أن الأشياء التي لها حد واحد نوعي لا وجود لها في الخارج مطلقة ولا عامة أصلا وإنما وجودها كذلك في الذهن فالسبب الفاعل للواحد منها هو الفاعل لذاته ولصفاته وهو الفاعل لذلك الواحد المعين وليس هنا شيئان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا قابلان بل الموجود هو الأعيان المشهودة والفاعل إنما فعل تلك الأعيان لم يفعل أنواعا مطلقة كلية وإن كانت تلك تتصور في العلم فالكلام في الوجود الخارجي
وهذا مما يبين لك أن من قال المتفلسفة إنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئا من الموجودات فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي والكليات إنما تكون في العلم لا سيما وهم يقولون إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية كالأفلاك المعينة والعقول المعينة وأول الصادرات عنه على أصلهم العقل الأول وهو معين فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا ؟
وقولهم إنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين كقول القائل إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة وهي المادة لم توجد فإن وجودها هو بعينها لم يكن لها تحقق في الخارج غير وجودها المعين
وقولهم فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فتعين كل واحد بعلة كقول القائل فموجود كل واحد بعلة ومعلوم أن الممكن وجوده بعلة سواء كان قد انحصر نوعه في شخصه كالشمس أو كان مما لم ينحصر نوعه في شخصه كالإنسان فليس للمعين علتان إحداهما لنوعه والأخرى لشخصه بل العلة الموجبة لشخصه كافية في وجوده كوجود ما أنحصر نوعه في شخصه
وقوله فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه كقول القائل لا يكون سوادان إلا إذا كان كل منهما قائما في محل وكذلك السواد الواحد لا يوجد إلا في محل يقوم به وإذا قيل السوادان يفتقران إلى محلين وكذلك السواد الواحد فذلك لأجل كون السواد لا بد له من محل ولا يعقل تعدد السوادين بدون تعدد المحل كما لا يعقل وجوده بدون وجود المحل وما لا يفتقر إلى محل فتعدده لا يفتقر إلى محل كما أن واحده لا يفتقر إلى محل والتعين كالوحدة والتكثر كالتعدد وليس للعدد والوحدة في الخارج وجود غير المعدودات والمتوحدات وإنما وجود العدد المطلق والوحدة المطلقة والتعين المطلق في الأذهان لا في الأعيان كسائر المطلقات
وعلى هذا التقدير فواجب المتعين ليس لتعينه علة ولا سبب كما أنه ليس لوجوده علة ولا سبب وليس هناك في الخارج تعين زائد على نفسه المعينة لا ثبوتي ولا سلبي حتى يقال إن ذلك له علة وإن علته إما وجوب الوجود فلا يتعدد وإما أمر آخر فيكون وجوب الوجود معلولا
وإذا قدر واجبا وجود وقال القائل إنهما اشتركا في وجوب الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه
قيل له اشتركا في وجوب الوجود المطلق أو شارك كل منهما الآخر فيما يخصه من وجوب وجوده فأي شيء قال في ذلك قيل له وكذلك التعين فإنهما اشتركا في التعين المطلق وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه الذي يخصه فإذا قدرت وجوبا مطلقا فخذ معه تعينا مطلقا وإذا قدرت وجوبا معينا فخذ معه تعينا معينا وإذا قلت التعين المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج قيل لك والوجوب المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج
وحينئذ فقولك ما به الاشتراك يكون لازما لما به الامتياز أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
جوابه أن ليس في الخارج ما به الاشتراك وإنما في الخارج ما به الامتياز فقط وما جعلته مشتركا هو نظير ما جعلته مميزا يمكن فرض كل منهما مطلقا ومعينا
فإذا قلت اشتركا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه
قيل لك اشتركا في وجوب مطلق كلي لا وجود له في الخارج كما اشتركا في تعين مطلق كلي وماهية مطلقة كلية وكل منهما ممتاز عن الآخر بما هو موجود فهو ممتاز عنه بوجوده الذي يخصه وهو حقيقته التي تخصه وهو نفسه وذاته وماهيته التي تخصه فما اشتركا فيه من الأمر الكلي الذهني لا يكون في الخارج فضلا عن أن يحتاج إلى مميز وما وجد في الخارج هو مميز عن غيره بنفسه المتناولة لذاته وصفاته المختصة به لا يحتاج إلى مميز آخر وإن شابهه أو ماثله
وإذا قيل : هو هو فهو باعتبار النوع لا باعتبار الشخص ومعنى ذلك أن الموجود في الخارج من هذا هو مثل الموجود في الخارج من هذا
فإذا قلت : هذان إنسانان اشتركا في الإنسانية وامتاز أحدهما عن الآخر بعينه أو بشخصه أو ما قلت من العبارات التي تؤدي هذا المعنى أمكن ان يقال : هذان الإنسانان اشتركا في أن كلا منهما له عين تخصه وله شخص ونحو ذلك فاشتركا في التعين والتشخيص وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه من الإنسانية
وحقيقة الأمر أن كلا منهما ماثل الآخر ووافقه في أنه إنسان معين مشخص وكذلك إذا قدرنا موجودين : واجبا وممكنا أو موجودين : واجبين أو ممكنين فهذا الموجود وافق هذا الموجود في الوجود المطلق المشترك بمعنى انه شابهه في ذلك فهذا موجود : أي ثابت متحقق في الخارج وهذا موجود : أي ثابت متحقق في الخارج وكل منهما يفارق الآخر في نفس وجوده الذي يختص به وهو ذاته الموجودة في الخارج وليس بينهما اشتراك إلا في الخارج سواء كانا متماثلين : كالسوادين وحبتي الحنطة أو كانا مختلفين : كالسواد مع البياض والفرس مع الإنسان
فإذا قيل : إن السواد والبياض أو السوادين اشتركا في الوجود فهو كقولنا : اشتركا في التحقيق والثبوت وأن لكل واحد ماهية ولا يقتضي هذا تماثلهما في شيء من الأشياء فإن ما وجد في الخارج لكل منهما أمر يخصه فإذا لم يكن الموجود في الخارج منهما متماثلا كالسواد مع البياض لم يكونا متماثلين
وكذلك إذا قدر واجبان وقيل : اشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بالتعين
قيل : ما في الخارج ليس فيه اشتراك وإنما اشتركا في وجوب مطلق كلي كما اشتركا في تعين مطلق كلي وهذا الواجب المعين لم يشركه غيره في وجوبه المعين كما لم يشركه في تعينه المعين بل كل منهما حقيقته الموجودة في الخارج هي الشيء الموجود في الخارج كما أن حقيقه الممكن المحدث الموجودة في الخارج هي نفس الموجود في الخارج وليس في الخارج حقيقة سوى الشيء المعين الموجود حتى يقال : إن الوجود عارض لها أو لازم بل إن كان الشيء الموجود في الخارج من المحدثات كان موجودا تارة ومعدوما أخرى والموجود هي حقيقته الثابتة في الخارج والمعدوم تلك الحقيقة وهي مجعولة مفعولة مصنوعة وأما الحقيقة المتصورة في الذهن فتلك هي وجوده الذهني العلمي وتلك تحصل بالأسباب المحصلة للعلم كما تحصل الخارجة بالأسباب المحصلة للوجود وما ثم إلا هذا أو هذا فتقدير حقيقة لا في العلم ولا في الوجود تقدير مالا حقيقة له بل هو فرض ممتنع يتصوره الذهن كما يتصور ما لا يمكن وجوده لا في العلم ولا في الخارج فإن تصور مالا يمكن وجوده أعظم من تصورنا ما لا يوجد وهو متصور من هذه الجهة العامة حتى يحكم عليه بنفي التصور الخاص ولولا تميزه في الذهن مجملا لما أمكن الحكم على أفراده بالامتناع
ويبين هذا بالكلام على النظم الذي ذكره لهم الآمدي وجعله الغاية التي لا يرد عليها شيء وهو قوله لو كان وجوب الوجود مشتركا بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه
إلى قوله وإن اتفقا من وجه دون وجه ومسمى واجب الوجود هو ما اشتركا فيه فمسمى واجب الوجود يكون مشتركا فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصيص والتايز أو لا يتم بدونه والأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك مشخصا في العيان بدون ما به التخصيص وهو محال والثاني يوجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته
قلت : فيقال لهم : قولكم إما أن يتم تحقيق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصيص أتعنون بذلك المسمى المطلق الكلي الذي لا يوجد إلا في الذهن ؟ أم تعنون به المسمى الثابت في الخارج ؟
أما الأول فلا يوجد في الخارج : لا فيهما ولا في أحدهما كما لا يوجد الحيوان المطلق الكلي ثابتا في الخارج : لا في هذا الحيوان ولا هذا الحيوان بل لا يوجد في الخارج إلا ما هو حيوان معين جزئي وإنسان معين جزئي وكذلك الإنسان المطلق الكلي وكذلك سائر المطلقات الكلية كالحيوان المطلق وهم يسلمون أنها لا توجد في الخارج كلية مطلقة وإنما يظنون أنها توجد جزءا من المعين وهذا أيضا غلط بل لا توجد إلا معينة مشخصة وليس في المعين المشخص ما هو مطلق ولا في الجزئي ما هو كلي فإن كون الكلي ينحصر في الجزئي والمطلق في المعين ممتنع
و الآمدي قد بين فساد هذا في غير موضع من كتبه مثل كلامه على الفرق بين المطلق والمقيد والكلي والجزئي وغير ذلك وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءا من المعين وبين خطأ من يقول ذلك كالرازي وغيره فلو رجع إلى اصله الصحيح الذي ذكره في الكلي والجزئي والمطلق والمعين لعلم فساد هذه الحجة ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها كالرازي والآمدي ونحوهما : تارة يمنعون وجود الصور الذهنية حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن وتارة يجعلون ذلك ثابتا في الخارج
ففي هذا الموضع أثبت الآمدي المسمى المشترك الكلي في الخارج وفي موضع آخر ينفيه مطلقا كما قال في إحكامه لما أراد الرد على الرازي في الأمر بالماهية الكلية : هل يكون أمرا بشيء من جزئياتها ام لا ؟ فإن الرازي ذكر أن الأمر بشيء من المعينات أن لا يكون فاعل المعين ممتثلا بل الأمر بجميع الأفعال : كالأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج والعتق وإعطاء الفقراء فإنه أمر يشيء مطلق ومع هذا فإذا اعتق رقبة مما أمر به أجزأه ولو صام شهرين متتابعين في أول العام أو اوسطه أجزأه بخلاف آخره فإن فيه نزاعا لتخلل الفطر الواجب ومثل هذا كثير
وزعم الآمدي أن الأمر لا يكون بالماهية الكلية بل لا يكون إلا أمرا بالجزئيات وهذا صحيح باعتبار دون اعتبار فإذا أريد به أن لا يمكنه فعل المطلق إلا معينا فيكون مأمورا بأحد الجزئيات لا يعينه بطريق اللزوم كان صحيحا وأما إن أريد انه لم يؤمر إلا بمعين لا بمطلق فليس بصحيح

قول الآمدي في الإحكام
قال الآمدي إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقا غير مقيد في اللفظ بقيد خاص قال بعض أصحابنا : الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا ثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما يخصص به كل واحد من الأمرين فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقا بالأخص إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين
قال ولذلك قلنا : إن الوكيل في البيع المطلق لا يملك البيع بالغبن الفاحش
قال الآمدي وهذا غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك في الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجودا في جزئياته فيلزم من ذلك انحصار ما يصلح لاشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح لذلك وهو محال
قال وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي سوى أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر طلب إيقاع الفعل على ما تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصورا في نفس الطالب فإذا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالأمر الكلي
قال وإن سلم أن الأمر يتعلق بالمعنى الكي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الثاني صحيح فإن الآتي ببعض المعينات قد أتى بما امر به لكن الجمهور الذي يقولون : لا يصح بيعه بالغبن الفاحش يقولون لم يدخل هذا البيع المعين في المسمى المطلق في عرف الناس كما لم يدخل البيع بثمن مؤجل وثمن محرم ونحو ذلك
وأما قوله إنه لم يؤمر بكلي وإنه لا معنى لا اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي وإلا مطابقة حد الكلي لحد جزئياته فهذا إسراف في النفي فإن الجزئيات تطابق حد بعضها بعضا وليس بعضها عاما مشتركا لسائرها
وقوله إيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه صحيح إذا أريد به أن يجعل ذلك المعنى الذي في نفسه كليا هو نفسه موجودا في الخارج وهذا غير مراد فإن ما في النفس صفة قائمة بها لا يكون في الخارج وإنما المراد أن يوجد في الخارج ما يطابقه بحيث يكون ذلك المعنى الكلي الذهني متناولا له كما يقال : فعلت ما في نفسي كما قال تعالى { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } يوسف 68 فالحاجة التي في نفسه إنما في نفسه تصورها وقصدها وقضاؤها له فعل ذلك المراد المتصور وهو امره لهم بما امرهم به من الدخول من أبواب متفرقة ومثل هذا كثير في كلام سائر الناس
ومنه قول عمر بن الخطاب : زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها
ويقال : كان في نفسي أن أحج وقد فعلت ما كان في نفسي
والمقصود هنا أن الآمدي هنا متعرف بأن المعنى الكي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجودا في جزئياته
قال : يلزم من ذلك انحصار ما يصلح لا اشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح له وهو محال وهو كما قال فإنه إذا قال : إن المطلق جزء من المعين والكلي موجود في الجزئي فقد جعل الكي بعض الجزئي وبعض الشيء ينحصر فيه ثم أنهم يقولون : هو جزء من هذا المعين وهذا المعين وسائر الجزئيات فيلزم انحصاره في كل جزئي من جزئياته وانحصاره في واحد يمنع وجوده في غيره كما يمتنع وجود الجزئي في جزئي آخر فكيف يكون منحصرا في جزئي مع انحصاره في جزئي آخر فإن هذا جمع بين النقيضين مرات متعددة بل لا ينحصر كثرة
فلو كان الآمدي ذكر هذا في هذا الموضع لعلم بطلان هذه الحجة التي حررها لأتباع ابن سينا في كتابيه الكبيرين ولم يبن علتها ولعرف حلها ولم يقتصر على معارضتها
وكذلك الرازي يحتج بمثل هذه كثيرا مع أنه ينقضها كثيرا كما قال في ملخصه حكاية عن المتفلسفة : أما الكلي العقلي فالمشهور أن الصورة الذهنية أي وجوده بما هو هو في الذهن فقط لا في الخارج قالوا في بيان ذلك إن الأمر الموصوف بالكلية موجود : إما في الذهن وإما في الخارج وإلا لكان عدما صرفا ولو كان كذلك لاستحال أن يكون مشتركا فيه بين كثيرين ومحال أن يكون موجودا في الخارج لأن كل موجود في الخارج فهو مشخص معين ولا شيء من المشخص المعين بمشترك فيه بين كثيرين ينتج لا شيء من الموجود في الخارج بمشترك فيه بين كثيرين وكل كلي مشترك فيه بين كثيرين فلا شيء من الموجود في الخارج بكلي ولما بطل كون الكي موجودا في الخارج تعين كونه موجودا في الذهن فهذا الكلام الذي ذكره الرازي وحكاه عن الحكماء هنا كلام صحيح ولو التزموا موجبه لم يقولوا : إن في الخارج شيئا مشتركا كليا ولا أن الإنسانية الكلية موجودة في الخارج ولا أن الواجبين أو الموجودين إذا اشتركا في مسمى الوجود والوجوب كان ذلك المشترك الكلي متحققا في الخارج واحتاج حينئذ إلى ما به الامتياز
وتناقض القوم أكثر من أن يمكن ذكره هنا ومن تصور هذا المعنى علم بالاضطرار أن هذا الإنسان المعين هو حيوان معين وجسم معين وناطق معين وأنه ليس فيه شيء كلي مطلق مشترك بينه وبين غيره ولا الكلي المطلق المشترك بين الأعيان جزء منه ثابت في الخارج ومن جعل المطلقات الكلية ثابتة في الخارج وجزءا من العينات وأثبت في المعينات أمورا مطلقة فلا ريب أنه لم يتصور ما قال أو هو فاسد العقل بأي عبارة عبر عن ذلك مثل أن يقول : الماهية الكلية يعرض لها التعين او هي معروضة التعين أو هي غير مانعة من التعين أو جعلوا الكلية عارضة للتعين كقولهم : معروض الكلي في الخارج فإنهم لما ظنوا أن في الخارج كليا ومعينا صاروا تارة يجعلون هذا عارضا لذاك وتارة يجعلون ذاك عارضا لهذا ويقولون : الماهية يعرض لها أن تكون كلية وجزئية
وحقيقة الأمر أن الماهية الكلية إنما تكون كذلك في الذهن وما في الذهن لا يوجد في الخارج إلا معينا ومعنى وجوده وجود ما يطابقه : مطابقة العلم للمعلوم والاسم للمسمى والإرادة للمراد وإلا فعاقل يتصور ما يقول لا يقول : إن الكليات توجد في الخارج إلا إذا أراد به أن ما هو كلي في الأذهان يكون ثابتا في الأعيان لكن معينا وهؤلاء ينكرون على من يقول : المعدوم شيء ثابت في الخارج
وقوله وإن كان باطلا فقولهم أفسد منه وإن كانا يشربان من عين واحدة وهو اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان وكذلك الذين أثبتوا الأحوال في الخارج وقالوا : هي لا موجودة ولا معدومة شربوا أيضا من هذه العين وكذلك من ظن اتحاد العالم بالمعلوم والمحب بالمحبوب والعابد بالمعبود كما وقع لأهل الاتحاد المعين قد شرب من هذه العين المرة المالحة أيضا وكذلك من قال بالاتحاد المطلق تصور وجودا مطلقا في نفسه فظن أنه في الخارج فهؤلاء كلهم شربوا من عين الوهم والخيال فظنوا أن ما يكون في وهمهم وخيالهم هو ثابت في الخارج
هذا وهم ينكرون على أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة إذا أنكروا وجود قائم بنفسه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ويزعمون أن نفي هذا من حكم الوهم والخيال التابع للحس فإذا طولبوا بدليل يدل على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كان ملجؤهم وغياثهم هي هذه الكليات كما فزع إليها ابن سينا ومن أخذ ذلك عنه الرازي وأتباعه مثل الأصبهاني وغيره

قول ابن سينا في الإشارات عن الكليات
قال ابن سينا في أول النمط الرابع الذي هو في الوجود وعلله اعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو بوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له في الوجود وأنت يتاتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء إنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد لا على سبيل الاشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الانسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو إما أن يكون بحيث يناله الحس أولا يكون فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتيش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا أعجب
وإن كان محسوسا فله لا محالة وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتي أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذا الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل هو من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي
قال ولعل قائلا منهم إن الإنسان إنما هو إنسان من حيث له اعضاء من يد ورجل وعين وحاجب ومن حيث هو كذلك فهو محسوس فننبهه ونقول إن الحال في كل عضو مما ذكرته أو تركته كالحال في الإنسان نفسه

تعليق ابن تيمية
قلت يقال له قولك قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس إما أن تريد أن الوجود هو ما أحس الشخص المعين أو ما يمكن إحساسه في الدنيا أو ما يمكن الإحساس به ولو بعد الموت فأما الأول فلا يقوله عاقل فإنه ما من عاقل إلا ويعلم إما بخبر غيره وإما بنظره وقياسه ما لم يعلمه بحسه ومن حكى عن الراهمة أو غيرهم من الأمم انهم حصروا الموجودات في المحسوسات بمعنى انه ما لم يحسه الشخص المعين لا يصدق به وانه لا يصدق بالأخبار المتواترة وغيرها فلم يفهم مرادهم فإن أمة من الأمم لها بلاد يعيشون فيها لا بد أن يميز الرجل بين أمة وأبيه وأن يعرف من حوادث بلده وسير ملوكهم وعاداتهم ما لا يعرفه إلا بالخبر وهذا نظير إلا بالخبر وهذا نظير حكاية من حكى أن أمة من الأمم يقال لهم السوفسطائية ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا يجحدون الحقائق أو علمهم بجميع الحقائق أو يقفون أو يجعلون الحقائق مطلقا تابعة للعقائد فإن هذا لا يتصور أن تكون عليه أمة من الأمم لهم بقاء في الدنيا وإنما السفسطة كلمة معربة أصلها سوفسقيا وهي كلمة يونانية أي حكمة مموهة بالسفسطة أي الكلام الباطل المشبه للحق وهذا يعرض لكثير من الناس أو لأكثرهم في كثير من الأمور لا في جميعها فإنه كما تعرض الأمراض للأبدان كذلك تعرض الأمراض للنفوس مرض الشبهات والشهوات
وفي الحديث المأثور : إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات رواه البيهيقي مرسلا وزاد فيه بعضهم : ويحب السماحة ولو بكف من تمرات ويحب الشجاعة ولو على قتل الحيات
ولكن البراهمة أنكرت ما سوى هذا الموجود المحسوس كما هو قول الطبيعية من الفلاسفة وقول الفرعونية ونحوهم وهذا هو المردود عليهم وسيأتي بيان ذلك في حكاية الإمام أحمد مناظرتهم لجهم ويمكن أن الراهمة أو بعضهم قال مالا يمكن معرفته بالحس ألبته فهو ممتنع وهذا قول أكثر أهل الأرض من أهل الملل وغيرهم وهو القول الذي أنكره ابن سينا وأراد إبطاله
لكن هؤلاء نوعان : منهم من أنكر مالا يحسه عموم الناس في الدنيا حتى أنكر الملائكة والجن بل وجحد رب العالمين سبحانه فهؤلاء هم الكفار الدهرية المعطلة المحضة
و ابن سينا وأمثاله يردون على هؤلاء لكن يردون عليهم أحيانا بحجج فاسدة
وهذا هو القسم الثاني وهو إنكار الإنسان مالا يحس في الدنيا
وأما القسم الثالث وهو أن الموجود هو ما يمكن الإحساس به ولو في الآخرة وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب كما أخبرت به عن الجنة والنار وعن الملائكة بل وإخبارهم عن الله تعالى هو مما يمكن معرفته بالحس كالرؤية
فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل وسلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أن الله يرى في الآخرة عيانا كما يرى الشمس والقمر وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذر رؤيته في حال أخرى بل قد يرى الشيء في حال دون حال كما أن الأنبياء يرون مالا يراه غيرهم من الملائكة وغيرها بل والجن يراهم كثير من الناس
وإن ادعى أن من الموجودات القائمة بأنفسها مالا يمكن أن يعرف بالإحساس في حال من الأحوال فهذا قول باطل ولا دليل له لعيه وهذا قول الجهمية الذين ينكرون رؤية الله تعالى
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلان قولهم وفساد قولهم يعلم بالعقل الصريح كما يعلم بالنقل الصحيح وهؤلاء في نفس الأمر من أجهل الناس وأضلهم وإن كانوا عند أنفسهم من أعقل الناس وأعرفهم فهم كما قال تعالى : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } غافر 56
وكما قال تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } البقرة 13
وقوله : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } غافر 83
وأما حجته على إثبات وجود ما ليس بمحسوس فقد احتج بالكليات
فيقال له : قولك : إن هذه المحسوسات يقع عليها اسم واحد بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود
فيقال له : لأتعني أن هذا المعنى الواحد الذي يشترك فيه زيد وعمرو هو معنى واحد قائم بالعالم كالإنسان ؟ كما أن لفظ إنسان قائم بالناطق وكما أن خط زيد قائم باللوح الذي فيه الخط ؟
أم تعني أن ذلك المعنى الواحد هو موجود في الخارج في زيد وعمرو أو في غيرهما ؟
أما الأول فصحيح ولاحجة لك فيه
وأما الثاني فقولك في المعنى كقول من يطرد قولك ويجعل لفظ الإنسان الواقع على زيد وعمرو موجودا في الخارج قائما بزيد وعمرو ويجعل الخط المطابق للفظ ثابتا في الخارج عن اللوح قائما بزيد وعمرو إذا كل عاقل يعلم أن الخط مطابق للفظ وأن اللفظ مطابق للمعنى وأن عموم المعنى الواحد كعموم اللفظ الواحد المطابق له
فإذا قال القائل إنسان كان للفظه وجود في لسانه وللمعنى وجود في ذهنه ووقوعه هذا على زيد وعمرو كوقوع هذا على زيد وعمرو وهذا هو المعنى الذي سميته معقولا وجعلته معقولا صرفا وهل يكون المعقول الصرف إلا في الحي العاقل ؟ فإن المعقول الصرف الذي لا يتصور وجوده في الحس هو مالا يوجد إلا في العقل وما لا يوجد إلا في لاعقل لم يكن موجودا في الخارج عن العقل فالتفتيش الذي أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس أخرج منه المعقولات المحضه التي يختص بها العقلاء وهي الكليات الثابتة في عقول العقلاء فإن الإنسان إذا تصور زيدا أو عمرا ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاما كليا معقولا لا يتصور أن يكون موجودا في الخارج عن العقل
فهذا هو وجود الكليات وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة بل يمكن وجود أعيان في الخارج من غير أن يعقل الإنسان كلياتها ويمكن وجود كليات معقولة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج كما يعقل الأنواع الممتنعة لذاتها وغير ذلك فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان بإمكان تصوره في الأذهان كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان
قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل } الأعراف : 179 وقال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } الأنعام 39
وقال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } الحج 46
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } الفرقان 44
وقال تعالى : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } الأحقاف 26
وقولهم : فالإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا يختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي هو من الأقوال الملبسة فإن هذه الحقيقة إما أن تعني بها ما يتصوره المعقول من الإنسان أو ما يوجد منه أو شيء ثالث
فأما شيء ثالث فلا حقيقة له فإن كان له حقيقة فبينوها فإنا نعلم بالاضطرار أنه ما في الوجود إلا ما هو موجود في نفسه أو ما هو متصور في الذهن إذ العقل أو العلم ونحو هذه الأمور مما ليس بحاصل في العلوم والأذهان ليس بموجود في الأعيان فلا حقيقة له البتة ولكن الناطق بهذه العبارة يتصور في نفسه مالا حقيقة له كتصور إنسان ليس بموجود في الخارج
فإذا قلت : الإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن ثبوته في العلم أوالعين
قلت لك : تقديره مطلقا لا بشرط من حيث هو هو - هو أيضا من تقديرات الأذهان فإذا كان مالا يوجد إلا مقدرا في الأذهان وفرضته غير مقدر في الأذهان جمعت بين النقيضين
فإن قلت : أنا يمكنني أن أتصور إنسانا مطلقا مع قطع النظر عن وجوده في الذهن والخارج
قلت : تصوره مطلقا غير مقيد بالذهن ولا بالخارج شيء وتصوره مقيدا بسلب الذهن والخارج شيء آخر فأما الأول فأنت لم تتصور معه سائر لوازمه وتصور الملزوم دون لوازمه ممكن كما تتصور إنسانا مع قطع النظر عن وجوده وعدمه وإن كان لا يخلو عن واحد منهما فهذا تصور للشيء دون لوازمه
وأما تصوره مقيدا بسلب الوجود الذهني والخارجي فهو من باب تصور الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين وهو كتصور إنسانا مقيد بكونه لا موجودا ولا معدوما ومجرد فرض هذا ف بالذهن يوجب العلم بامتناعه
وأما الأول فلا يوجب تصور الملزوم بدون لازمة إمكان وجوده في الخارج بدون لازمة فكونه إما في الذهن وإما في الخارج هو من لوازمه ويمكن تصور الملزوم فإن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه وهذا كما يمكنك تصور إنسان مع قطع النظر عن وجوده وعدمه وإن كان لا بد له إما أن يكون موجودا أو معدوما لامتناع الخلو عن النقيضين
وهؤلاء يجعلون تقدير الذهن للممتنعات حجة على ثبوتها ويشبهون الوجود الواجب بالوجود الممتنع وهذا كما أن الإنسان يتصور علما مطلقا وقدرة مطلقة مع علمه بان ذلك لا يكون إلا بذات حية عالمة قادرة
وكذلك يتصور الإنسان حيوانا مطلقا ولا يتصور مع ذلك انه ناطق أو بهيم ولا يخلد ولا يموت ولا يعلم ولا يجهل ولا يعجز ولا يقدر ولا يسكن ولا يتحرك فهل يستدل بتصوره ذلك في عقلة على أنه يوجد ؟ أو يمكن أن يوجد في الخارج حيوان مطلق يخلو عن هذه المتقابلات كلها فلا يموت ولا يخلد ولا يقدر ولا يعجز ؟
ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها مالا وجود له في الخارج تارة بأن لا يوجد ما يطابقه وهو الوهم وتارة مع وجود ما يطابقه كمطابقة الاسم للمسمى والعلم للمعلوم وهو مطابقة ما في الذهن لما في الخارج ومطابقة الصورة العلمية لمعلوماتها الخارجية
وإذا قيل في هذه الصورة إنها كلية فهو كقولنا في الاسم إنه عام
والمراد بذلك أنها مطابقة لأفرادها مطابقة اللفظ العام والمعنى العام لأفراده ن وهي مطابقة معلومة متصورة لكل عاقل لا تحتاج إلى نظير وإذا شبهت بمطابقة الصورة التي في المرآة أو مطابقة نقش الخاتم للشمع ونحو ذلك كان ذلك تقريبا وتمثيلا وإلا فالحقيقة معلومة وكل عاقل يعلم مثل هذا من نفسه
واعلم أنه بالكلام على هذه الحجة التي لهؤلاء المتفلسفة في التوحيد يتبين الكلام على حجتهم الثانية وهي قولهم : لو كان واجبان لا يشتركان في مسمى الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه فكان كل منهما مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا
فإنه يقال لهم : إنما اشتركا في المطلق الذهني لم يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود في الخارج حتى يكون في ذلك الموجود تركيب وكل منهما يمتاز عن الآخر بالوجوب الذي يخصه كما امتاز عنه بحقيقته التي تخصه والوجود الذي يخصه
ويقال لهم : هذا كاشتراك الموجود الواجب والموجود الممكن في مسمى الوجود مع امتياز هذا بما يخصه وهذا بما يخصه فإن الوجوب المشترك الكلي ليس هو ثابتا في الخارج بل للواجب وجود يخصه وللممكن وجود يخصه كما أن لهذا حقيقة تخصه ولهذا حقيقة تخصه
وكذلك إذا قيل لهذا ماهية تخصه ولهذا ماهية تخصه فإنهما يشتركان في مسمى الماهية ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يختص به وإنما اشتركا في المسمى المطلق الكلي وامتاز كل منهما عن الآخر بالوجود الذي في الخارج وذلك لا يكون إلا في الذهن وما امتازا به هو موجود في الخارج وقد يتصور في الذهن فإن ما في الخارج يتصور في الذهن وليس كل ما يتصور في الذهن يكون في الخارج فلم يكن ما به الاشتراك مفتقرا إلى ما به الامتياز ولا ما به الامتياز مفتقرا إلى ما به الاشتراك بل لاشركة في الأعيان الموجودة الجزئيات ولا امتياز في الكليات المطلقة بالمعقولات أعني من حيث تناولها وشمولها لأفرادها بل تناولها لأفرادها تناول واحد وشمولها شمول واحد
وهذا المعنى الواحد الشامل هو كاللفظ الواحد الشامل العام واشتراك الموجودين في الوجود أو الواجبين في الوجوب مع ما بينهما ف بالخارج من الامتياز والاختصاص كاشتراك اللونين في اللونية مع أن هذا في الخارج سواد وهذا بياض فإذا قلت : السواد مركب من اللونية والسوادية كما تقول : الموجود مركب من الحيوانية والناطقية
قيل لك أتعني أنه مركب من لونية مطلقة لا تخصه ومن السوادية التي تخصه ومن الوجود المطلق الذي لا يخصه والوجوب الذي يخصه ومن الحيوانية المطلقة التي لا تخصه والناطقية التي تخصه ؟ أم مركب من نفس لونيته الخاصة وسواديته ومن نفس وجوده الخاص ووجوبه ومن الحيوانية التي تخصه وناطقيته ؟
فأما الأول فباطل فإنه ليس فيه شيء مطلق : لا لونية مطلقة ولا حيوانية مطلقة ولا وجودية مطلقة
وإن عنيت الثاني فلونيته الخاصة وسودايته متلازمان وكذلك حيوانيته الخاصة وناطقيته وكذلك وجوده الخاص ووجوبه فكما لا يمكن تقدير هذا اللون المعين الذي هو سواد بدون السواد فلا يمكن تقدير هذا الحيوان المعين الذي هو ناطق بدون النطق ولا يمكن تقدير هذا الموجود المعين الذي هو واجب بدون الوجود فإن هذا الحيوان هو الحيوان المعين والواجب هو الموجود المعين ولا يتميز في الخارج سواد من لون كما لا يتميز ناطق عن حيوان ولا وجود عن وجوب بل الذهن يعقل ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية ويميز بين ذلك ما يعقله ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية ويميز بين ذلك ما يعقله بينه وبين سائر السوادات من المشابهة ويضم هذا إلى هذا وهو تركيب عقلي اعتباري وكذلك يعقل ما بين هذا الإنسان وغيره من الحيوان من المشابهة في الحيوانية وما بينه وما بين سائر الإناسي من المشابهة في الإنسانية ويضم هذا إلى هذا وهو تركيب عقلي اعتباري
ومن قال : إن الإنسان مركب من الحيوان والناطق وهو يعقل ما يقول فإنما يعني هذا التركيب ونحوه وليس ذلك تركيبا في الوجود الخارجي ولا في الوجود الخارجي جزء لهذا المركب متميز عن كله ولا جزء سابق لكل بل هذه الأمور إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان فهذه التركيبات مركبة من تلك الكليات والكليات الخمسة : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان
كذلك التركيب الذي يوجد في بعض هذه مع بعض فإن أجزاء المركب التي هي الكليات لا تكون إلا في الذهن فالمركب من الكليات الذهنية أولى أن لا يكون إلا ذهنيا
وهؤلاء المتفلسفة المنطقيون نفوا حقيقة واجب الوجود وصفاته معتقدين أنهم موحدون لذاته وقالوا هو منزه عن التركيب لافتقار المركب إلى جزئية
والتركيب يقع عندهم كما ذكره ابن سينا وغيره وذكره الغزالي عنهم في تهافت الفلاسفة وغيره على خمسة أنواع أحدها : تركيب الموجود من الوجود والماهية
والثاني : تركب الحقيقة من الأمور العامة والخاصة : كالوجود العم والوجوب الخاص
والثالث : تركب الذات الموصوفة من الذات والصفات
والرابع : تركب الذات القائة بنفسها المباينة لغيرها المشار إليها : من الجواهر المنفردة التي يقال إنها مركبة منها
والخامس : تركبها من المادة والصورة التي يقال أنها مركبة منها
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه : سواء كان واجبا أو ممكنا بدون ثبوت هذه المعاني التي سموها تركيبا وإن تسميتهم لذلك تركيبا غلط منهم
وإن قالوا : هو أصطلاح اصطلحنا عليه فلا ترتفع بسب غلط الغالطين وأوضاعهم اللفظية الحقائق الموجودة والمعاني العقلية وأنه ليس في العقل ما يمنع ذلك بل العقل يصدق السمع الدال على إثبات صفات الله تعالى ومباينته لمخلوقاته وأن العقل أثبت موجودا واجبا بنفسه غنيا عما سواه
وأما كون ذلك الموجود لا يكون إلا حيا عالما قادرا أو لا يكون إلا موصوفا بصفات لازمة لذاته ولا يكون إلا مباينا لمخلوقاته فالعقل يوجب ذلك الوجود لا نحيله عليه وأن ما ذكروه من إثبات وجود مطلق بشرط الإطلاق أو بسلب الأمور الثبوتية عنه ليس له حقيقة ولا ماهية سواء مطلق الوجود أو الوجود المسلوب عنه الأمور الثبوتية وهو أمر يمتنع تحققه في الخارج وإنما يكون في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو الواحد الذي قالوا : لا يصدر عنه إلا واحد فإنه يمتنع تحققه في الخارج وكذلك الواحد البسيط الذي يتركب منه الأنواع هو أيضا مما لا يتحقق إلا في الأذهان
ومتكلموا أهل الإثبات إذا قالوا : وجوده عين حقيقته أو ماهيته أو ليس وجوده زائدا على ماهيته فليس مرادهم بذلك مراد المتفلسف الجهمي الذي يقول إنه وجود مطلق فإن الوجود المطلق لا حقيقة له في الخارج ولكن مرادهم بذلك ما يريدونه بقولهم : إن حقيقة الإنسان هي وجوده الموجود في الخارج وحقيقة السواد هو السواد الوجود في الخارج ونحو ذلك ومرادهم بذلك أن الشيء الموجود في الخارج الذي له حقيقة تخصه وجوده الثابت في الخارج هو تلك الحقيقة الخاصة فوجوده المختص به هو حقيقته المختصة كما أن الوجود المطلق كلي عام والحقيقة المطلقة كلية عامة ونفس حقيقة الإنسان والجسم وغيرهما ليست هي وجودا مطلقا وإن كانت حقيقته نفس وجوده فكيف يكون رب العالمين حقيقته وجود مطلق لا يتصور إلا في الذهن ؟
بل هو سبحانه وتعالى مختص بحقيقته التي لا يشركه فيها غيره ولا يعلم كنهها إلا هو وتلك هي وجوده الذي لا يشركه فيه غيره ولا يعلم كنهه إلا هو
والناس إذا علموا وجودا مطلقا أو حقيقة مطلقة فذلك هو الكلي العام الشامل ليس هو نفس الحقيقة الموجودة في الخارج
وكذلك تركب الحقيقة من الصفات العامة والخاصة إنما هو تركيب في الذهن تركيب ذهني عقلي اعتباري
وكذلك تركب الموصوف من الذات ولاصفات إنما يكون تركيبا لو كان هناك ذات مجردة عن تلك الصفات أو لو أمكن وجود ذلك فأما الذات التي لا تكون إلا حية عالمة فلا يتصور أنفكاكها عن الحياة والعلم حتى نقول إن الذات تركيب مع الصفات
وكذلك أيضا الماهية المشار إليها القائمة بنفسها المباينة لغيرها إنما يقال هي مركبة من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة ولو كان لهذا التركيب حقيقة فأما إذا كان الجوهر الفرد باطلا وتركب الجسم من الجوهرين : المادة والصورة باطلا والأمور المشار إليها المباينة لغيرها من المخلوقات : كالشمس والقمر ليس هو مركبا من أجزاء منفردة ولا من جوهرين : مادة وصورة فكيف يظن برب العالمين أنه مركب من ذلك ؟ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الأعيان القائمة بأنفسها خلقها الله تعالى كذلك ليس فيها أجزاء تركبت منها لكن يمكن أن يفرقها الله ويجزئها إلى أن يتصاغر جدا ثم يستحيل إلى نوع آخر من أن ذلك الجزء الصغير يتميز منه شيء عن شيء وليس في الوجود عين قائمة لا يتميز منها شيء عن شيء
والصورة إما صورة عرضية كشكل فالمادة هنا هو الجسم نفسه وغما الصورة التي هي المصور كالإنسان نفسه والمادة فيها ليس لها جوهر يحملها بل مادتها ما منه خلقت وتلك استحالت إلى صورة أخرى وفني الأول وعدم كما يفنى المني إذا صار إنسانا وليس بين ما استحال منه واستحال إليه شيء باق بعينه وإنما يشتركان في أمور نوعيه كالمقدار ونحوه
والمركب المعقول هو ما كان مفترقا فركبه غيره كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية ونحو من أجزائها المفترقة
والله تعالى أجل وأعظم من أن يوصف بذلك بل من مخلوقاته ما لا يوصف بذلك ومن قال ذلك فكفره وبطلان قوله واضح
وقد يقال المركب على ما له أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان وأخلاطه وإن كان خلق كذلك مجتمعا لكنه يقبل التفريق والانفصال والانقسام والله مقدس عن ذلك
وقد يقال المركب على ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئا بسيطا كالماء والله مقدس عن ذلك
فهذا هو التركيب المعقول في اللغة والاصطلاح فأما المركب في اللغة فهو الأول خاصة ولكن هذا المعنى لم يريدوه لفظ المركب
والثاني والثالث قد يسميه طائفة من أهل العلم مركبا فأما الذات المتصفة بصفات لازمة لها التي لها حقيقة تمتاز بها عن سائر الحقائق وتباين غيرها من الموجودات من غير أن يجوز عليها تفريق وتبعيض وتجزئة وتقسيم فهذه لو قدر أنها مخلوقة لم تكن مما يسمى مركبا في اللغة المعروفة والاصطلاح
وإذا سمى مسم هذه مركبا كان إما غالطا في عقله لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين وجودها وحقيقتها المغايرة لوجودها أو على حقيقتين ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها وصفات زائدة عليها قائمة بها أو على جواهر منفردة أو معقولة أو نحو ذلك من الأمور التي يثبتها طائفة من الناس ويسمونها تركيبا
وجمهور العقلاء يخالفونهم في إثبات ذلك فضلا عن تسميته تركيبا ولو سلم لهم ثبوت ما يدعونه لم تكن تسميته مركبا من اللغة المعروفة بل هو واضح اصطلحوا عليه فإن الجسم الذي له صفات كالتفاحة التي لها لون وطعم وريح لا يعرف في اللغة المعروفة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها ولا تسمية ذلك أجزاء لها ولا يعرف في اللغة أن يقال إن الإنسان مركب من الطول والعرض والعمق بل ولا أنه مركب من حياته ونطقه إلى أمثال ذلك من الأمور التي يسميها من يسميها من أهل الفلسفة والكلام تركيبا إما غلطا في المعقولات وإما اصطلاحا انفردوا به عن أهل اللغات
فليس لهؤلاء أن ينفوا ما علم ثبوته بالشرع والدعاء ومضاهاة للمشركين والنصارى والصابئين الذين { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } التوبة : 31
وهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون وأبطلها القرآن رأيت من هؤلاء المتفلسفة نفاة الصفات كابن سينا ومن ضاهاهم في بعض الأمور التي يجعلونها علوما مضنونا بها على غير أهلها قد أثبتوا هذه الشفاعة الشركية وهذه الوسائط الإفكية مع أن القرآن العزيز مملوء من ذم أهلها قال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } الزمر : 43 - 44
وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } يونس : 18
وقال تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } الأنعام : 94
وقال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } آل عمران : 80
وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } الإسراء : 56 و57
وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } سبأ : 22 ، 23
فنفي أن يكون لغيره معه ملك أو شريك في الملك أو مظاهرة له ولم يثبت من الشفاعة النافعة إلا ما كان بإذنه وهذه الشفاعة التي يؤمن بها المؤمنين كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم يوم القيامة فإنه بإتفاق أهل السنة والجماعة له شفاعات في القيامة حتى يشفع في أهل الكبائر من أمته كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة كما كان يدعو ويشفع لهم في حياته
وكذلك يشفع غيره ممن يأذن الله له في الشفاعة لكن ليست هي الشفاعة التي يثبتها أصناف المشركين من غير أهل الكتاب والصابئين ومن ضاهاهم من أهل الكتاب كالنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة كالمتفلسفة والملاحدة والإسماعلية وكأهال المضنون به وغيرهم فإنهم جعلوا الشفاعة تنفع بدون دعاء الشافع لله وبدون إذن الرب له في الشفاعة كما تقدم
والله تعالى يقول { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } البقرة : 255
وقال تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الأنبياء : 28 وأمثال ذلك في كتاب الله عز و جل
وهنا جواب آخر عن أصل الحجة وهو أن يقال هب أن الشيئين يشركان في شيء موجود في الخارج ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وأن الكلي المشترك بينهما ثابت في الخارج وأن أحدهما إما أن يكون لازما للآخر أو ملزوما أو عارضا أو معروضا فلم لا يجوز أن يكون المشترك لازما للمعين بل وملزوما له بحيث يكون كل من المشترك والمختص مشروطا بالآخر والشرط لا يجب تقدمه على المشروط ؟
وهذا كما أن الحيوانية مع الناطقية والصاهلية كل منهما مشروط بالآخر فلا يوجد المختص الذي هو الناطقية والصاهلية إلا مع الحيوانية ولا توجد حيوانية إلا مع بعض ذلك
وليس المراد بكون المشترك مشروطا بالمختص أنه بهذا المعين بل مشروط إما بهذا وإما بهذا فالمشترك من حيث مشروط بأحدهما لا بعينه ومن حيث تشخصه وتعينه مشروط بما لقترن به من التعين
وهذا ثابت في كل شيئين اتفقا في شيء وافترقا في شيء ولا حيلة لهم فيه وذلك أن كون الشيء لازما للآخرين أعم من كونه علة أو معلولا أو لا علة ولا معلولا فليس كل لازم معلولا فإذا كان كل من الوجوبين لازما لمعينه لم يجب أن يكون الواجب معلولا ولا يكون الملزوم علة
وبهذا يتبين فساد مقدمته الثانية التي قال فيها يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته وأن تكون الصفة سببا لصفة أخرى ولكن لا يجوز أن يكون الوجود بسبب ماهيته التي ليست من الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب يتقدم في الوجود ولا يتقدم بالوجود قبل الوجود
فإنه يقال له لفظ السبب قد تعني به العلة الموجبة وقد تعني به الشرط فإن عنيت به الأول لم يجعل مسببا عن غيره لئلا يلزم تقدم غير الوجود الواجب عليه
وإن عنيت بالسبب الشرط فالشرط لا يجب تقدمه على مشروط بل يجوز مقارنته للمشروط فالأمور المتلازمة كالمتضايقات كل منها لا يوجد إلا مع الآخر فوجوده مشروط به من غير تقدم أحدهما على الآخر
وكذلك أنتم تقولون إن المادة مع الصورة كل منهما شرط في الآخر من غير تقدمه عليه والمسلمون يقولون إن العلم والقدرة مشروط بالحياة وكلاهما صفة لازمة لله تعالى لا يجوز تقدمها على الأخرى بالوجود
وإذا كان كذلك وقدر أن للواجب حقيقة مغايرة للوجوب فلم لا يجوز أن يكون وجوده الواجب مشروطا بتلك الحقيقة التي هي أيضا مشروطة به من غبر أن يكون الوجود الواجب مسبوقا بوجود غيره كما يقولون في وجود الممكن إذا قلتم إنه زائد على ماهيته إن ماهيته لا تنفك عن وجوده كما لا ينفك وجوده عن ماهيته
وهذا جواب لا حيلة لهم فيه وهو جواب عن تلازم الذات مع الصفات إذا قدر أحدهما مغايرا للآخر

عدم فصل الرازي العلة من الشرط
وأبو عبد الله الرازي اجاب بجواب لم يفصل فيه العلة من الشرط فقال قولكم لو كانت الماهية علة لوجود نفسها لكانت متقدمة بالوجود على نفسها فإن العلة متقدمة بالوجود على المعلول ممنوع فإنا لا نسلم وجوب تقدم العلة على المعلول بالوجود وقول القائل هي متقدمة عليه بالذات إن أريد به كونها مؤثرة فمسلم وإن أريد به أنها لا تؤثر فيه إلا بعد وجودها فهذا ممنوع ونحن أن المؤثر في وجود الله تعالى هو نفس ماهيته لا باعتبار وجود سابق وإن أريد بالتقدم أمر وراء التأثير فذلك غير متصور
ثم منع عموم الدعوى فقال نزلنا عن هذا المقام فلم قلتم إن كل علة فهي متقدمة بالوجود على المعلول ألا ترى أن ماهيات الممكنات قابلة لوجود ذاتها فماهياتها علل قابلية لوجود ذاتها ففي هذا الموضع العلل القابلية لا يجب تقدمها على المعلول بالوجود وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في العلة الفاعلية
وقال لا نقول المؤثر هو الماهية المعدومة بل الماهية من حيث هي هي مغايرة لوجودها وعدمها ونحن إنما نجعل المؤثر في الوجود تلك الماهية فقط
قال فإن قيل كما جوزتم أن تؤثر ماهيته قبل الوجود في وجود نفسها فلم لا يجوز ان تؤثر تلك الماهية قبل وجودها في وجود العالم وحينئذ لا يمكن الاستدلال بوجود الأفعال على وجود الفاعل قلنا البديهية فرقت بين الموضعين فإنا بالبديهية نعلم أن الشيء ما لم يوجد لا يكون شيئا لوجود غيره ونعلم أن لا استبعاد في أن يكون الشيء موجودا من ذاته والمعلوم من قولنا إنه موجود لذاته أن تقتضي وجود نفسه وإذا جزمت بالبديهية بالفرق صح كلامنا في هذه المسألة
وقد مانعه بعض أصحابه في هذا الموضع وقال العلم بأن العلة لو كانت موجبة للوجود لكانت موجودة علم ضروري لأن المفيد للوجود لا بد أن يكون له وجود بخلاف القابل فإنه مستفيد للوجود يمتنع أن يكون موجودا

تعليق ابن تيمية
قلت هذا الاضطراب إما نشأ من قولهم كون ذات فاعلة لوجوده أو علة مقتضية لوجوده إذا قدر أن وجوده مغاير لذاته وهذا لا يحتاج إليه بل إذا قيل ذاته مشروطة بوجوده كما أن وجوده مشروط بذاته وقيل إنهما متلازمان من غير أن يكون أحدهما هو الموجب للآخر كما قالوا مثل ذلك في ذات الممكن ووجوده زالت هذه الشبهة
وهؤلاء كثيرا ما تشتبه عليهم العلل بالشروط في مسائل الدور والتسلسل وغير ذلك ويجعلون الملزوم علة كما يقولون إن ماهية الثلاثة والأربعة علة للفردية والزوجية فيجعلون ذات الشيء علة لصفته اللازمة له وأن فاعل الذات فاعل صفتها فإن الدور في الشروط بمعنى توقف كل من الأمرين على وجود الآخر معه ممكن واقع وهو الدور المعي الاقتراني وأما الدور في العلل وهو أن يكون كل من الأمرين علة للآخر ومبدعا له
فهذا ممتنع باتفاق العقلاء
وكذلك التقدم فإن تقدم الشرط على المشروط غير واجب وأما تقدم الموجب على الموجب والفاعل على المفعول والعلة على المعلول فلا ريب فيه عند جماهير العقلاء
ومعارضة الرازي لهم بالماهية الممكنة القابلة لوجودها إذا قيل بتعددهما معارضة صحيحة وأما فرق المعارض له بأن الماهية في الواجب فاعلة للوجود فغلط فإن ماهية الواجب إذا قيل بمغايرتها لوجوده ليست فاعلة لوجوده بل هي أيضا قابلة لوجوده كالممكن لكن وجوده واجب مع هذا القبول
والقابل والمقبول كلاهما واجب بنفسه يمتنع عدمه بخلاف الممكن كما تقوله الصفاتية في الذات والصفات وكما تقوله الفلاسفة فيما يدعون قدم ذاته ووجوده من الممكنات كالفلك فإن ابن سينا وأتباعه يقولون : إن ماهيته محل لوجوده وكلاهما قديم يمتنع عدمه لكن وجوده بغيره فإذا عقل هذا في الواجب بغيره ففي الواجب بنفسه أولى إذا قيل إن نفسه محل لوجوده وكلاهما واجب بماهيته ووجوده يمتنع نفي واحد منهما
وبهذا يظهر الجواب عن النظم الذي حرره الآمدي فإن قوله إذا لم يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل من الشيئين إلا بما به التخصيص والامتياز وجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته
جوابه على تقدير كون الوجود مغايرا للذات أن يقال لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى العلة ويراد به : افتقار المشروط إلى الشرط وإن قيل : يراد به معنى ثالث له فإن قلت : يجب افتقار مسماه إلى علة فاعلة لم يسلم لك ذلك فإن تحقق المشترك في المميز لا يستلزم كون المميز هو الفاعل المبدع المشترك وإن أردت بانه لا يوجد إلا بما هو شرط في وجوده فلم قلت إن هذا محال ؟
وقوله لا يكون واجبا بذاته باطل حينئذ لأنه إذا قدر أن الذات غير الوجود فلا يد في قوله واجب بذاته من تحقق الوجود والذات معا فلا يتقدم أحدهما على الآخر ولا يستغني أحدهما عن الآخر فصار معنى وجوب الوجود بالذات إذا قدر أن الذات عين الوجود أمرا متضمنا لتلازم الوجود الواجب والذات الموصوفة بذلك فلا يكون موجود بذاته إلا كذلك وهذا كله بتقدير ثبوت شيئين
ثم على هذا التقدير فيها قولان إما أن يقال الوجود الملازم للماهية هو أيضا مختص كما أن الماهية مختصة به وهذا هو القول المأثور عن أبي هاشم ونحوه وقد تقوله طائفة من أهل الإثبات كما يوجد في كلام أبي حامد و وابن الزاغوني
وإما إن يقال الوجود مشترك في الخارج ولكن الماهية هي المختصة التي تميز وجودا عن غيره وهذا هو الذي يحكيه الرازي عن أبي هاشم وغيره وهو غلط عليهم كما غلط على الأشعري وأبي الحسين حيث حكى عنهم ان لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي وهذا لغلط منه حيث ظن أن الكلي الذي هو مورد التقسيم يكون ثابتا مشتركا في الخارج وهذا أصل للمنطقيين يخالفهم فيه أئمة الكلام بحسب ما فهمه من كلام أهل المنطق فغلط
والمقصود هنا أن قول أبي هاشم وأتباعه خير من قول ابن سينا وأما إذا كان الوجود هو الماهية ولا مشترك في الخارج كما هو قول الأشعري وعامة المثبتة للصفات وهو الصواب فلا يحتاج إلى هذا الجواب
وليس المراد أن ماهيته وجود مطلق مجرد كما يقوله ابن سينا وابن التومرت وغيرهما من الجهمية ولكن المراد أن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وليس ذلك وجودا مطلقا ولا مجردا وكذلك يقول في كل موجود إن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وقد ذكرنا هذا الجواب على تقدير مغايرة وجوده لماهيته لنه نافع في عامة ما يوردونه لنفي الصفات

كلام الإمام أحمد عن تعلق الصفات بذت الله تعالى
قال الإمام أحمد باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى فقلنا لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا يعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان
فقلنا : هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول { يا موسى * إني أنا ربك } طه 11 - 12 أو يقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } طه 14 فمن قال ذلك زعم ان غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون يا موسى إن الله رب العالمين
إلى أن قال فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من احد إلا سيكلمه ربه الحديث وأما قوله إن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان أليس الله قد قال للسماوات والأرض { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } فصلت 11 اتراها قالت بجوف وفم وشفتين وأدوات ؟
وقال تعالى { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } الأنبياء 79 أتراها أنها تسبحن بجوف وفم وشفتين ولسان ؟ والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا : { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } فصلت 21 أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء
إلى أن قال فلما خنقته الحجج قال : ان الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا وغيره مخلوق ؟ نعم فقلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشر آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أسطتيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله
وقلنا للجهمية من القائل للناس يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } المائدة 116 أليس الله هو القائل ؟ قالوا : يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم } الآية الأعراف 6 أليس هو الله تعالى ؟ قالوا هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم انه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان
فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم ان كلامه مخلوق ففي مذهبكم كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة بل نقول إن اله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام ولا نقول إنه كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم
قال الإمام احمد قالت الجهمية إن زعمتم ان الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم ان الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن اله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره بل نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلاها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوض وجمار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد
إلى أن قال وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد فقال { ذرني ومن خلقت وحيدا } المدثر 11 وكان له عينان وأذنان ولسان وجوارح فسماه وحيداص بجميع صفاته

تعليق ابن تيمية
قلت : فلا يوجد في كلام الله ورسوله واللغة اسم الواحد على ما لا صفة له فإن لا صفة له لا وجود له في الوجود
وما ذكره أحمد عن الجهمية أنهم يتأولون كلام الله لموسى بأنه خلق من عبر عنه تأوله جماعة من أتباعه في هذا أو في قوله تعالى كل ليلة من يدعوني فأستجيب له ولو كان كذلك لكان الملك يقول إن الله رب العالمين كما في الصحيحين إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحيه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فاحبوه فيحبه فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء الحديث
وقد مثلوا ذلك بأن السلطان يأمر مناديا فيقول نادى السلطان وهذا حجة عليهم فإن المنادي يقول امر السلطان أو ان المرسوم ونحو ذلك من الألفاظ التي تبين أن القائل غيره لا هو ولو قال المنادي قد أمرتكم فغن لم تقبلوا وإلا عاقبتكم ونحو ذلك لم يكن مناديا عن السلطان ولو قال ذلك عاقبه السلطان

فصل
أخبر الله تعالى في كتابه بإثبات مفصل ونفي مجمل والمعطلة الجهمية متكلمهم ومتفلسفهم أخبروا بإثبات مجمل ونفي مفصل فأخبر في كتابه بأنه حي قيوم عليم قدير سميع بصير عزيز حكيم ونحو ذلك يرضى ويغضب ويحب ويسخط وخلق واستوى على العرش ونحو ذلك وقال ف يالنفي { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 { ولم يكن له كفوا أحد } الإخلاص 3 { هل تعلم له سميا } مريم 65 فلهذا مذهب السلف والأئمة إثبات صفاته بلا تمثيل لا ينفون عنه الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات

تابع كلام الإمام أحمد
قال الإمام أحمد الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكلم من قتيل لإبليس قد أحيوه ؟ وكم من ضال تائه قد هدوه ؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين
فالمتشابه من الكلام يتكلمون به ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم هو كقولهم : مقدس عن الكم والكيف والأين والوضع ومن مقصودهم بذلك أنه لا علم له ولا قدرة ولا رحمة ولا غير ذلك من الصفات وأنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ولا هو مباين لمخلوقاته ولا منفصل عنهم
وكذلك قولهم : ليس بداخل العالم ولاخارجه وأمثال هذه العبارات السالبة
وكذلك وصف الإمام احمد وأمثاله قول الجهمية النفاة قال أحمد وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله انه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا إن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلها قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إلاه قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائبة عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فشممت له ريحا قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان
ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 { وهو الله في السموات وفي الأرض } الأنعام : 3 { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } الأنعام ك 103 فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وزعم أن من وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرا كثيرا وأتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مناظرة جهم لأولئك السمينة هم الذين يحكى أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات ولهذا سألوا جهما : هل عرفه بشيء من الحواس الخمس ؟ فقال : لا قالوا : فما يدريك أنه إلاه ؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا
وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم الذين ينكرون سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه وهو وجود الأفلاك وما فيها
هؤلاء الذين ذكر ابن سينا قولهم في إشاراته حيث قال قال : إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا
وهذا هو القول الذي أظهره فرعون وإليه يعود عند التحقيق قول أهل الوحدة لكن هؤلاء يعتقدون أنهم يثبتون الخالق وأن وجوده وجود المخلوق فهم متناقضون ثم إن جهم بن صفوان رد عليهم كرد أرسطو وابن سينا وأمثالهم من المشائين على الطبيعيين منهم وهؤلاء يثبتون وجودا عقليا غير الوجود المحسوس ويعتقدون أنهم بهذا الرد أبطلوا قول أولئك كما تقدم حكاية قول ابن سينا لما تكلم على الوجود وعلله وقال : قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأبطل هذا القول بإثبات الكليات وقد تقدم التنبيه على فساد هذه الحجة وأن الكليات تكون في الأذهان لا في الأعيان
ومن لم يقر إلا بالمحسوس إنما نازع في الموجودات الخارجية لم ينازع في المعقولات الذهنية وإن نازع في ذلك حصلت الحجة عليه بإثبات المعقولات الذهنية فتبقى الوجودات الخارجية وهي الأصل
والحجة التي ذكرها أحمد عن الجهم انه احتج بها على السمنية هي من أعظم حجج هؤلاء الثقاة الحلولية منهم ونفاة الحلول والمباينة جميعا فإن النفاة تارة يقولون بالحلول والاتحاد أو نحو ذلك وتارة يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه
والشخص الواحد منهم يقول هذا تارة وهذا تارة فإنهم في حيرة والغالب على متكلميهم نفي الأمرين والغالب على عبادهم وفقهائهم وصوفيتهم وعامتهم الحلول فمتكلموهم لا يعبدون شيئا ومتصوفتهم يعبدون كل شيء
والحلول نوعان : حلول مقيد وحلول مطلق فالحلول المقيد هو قول النصارى ونحوهم من غلاة الرافضة وغلاء العبادة وغيرهم يقولون إنه حل في المسيح أو اتحد به وحل بعلي أو أتحد به وأنه يتحد بالعارفين حتى يصير الموحد هو الموحد ويقولون :
( ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وجده جاحد )
( توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد )
( توحيده إياه توحيد ... ونعت من ينفعه لاحد )
وهؤلاء الذين حكى أحمد قولهم أنهم : إذا أراد الله أن يحدث أمر دخل فيه بعض خلقه فتكلم على لسانه وقد رأيت من هؤلاء غير واحد ممن خاطبني وتكلم معي في هذا المذهب وبينت له فساده
وأما أهل الحلول المطلق الذين يقولون إنه حال في كل شيء أو متحد بكل شيء أو الوجود واحد كأصحاب فصوص الحكم وأمثالهم فهؤلاء يقولون : أخطأ النصارى من جهة أنهم خصصوا وكذلك يقولون في عباد الأصنام خطؤهم من جهة انهم خصصوا بعض الأشياء فعبدوها
وقد رأيت من هؤلاء أيضا غير واحد وجرت بيننا وبينهم محنة معروفة
وجعل الإمام أحمد حجة جهم من جنس حجة أولئك الذين يقولون بالحلول المقيد لأن هؤلاء يقولون إنه حل في بعض خلقه
وهؤلاء الجهمية فيهم من يقول : إن اللاهوت في الناسوت من غير حلول فيه وهكذا الجهم وأتباعه جعلوا وجود الخالق في المخلوقات من جنس اللاهوت في الناسوت ويجمعون بين القولين المتناقضين كما جمعت النصارى
واحتجاج الجهم بهذا على السمنية كاحتجاج نفاة الصفات بذلك على أهل الإثبات فإن الرازي وأمثاله احتجوا على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه بالنفس الناطقة على قول هؤلاء المتفلسفة الذين يقولون : إنها لا داخلة في هذا العالم ولا خارجة من هذا العالم إنها تشبه الإله وإن الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة
ومقصود الجهم بهذه الحجة بيان إمكان وجود موجود لا سبيل إلى إحساسه فاحتج عليهم بالنفس الناطقة إذ لا سبيل إلى إحساسها وهذه حجة المشائين من المتفلسفة على الطبيعيين منهم وهؤلاء يجعلون ما يثبتونه من الأمور المعقولة حجة على إثبات موجود ليس بمحسوس ثم يزعمون أن ما أخبرت به الرسل من الغيب هو الوجود العقلي الذي يثبتونه
وهذا الموضع حارت فيه أحلام وضلت فيه أفهام وهم مخطئون شرعا وعقلا أما الشرع فإن الرسل أخبرت عما لم نشهده ولم نحسه في الدنيا وسمت ذلك غيبا لمغيبه عن الشهادة كقوله { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } البقرة 3 ومنه قوله تعالى { عالم الغيب والشهادة } الرعد 9 فالغيب ما غاب من شهود العباد والشهادة ما شهدوها
وهذا الفرق لا يوجب أن الغيب ليس مما يمكن إحساسه بل من المعلوم بالاضطرار أن ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الثواب والعقاب كله مما يمكن إحساسه بل وكذلك ما أخبرت به الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وغير ذلك لكنا نشهده الآن
ولهذا أعظم ما أخبرت به من الغيب هو الله سبحانه وتعالى مع إخبار الرسول لنا انا نراه كما نرى الشمس والقمر فأي الإحساس أعظم من إحساسنا بالشمس والقمر ؟
وما أخبرت به من الغيب كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي وغير ذلك مما يمكن إحساسه فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول
فهذا أصل ينبغي معرفته فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف مالا يحصيه إلا الله تعالى كصاحب الكتب المضنون بها وصاحب الملل والنحل وطوائف غيرهم
ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وصاحب نهاية الإقدام ونحوهما من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية إما ملاحدة الشيعة كما يوجد في كلام صاحب الملل والنحل و نهاية الإقدام وقد قيل إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية : ملاحدة الشيعة وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية
ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف وكل من هؤلاء هؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل
لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء مع أن الذي يحيل عليه لا بد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم مالا يعلمه إلا الله وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلا منه وضلالا لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء
والمقصود انه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل وما يسمونه معقولات ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل لا يمكن الإشارة إليها ولا الإحساس بها بوجه من الوجوه وليست داخل شيء من العالم ولا خارجة ولا مباينة له ولا حالة فيه فإنه من المعلوم أن المعقولات ما عقلها الإنسان فهي معقولة العقل وأظهر ذلك الكليات المجردة : كالإنسانية المطلقة والحيوانية المطلقة والجسم المطلق والوجود المطلق ونحو ذلك فإن هذه من وجوده في العقل وليس في الخارج شيء مطلق غير معين بل لا يوجد إلا وهو معين مشخص وهو المحسوس وإنما يثبت العقليات المجردة في الخارج الغالطون من المتفلسفة كالفيثاغورية الذين يثبتون العدد المجرد والأفلاطونية الذين يثبتون المثل الأفلاطونية وهي الماهيات المجردة والهيولى المجردة والمدة المجردة والخلاء المجرد
وأما أرسطو وأصحابه كالفارابي وابن سينا فأبطلوا قول سلفهم في إثبات مجردة عن الأعيان ولكن أثبتوها مقارنة للأعيان فجعلوا مع الأجسام المحسوسة جواهر معقولة كالمادة والصورة وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الجسم وأعراضه وأثبتوا في الخارج أيضا الكليات مقارنة للأعيان وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الأعيان بصفاتها القائمة بها
وكذلك ما أثبتوه من العقول العشرة المفارقات إذا الأمر عليهم لم يوجد لها وجود إلا في العقل لا في الخارج كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من احتجاج جهم على السمنية الطبيعية بإثبات موجود عقلي هو كحجة المشائين على الطبيعية وما في قوله من الحلول الذي ضاهى به النصارى من جنس كلام الحلولية
والمقصود هنا أن نشير إلى جنس كلام السلف والأمة مع جنس هؤلاء النفاة وأن الجميع يشربون من عين واحدة وأن كلام هؤلاء النفاة للصفات مع معطلة الصانع كلام قاصر من جنس كلام جهم مع السمنية المشركين وكلام المشائين الإلهيين من المتفلسفة مع الطبيعيين منهم
وذكر أحمد أن الجهم اعتمد من القرآن على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها : آية نفي الإدراك لينفي بها الرؤية والمباينة وآية نفي المثل لينفي بها الصفات ويجعل من أثبتها مشبها وقوله { وهو الله في السماوات وفي الأرض } الأنعام 3 لينفي بها علوه على العرش أو ليثبت بها مع ذلك الحلول والاتحاد وعدم مباينته للمخلوقات
وهذه أصول الجهمية من المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد ومن دخل ف بالتجهم أو الاعتزال أو بعض فروع ذلك من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد مع أن هؤلاء الأئمة من أبعد الناس عن أصول الجهمية والمعتزلة

تابع كلام الإمام أحمد
قال الإمام أحمد عن الجهمية فإن سألهم الناس عن قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو فوق العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا غاية ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل هو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون شيئين مختلفين وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو معقولا وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء وفي نسخة لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى فقالوا لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح على الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله
فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية هو كلام من وافقهم من القرامطة الباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية ونحو ذلك وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود
ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود
ولما قالوا هو شيء لا كالأشياء علم الأئمة مقصودهم فإن الموجودين لا بد أن يتفقا في مسمى الشيء فإذا لم يكن هناك قدر اتفقا فيه اصلا لزم أن لا يكونا جميعا موجودين وهذا مما يعرف بالعقل
ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي كالأشياء قد عرف أهل العقل إنه لا شيء فبين أن هذا مما يعرف بالعقل وهذا مما يعلم بصريح المعقولات
ولهذا كان قول جهم المشهور عنه الذي نقله عنه عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئا لأن ذلك بزعمه يقتضي التشبيه لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء وهذا تشبيه بزعمه
وقوله باطل فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات فإنك تقول الشيء والموجود والذات ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن وخالق ومخلوق ومورد التقسيم بين الأقسام
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركا اشتراكا لفظيا
وهذا الذي نبه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها هو المعلوم بصريح العقل الذي عليه عامة العقلاء
ومن نازع فيه فلا بد أن يقول به أيضا فيتناقض كلامه في ذلك كما تناقض فيه كلام الشهر ستاني والرازي و الآمدي وغيرهم إذ يجعلونه تارة عاما مقسوما مشتركا اشتراكا لفظيا ومعنويا بين الأشياء الموجودات ويجعلونه تارة مشتركا اشتراكا لفظيا فقط كلفظ المشتري المشترك بين المبتاع والكوكب ولفظ سهيل المشترك بين الكوكب وبين الرجل المسمى بسهيل ولفظ الثريا المشترك بين الكوكب وبين المرأة المسماة ثريا
كما قيل :
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان )
( هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان )
ولما كان هذا مما يعرف بالعقل قال أحمد فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتمون بشيء أي لا يقصدون شيئا فإن المؤتم بالشيء يؤمه ويقصده والإمام الطريق لأن السالك يأتم به وهو أيضا الكتاب الذي يأتم به القارىء وهو الإمام الذي يأتم به المصلي و الأمة القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى والأمة أيضا الدين يقال فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة له
قال الشاعر :
( وهل يستوي ذو أمة وكفور )
وقول النابغة :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع )
فقول أحمد لا يأتمون بشيء أي لا يدينون بدين ومن روي أنه قال إنكم لا تثبتون شيئا فقوله ظاهر فإن قول الجهمية يتضمن أنهم لا يثبتون في الخارج ربا خالقا للعالم
ثم قال فإذا قيل للجهمية من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء
فقال أحمد في هذا الموضع قد عرف المسلمون وقال هناك قد عرف الناس لأنه هنا تكلم في كونه معبودا وأنهم يعبدون وهناك تكلم في كونه موجودا فلما وصفوه بالسلب المحض أخبر أن أهل العقل يعلمون أن الموصوف بالسلب المحض هو العدم فعرف الناس أنهم لا يثبتون شيئا
وهنا لما سألهم : من يعبدون ؟ فأخبروا انهم يعبدون مدبر الخلق وقالوا : إنه مجهول لا يعرف بصفة عرف المسلمون أنهم لا يعبدون شيئا لأن العبادة أصلها قصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزمة للعلم بالمراد المقصود
فما يكون مجهولا لا يعرف بصفة يمتنع ان يكون مقصودا فيمتنع أن يكون معبودا والعبادة هي أمر ديني أمر الله بها ورسوله وهي أصل دين المسلمين
فلهذا قال هنا : قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فبين أن الناس يعلمون بعقلهم أنهم لا يثبتون شيئا وأن المسلمين يعرفون أنهم لا يعبدون شيئا وبين أن الجاهل إذا سمع قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد أصل قول هؤلاء النفاة الجهمية وسر مذهبهم وكلما كان الرجل أعقل وأعرف وأعلم وأفضل وأخبر بحقيقة الأمر في نفسه وبقول هؤلاء النفاة أزداد في ذلك بصيرة وإيمانا ويقينا وعرفانا
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه نسخة الكتاب الذي أرسل في المحنة المشهورة لما كان المأمور قد ذهب إلى ناحية طرسوس وأرسل كتابا إلى الناس ببغداد وأمر نائبه إسحاق بن إبراهيم أن يقرأه على الناس ويدعوهم إلى موافقته فامتنع العلماء عن الإجابة حتى أرسل كتابا يهدد بن الناس وأمر بقتل القاضيين إذا لم يجيبا : قاضي الشرقية والغربية وهما : بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق فأجاب الناس كرها واعترفوا بذلك وامتنع عن الإجابة سبعة فقيدوهم فأجاب منهم خمسة وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري فأرسلوهما مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق فبقي أحمد بن حنبل ومات المأمون قبل أن يصير إليه أحمد والمقصود أنه ذكر في كتابه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة وذكر عن أحمد أنه قال : لا يشبه الأشياء وليس كمثله شيء ونحو ذلك أو كما قال
وأما قوله : بوجه من الوجوه فامتنع منها وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم ولا قدير ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى
وهذا النفي حقيقة قول القرامطة والله تعالى : ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى
ولكن لفظ الشبه فيه إجمال وإبهام فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور ولو كونهما موجودين وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما
فإذا قيل : هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه ولا يواطئه بوجه من الوجوه كان هذا ممتنعا
وكذلك إذا أريد بقول القائل لا يشبهه بوجه من الوجوه هذا المعنى بخلاف ما إذا أراد بذلك المماثلة والمساواة والمكافاة أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة فإنه سبحانه لا يماثل شيء بوجه من الوجوه ولا شريك له بوجه من الوجوه لا سيما والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى
والقرامطة الباطنية كالجهمية الذين ينفون أن يسمى الله بشيء من الأسماء التي يسمى بها مخلوق لبسوا على الناس بلفظ التشبيه والتركيب ولهذا أنكر جماهير الطوائف عليهم من المعتزلة والنجارية والضرارية ومتكلمة الصفاتية وغيرهم بل أنكر عليهم من أنكر من الفلاسفة مع تناقض كثير من الناس معهم
ولهذا زعم أبو العباس الناشيء أن الأسماء التي يسمى بها الله ويسمى بعض عباده بها هي حقيقة في الله مجاز في عباده نقيض قول القرامطة الباطنية والجهمية
ولهذا كان السلف يجعلون الجهمية زنادقة ولم يكن إذا ذاك ظهرت ملاحدة الشيعة بل في عصر محنة الجهمية في خلافة المأمون والمعتصم ونحوهما شرعت طوائف الملاحدة الباطنية تظهر مع ظهور الجهمية كما ظهرت الخرمية أصحاب بابك الخرمي وهذا احد ألقاب الباطنية
ويقال إنه سنة عشرين وهي السنة التي ضرب فهذا فيها أحمد ظهرت أوائل القرامطة الذين ظهروا بالعراق ثم صارت لهم شوكة بهجر مع الجناني وأتباعه ثم ظهرت دعوتهم الكبرى بأرض المغرب ثم مصر إلى أن فتحها أهل السنة بعد ذلك وبقاياهم في الأرض متفرقون
وهؤلاء لهم أنواع من الإلحاد في غير الأسماء والصفات وإنما المقصود هنا بيان إلحاد الجهمية : نفاة الأسماء والصفات فهؤلاء الذين ينفون حقائق أسماء الله الحسنى ويقولون : إنما يسمى بها مجازا أو المقصود بها غيره أو لا يعرف معناها أصل تلبيسهم هو ما في إطلاق هذه الأسماء مما يظنونه من التشبيه الذي يجب نفيه ولهذا عظم كلام المسلمين في هذا الباب وقد بسط في غير هذا الموضع

كلام الجويني عن صفات الله تعالى
وتحقيق هذا الموضع من أعظم أصول الدين كما قال أبو المعالي الجويني في الإرشاد من صفات القديم مخالفته للحوادث فالرب لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها
قال : والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة في الإثبات فاما الغلاة في النفي فقالوا : الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل يقال : ليس بمعدوم وكذلك لا يوصف بانه قادر عالم حي بل يقال : ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت
قال وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث

تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي قاله أبو المعالي من الاعتناء بهذا الأصل متفق عليه بين الطوائف والذي ذكره عن النفاة هو قول الجهمية الذي ذكره الإمام أحمد ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمي بها الخلق : كالحي والعالم والسميع والبصير بل يسميه قادرا خالقا لأن العبد عنده ليس بقادر إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية
ولما كان كل موجودين لا بد أن يكون بينهما اتفاق من بعض الوجوه واختلاف من بعض الوجوه وقد أنكر طائفة من الناس ذلك وقالوا المتماثلان لا يختلفان بحال والمختلفان لا يشتبهان في شيء البتة
واضطرب من خالف شيئا من السنة في الأصل الذي يضبطه في نفي التشبيه إذ جعل مسمى التشبيه والتمثيل واحدا فقالت الباطنية وبعض الفلاسفة إن الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه والتماثل
وقال النجار والقلانسي : المثلان هما المجتمعان في صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالثاني لحترز بهذا القيد عن القديم والحادث

تابع كلام الجويني
قال أبو المعالي فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه أحدها : الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات : من الوجود والعرضية واللونية ثم هما مختلفان وكذلك الجوهر والعرض والقديم والحادث لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات ويقال لهم : أثبتوا الصانع المدبر أم لا تثبتونه ؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ولا واسطة بين الإثبات والنفي فإن قالوا : ليس بمنفي قيل لهم : نفي النفي إثبات كما أن نفي الإثبات نفي وإذا لزم الثبوت من نفي النفي حصلت المماثلة فإن قالوا : نحن لا نطلق الإثبات على صفاته ولا ننطق به قلنا : قد نطقتم في صفات الرب بالإثبات أو بصيغة تتضمنه والمقصود من العبارات معناها ثم نقول أتعتقدون ثبوت الإله سبحانه ؟ فإن قالوا : لا نعتقده قطع الكلام عنهم فيما هو فرع له على أنهم راغموا البديهة لعلمنا بأن نفي النفي إثبات وإن قالوا : نعتقد الثبوت ولا ننطق به قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنفي المماثلة لفظا فغن المماثلة لفظا مما يتوقى في العقائد قلنا : يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص فكل مالا يؤدي إلى الحدوث وإلى النقص لا نكثرت به ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه قال : ومما يتمسك به أن نقول هلا قلتم : الاشتراك في صفة النفي يوجب الاشتباه ؟ وما الفرق بين صفة الإثبات والنفي في هذا الباب ؟ ثم نقول : الرب سبحانه معقول ومذكور كالحادث وهو سبحانه مخالف للحادث ولا مخالفة إلا بين اثنين
قال فأما ما قيد النجار به كلامه فليس بعاصم فإن التماثل يتلقى من الاجتماع في الصفة فأما كون أحدهما بالثاني أو المصير إلى أنه ليس به فلا أثر له في التشابه والتماثل
واختار أبو المعالي ما اختاره القاضي أبو بكر وأمثاله ويشاركهم في ذلك طوائف من أصحاب مالك و الشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وقالوا : إن المثلين كل موجودين ثبت لكل واحد منهما من صفات النفس ما ثبت للآخر ولا يجوز أن ينفرد أحد المثلين عن الآخر بصفة نفس ويجوز أن ينفرد بصفة معنى وقوعا يجوز مثلها على مماثلة وبيان ذلك أن الجواهر متماثلة لتساويها في صفات الأنفس إذ لا يستبد جوهر عن جوهر بالتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس وقد يختص بعض الجواهر بضروب من الأعراض يجوز أمثالها في سائر الجواهر ويجوز أن يشارك الشيء ما يخالفه في الوجود مثل كونهما عرضين لونين خلافا للباطنية قالوا : ولا يجوز ان يتماثل الشيئان من وجه ويختلفا من وجه لأنه إذا قلنا : المثلان هما المتساويان في جميع صفات النفس فإذا اختلف الشيئان من وجه فليسا متماثلين من كل وجه إذ يستحيل التماثل في جميع الوجوه مع الاختلاف في وجه من الوجوه

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا بناء على أصل تلقوه من المعتزلة وهو أن الجواهر والأجسام متماثلة بخلاف الأعراض فإنها قد تختلف وقد تتماثل
وحقيقة هذا القول أن الأجسام متماثلة من كل وجه لا تختلف من وجه دون وجه بل الثلج مماثل للنار من كل وجه والتراب مماثل للذهب من كل وجه والخبز مماثل للحديد من كل وجه إذ كانا متماثلين في صفات النفس عندهم
وهذا القول فيه من مخالفة الحس والعقل ما يستغنى به عن بسط الرد على صاحبه بل أصل دعوى تماثل الأجسام من أفسد الأقوال بل القول في تماثلها واختلافها كالقول في تماثل الأعراض واختلافها فإنها تتماثل تارة وتختلف أخرى وتفريقهم بين الصفات النفسية والمعنوية اللازمة للمعين يشبه تفريق أهل المنطق بين الصفات الذاتية واللازمة للماهية وكلاهما قول فاسد لا حقيقة له بل قول هؤلاء أفسد من قول أهل المنطق
وإذا وقع الكلام في جسم مطلق وجوهر مطلق فهذا لا وجود له في الخارج وإن وقع في الوجود من الأجسام : كالنار والماء والتراب والإنسان والفرس والذهب والبر والتمر فكل جسم من هذه الأجسام له صفات نفسية لازمة له لا تزول إلا باستحالة نفسه فدعوى المدعي أنه ليس له من الصفات النفسية إلا التحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أفسد من قول أهل المنطق فإن أولئك جعلوا مثلا كون الحيوان حساسا متحركا بالإرادة من الصفات الذاتية وهؤلاء لم يجعلوا له صفة نفسية إلا كونه جسما
والتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أمر تشترك فيه الأجسام كلها والأمور المختلفة تشترك في لوازم كثيرة كاشتراك الألوان المختلفة في اللونية والعرضية ليس حقيقة النار مجرد كونها متحيزة قابلة للعرض قائمة بالنفس بل هذا من لوازمها
وأيضا فقد يسلم هؤلاء القائلون بامتناع التشابه من وجه دون وجه كأبي المعالي وغيره أن الأعراض المختلفة تشترك في أمور وقد صرحوا بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت وأنه يشارك المحدث في أمور
والاشتراك في بعض صفات الإثبات لا يكون تماثلا وهذا تصريح بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات فكيف يمكن أن يقال مع هذا إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء ؟ وغاية هذا أن يقال إنهما لا يختلفان بوجه من الوجوه في الصفات النفسية وإن اشتبها في الصفات المعنوية
وهذا مع أن اللفظ لا يدل فيعود إلى ما ذكر وقد أخبر الله تعالى في كتابه بنفي تساوي بعض الأجسام وتماثلها كما أخبر بنفي ذلك عن بعض الأعراض فقال الله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات } فاطر 19 - 22
وقال تعالى { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } الزمر 9
وقال تعالى { ليسوا سواء } آل عمران 113
وقال تعالى : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } الحشر 20 وقال تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } محمد 38 فنفى أن يكون بعض الأجسام مثلا أو مساويا لغيره
وإذا قيل : إن الأجسام اختلفت بما عرض لها من الأعراض
قيل : من الأعراض ما يكون لازما لنوع الجسم أو للجسم المعين كما يلزم الحيوان أنه حساس متحرك بالإرادة ويلزم الإنسان انه ناطق وكما يلزم الإنسان المعين ما يخصه من إحساسه وقوة تحركه بالإرادة ونطقه وغير ذلك من الأمور المعينة التي لا يشركه في عينها غيره فهذا لا يجوز أن يكون عارضا له إذ هو لازم له
وما يعقل جسم مجرد عن جميع هذه الصفات عرضت له بعد ذلك فإذا كانت الأجسام تختلف بالأعراض وهي لازمة لها كان من لوازمها أن تكون مختلفة
وتمام هذا أن الأشياء تتماثل وتختلف بذواتها لا نحتاج أن نقول : تتماثل في ذواتها والذات تختلف بصفاتها
ولهذا كان الصواب أن الرب سبحانه غير مماثل لخلقه بل هو مخالف لهم بذاته لا نقول : إنه مساو لهم بذاته وإنما خالفهم بصفاته
ودعوى من ادعى : أن الأجسام مركبة من جواهر لا تنقسم قائمة بأنفسها ليس لها شيء من هذه الأعراض ولكن لما تركبت صارت متصفة بهذه الصفات كاتصاف النار بالحرارة والماء بالرطوبة دعوى باطلة بالعقل والحس فإن الجسم المعين كهذه النار لم تكن أجزاؤه قط عارية عن كونها نارا بل النار لازمة لها
وإذا قيل : قد كان هواء فصار نارا
قيل : نعم وتلك الأجزاء الهوائية لم تكن قط إلا هواء واستحالة الجسم إلى جسم آخر مشهود معروف عند العامة والخاصة كما يقول الفقهاء : إذا استحال الخمر خلا أو العذرة رمادا والخنزير ملحا ونحو ذلك وكما يكون الإنسان منيا ثم يصير علقة ثم مضغة
فإما أن يقال : إن أجزاء العذرة تفرقت وهي بعينها باقية حين صارت رمادا وإنما تغيرت صفاتها كما يتغير اللون والشكل بمنزلة الثوب المصبوغ وبمنزلة الخاتم إذا عمل درهما فهذا مكابرة للحس لأن الفضة التي كانت خاتما هي بعينها التي جعلت درهما أو سوارا وإنما تغير شكلها كالشمعة إذا غير شكلها
وكذلك إذا صبغ الجسم أو تحرك فهنا اختلفت صفاته التي هي أعراضه وأما المني إذا صار آدميا والهواء إذا صار نارا والنار إذا طفئت صارت هواء فهنا نفس حقيقة الشيء استحالت فخلق من الأولى ما هو مخالف لها وفنيت الأولى ولم يبق من نفس حقيقتها شيء ولكن بقي ما خلق منها كما يبقى الإنسان الذي خلق من أبيه بعد موت أبيه ولا يقول عاقل : إنه عبارة عن أجزاء كانت في أبيه فتفرقت فيه
وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا فساد قول من يقول : الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما مادة وصورة
ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر في الخلق وفي البعث وفي إحياء الأموات وإعادة الأبدان وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع
فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة باله واليوم الآخر ويعرف من الكلام الذي ذمه السلف والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول وما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل
وذلك أنا نشهد هذه الأعيان المرئية تتحول من حال إلى حال كما نشهد أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك وتبزغ تارة وتأفل أخرى ونشهد أيضا أن السحاب والرياح تتحرك لكن السحاب نشهد اجتماعه وتفرقه وخروج الودق من خلاله ونشهد الماء يتحرك ويجتمع ويفترق ونشهد النبات والحيوان ينمي ويعتدي ومثل هذا منتف في الماء والهواء والأفلاك وحركته بالنمو والاغتذاء ليست من جنس حركة الماء والهواء والنجوم فإن هذه توجب من تغير النامي المغتذي واستحالته مالا توجبه تلك فإن الكواكب هي في نفسها لم تستحل وتغير بالحركة بخلاف الطفل إذا كبر بعد صغره والزرع إذا استغلظ واستوى على سوقه
ونشهد مع ذلك أن الحطب يصير رمادا ودخانا وكذلك الدهن يصير دخانا والماء يصير بخارا وليس هذا مثل كبر الصغير بل هذا فيه من الاستحالة والانقلاب من حقيقة إلى حقيقة ما ليس في نبات الزرع والحيوان
ونشهد إخراج الله من الأرض والشجر : الزرع والثمر وإخراج الحيوان من الحيوان
كما قال تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } فاطر 27 - 28 وقال تعالى { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } الروم 19
وقال تعالى { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا } الآية الأنعام 99
وقال { وجعلنا من الماء كل شيء حي } الأنبياء 30 وقال { الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر } إبراهيم 32 - 33 فنحن نشهد الثمر يخرج من الخشب ليست حقيقة الخشب حقيقة الرطب والعنب والرمان ثم إذا أخرج الثمرة تكون خضراء ثم تصير صفراء ثم تصير حمراء فتختلف ألوانها وتكبر بعد صغرها
ونرى الألوان المختلفة التي يخلقها الله للحيوان والنبات وغير ذلك من أسود وأحمر وأصفر وأبيض ونفرق بين اختلافها ألوانها وحركاتها وطعومها بالحلاوة والحموضة وغير ذلك وبين اختلافها بالنمو والاغتذاء وكبرها بعد الصغر وبين خروج السنبلة من الحبة والشجرة من النواة وخروج الثمرة من الشجرة فاختلافها بالحركة والسكون والاجتماع والافتراق كتفريق الماء وجمعه وتفريق التراب وجمعه ليس يوجب اختلاف شيء من حقيقة الجسم وبعد ذلك اختلاف ألوانه وطعومه فإن كونه أحمر وأخضر وأصفر وحلوا وحامضا هو اختلاف يزيد على مجرد الحركة كحركة الكواكب والرياح
ثم اختلافه بالنمو والاعتداء مثل كبر الصغير من الحيوان والنبات اختلاف آخر فيه من التغير والزيادة وغير ذلك ما ليس في مجرد تغير اللون والحركة
ثم يصير الماء بخارا والحطب دخانا أو رمادا نوع آخر فيه انقلاب الحقيقة واستحالتها ما ليس في ذلك
ثم إخراج الثمرات من الشجر والإنسان من المني والزرع من النبات أمر آخر غير هذا كله فإن الشجرة لم تنقص بخروج الثمرة منها ولا استحالت حقيقتها وكذلك الأرض لم تنقص بخروج الزرع منها ولا استحالت حقيقتها
وكذلك خروج الإنسان من أمه وخروج البيضة من الدجاجة ولكن خلق الفروج من البيضة من جنس خلق الإنسان من المني
والذي يعقل من اجتماع الأجزاء وافتراقها أن تفترق مع بقاء حقيقتها مثل الماء تفرق حتى تصير أجزاؤه في غاية الصغر وهو ماء وكذلك الزئبق ونحوه فإذا استحالت بعد هواء لم يبق ماء ولا زئبق ومن قال إنه بعد انقلابه بقيت الأجزاء كما تبقى إذا تصغرت أجزاؤه فقد خالف الحس والعقل ولا يعقل الماء ونحوه جزءا إلا وهو ماء فإذا صار هواء لم يكن في الهواء جزء هو ماء بل جزء الهواء هواء
وكذلك الحطب تكسر أجزاؤه إلى أن تتصاغر فإذا صار رمادا فأجزاء الرماد مخالفة لأجزاء الحطب ليست هذه الأجزاء تلك فبقاء الشيء مع تغير أعراضه شيء وانقلاب حقيقته شيء آخر
ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا وتجعل هذا جنسا مخالفا لهذا في جميع الأحكام بخلاف ما إذ ا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه كالربا مثلا هو ثابت فيه وإن تغيرت صورة وأشكاله فسواء كان مجتمعا مضروبا أو مصوغا على أي صورة كان أو مفترقا بالإنكسار بخلاف حكمه لما كان ترابا في المعدن قبل أن يصير ذهبا وفضة
وكذلك النوى حكمه وحقيقته غير حكم النخلة وحقيقتها وأما الشجر والثمر فأبعد من هذا كله لأنه لا نشهد هناك من انقلاب أجزاء الشجرة واستحالتها ما نشهد من هذه المنقلبات وإنما نشهد خروج ثمرة لها طعم ولون وريح من خشبة مخالفة لها غاية المخالفة مع أن تلك الخشبة قد تزيد وتنمي مع خروج الثمرة منها وإن كان في ذلك استحالة لطينتها من الماء والهواء والتراب لكن خلق الحيوان والنبات والمعدن من العناصر ليس هو من جنس استحالة هذه المولدات بعضها إلى بعض لا سيما إذا كان بأفعالنا بل كلما بعد التسبب بأفعالنا يكون خلقه أعجب والإبداع للأعيان فيه أعظم
وما كان أقرب إلى مفعولاتنا يكون أبعد من إبداع الأعيان بل وعن انقلاب الحقائق إلى تغير الصفات إلى أن تنتهي إلى مطلق الحركة التي ليس فيها من تغير الذات شيء كحركة أحدنا بالمشي والقيام والقعود وحركة الكواكب فإن جنس الحركة هو المقدور للآدميين ابتداء وهو أبعد الأعراض والأحوال عن تغير الأعيان والحقائق ولهذا لا يسمى هذا في اللغة المعروفة تغيرا أصلا ولا يقول أحد عند الإطلاق للكواكب إذا كانت سائرة وللإنسان إذا كان ماشيا متغيرا اللهم إلا مع قرينة تبين المراد بخلاف ما إذا تغير لونه بحمرة أو صفرة فإنهم قد يقولون قد تغير ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا
والمقصود أن قول من يقول إن هذه المخلوقات التي يخلقها الله بعضها من بعض ليس خلقه لها إلا تغيير صفاتها وأن حقيقة كل شيء جواهر أصلية متماثلة باقية لا تتغير حقيقتها أصلا ولكن تكثر تلك الأجزاء وتقل كلام لا حقيقة له وهو متضمن أمورا باطلة إثبات جواهر قائمة بأنفسها مخلوقة وراء هذه الأعيان المشهودة وذاك باطل لا حقيقة له
وإثبات هؤلاء لهذه الجواهر الحسية من جنس إثبات آخرين لجواهر عقلية قائمة بأنفسها وراء هذه الأعيان المشهودة يسمونها المادة والصورة وإثبات أن هذه الجواهر متماثلة والأعيان المشهودة متماثلة وهو أمر لا حقيقة له
فدعوى أن خلق الله لمخلوقاته من الحيوان والنبات والمعدن ليس إلا إحداث أعراض وصفات ليس فيه خلق قائمة بنفسها ولا إحداث لأجسام وجواهر قائمة بنفسها كما تحرك الرياح والمياه وتفرق الماء في مجاريه وهو أيضا من أبطل الباطل
وهذا من أعظم ضلال هؤلاء حيث عمدوا إلى ما هو من أعظم آيات الرب الدالة الشاهدة بوجوده وقدرته ومشيئته وعلمه وحكمته ورحمته أنكروا وجودها بالكلية وادعوا أنه ليس في ذلك إبداع عين ولا خلق شيء قائم بنفسه وإنما هو إحداث أعراض والواحد منا يقدر على إحداث بعض الأعراض ثم اقتصروا في ذلك على مجرد إحداث أعراض وصفات
ثم أرادوا أن يثبتوا إبداعه لجميع الأعيان بان ادعوا وجود جواهر منفردة لا حقيقة لها وادعوا في الأعيان المختلفات تماثلا لا حقيقة له
ثم أرادوا أن يثبتوا حدوث هذه الجواهر بمجرد قيام الأعراض أو الحركات بها وذلك من أبعد الأشياء عن الدلالة على المطلوب فاحتاجوا إلى تلك المقدمات الباطلة التي ناقضوا بها عقول العقلاء وكذبوا بها ما جاءت به الرسل من الأنباء واحتاجوا أن ينفوا حقيقة الرب بعد أن نفوا حقيقة مخلوقاته وآل الأمر بهم إما إلى نفي صفاته أيضا وإما إلى إثبات صفات لا موصوف لها كما لم يثبتوا من آياته إلا ما يحدث من صفات الأشياء
ومن تدبر هذا كله وتأمله وتبين له أن ما جاء به القرآن من بيان آيات الرب ودلائل توحيده وصفاته هو الحق المعلوم بصريح المعقول وأن هؤلاء خالفوا القرآن في أصول الدين في دلائل المسائل وفي نفس المسائل خلافا خالفوا به القرآن والإيمان وخالفوا به صريح عقل الإنسان وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلاف ذلك أهل كذب وبهتان وإن لم يكونوا متعمدين الكذب بل التبس عليهم ما ابتدعوه من الهذيان==

ج4.درء تعارض العقل والنقل أحمد

 بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

الوجه الحادي والعشرون
أن يقال : معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه : أصل كل شر هو من معرضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع
وهو كما قال فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وبين أن المتبعين لما أنزل هم أهل الهدى والفلاح والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال
كما قال تعالى : { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 123 - 126 ]
وقال تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف 35 - 36 ]
وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل قال تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } [ الأنعام : 128 ] إلى قوله : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } [ الأنعام : 130 ]
وقال تعالى : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } [ الزمر : 71 ]
وقال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } [ الملك : 8 ، 9 ]
ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان : إما إنشاء وإما خبر والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة فأصل السعادة تصديق خبره وطاعة أمره وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى وهذا هو معرضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع
ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم
والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار كما قال تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [ غافر : 4 ] إلى قوله : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } [ غافر : 5 ]
وقوله تعالى : { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ الكهف : 56 ]
وقوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر 4 ] مصدق لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ مراء في القرآن كفر ]
ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن وجادل في ذلك بعقله ورأيه فهو داخل في ذلك وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله فقد دخل في ذلك فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة
وقال تعالى : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } الآية [ غافر : 56 ]
وقال : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [ غافر : 35 ]
والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين
وشواهده كثيرة كقوله تعالى : { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم : 35 ]
وقوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم : 23 ] في سورة الأعراف ويوسف والنجم فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه دخل في معنى هذه الآية
وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله ولا يجوز معارضته بغير ذلك
وكتاب الله نوعان : خبر وأمر كما تقدم أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر ويبين معناه وأما الأمر فيدخله النسخ ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزل الله فمن أراد أن ينسخ شرع الله الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحدا وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدا
والقرامطة جمعوا هذا وهذا وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو السابع الذي نسخ دين محمد صلى الله عليه و سلم وكذلك تعرض لدعوى النبوة غير واحد من الملاحدة
وآخرون يدعون ما هو عندهم أعلى من النبوة : إما ختم الولاية عند من يزعم أن الولاية أفضل من النبوة كمذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله وإما دعوى الفلسفة والحكمة التي هي في زعم كثير منهم أعلى من النبوة
وهؤلاء الملاحدة نوعان : نوع يزعم أنه نزل عليه كما يدعي ذلك من يدعيه من ملاحدة أهل النسك والتصوف
ثم من هؤلاء من يقول : إن الله أنزل عليه ذلك ومنهم من يقول : ألقي إلي أوحي إلي ولا يسمي الموحي
وقوم يزعمون أنهم يقولون ذلك بعقلهم ورأيهم
وقد جمع الله هؤلاء بقوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [ الأنعام : 93 ] فذكر سبحانه من يفترى الكذب على الله ومن يقول أنه يوحى إليه ومن زعم أنه يقول كلاما مثل الكلام الذي أنزله الله
وهذا الأصل هو مما يعلم بالضرورة من دين الرسل من حيث الجملة : يعلم أن الله إذا أرسل رسولا فإنما يقول من يناقض كلامه ويعارضه من هو كافر فكيف بمن يقدم كلامه على كلام الرسول ؟ وأما المؤمنون بما جاء به فلا يتصور أن يقدموا أقوالهم على قوله بل قد أدبهم الله بقوله : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ]
ولكن البدع مشتقة من الكفر فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمنا بما جاء به الرسول في غير محل التعارض
وإذا كان أصل معارضة الكتب الإلهية بقول فلان وفلان من أصول الكفر علم أن ذلك كله باطل وهذا مما ينبغي للمؤمن تدبره فإنه إذا حاسب نفسه على ذلك علم تصديق ذلك ومما بين هذا :

الوجه الثاني والعشرون
وهو أن يقال : إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا
كما قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران : 98 - 99 ]
وقال تعالى : { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } [ الأعراف : 86 ]
وقال : { ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } [ هود : 18 - 19 ]
وقال : { وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله } [ إبراهيم : 2 ]
ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث الله به رسله مما أمر به وأخبر عنه فمن نهى الناس نهيا مجردا عن تصديق رسل الله وطاعتهم فقد صدهم عن سبيل الله فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل وبين أن العقل يناقض ذلك وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل ؟
ومعلوم أن من زعم أن العقل الصريح الذي يجب اتباعه يناقض ما جاء به الرسل وذلك هو سبيل الله فقد بغى سبيل الله عوجا أي طلب له العوج فإنه طلب أن يبين اعوجاج ذلك وميله عن الحق وأن تلك السبيل الشرعية السمعية المروية عن الأنبياء عوجا لا مستقيمة وأن المستقيم هو السبيل التي ابتدعها من خالف سبيل الأنبياء ويوضح هذا

الوجه الثالث والعشرون
وهو أن يقال : من المعلوم أن الله أخبر أنه أرسل رسله بالهدى والبيان لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فقال تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ التوبة : 33 ] وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ الشورى : 52 - 53 ]
وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ إبراهيم : 1 - 2 ] إلى قوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ]
وقد قال تعالى : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ]
وقال : { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } [ العنكبوت : 18 ]
وقال : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } [ الأعراف : 157 ]
قال تعالى : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } [ المائدة : 15 - 16 ]
وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل : 144 ]
وقال تعالى : { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [ يوسف : 111 ]
وقال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } [ النحل : 89 ]
وقال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [ البقرة 2 - 5 ]
ونظائر هذا في القرآن كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال : أمر الإيمان بالله واليوم الآخر : إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أو بما يدل على الباطل أو لم يتكلم : لا بما يدل على حق ولا بما يدل على باطل
ومعلوم أنه إذا قدر في شخص من الأشخاص أنه لم يتكلم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر : لا بحق ولا بباطل ولا هدى ولا ضلال بل سكت عن ذلك لم يكن قد هدى الناس ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور ولا بين لهم ولا كان معه ما يستضيء به السالك المستدل
فإن قدر أن هذا الشخص تكلم بما يفهم منه نقيض الحق وبما يدل على ضد الصواب وكان مدلول كلامه في ذلك معلوم الفساد بصريح العقل - لكان هذا الشخص قد أضل بكلامه وما هدى وكان مخرجا لمن اتبعه بكلامه من النور إلى الظلمات كحال الطاغوت الذين قال الله فيهم : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [ البقرة : 257 ]
ومن زعم أن ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة قد عارضه صريح المعقول الذي يجب تقدمه عليه فقد جعل الرسول شبيها بالشخص الثاني الذي أضل بكلامه من وجه ويجعله بمنزلة من جعله كالساكت الذي لم يضل ولم يهد من وجه آخر
فإنه إذا زعم أن الحق والهدى هو قول نفاة الصفات الذي يعلم بالعقل عنده فمعلوم أن كلام الله ورسوله لم يدل على قول النفاة دلالة يحصل بها الهدى والبيان للمخاطبين بالقرآن إن كان قول النفاة هو الحق
ومعلوم أن كلام الله ورسوله دل على إثبات الصفات المناقض لقول النفاة دلالة بينة بقول جمهور الناس : إنها دلالة قطعية على ذلك والمعتزلة ونحوهم من النفاة معترفون بأنها دلالة ظاهرة فإذا كان الرسول لم يظهر للناس إلا إثبات الصفات دون نفيها وكان الحق في نفس الأمر نفيها لكان بمنزلة الشخص الذي كتم الحق وذكر نقيضه
وهذا خلاف ما نعته الله في كتابه فدل على أن هذا الطريق التي يسوغ فيها تقديم عقول الرجال - في أصول التوحيد والإيمان على كلام الله ورسوله تناقض دين الرسول مناقضة بينة بل مناقضة معلومة بالاضطرار من دين الإسلام لمن تدبر حقيقة هذا القول وعرف غائلته ووباله وحينئذ فنقول :

الوجه الرابع والعشرون
إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول : هذا القرآن أو الحكمة الذي بلغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمنا بعقولنا ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحا فيما علمنا به صدقك فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك وكلامك نعرض عنه لا نتلقى منه هدى ولا علم - لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ولم يرض الرسول منه بهذا بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول إذ العقول متفاوتة والشبهات كثيرة والشيطان لا يزال يلقي الوساوس في النفوس فيمكن حينئذ أن يلقي في قلب غير واحد من الأشخاص ما يناقض عامة ما أخبر به الرسول وما أمر به
وقد ظهر ذلك في القرامطة الباطنية الذين ردوا عامة الظاهر الذي جاء به من الأمر والخبر وزعموا أن العقل ينافي هذا الظاهر الذي بينه الرسول
ثم قد يقولون : الظاهر خطاب للجمهور والعامة حتى يصل الشخص إلى معرفة الحقيقة التي يزعمون أنها تناقض ما بينه الرسول وحينئذ تسقط عنه طاعة أمره ويسوغ له تكذيب خبره
ومن المعلوم لعامة المسلمين أن قول الباطنية الذي يتضمن مخالفة الرسول معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام
وكذلك ما أخبر به في المعاد قد قال متكلمة المسلمين : إن قول الفلاسفة المناقض لذلك معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام
وهكذا ما اخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته يعلم أهل الإثبات أن قول النفاة فيه معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام
وأصل هذا الإلحاد معارضة ما جاءت به الأنبياء بالعقول والآراء

الوجه الخامس والعشرون
وهو أن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه أن معارضة مثل هذا فعل الشياطين المعادين للأنبياء
قال تعالى : { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين * ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل * ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأنعام : 106 - 110 ] أي وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون وأنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فقوله : { نقلب أفئدتهم } معطوف على قوله { لا يؤمنون } وكلاهما داخل في معنى قوله : { وما يشعركم } وبهذا تزول شبهة من لم يفهم الآية فظن أن ( أن ) بمعنى ( لعل ) لتوهمه أن قوله : { ونقلب } فعل مبتدأ إلى قوله : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } [ الأنعام : 112 - 115 ]
ومن تدبر هؤلاء الآيات علم أنها منطبقة على من يعارض كلام الأنبياء بكلام غيرهم بحسب حاله فإن هؤلاء هم أعداء ما جاءت به الأنبياء
وأصل العداوة والبغض كما أن الولاية والحب ومن المعلون أنك لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت وأن ذلك الحديث لم يرد ولو أمكنه كشط ذلك في المصحف لفعله
قال بعض السلف : لا ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه
وقيل عن بعض رؤوس الجهمية - إما بشر المريسي أو غيره : أنه قال : ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل ويقال أنه قال : إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه خلافا لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه
كما قال : [ ليبلغ الشاهد الغائب ]
وقال : [ بلغوا عني ولوا آية ]
وقال : [ نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ]
وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله لأنه معارض لما يقولونه وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر : قال : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم السنن أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم فذكر أنهم أعداء السنن
وبالجملة فكل من أبغض شيئا من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك
قال عبد الله بن مسعود : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله وعدو الأنبياء هم شياطين الإنس والجن
كما [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي ذر : تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقال : أو للإنس شياطين ؟ فقال : نعم شر من شياطين الجن وهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ]
والزخرف هو الكلام المزين كما يزين الشيء بالزخرف وهو المذهب وذلك غرور لأنه يغر المستمع والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مزخرف يغر المستمع
ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة كما رأيناه وجربناه
ثم قال : { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } [ الأنعام : 114 ] وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله تعالى بما أنزله من الكتاب المفصل
كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [ الشورى : 10 ]
وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ]
وقال تعالى : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } [ الأنعام : 114 ] جملة في موضع الحال
وقوله : { أفغير الله أبتغي حكما } [ الأنعام : 114 ] استفهام استنكار يقول كيف أطلب حكما غير الله وقد أنزل الكتاب مفصلا يحكم بيننا
وقوله ( مفصلا ) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال ويقول إنه لا يفهم معناه ولا يدل على مورد النزاع فيجعله إما مجملا لا ظاهر له أو مؤولا لا يعلم عين معناه ولا يدل على عين المعنى المراد به
ولهذا كان المعرضون عن النصوص المعارضون لها كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد به وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة ويقولون : يجوز أن يكون المراد واحدا منها ولهذا أمسك من امسك منهم عن التأويل لعدم العلم بعين المراد
فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصلا بل مجملا ملتبسا أو مؤولا بتأويل لا دليل على إرادته
ثم قال : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } [ الأنعام : 114 ] وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل علم علما يقينا لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا من مشكاة واحدة لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها
وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن بل هو من الحق الذي صدقهم عليه ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات ولا يجعلون ذلك مما يدله اليهود ولا يعيبونهم بذلك ويقولون هذا تشبيه وتجسيم كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة ويقولون : إن هذا مما حرفوه بل كان الرسول إذا ذكروا شيئا من ذلك صدقهم عليه كما صدقهم في خبر الحبر كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود وفي غير ذلك
ثم قال : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [ الأنعام : 115 ] فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق وما أمر به فهو عدل
وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدق به ولا نعرض عنه ولا نعارضه ومن دفعه فإنه لم يصدق به وإن قال : أنا أصدق الرسول تصديقا مجملا فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول وعارضه هو بعقله ودفعه لم يصدق به تصديقا مفصلا ولو صدق الرجل الرسول تصديقا مجملا ولم يصدقه تصديقا مفصلا فيما علم أنه أخبر به لم يكن مؤمنا له ولو أقر بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بينه الرسول أو صرفه إلى معان لا يدل عليها مجري الخطاب بفنون التحريف بل لم يردها الرسول فهذا ليس بتصديق في الحقيقة بل هو إلى التكذيب أقرب

الوجه السادس والعشرون
وهو أن يقال : إن الله ذم أهل الكتاب على كتمان ما أنزل الله وعلى الكذب فيه وعلى تحريفه وعلى عدم فهمه
قال تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون }
فذم المحرفين له والأميين الذين لا يعلمونه إلا أماني والذين يكذبون فيقولون لما يكتبونه هو من عند الله وما هو من عند الله كما ذم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب وقد ذم الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في غير هذا الموضع
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في الذين يعرضون عن كتاب الله ويعارضونه بآرائهم وأهوائهم فإنهم تارة يكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم ومنهم طوائف يضعون أحاديث نبوية توافق بدعهم كالحديث التي تحتج به الفلاسفة : أول ما خلق الله العقل
والحديث الذي يحتج به الجهمية : كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان
والحديث الذي يحتجون به في نفي الرؤية : لا ينبغي لأحد أن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة
والحديث الذي يحتجون به في نفي العلو كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الذي أين الأين فلا يقال له : أين وعرض به حديث ابن اسحق الذي رواه أبو داود وغيره الذي قال فيه : يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك وأكثر فيه في القدح في ابن اسحق مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث وغاية ما قالوا فيه : إنه غريب
والأحاديث التي تحتج بها الاتحادية من هؤلاء وغيرهم مثل قولهم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : رب زدني فيك تحيرا
ومثل الأحاديث التي يحتج بها الواصفون بالنقائص كحديث الجمل الأورق ونزوله عشية عرفه إلى الأرض يصافح الركبان ويعانق المشاة ونزوله إلى بطحاء مكة وقعوده على كرسي بين السماء والأرض ونزوله على صخرة بيت المقدس وأمثال ذلك
وكذلك ما يضعونه من الكتب بآرائهم وأذواقهم ويدعون أن هذا هو دين الله الذي يجب اتباعه وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرفون بها الكلم عن مواضعه فأكثر من أن يذكر كتأويلات القرامطة الباطنية والجهمية والقدرية وغيرهم
وأما عدم الفهم فإن النصوص التي يخالفونها تارة يحرفونها بالتأويل وتارة يعرضون عن تدبرها وفهم معانيها فيصيرون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث فمنهم طوائف لا يقرون القرآن مثل كثير من الرافضة والجهمية لا تحفظ أئمتهم القرآن وسواء حفظوه أم لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبره كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة
وأما الحديث : فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه وكثير منهم لا يصدق به ثم إذا صدقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه حتى أن منهم طوائف يقرون بما أخبر به القرآن من الصفات وأما الحديث إذا صدقوا به فهم لا يقرون بما أخبر به
وإذا تبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بالمعقولات لا بد له من كتمان أو كذب أو تحريف أو أمية مع عدم علم وهذه الأمور كلها مذمومة - دل ذلك على أن هؤلاء مذمومون في كتاب الله كما ذم الله أشباههم من أهل الكتاب وأن هؤلاء وأمثالهم دخلوا في قوله صلى الله عليه و سلم الذي ثبت عنه في الصحيح الذي قال فيه : [ لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ]
فإن قيل : فما ذكرتموه قد يشعر بأنه ليس لأحد أن يعارض حديثا ولا يستشكل معناه وقد كان الصحابة يفعلون ذلك
حتى قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قال : [ من نوقش الحساب عذب قالت عائشة : يا رسول الله أليس الله يقول : { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق : 7 ، 8 ] ؟ فقال : ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب ]
ولما قال : [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة : أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] ؟ فقال : ألم تسمعي قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 72 ] ]
[ وقال له عمر عام الحديبية : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : هل قلت لك : إنك تدخله هذا العام ؟ قال لا : قال فإنك آتيه ومطوف به ]
قيل : لم يكن في الصحابة من يقول : إن عقله مقدم على نص الرسول وإنما كان يشكل على أحدهم قوله فيسأل عما يزيل شبهته فيتبين له أن النص لا شبهة فيه
فلما نفى النبي صلى الله عليه و سلم مناقشة الحساب عن الناجين لم ينف كل ما يسمى حسابا والحساب يراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات وهذا يتضمن المناقشة ويراد به عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها
ولهذا لما تنازع أهل السنة في الكفار : هل يحاسبون أم لا ؟ كان فصل الخطاب إثبات الحساب بمعنى عد الأعمال وإحصائها وعرضها عليهم لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم
وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ] لم يرد به المرور على الصراط فإن ذاك لا يسمى دخولا ولكن سماه الله ورودا بقوله : { وإن منكم إلا واردها }
ولفظ ( الورود ) يحتمل العبور والدخول وأيضا فالورود والدخول قد يراد : ورود أعلاها
وقد ثبت في الصحيح : [ أنهم إذا عبروا على الصراط : منهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كأجاويد الخيل ]
وفسر النبي صلى الله عليه و سلم الورود بهذا وهذا عام لجميع الخلق فلما قالت حفصة : أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] لم تكن هذه معارضة صحيحة لما أخبر به فبين لها النبي صلى الله عليه و سلم - بعد أن زبرها - أن الله قال : { ثم ننجي الذين اتقوا } [ مريم : 72 ] فتلك النجاة هي المعنى الذي أراده بقوله : لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة
فإن قيل : فعائشة قد عارضت ما رواه عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ] بقول الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] وعارضت ما رووه عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من مخاطبة أهل القليب يوم بدر بقوله : { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] ] قيل : الجواب من وجهين :
أحدهما : أنا لم ننكر انهم كانوا يعارضون نصا بنص آخر وإنما أنكرنا معارضة النصوص بمجرد عقلهم والنصوص لا تتعارض في نفس الأمر إلا في الأمر والنهي إذا كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا وأما الأخبار فلا يجوز تعارضها
وأما إذا قدر أن الإنسان تعارض عنده خبران أو أمران : عام وخاص وقدم الخاص على العام فإنه يعلم أن ذلك ليس يتعارض في نفس الأمر وأن المعنى الخاص لم يدخل في إرادة المتكلم باللفظ العام فالدليل الخاص يبين ما لم يرد باللفظ العام كما في قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] فالسنة بينت أن الكافر والعبد والقاتل لم يدخل في ذلك
هذا عند من يجعل اللفظ عاما لهؤلاء وأما من قال : العام في الأشخاص مطلق في الأحوال فإنه يقول : إن الآية تعم كل ولد ولكن لم يبين فيها الحال الذي يرث فيها الولد والحال التي لم يرث فيها ولكن هذا مبين في نصوص أخرى
وهؤلاء يقولون : لفظ القرآن باق على عمومه ولكن ما سكت عنه لفظ القرآن من الشروط والموانع بين في نصوص أخرى
وهكذا يقولون في قوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] وأمثال ذلك من عمومات القرآن وظواهره لا يقولون : إن اللفظ متروك ولكن يقولون : ما سكت عنه اللفظ بين في نصوص أخرى ويقولون فرق بين ما يعمه اللفظ وبين ما سكت عنه من أحوال : ما عمه فإن اللفظ مطلق في ذاك لا عام فيه
وإذا كان في كلام الله ورسوله كلام مجمل أو ظاهر قد فسر معناه وبينه كلام آخر متصل به أو منفصل عنه لم يكن في هذا خروج عن كلام الله ورسوله ولا عيب في ذلك ولا نقص كما في الحديث الصحيح : [ يقول الله : عبدي جعت فلم تطعمني فيقول : رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي عطشت فلم تسقني فيقول : كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا عطش فلو أسقيته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول : كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده ]
فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه وفسر معناه فلم يبقى في ظاهره ما يدل على باطل ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف فيه ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي
فأما أن يقال : إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر وإلحاد من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبدا
وإيضاح ذلك في :

الوجه السابع والعشرون
وهو أن نقول : الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم : إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة قالوا إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات : إما للعامة وإما للخاصة دون العامة ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوف الذين لا يقولون ذلك فلا بد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح
ولفظ ( التأويل ) يراد به التفسير كما يوجد في كلام المفسرين : ابن جرير وغيره
ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن
وأما بالمعنى الثاني فمنه ما لا يعلمه إلا الله ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن وينفون العلم بالكيفية كقول مالك وغيره : الاستواء معلوم والكيف مجهول
فالعلم بالاستواء من باب التفسير وهو التأويل الذي نعلمه وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهو المجهول لنا
ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفاة والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة
وهؤلاء قولهم متناقض فإنهم بنوه على أصلين فاسدين : فإنهم يقولون لا بد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله : [ جعت فلم تطعمني ] وقوله : الحجر الأسود يمين الله في الأرض ونحو ذلك ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسدا وهم مخطئون في هذا وهذا
ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد من غير بيان من الله ورسوله للمراد
وهذا قول ظاهر الفساد وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد
أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد وأزالت الشبهة فإن الحديث الصحيح لفظه : [ عبدي مرضت فلم تعدني فيقول : كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده ]
فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض وإنما الذي مرض عبده المؤمن
ومثل هذا لا يقال : ظاهره أن الله يمرض فيحتاج إلى تأويل لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } [ العنكبوت : 14 ] وقوله : { فصيام شهرين متتابعين } [ النساء : 92 ] ونحو ذلك فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفا كاملة ولا شهرين سواء كانا متفرقين أو متتابعين
وأما قوله : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فهو أولا : ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم فلا نحتاج أن ندخل في هذا الباب ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة ويقولون بتأول الجميع كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب مشكل الحديث حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات
هذا مع أن عامة ما فيه من تأويل الأحاديث الصحيحة هي تأويلات المريسي وأمثاله من الجهمية وقد يكون الحديث مناما كحديث رؤية ربه في أحسن صورة فيجعلونه يقظة ويجعلونه ليلة المعراج ثم يتأولونه
وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردا لكتاب ابن فورك وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عيانا ليلة المعراج ونحوه وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة كحديث قعود الرسول صلى الله عليه و سلم على العرش رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول
وقد يقال : إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقا لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول وما ثبت من كلام غيره سواء كان من المقبول أو المردود
ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره مكن أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لها الكتاب بكلام غليظ وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب
وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في العواصم كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر وهو من الكذب عليه مع أن هؤلاء - وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه ففي كلامه ما هو مردود نقلا وتوجيها وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي المعالي وأمثالهم ممن يوافق النفاة على نفيهم ويشارك أهل الإثبات على وجه يقول الجمهور : إنه جمع بين النقيضين
ويقال : إن أبا جعفر السمناني شيخ أبي الوليد الباجي قاضي الموصل كان يقول عليه ما لم يقله : ويقال عن السمناني إنه كان مسمحا في حكمه وقوله
والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتا عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج
وحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض هو معروف من كلام ابن عباس وروي مرفوعا وفي رفعه نظر ولفظ الحديث : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد من غير بيان للنص أصلا فالحمد لله الذي سلم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب والحمد لله رب العالمين
وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معان دلالة بينة بل صريحة قطعية كأحاديث الرؤية ونحوها مما فيه إثبات الصفات فيقولون هذه تحتاج إلى التأويل كتلك وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف وأن التفسير الذي به يعرف الصواب قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب : إما مقرونا به وإما في نص آخر
ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في النصوص لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب فنجد من ظهر له تتناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة كأبي حامد وأمثاله ممن يظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم فيقولون : إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره وما لم تعرفه فأوله
ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق يقول : ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله وإلا فلا
ثم المعتزلي - والمتفلسف الذي يوافقه - يقول : إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية
ويقول المتفلسف الدهري : إنه يمنع إثبات معاد الأبدان وإثبات أكل وشرب في الآخرة ونحو ذلك
فهؤلاء مع تناقضهم لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه دليلا يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم
ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفيا وإثباتا وإنما ولايته عندهم في العمليات - أو بعضها - مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم
ثم يقولون مع ذلك : إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر : صار ذلك الكلام سببا للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم وهذا مناقض لقولهم : إنه أعقل الخلق وأكملهم أو من أعقلهم وأكملهم وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم
فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد يقولون قولا مختلفا يؤفك عنه من أفك متناقض غاية التناقض فاسد غاية الفساد
وهذا ينكشف :

الوجه الثامن والعشرون
وهو أن يقال : حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال وأن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل فالإنسان لا يخلو من حالين وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب : فإما أن يقدر أن له رأيا مخالفا للنص أو ليس له رأي يخالفه فإن كان عنده مما يسميه معقولا ما يناقض خبر الله ورسوله وكان معقوله هو المقدم قدم معقوله وألغى خبر الله ورسوله وكان حينئذ كل من اقتضى عقله مناقضة خير من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله ولم يكن مستدلا بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ
ومعلوم أن المقصود بالخطاب والإفهام وهذا لم يستفد من الخطاب والإفهام فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله والمعنى الذي دل عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه قد كان عالما بثبوته بدون الخطاب ولم يدل عليه الخطاب الدلالة المعروفة بل تعب تعبا عظيما حتى أمكنه احتمال الخطاب له مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب فلم يكن له خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء لا إفهام ولا بيان بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان وإتعاب الأذهان والتفريق بين أهل الإيمان وحصول العداوة بينهم والشنآن وتمكين أهل الإلحاد والطغيان من الطعن في القرآن والإيمان
وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص مما يسمى رأيا ومعقولا وبرهانا ونحو ذلك فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به رسوله ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات ليس لها ضابط ولا هي منحصرة في نوع معين بل ما من أمة إلا ولهم ما يسمونه معقولات
واعتبر ذلك بأمتنا فإنه ما من مده إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعا يزعم أنها معقولات
ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي المرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص
ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة
وأولهم الجعد بن درهم ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم انه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه
وإنما صار لهم ظهور شوكة في أوائل المائة الثالثة لما قواهم من قواهم من الخلفاء فامتحن الناس ودعاهم إلى قولهم ونصر الله الإيمان والسنة بمن أقامه من أئمة الهدى الذي جعلهم الله أئمة في الدين بما آتاهم الله من الصبر واليقين كما قال الله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة : 24 ]
والمقصود هنا أن ما تذكره الجهمية نفاة الصفات العقلية المناقضة للنصوص لم يكن معروفا فيها عند الأمة إذ ذاك ولما ابتدعوه لم يسمعه أكثر الأمة
ثم قد وضعت الجهمية من المعتزلة وغيرهم من ذلك في الكتب ما شاء الله وأكثر المؤمنين لا يعلمون ذلك وما من أحد من النفاة إلا وقد يذكر على النفي من حججه العقلية ما لا يذكره الآخر ولا تجد طائفتين يتفقان على طريقة واحدة عقلية بل المعتزلة عمدتهم في النفي أما الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم وعمدتهم في نفي الجسم كونه لا ينفك من الحوادث أو كونه مركبا من الأجزاء المفردة فهم يستدلون بالأكوان الأربعة التي للجسم - وهي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون - على حدوثه
وأما ابن كلاب وأتباعه فينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بمحدث ويسلمون لهم أن الأفعال ونحوها من الأمور الاختيارية لا تقوم إلا بمحدث وكذلك الأشعري وأتباعه ينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بجسم وتوافقهم على أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم
ومن أتباعهم المتفلسفة من نازعهم في أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم
وطوائف غير هؤلاء من الهاشمية والكرامية وغيرهم يسلمون لهم أن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وينازعونهم في كون الجسم لا يخلو من الحوادث ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك وقد ينازعونهم في كون كل جسم مركبا من الأجزاء المنفردة
وهذه الطوائف وأمثالها من طوائف أهل الكلام من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم كلهم متفقون على أن الممكن لا يكون إلا جسما أو قائما بجسم ومتنازعون في الواجب
والمتفلسفة المشاءون الذين يثبتون ممكنا ليس بجسم ولا قائم بجسم يقولون : إن الجسم الممكن قد يكون قديما أزليا أبديا تحله الحوادث والأعراض وأن الجسم الممكن لا ينفك من الحوادث وليس هو عندهم بمحدث وهو مركب كتركيب الأجسام وهو عندهم قديم أزلي فهذا عندهم لا ينافي القدم والأزلية وإنما ينفون ذلك عن واجب الوجود بناء على أن إثبات الصفات تركيب وواجب الوجود ليس بمركب
والتركيب الذي يعنيه هؤلاء أعم من التركيب الذي يعنيه أولئك فإن هؤلاء يزعمون أن هنا خمسة أنواع من التركيب يجب نفيها عن الواجب فيقولون ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق إذ لو كان له حقيقة سوى ذلك لكان مركبا من تلك الحقيقة
والوجود يثبتونه وجودا مطلق بشرط الإطلاق أو بشرط النفي أو لا بشرط مع علم كل عاقل أن هذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ويقولون : ليس له صفة ثبوتية : لا علم ولا قدرة إذ لو كان كذلك لكان مركبا من ذات الصفات
ثم يقولون : هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وهو ملتذ ومبتهج وملتذ به مبتهج به وذلك كله شيء واحد فيجعلون الصفة هي الموصوف وهذه الصفة هي الأخرى
ومعلوم أن هذا أكثر تناقضا من قول النصارى ويقولون لا يدخل هو وغيره تحت عموم لئلا يكون مركبا من صفة عامة وخاصة كتركيب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام مع أنهم يقولون : الموجود ينقسم إلى واجب وممكن والواجب يتميز عن الممكن بما يختص به ويقولون ليس فوق العالم لنه لو كان كذلك لكان له جانبان فيكون جسما مركبا من الأجزاء المفردة أو المادة والصورة
ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم ما لم تكن عند متبوعهم فيكونون - بزعمهم - قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم
واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه وما تجده لأبي هاشم ولأبي على الجبائي وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم
بل أبو المعالي الجويني ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء
وليس للأشعري في ذلك قولان بل لم يتنازع الناقلون لنذهبه نفسه في أنه يثبت الصفات الخبرية التي في القرآن وليس في كتبه المعروفة إلا إثبات هذه الصفات وإبطال قول من نفاها وتأول النصوص وقد رد في كتبه على المعتزلة - الذين ينفون صفة اليد والوجه والاستواء ويتأولون ذلك بالاستيلاء - ما هو معروف في كتبه لمن يتبعه ولم ينقل عنه أحد نقيض ذلك ولا نقل أحد عنه في تأويل هذه الصفات قولين
ولكن لأتباعه فيها قولان : فأما هو وأئمة أصحابه فمذهبهم إثبات هذه الصفات الخبرية وإبطال ما ينفيها من الحجج العقلية وإبطال تأويل نصوصها
وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات موافقة للمعتزلة والجهمية ثم لهم قولان : أحدهما تأويل نصوصها وهو أول قولي أبي المعالي كما ذكره في الإرشاد والثاني تفويض معانيها إلى الرب وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول : إن العقل الصريح نفى هذه الصفات ومنهم من يقف ويقول : ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي لا على إثباتها ولا على نفيها وهي طريقة الرازي والآمدي
وأبو حامد تارة يثبت الصفات العقلية متابعة للأشعري وأصحابه وتارة ينفيها أو يردها إلى العلم موافقة للمتفلسفة وتارة يقف وهو آخر أحواله ثم يعتصم بالسنة ويشتغل بالحديث وعلى ذلك مات
وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث وانتصاره لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم مع أنه لا يثبت علما هو صفة ويزعم أن أسماء الله كالعليم والقدير ونحوهما لا تدل على العلم والقدرة وينتسب إلى الأمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث ويذم الأشعري وأصحابه ذما عظيما ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات
ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك ثم المتفلسفة الدهرية كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك بما تخاطب به المعتزلة المثبتة الصفات ويقولون لهم : قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات
وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهما لمتكلمة الإثبات في مسألة القدر وقالت : القول في النصوص المثبتة للقدر وأن الله خالق أفعال العباد كالقول في نصوص الصفات
وبهذا أجاب من أجاب من المعتزلة والشيعة لهؤلاء فقالوا في الجواب عما يحتج به هؤلاء من الحجج السمعية على أن الله خالق أفعال العباد من جهة الجملة ومن جهة التفصيل
أما من جهة الجملة فمن وجوه :
أحدها : أنه إذا ثبت كونه تعالى عادلا لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب في حكمته وجب أن يكون للآيات التي يتعلقون بها وجوه لا تنافي ما ثبت من الدلالة وإن لم تعلم الوجوه على سبيل التفصيل
وقالوا : هذا كما نقول نحن وهم في الآيات التي تتعلق بها المشبهة في كون الله تعالى جسما نحو قوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] وما يجري مجرى ذلك من الآيات التي تفيد ظاهرها التشبيه من أنه إذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء وجب أن يكون لهذه الآيات وجوه تطابق أدلة العقول وإن لم نعلمها على سبيل التفصيل
فهذه الطريق التي سلكها هؤلاء القدرية هي الطريق التي سلكها من وافقهم على نفي الصفات أو بعضها من الجهمية كجهم بن صفوان وحسين النجار وضرار بن عمرو وغيرهم فإن هؤلاء يثبتون القدر ويوافقون المعتزلة على نفي الصفات
ومن المعلوم أن الحجج العقلية التي يحتج بها المعتزلة والشيعة ليس لها ضابط بل قد سلك أبو الحسين البصري مسلكا خالف فيه شيوخه وادعى أن العلم بإحداثها ضروري
فهذه وأضعافه مما يبين أنه ليس لما يدعى من العقليات التي يقال إنها تناقض النصوص ضابط بل ذلك من باب الوساوس والخطرات التي لا تزال تحدث في النفوس
فإذا جوز المجوز أن يكون لبعض ما أخبر الله به ورسوله معقول صريح يناقضه ويقدم عليه لم يأمن أن يكون كل ما يسمعه من أخبار الله ورسوله من هذا الباب غايته أن يقول : ليس عندي من العقليات ما يناقض ذلك أو لم أسمع أو لم أجد ونحو ذلك
وهذا القدر لا ينفي أن يكون في نفس الأمر قضايا عقلية لم تصل إليه بعد وإذا قال : العقل لا ينفي ما أقر به
قيل له : أتريد بذلك أنك لم تعلم معقولا ينافي ذلك أو تعلم أنه ليس يمكن أن يكون في المعقول ما ينافي ذلك إذا جوزت أن يقول في المعقول ما يناقض أخبار الرسول ؟
فإن قلت بالأول لم ينفعك ذلك
وإن قلت بالثاني لم يكن كلامك صحيحا لأنك جوزت أن يكون في المعقول ما يناقض أخبار الرسول
ومع هذا فالجزم ينفي كل معقول جزم بلا علم بخلاف المؤمن بجميع ما أخبر الله به الذي يجزم بأنه ليس في المعقول ما يناقض منصوص الرسول فإن هذا قد علم ذلك علما يقينا عاما مطلقا
وإذا قال الذي يقر ببعض النصوص دون البعض المضاهي لمن آمن ببعض الكتاب دون بعض : الذي نفيته يحيله العقل والذي أقررته لا يحيله العقل بل هو ممكن في العقل
قيل له : أتعني بقولك : لا يحيله العقل وهو ممكن في العقل : الإمكان الذهني أو الخارجي ؟
فإن عنيت الإمكان الذهني : بمعنى أنه لم يقم دليل عقلي يحيله فهذا لا ينفي أن يكون في نفس الأمر ما يحيله ولم تعلمه
وإن عنيت به الإمكان الخارجي وهو أنك علمت بعقلك أنه يمكن ذلك في الخارج فهذا لا يتأتى لك في كثير من الأخبار
وهؤلاء الذين يدعون أنهم يقررون إمكان ذلك بالعقل يقول أحدهم : هذا لو فرضناه لم يلزم منه محال كما يقول ذلك الآمدي ونحوه أو يقول : هذا لا يفضي إلى قلب الأجناس ولا تجوير الرب ولا كذا ولا كذا فيعددون أنواعا محصورة من الممتنعات
ومعلوم أن نفي محالات معدودة لا يستلزم نفي كل محال
وقول القائل : لو فرضناه لم يلزم منه محال : إن أراد به : لا أعلم انه يلزم منه محال لم ينفعه
وإن قال : أعلم أنه لا يلزم منه محال فهو لم يذكر دليلا على هذا العلم فما الدليل على انه علم أنه لا يلزم منه محال ؟
فتبين أن من جوز على خبر الله أو خبر رسوله أن يناقضه شيء من المعقول الصريح لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له
بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية وما يبنى عليها من المعلوم العقلية قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس - أو أكثرهم - حلها وبيان وجه فسادها وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل
ولو قال قائل : هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية لم يثبت لأحد علم بشيء من الأشياء إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية
فهكذا تصديق خبر الله ورسوله قد علم علما يقينيا أنه صدق مطابق لمخبره وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فرد من علومنا الحسية والعقلية وإن كنا جازمين بجنس ذلك فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية
وأما خبر الله ورسوله فهو صدق موافق لما الأمر عليه في نفسه لا يجوز أن يكون شيء من أخبار باطلا ولا مخالفا لما هو الأمر عليه في نفسه ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئا من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره
وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح : لا عقلي ولا سمعي وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات أو برهانيات أو وجديات أو ذوقيات أو مخاطبات أو مكاشفات أو مشاهدات أو نحو ذلك من الأمور الدهاشات أو يسمون ذلك تحقيقا أو توحيدا أو عرفانا أو حكمة حقيقية أو فلسفة أو معارف يقينية ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها فنحن نعلم علما يقينيا لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات وضلالات وخيالات وشبهات مكذوبات وحجج سوفسطائية وأوهام فاسدة وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأربابا وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [ النجم : 23 ]
والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من علمه ولم يبقى له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك
فهكذا من جوز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله
ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب المعارضين له سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن كلام الله ورسوله لم يردها بكلام وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية
ثم إن فضلاءهم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب
وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب وطريق هؤلاء تناقضه علم بالضرورة من دين الإسلام إن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته
وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين بل يفيد الشك والحيرة علم أنها فاسدة في العقل كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع
وهذا كله بين لمن تدبره والأمر فوق ما أصفه وأبينه وهذا الموضع لا يحتمل البسط والإطناب ولا ريب أن موجب الشرع أن من سلك هذه السبيل فإنه بعد قيام الحجة عليه كافر بما جاء به الرسول ولهذا كان السلف والأئمة يتكلمون في تكفير الجهمية النفاة بما لا يتكلمون به في تكفير غيرهم من أهل الأهواء والبدع وذلك لأن الإيمان إيمان بالله وإيمان للرسول فإن الرسول أخبر عن الله بما أخبر به عن أسماء الله وصفاته ففي الإيمان خبر ومخبر به فالإيمان للرسول تصديق خبره والإيمان بما أخبر به والإقرار بذلك والتصديق به
ولهذا كان من الناس من يجعل الكفر بإزاء المخبر به كجحد الخالق وصفاته ومنهم من يجعله بإزاء الخبر وهو تكذيب الرسول
وكلا الأمرين حق فإن الإيمان والكفر يتعلق بهذا وبهذا وكلام الجهمية نفاة الصفات مناقض لخبر الرسول الصادق ونفي لما هو ثابت لله من صفات كماله
ومما يوضح الأمر في ذلك أنك لا تجد من سلك هذه السبيل وجوز على الأدلة السمعية أن يعارضها معقول صريح ينافيها إلا وعنده ريب في جنس خبر الله ورسوله وليس لكلام الله ورسوله في قلبه من الحرمة ما يوجب تحقيق مضمون ذلك فعلم أن هذا طريق إلحاد ونفاق لا طريق علم وإيمان
ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة وبالأدلة التي يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان
وذلك لأنا في مقام الخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق ولكن قد يعارض ما جاء عنه عقليات يجب تقديمها عليه وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل فذلك - ولله الحمد - هو علينا من أيسر الأمور
ونحن - ولله الحمد - قد تبين لنا بيانا لا يحتمل النقيض فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم التي يعارضون بها كتاب الله وعلمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك وهذا - ولله الحمد - مما زادنا الله به هدى وإيمانا فإن فساد المعارض مما يؤيد معرفة الحق ويقويه وكل من كان أعرف بفساد الباطل كان أعرف بصحة الحق
ويروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية
وهذا حال كثير ممن نشأ في عافية الإسلام وما عرف ما يعارضه ليتبين له فساده فإن لا يكون في قلبه من تعظيم الإسلام مثل ما في قلب من عرف الضدين
ومن الكلام السائر : ( الضد يظهر حسنه الضد ) ( وبضدها تتبين الأشياء )
والاعتبار والقياس نوعان : قياس الطرد وقياس العكس فقياس الطرد اعتبار الشيء بنظيره حتى يجعل حكمه مثل حكمه وقياس العكس اعتبار الشيء بنقيضه حتى يعلم أن حكمه نقيض حكمه
وقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] يتناول الأمرين فيعتبر العاقل بتعذيب الله لمن كذب رسله كما فعل ببني النضير حتى يرغب في نقيض ذلك ويرهب من نظير ذلك فيستعمل قياس الطرد في الرهبة وقياس العكس في الرغبة
ومن أمثلة قياس العكس : قياس من يحتج على أن الوتر ليس بواجب [ فإنه يفعل على الراحلة بسنة النبي صلى الله عليه و سلم ]
والواجبات لا تفعل على الراحلة والنوافل تفعل على الراحلة فلما كان مفعولا على الراحلة كان حكمه عكس حكم الفرائض ونقيض حكم الفرائض ومثل حكم النوافل فيقاس بالواجبات قياس العكس وبالنوافل قياس الطرد
وكذلك إذا قيل : دم السمك طاهر لأنه لو كان نجسا لوجب سفحه بالتذكية لأن الدماء النجسة يجب سفحها بالتذكية فلما لم يجب سفحه كان حكمه نقيض حكمها وكان ملحقا بالرطوبات الطاهرة التي لا تسفح
وفي الحقيقة فكل قياس يجتمع في قياس الطرد والعكس فقياس الطرد هو الجمع والتسوية بينه وبين نظيره وقياس العكس هو الفرق والمخالفة بينه وبين مخالفه فالقايس المعتبر ينظر في الشيء فيلحقه بما يماثله لا بما يخالفه ويبين له حكمه في اعتباره بهذا وهذا
والمقصود هنا أن معرفة ما يعارض الكتاب والمرسلين كنبوة مسيلمة ونحوه من الكذابين وأقاويل أهل الإلحاد الذين يعارضون بعقولهم وذوقهم ما جاء به الرسول كلما ازداد العارف معرفة بها وبما جاء به الرسول تبين له صدق ما جاء به الرسول وبيانه وبرهانه وبطلان هذه وفسادها وكذبها كما إذا قدر مفتيان أو قاضيان أو محدثان أحدهما يتكلم بعلم وعدل والآخر بجهل وظلم فإنه كلما اعتبرت أحدهما بالآخر ظهرت الحقيقة الفارقة بينهما وكذلك الصانعان اللذان أحدهما قادر ناصح والآخر عاجز غاش وكذلك التاجران اللذان أحدهما صادق أمين والآخر كاذب خؤون وكذلك المتوليان اللذان أحدهما قوى أمين والآخر عاجز خائن وأمثاله ذلك
فنحن - ولله الحمد - قد تبين لنا من فساد الأقاويل المعارضة لقول الرسول ما ليس هذا المقام مقام تفصيله فإنه يحتاج أن نتكلم في كل مسألة من مسائل الدين ونستوفي حجج المبطلين فيها ونتبين فسادها وليس هذا الموضع استيفاء ذلك
وإنما المقصود بيان فساد القانون الزائغ الذي يقدمون به مذاهبهم المبتدعة على النصوص من كلام الله ورسوله وهم قد وضعوا عبارات مجملة مشتبهة لبسوا بها على كثير ممن عنده إيمان بالله ورسوله من كبار أهل العلم والدين وأولئك لم يعرفوا حقيقة ما في تلك الأقوال من الإلحاد فقبلوها ممن ابتدعها من أهل النفاق
كما قاتل الله تعالى عن المنافقين : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } [ التوبة : 47 ] بين سبحانه أن المنافقين لو خرجوا في غزوة ما زادوا المؤمنين إلا خبالا ولأوضعوا - أي أسرعوا - خلالهم أي بينهم يطلبون لهم الفتنة وفي المؤمنين من يقبل منهم - وهم السماعون لهم - أي يستجيبون لهم ليس المراد من ينقل الأخبار إليهم كما يظنه بعض الناس
بل هذا نظير قوله : { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } [ المائدة : 41 ] أي يسمعون الكذب فيقبلونه ويصدقونه ويسمعون لقوم آخرين لم يأتوك فيستجيبون لهم فبين أنهم يصدقون الكذب ويستجيبون لمن يخالف الرسول
وأما من ظن أن المراد بقوله : { سماعون لهم } أنهم جواسيس لمن غاب وأخذ حكم الجاسوس من هذه الآية فقد غلط فإن ما كان يظهره النبي صلى الله عليه و سلم حتى يسمعه المنافقون واليهود لم يكن مما يكتمه حتى يكون نقله جسا عليه وإنما المراد انهم سماعون الكذب أي يصدقون به سماعون : أي مستجيبون لقوم آخرين مخالفين للرسول وهذه حال كل من خرج عن الكتاب والسنة فإن لا بد أن يصدق الكذب فيكون من السماعين للكذب ولا بد أي يستجيب لغير الله والرسول فيكون سماعا لقوم آخرين لم يتبعوا الرسول
وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } [ الفرقان : 27 - 29 ] وقوله : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } [ الأحزاب : 66 - 68 ]
فتبين أن أصل طريق من يعارض النصوص النبوية برأيه وعقله هي طريق أهل النفاق والإلحاد وطريق أهل الجهل والارتياب لا طريق ذي عقل ولا ذي دين
كما قال تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } [ الحج : 8 ]
وقال تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } [ الحج : 3 - 4 ]
فإنه قد يقال : هذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله فإنه لا علم عنده إذ ذلك المعارض وإن سماه معقولا فإنه جهل وضلال فليس بعلم ولا عقل ولا هدى إذ لا إيمان عنده ليكون مهتديا فإن المهتدين الذين على هدى من ربهم هم مؤمنون بما جاء به الرسول ولا كتاب منير فإن الكتاب المنير لا يناقض كتاب الله
وهؤلاء المعارضون ليس عندهم لا علم ولا إيمان ولا قرآن فهم يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
واسم ( العلم ) يتناول هذا وهذا ولكن هو من باب عطف الخاص على العام ولهذا ذكر تارة وحذف أخرى
وذلك أنه قد يقال : إنه سبحانه ذكر ثلاثة أصناف : صنف يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد مكتوب عليه إضلال من تولاه وهذه حال المتبع لمن يضله
وصنف يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله وهذه حال المتبوع المستكبر الضال عن سبيل الله
ثم ذكر حال من يعبد الله على حرف وهذه حال المتبع لهواه الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبد الله وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه فهذه حال من كان مريضا في إرادته وقصده وهي حال أهل الشهوات والأهواء
ولهذه ذكر الله ذلك في العبادة التي أصلها القصد والإرادة وأما الأولان : فحال الضال والمضل وذلك مرض في العلم والمعرفة وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل فإنه تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ولا بد للعبد من معرفة الحق وقصده
كما قال : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [ الفاتحة : 6 - 7 ] فمن لم يعرفه كان ضالا ومن علم ولم يتبعه كان مغضوبا عليه
كما أن أول الخير الهدى ومنتهاه الرحمة والرضوان فذكر سبحانه ما يعرض في العلم من الضلال والإضلال وما يعرض في الإرادة من اتباع الشهوات كما جمع بينهما في قوله : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [ النجم : 23 ]
فقال أولا : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } [ الحج : 3 ] وكل من جادل في الله بغير هدى ولا كتاب منير فقد جادل بغير علم أيضا فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علما بأي طريق حصل وذلك ينفي أن يكون مجادلا بهدى أو كتاب منير ولكن هذه حال الضال المتبع لمن يضله فلم يحتج إلى تفصيل فبين أنه يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب على ذلك الشيطان أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير
وهذه حال مقلد أئمة الضلال بين أهل الكتاب وأهل البدع فإنهم يجادلون في الله بغير علم ويتبعون من شياطين الجن والإنس من يضلهم
ثم ذكر حال المتبوع الذي يثنى عطفيه تكبرا كما قال : { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها } [ لقمان : 7 ] وقال : { فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى } [ القيامة : 31 - 33 ]
وهذا النوع يجادل ليضل عن سبيل الله وجداله بغير علم أيضا ولكن فصل حاله فبين أنه لا يجادل بهدى كأيمان المؤمن ولا بكتاب منير كالجدال بكتاب منزل من السماء فليس معه علم من هذا الطريق ولا من غيرها
كما قال تعالى : { فلا صدق ولا صلى } [ القيامة : 31 ] وكل من لم يصدق لم يصل
وقال تعالى : { لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين } [ المدثر : 43 - 46 ]
وقال تعالى : { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين } [ الحاقة : 33 - 34 ]
ومثل هذا كثير قد ينفي الشيء الذي نفيه يستلزم نفي غيره لكن تذكر تلك اللوازم على سبيل التصريح للفرق بين دلالة اللوازم ودلالة المطابقة كما قد ذكرنا نحو ذلك في قوله تعالى : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق } [ البقرة : 42 ] وأن كل من لبس بالباطل فلا بد أن يكتم بعض الحق وبينا أن هذا ليس من باب النهي عن المجموع المقتضي لجواز أحدهما ولا من باب النهي عن فعلين متباينين حتى لا يعاد فيه حرف النفي بل هو من باب النهي عن المتلازمات كما يقال لا تكفر وتكذب بالرسول ولا تجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
والمقصود أن كل من عارض كتاب الله بمعقوله أو وجده أو ذوقه وناظر على ذلك فقد جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ليضل عن سبيل الله فإن كتاب الله هو سبيل الله
ولهذا فسر النبي صلى الله عليه و سلم الصراط المستقيم بكتاب الله وفسره بالإسلام كلاهما مأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم ففي حديث النواس بن سمعان النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع من فوق الصراط وداع على رأس الصراط فالصراط المستقيم هو الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب دعاه الداعي : يا عبد الله لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ] رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه
ومن المعلوم أن من أعظم المحارم معارضة كتاب الله بما يناقضه ويقدم ذلك عليه
وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وأبو نعيم من عدة طرق : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنها ستكون فتن قلت فما المخرج منها يا رسول الله ؟ فقال : كتاب الله : فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ]
وبسط الكلام على مثل هذا يطول جدا وإنما نبهنا هنا على أصله

الوجه التاسع والعشرون
أن يقال : العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين لزم من وجود الملزوم وجود اللازم ومن نفي اللازم نفي الملزوم فكيف إذا كان التلازم من الجانبين ؟
فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج : فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا ومن نفيه نفيه ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك ومن نفيه نفيه
وهذا هو الذي يسميه المنطقيون : الشرطي المتصل ويقولون : استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر
وبيان ذلك ها هنا : أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع كما قد ذكروا هم ذلك وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلا له أنه أصل في ثبوته في نفسه وصدقه في ذاته بل هو أصل في علمنا به أي دليل لنا على صحته
فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده وهو ملزوم للمدلول عليه فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه ولا يجب عكسه فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه
وهذا كالمخلوقات فإنها آيه للخالق فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق ولا يلزم من وجود الخالق وجودها
وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام : يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم ولا يلزم من عدمها عدمه إذ قد يكون الحكم معلوما بدليل آخر اللهم إلا أن يكون الدليل لازما للمدلول عليه فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم وإذا كان لازما له أمكن أن يكون مدلولا له إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي فإنه يلزم من عدم دليله عدمه
وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه ونقله دليل عليه وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر
لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه
وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم وهذا التلازم فيه قولان : قيل : إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها وقيل : بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله كاستلزام العلم للحياة والصفة لموصوف ما وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر لامتناع ثبوت صفة وعرض بدون موصوف وجوهر
والمقصود هنا أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع علمنا بالدليل العقلي الدال عليه ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع
وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل ويلزم أيضا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل
وإذا كان العلم بصحة الشرع لازما للعلم بالمعقول الدال عليه وملزوما له ولازما لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم فضلا عن تعارض المتلازمين فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر كالضدين والنقيضين
والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين أو متضادين ؟
ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ ( متقاربة ) في أصل اللغة وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي
ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر وكل تعارض فهو مستلزم للتناقض اللغوي لأن أحد الضدين ينقض الآخر أي يلزم من ثبوته عدم الآخر كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض
والنقيضان في اصطلاح كثير من أهل النظر هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان والضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان
وفي اصطلاح آخرين منهم هما : النفي والإثبات فقط كقولك إما أن يكون وإما أن لا يكون
ولهذا يقولون : التناقض اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى فالتناقض في عرف أولئك أعم منه في عرف هؤلاء فإن ما لا يجتمعان ولا يرتفعان قد يكونان ثبوتيين وقد يكونان عدميين وقد يكونان ثبوتا وانتفاء ولو كان أحدهما وجودا والآخر عدما فقد يعبر عنهما بصيغة الإثبات التي لا تدل بنفسها على التناقض الخاص كما إذا قيل للموجود : إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه وإما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا ونحو ذلك
فمن المعلوم أن تقسم الموجود إلى قائم بنفسه وغيره وواجب وممكن وقديم ومحدث تقسيم حاصر كتقسيم المعلوم إلى الثابت والمنفي
وهذان القسمان لا يجتمعان ولا يرتفعان كما أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان
وأما أهل اللغة فالنقيضان عندهم أعم من هذا كله كالمتنافيين فكل ما نفى أحدهما الآخر فقد نقضه وأزاله وأبطله فيسمونه نقيضه
وللمتفلسفة المشائين اصطلاح آخر في المتقابلين بالسلب والإيجاب يسمونه تقابل العدم والملكة وهو نفي الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كنفي السمع والبصر والكلام عن الحيوان فإنه يسمى عمى وصمما وبكما لأن الحيوان يقبل هذا وهذا بخلاف نفي ذلك عن الجماد كالجدار فإنه لا يسمى في اصطلاحهم عمى ولا صمما ولا بكما لأن الجدار لا يقبل ذلك
ثم إنهم تذرعوا بذلك إلى سلب النقيضين عن الخالق تعالى فاحتج السلف والأئمة وأهل الإثبات بأن الخالق سبحانه لو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام ونحو ذلك من صفات الكمال لوجب أن يوصف بما يقابل ذلك من الصمم والعمى والبكم ونحو ذلك من صفات النقص
فقال لهم هؤلاء : العمى والبصر والبكم والكلام متقابلان تقابل العدم والملكه وهو سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كالحيوان فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد فلا يوصف بعمى ولا بصر ولا كلام ولا بكم ولا سمع ولا صمم ولا حياة ولا موت
والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : هذا اصطلاح لكم وإلا فما ليس بحي يسمى ميتا كما قال تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } [ النحل : 20 - 21 ] وقال تعالى : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } [ يس : 33 ] وقال : { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } [ الحديد : 17 ]
والثاني : أن ما لا يقبل صفات الكمال أنقص مما يقبلها ولم يتصف بها فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى والأصم والأبكم فإذا كان اتصافه بصفات النقص مع إمكان اتصافه بصفات الكمال نقصا وعيبا يجب تنزيهه عنه فعدم قبوله لصفات الكمال أعظم نقصا وعيبا
ولهذا كان منتهى أمر هؤلاء تشبيهه بالجمادات ثم بالمعدومات ثم بالممتنعات
الثالث : أن نفس عدم الحياة والعلم والقدرة نقص لكل ما عدم عنه ذلك سواء فرض قابلا أو غير قابل بل ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله كما أن نفس الحياة والعلم والقدرة صفات كمال فنفس وجود هذه الصفات كمال ونفس عدمها نقص سواء سمي موتا وجهلا وعجزا أو لم يسم وكذلك السمع والبصر والكلام كمال وعدم ذلك نقص وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع بسيطا لا يليق بهذا الموضوع
وإذا تبين أن الدليل العقلي الذي به يعلم صحة الشرع مستلزم للعلم بصحة الشرع ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر وعلمنا بالشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل : أنه أصل للشرع وإن العلم بصحة الشرع موقوف عليه وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزما لثبوت ذلك الدليل العقلي في نفس الأمر - علم أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر وأن ثبوت الشرع علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي إن قيل : إنه ممكن أن تعلم صحته بغير ذلك الدليل إلا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين
وإذا كان كذلك كان القدح في الشرع قدحا في دليله العقلي الدال على صحته بخلاف العكس فكان القدح في الشرع قدحا في هذا العقل وليس القدح في هذا العقل مستلزما للقدح في الشرع مطلقا وأما ما سوى المعقول الدال على صحة الشرع فكذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع كما لا يلزم من صحته صحة الشرع
فتبين أنه ليس في المعقولات ما يجب تقديمه على الشرع لكونه أصلا للشرع لأن المقدم عليه إن لم يكن هو المعقول الدال عليه فليس هو أصلا له فلا يجب تقديمه عليه بهذا الاعتبار وغن كان هو المعقول الدال عليه امتنع أن يكون صحيحا مع بطلان الشرع لأن صحته مستلزمة لصحة الشرع وإلا لم يكن دليلا عليه
وثبوت الملزوم بدون الإلزام محال فمن قدم العقل على الشرع فقد قدح في العقل والشرع جميعا وهو حال الذين قالوا : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ]
وإذا قال القائل : نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع لم نقدح في كل الشرع
قيل : ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل لم يقدح في كل عقل ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع وإنما قلنا ( مما يقال إنه عقل ) لأنه ليس بمعقول صحيح وإن سماه أصحابه معقولا
فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقليه كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقليه فاسدة
قال الله تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } [ الأنعام : 39 ] وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } [ الفرقان : 44 ]
ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع ومن قدم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع بل سلم له الشرع
ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعا
وذلك لأن القائل الذي قال : العقل أصل الشرع بل علمت صحته فلولا قدمنا عليه الشرع للزم القدم في أصل الشرع
يقال له : ليس المراد بكونه أصلا له : إنه أصل في ثبوته في نفس الأمر بل هو أصل في علمنا به لكونه دليلا لنا على صحة الشرع
ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحا والشرع مرجوحا بحيث لا يكون خبره مطابقا لمخبره لزم أن يكون الشرع باطلا فيكون العقل الذي دل عليه باطلا لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم قطعا
ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل بل حيث كان المدلول باطلا لم يكن الدليل عليه إلا باطلا
أما إذا قدم الشرع كان المقدم له قد ظفر بالشرع ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي وهذا مما ينتفع به الإنسان بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة
فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته ؟ وإنما يناقض شيئا آخر ليس هو دليل صحته بل ولا يكون صحيحا في نفس الأمر
وأيضا فلو قدر أنه ناقض دليلا خاصا عقليا يدل على صحته فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة فلا يلزم من بطلان واحد منها بطلان غيره بخلاف الشرع المدلول عليه فإن قد قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات
وأيضا فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل يدعون في معقولات معينة أنه عرفوا بهذا الشرع كدعوى الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها
وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفا عليه لأن الذين أمنوا بالله ورسوله وشهد لهم القرآن بالإيمان من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل
وحينئذ فلو قدر أن هذا الدليل صحيح لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة
وحينئذ فإذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به فكيف إذا كان هذا الدليل باطلا ؟
فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع
ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريف إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا فإن من اجهل الناس شرعا وعقلا
أما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به
وأما العقل فإن قول القائل : إنه لا دليل إلا هذا قضية كلية سالبة وشهادة على النفي العام وإنه ليس لأحد من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا وهذا مما لم يقيموا عليه دليلا بل لا يمكن أحد العلم بهذا النفي لو كان حقا فكيف إذا كان باطلا
وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات فإنه لا تخلو من أمرين : إن كانت صحيحة فلم تصح الدلالة في ذلك المسلك العقلي ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع إذ كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعين العقلي وإن كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة وليست أصلا للشرع فيجب أن يعرف معنى كون العقل أصلا للشرع : أن المراد به أنه دليل
ونحن قد بينا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلا صحيحا فضلا عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع ولكن قبل أن نبين ذلك نقول : معلوم انه لا ينحصر الدال على صحة الشرع وفي دليل عقلي خاص بل غيره من الأدلة العقلية يدل على الشرع وحينئذ فلا يلزم من بطلان ذلك الدليل العقلي بطلان أصل الشرع فكيف إذا كان ذلك الدليل باطلا ؟
فإن قيل : نحن إذا قدمنا العقل لم يبطل الشرع بل نفوضه أو نتأوله
قيل : إن لم يكن الشرع دال على نقيض ما سميتموه معقولا فليس هو محال النزاع وإن كان الشرع دالا فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع وذلك إبطال له وإذا دل الشرع على شيء فالأعراض عن دلالته كالأعراض عن دلالة العقل
فلو قال القائل : أنا قد علمت مراد الشارع وأما المعقول فأفوضه لأني لم أفهم صحته ولا بطلاته فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع - كان هذا أقرب من قول من يقول : إن الله ورسوله لم يبين الحق بل تكلم بباطل يدل على الكفر ولم يبين مراده فإن المقدم للمعقول عند التعارض لا بد أن يقول : إن الشرع يدل على خلاف العقل : إما نصا وإما ظاهرا
وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة وحينئذ فحقيقة قوله : إن الله - ورسوله - أظهر ما هو باطل وضلال وكفر ومحال ولم يبين الحق ولا هدى الخلق وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم
والمقدم للشرع يقول : إن الله - ورسوله - بين المراد وهدى العباد وأظهر سبيل الرشاد ولكن هؤلاء المخالفون له ضلوا وأضلوا وهم الذين قال الله فيهم : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } [ البقرة : 176 ] فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع لا اطعن في العقليات الصحيحة الصريحة الدالة على أن الرسول صادق بلغ البلاغ المبين فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه
فهذا القائل قد صدق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح وصدق بموجب الأدلة العقلية والنقلية
وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصا أو ظاهرا بل طعن في دلالة الشرع وفي دلالة العقل الذي يدل على صحة الشرع
فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل
ومما يوضح هذا : أن ما به عرف صدق الرسول صلى الله عليه و سلم فيما يبلغه عن الله تعالى وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على ثبوت ذلك كله لا يميز بين خبر وخبر بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به
وإذا كان ذلك الدليل عقليا فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض فمن أقر ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وقد أبطل الشرع فلم يبق معه لا عقل ولا شرع
وهذا الحال من آمن ببعض الكتاب دون بعض قال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } [ النساء : 150 - 151 ]
ولا ريب من أن قدم على كلام الله ورسوله وما يعارضه من معقول أو غيره وترك ما يلزمه من الإيمان به كما آمن بما يناقضه فقد آمن ببعض وكفر ببعض
وهذا حقيقة حال أهل البدع كما في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم : ( مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب )
وقوله : ( مختلفون في الكتاب ) يتضمن الاختلاف المذموم المذكور في قوله تعالى : { إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } [ البقرة 176 ]
وأما الاختلاف في قوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } [ البقرة : 253 ] فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون ويذم فيه الكافرون
وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض وهؤلاء ببعض دون بعض كاختلاف اليهود والنصارى كاختلاف الثنتين وسبعين فرقة
وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } [ هود : 118 - 119 ] وفي قوله تعالى : { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } [ المائدة : 14 ] فأغرى بينهم العداوة والبغض بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم
وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد : ( مخالفون للكتاب ) فإن كلا منهم يخالف الكتاب
وأما قوله بأنهم ( متفقون على مخالفة الكتاب ) فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب
ومتى تركوا الإعتصام بالكتاب والسنة فلا بد أن يختلفوا فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء كما قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 213 ]
وكما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } [ النساء : 59 ]
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 102 ، 103 ]
ومن العجائب أنك تجد أكثر الغلاة في عصمة الرسول صلى الله عليه و سلم أبعد الطوائف عن تصديق خبره وطاعة أمره ذلك مثل الرافضة والجهمية ونحوهم ممن يغلون في عصمتهم وهم مع ذلك يردون أخباره وقد اجتمع كل من آمن بالرسول على أنه معصوم فيما يبلغه عن الله فلا يستقر في خبره خطأ كما لا يكون فيه كذب فإن وجود هذا وهذا في خبره يناقض مقصود الرسالة ويناقض الدليل الدال على أنه رسول
وأما ما لا يتعلق بالتبليغ عن الله من أفعاله فللناس في العصمة منه نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه ومتنازعون في أن العصمة من ذلك : هل تعلم بالعقل أو السمع ؟ بخلاف العصمة في التبليغ فإنه متفق عليه معلوم بالسمع والعقل ومقصود التبليغ تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فمن كان من أصله أن الدلالة السمعية لا تفيد اليقين أو أنه يقدم رأيه وذوقه على خبر الرسول لم ينتفع بإثبات عصمته المتفق عليها فضلا عن موارد النزاع من العصمة بل هم معظمون للرسول في غير مقصود الرسالة وأما مقصود الرسالة فلم يأخذوه عنه وصاروا في ذلك كالنصارى مع المسيح عليه السلام الذي أرسل إليهم فلم يتلقوا عنه الدين الذي بعث به بل غلوا فيه غلوا صاروا مشركين به لا مؤمنين به
وكذلك الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ تجدهم مشركين بهم لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وهؤلاء يعزلون الأنبياء والرسل في أنفسهم عن الولاية التي ولاهم الله إياها باتفاق المسلمين ويعتقدون أنه ولاهم ولاية لو كانت حقا لم ينفعهم ذلك فكيف إذا كانوا كاذبين مشركين ؟
ولهذا تجد فيهم من تحريف نصوص الأنبياء التي أخبروا بها عن الله وملائكته وكتبه ورسله ما يناقض مقصود أخبارهم

الوجه الثلاثون
أن هذا الذي ذكرناه يفيد أن الشرع لا يمكن أن يخالفه العقل الدال على صحته بل هما متلازمان في الصحة وهذا القدر لا يمكن مؤمن بالله ورسوله أن ينازع فيه بل لا ينازع مؤمن بالله ورسوله أن العقل لا يناقض في نفس الأمر لكن الذي تقوله الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع أن تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم مبنى على الأدلة النافية للصفات والقدر كما يقولونه من أن صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه وقيام المعجزة موقوف على أن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة وذلك موقوف على أن فعل الله قبيح والله لا يفعل القبيح وتنزيهه من فعل القبيح موقوف على أنه غني عنه العالم بقبحه والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم وكونه ليس بجسم موقوف على نفي صفاته وأفعاله لأن الموصوف بالصفات والأفعال جسم ونفي ذلك موقوف على ما دل عليه حدوث الجسم فلو بطل الدال على حدوث الجسم بطل ما دل على صدق الرسول
وأيضا فالدال على حدوث الجسم هو الدال على حدوث العالم وإثبات الصانع تعالى فإذا بطل ذلك بطل الدليل الدال على إثبات الصانع فصار العلم بإثبات الصانع وتصديق الرسول موقوفا على نفي الصفات والأفعال فإذا جاء في الشرع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يمكن القول بموجبه لأن ذلك ينافي دليل الصدق بل يعلم من حيث الجملة أن الرسول لم يرد به إثبات الصفات والأفعال إما لكذب الناقل عنه أو لعدم دلالة اللفظ عن الإثبات أو لعدم قصده الإثبات
ثم إما أن نقدر احتمالات يمكن حمل اللفظ عليها وإن لم يعين المراد وإما أن نعرض عن هذا ونقول : لا نعلم المراد
فهذا أصل قولهم ومن وافقهم في نفي بعض الصفات أو الأفعال قال بما يناسب مطلوبه من هذا الكلام فحقيقة قولهم إنه لا يمكن التصديق بكل ما في الشرع بل لا يمكن تصديق البعض إلا بعدم تصديق البعض الآخر
وحينئذ فدليلهم العقلي ليس دالا على صدق الرسول إلا على هذا الوجه فلا يمكنهم قبول ما يناقضه من نصوص الكتاب والسنة
وحينئذ فيقال لهم : لا نسلم أن مثل هذا هو الأصل الذي به علم صدق الرسول صلى الله عليه و سلم بل هذا معارضة لقول الرسول بما لا يدل على صدقه فبطل قول من يقول : إنا إذا قدمنا الشرع كان ذلك طعنا في أصله
وهذه المقدمات التي ذكروها عامتها ممنوعه ويتبين فسادها بما هو مبسوط في موضع أخر
وإذا قال أحدهم : نحن لا نعلم صدق الرسول إلا بهذا أو لا نعلم دليلا يدل على صدق الرسول إلا هذا
قيل : لا نسلم صحة هذا النفي وعدم العلم ليس علما بالمعدوم وأنتم مكذبون لبعض ما جاء به الشرع وتدعون أنه لا دليل على صدق الرسول سوى طريقكم فقد جمعتم بين تكذيب ببعض الشرع وبين نفي لا دليل عليه فخالفتم الشرع بغير حجة عقلية أصلا
وإذا قال أحدهم : فما الدليل على صدق الرسول غير هذا ؟
قيل : في هذا المقام لا يجب بيانه وإن كنا نبينه في موضع آخر بل يكفينا رد المنع ونحن نعلن بالاضطرار أن سلف الأمة وأئمتها كانوا مصدقين للرسول بدون هذا الطريق
يوضح هذا أن المعارضين الذين يقولون بتقديم العقل على الشرع قد اعترف حذاقهم بما يبين أن الشرع ليس مبنيا على معقول يعارض شيئا منه وبيان ذلك في :

الوجه الواحد والثلاثون
وهو أن نقول : قد ذكر أبو عبد الله الرازي في أجل كتبه نهاية المعقول ما ذكره غيره من أهل الكلام فقال الرازي : ( المطالب على ثلاثة أقسام : منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى أما القسم الأول : فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول
أما العلم بحدوث العالم فذلك ما لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته لأنه يمكننا أن نثبت الصانع المختار بواسطة حدوث الأعراض أو بواسطة إمكان الأعراض على ما سيأتي تفصيل القول فيه ثم نثبت كونه عاما بكل المعلومات ومرسلا للرسل ثم نثبت بأخبار الرسول حدوث العالم )
قال : ( وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضى إلى العلم بحدوث العالم )
قلت : هذا القول الذي خطأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول الإرشاد كما ذكره طوائف من أهل الكلام : المعتزلة وغيرهم وهو قول من وافقه على هذا من المنتسبين إلى الأشعري وقالوا : إن العلم بحدوث العالم لا يمكن إلا بالعلم بحدوث الأجسام ولا يمكن ذلك إلا بحدوث الأعراض وليس هذا قول الأشعري وأئمة أصحابه فإن إثبات الصانع عندهم لا يتوقف على هذه الطريق بل قد صرح الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر هو وغيره بأن هذا الطريق ليس هو طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء بل هي محرمة في دينهم ولكن الأشعري لا يبطل هذه الطريق بل يقول : هي مذمومة في الشرع وإن كانت صحيحة في العقل وسلك هو طريق مختصرة من هذا وهو إثبات حدوث الإنسان بأنه مستلزم للحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ووافقهم على أن المعلوم حدوثه هو الأعراض : كالاجتماع والافتراق وأن ما يخلق من الحيوان والنبات والمعادن إنما تحدث أعراضه لا جواهره
وكذلك الخطابي وطائفة معه ممن يذم هذه الطريقة الكلامية التي ذمها الأشعري يوافقون على صحتها مع ذمهم لها
وأما جمهور الأئمة والعقلاء فهي عندهم باطلة وهذا مما يعلم معناه كل من له نظر واستدلال إذا تأمل حال سلف الأمة وأئمتها وجمهورها فإنهم كلهم مؤمنون بالله ورسوله ولم يكونوا يبنون الإيمان على إثبات حدوث الأجسام بل كل من له أدنى علم بأحوال الرسول وأصحابه يعلم انهم له يجعلوا العلم بتصديقه مبنيا على القول بحدوث الأجسام بل ليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من السلف والأئمة ذكر القول بحدوث الأجسام ولا إمكانها فضلا عن أن يكون فيها أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بذلك وقد بسط الكلام على هذا في مواضع
والمقصود هنا أن القول بأن أول الواجبات هو سلوك النظر في هذه الطريقة - هو في الأصل قول الجهمية والمعتزلة وإن وافقهم عليه طائفة غيرهم وهذه طريقة المعتزلة : كأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصيري وأمثالهم
وهم متنازعون في أن أول الواجبات النظر المفضى إلى العلم بحدوث العالم أو القصد إلى النظر أو الشك السابق على القصد على ثلاثة أقوال لهم معروفة
وقد اعترف الجمهور الذين خالفوا هؤلاء بأن إثبات الصانع لا يتوقف على هذه الطريق بل ولا حدوث العالم
وقد ذكر الرازي أن الطرق التي بها يثبت العلم بالصانع خمس طرق : الأول : الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض كالحركة والسكون وامتناع ما لا نهاية له وهذا طريق أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية كأبي المعالي وأمثاله
الثاني : الاستدلال بإمكان الأجسام وهذه عمدة الفلاسفة وهو مبني على أن الأجسام ممكنة لكونها مركبة
قلت : وهذا مبني على توحيد ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة المتضمن نفي الصفات
وجماهير العقلاء من المسلمين واليهود والنصارى والفلاسفة القدماء والمتأخرين يقدحون في موجب هذا الدليل وليس هو طريق أرسطو وقدماء الفلاسفة ولا طريقة ابن رشد وأمثاله من المتأخرين بل هذا المسلك عند جمهور العالم من أعظم الأقوال فسادا في الشرع والعقل وأما المسلك الأول فهو أيضا عند جمهور أهل الملل وجمهور الفلاسفة باطل مخالف للشرع والعقل
والمسلك الثالث : الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو قديمة أو ممكنة وحادثه وهو مبني على تماثل الأجسام وهو باطل عند أكثر العقلاء وهو مبني على مقدمتين : إحداهما : أن اختصاص كل جسم بما له من الصفات لا يكون إلا لسبب منفصل
والثانية : أن ذلك السبب لا يكون إلا مخصصا ليس بجسم
قلت : وهاتان المقدمتان قد عرف نزاع العقلاء فيها وما يرد عليهما من النقض والفساد ومخالفة أكثر الناس لموجبهما
قال : ( المسلك الرابع : الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض عن وجود الصانع كصيرورة النطفة إنسانا فهذا حادث والعبد غير قادر عليه فلا بد له من فاعل آخر لافتقار المحدث إلى المحدث : إما لأن ذلك معلوم بالضرورة كما يقول جمهور لعقلاء وإما لإثبات ذلك بالإمكان وما لإثباته بالقياس على ما يحدثه العباد )
قال : ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك )
قال : ( والطريق الخامسة : وهي عائدة إلى الأربعة : الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل والذي يدل على علمه هو بالدلالة على ذاته أولى )
قلت : طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه جاء بها القرآن واتفق عليه السلف والأئمة وقد اعترفوا بأن هذه الطريق تفضي إلى العلم بإثبات الفاعل ولا تقتضي كون الفاعل ليس بجسم وكذلك طريقة العلم لا تقتضي ذلك بخلاف الطرق الثلاثة المتقدمة
وإذا تبين ذلك فيقول القائل : إذا علمنا بإثبات الصانع بهذه الطريق التي اعترفتم بأنه يمكن العلم بإثبات الصانع وصدق رسله بها وليس فيها ما يقتضي أن الفاعل ليس بجسم لم يكن في الأدلة الشرعية المثبتة لصفات الله تعالى وأفعاله ما يناقض هذه الطريق لأن غاية ما يقوله النفاة أن إثبات الأفعال والصفات أو بعض ذلك يقتضي كون الموصوف الفاعل جسما وإثبات الصانع مبني على الدليل النافي لكونه جسما فلو قلنا بموجب النصوص تقديما لها على الدليل العقلي النافي للجسم لكنا قد قدمنا الشرع على أصله العقلي
فإذا كان قد تبين أن إثبات الشرع المبني على إثبات الصانع وصدق الرسول لا يتوقف على نفي الجسم علم بالضرورة أن الشرع المثبت للصفات والأفعال لا ينافي الدليل العقلي الذي به عرف إثبات ذلك فبطل قول من يدعي أنه قد يتعارض الدليل الشرعي المثبت لذلك وأصله العقلي النافي لذلك وهذا بين واضح ولله الحمد

اعتراض : إن عارضت الدليل العقلي الذي يعرف صحة الشرع
فإن قالوا : هب أن هذا الدليل العقلي الذي به يعرف صحة الشرع لا يعارضه الدليل الشرعي المثبت للصفات والأفعال لكن غيره من الأدلة العقلية ينافي ذلك - كان الجواب عنه من وجوه :

الجواب عنه من وجوه : الوجه الأول
أن المقصود بيان أن الشرع يمكن معرفة صدقه بدليل عقلي لا يعارض موجب الشرع وأما ما سوى ذلك من الأدلة فليس على الرجل أن يستدل بها والشيء إذا علمت صحته بدليل عقلي لم يجب أن تعلم صحته بكل دليل فقد تبين أنه يمكن الرجل أن يصدق بما أخبر به الشارع من أسماء الله وصفاته وأفعاله كإثبات العلو لله والصفات الخبرية من غير أن يعارض ذلك ما يكون أصلا للعلم بصحة السمع من الأدلة العقلية فتكون المعارضة بتلك الطريق التي يقال إنها عقلية معارضة بطرق لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها فلا يلزم من تقديم الشرع عليها القدح في الأصل الذي به عرفت صحة الشرع وهذا هو المطلوب

الوجه الثاني
أن يقال : تلك الطرق التي لم تدل على صحة الشرع مطلقا وإنما دلت على صدق الشارع فيما يخبر عنه من غير الصفات والأفعال التي تنفيها تلك الطرق وحينئذ فلا تكون دالة على صدق الرسول مطلقا
ومعلوم أن دليل الإيمان لا بد أن يدل على أن الرسول صادق في كل ما يخبر به مطلقا من غير تقييد بقيد فمتى كان الدليل إنما دل على صدقه بشرط أن لا يعارضه موجب ذلك الدليل صار مضمونه أن الرسول مصدق فيما لا يخالفني فيه وليس مصدقا فيما يخالفني فيه
ومعلوم أن هذا ليس إقرارا بصحة الرسالة فإن الرسول لا يجوز عليه أن يخالف شيئا من الحق ولا يخبر بما تخيله العقول وتنفيه ولكن يخبر بما تعجز العقول عن معرفته فيخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول
ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته في السنة التي رواها عبدوس ابن مالك العطار قال : ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول
هذا قوله وقول سائر أئمة المسلمين فإنهم متفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لا تدركه كل الناس بعقولهم ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول ولا يجوز أن يعارض بالأمثال المضروبة له فلا يجوز أن يعارضه الناس بعقولهم ولا يدركونه بعقولهم فمن قال للرسول : أنا أصدقك إذا لم تخالف عقلي أو أنت صادق فيما لم تخالف فيه الدليل العقلي فإن كان يجوز على الرسول أن يخالف دليلا عقليا صحيحا لم يكن مؤمنا به وإن قدم على كلامه دليلا عقليا ليس بصحيح لم يكن مؤمنا به فامتنع أن يصح الإيمان بالرسول صلى الله عليه و سلم مع هذا الشرط

الوجه الثالث
أن تلك الطرق إذا أمكن العلم بصدق الرسول بدونها لم يكن العلم بالشرع محتاجا إليها وحينئذ فإذا عارضت الشرع كان المعارض له دليلا أجنبيا كما لو عارضه من كذبه واحتج على أنه كاذب
ولا ريب أن هذا من باب المعارضة للرسول فيما جاء به
كمعارضة المكذبين للرسل وحينئذ فيكون جوابه بما يجاب به أمثاله من الكفار الملحدين الطاعنين فيما جاء به الرسول أو في بعضه لا يكون جوابه ما يجاب به المؤمنون بالرسول الذي يقرون أنه لا يقول على الله إلا الحق

الوجه الرابع
أنا لا نسلم صحة شيء من تلك الطرق حتى تكون دليلا يصلح أن يعارض به شيء من الأدلة : لا العلمية ولا الظنية ولا العقلية ولا غيرها فضلا عن أن يعارض بها كلام المعصوم الذي لا يقول إلا حقا وبيان فساد تلك الوجوه العقلية النافية للصفات والأفعال أو بعض ذلك مذكور بتفصيله في غير هذا الموضع

الوجه الخامس
أن يقال : لا ريب أن النصوص دلت على إثبات الصفات والأفعال لله تعالى ولم تتعرض للجسم بنفي ولا إثبات والنفاة إنما ينفون ما ينفونه بناء على أن الإثبات يستلزم كون الموصوف جسما والعقل ينفي أن يكون جسما وأدلتهم على نفي الجسم إما دليل الإمكان وإما دليل الحدوث فليس لهم ما يخرج عن هذا
وحينئذ فيقال : إما أن يقال : وهذا إثبات ما أثبته الدليل الشرعي من الصفات والأفعال موجب لكون الموصوف بذلك ممكنا وحادثا وأن استلزم ذلك للحدوث أو الإمكان معلوم بالأدلة العقلية كما يقول النفاة - وإما أن لا يقال ذلك
فإن لم يقل ذاك أو قيل : ليس في الأدلة العقلية ما يدل على ذلك لم يكن معارضا
وإن قيل : بل ذلك يدل في العقل على أن الموصوف ممكن أو حادث فحينئذ إما أن نفسد ذلك الدليل المعارض على وجه التفصيل وإما أن يقال : قد علم بالعقل صدق الرسول وعلم أنه أثبت هذه الصفات والأفعال فالنافي لها لا يجوز أن يكون دليلا صحيحا لأن تعارض الأدلة الصحيحة ممتنع وحينئذ فكل من كان أعلم بدلالة الشرع على الإثبات وبضعف أدلة النفاة كان أعلم بهذا الكلام فيكون العلم بفساد هذه المعارضات تارة بطريق إجمالي وتارة بطريق تفصيلي كما يعلم فساد الحجج السوفسطائية فإن من علم الشيء علما يقينيا علم قطعا فساد ما يناقضه وإن لم يعلم تفصيل فساد تلك الحجج فمن علم صدق الرسول وأنه أخبر بأمر علم قطعا أنه لا يقوم دليل قطعي على نفيه

الوجه السادس
أن هؤلاء الذين يرون تقديم عقولهم على كلام الله ورسوله عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو والصفات الخبرية ونحو ذلك مما جاء به الكتاب والسنة
وهؤلاء يقولون : علمنا بأن الرسول أخبر بالعلو وبهذه الصفات علم ضروري من دينه أبلغ من علمنا بثبوت اللعان والشفعة وحد القذف وسجود التلاوة والسهو ونحو ذلك
وإذا كان ذلك معلوما بالاضطرار من دين الإسلام لم يكن أن يقال : إن الرسول لم يخبر به بل لا يمكن إلا أحد أمرين : إما تكذيب الرسول وإما رد هذه المعارضات المبتدعة
قالوا وعلمنا بصدق الرسول علم يقيني لا ريب يتخلله فالشبه القادحة في ذلك كالشبه القادحة في العلوم العقلية اليقينية وهذه من جنس شبه السوفسطائية فنحن نعلم فسادها من حيث الجملة من غير خوض في التفصيل
ولا ريب أن هذا الأصل مستقر في قلب كل مؤمن بالله ورسوله فإن أهل الإلحاد قد يذكرون له شبهات ويقدحون بها فيما جاء به الرسول في مواضع كثيرة وقد لا يكون للمؤمن خبرة بالمناظرة في ذلك لعدم العلم بعباراتهم ومقاصدهم في كلامهم كمن يتكلم بلفظ ( الجسم ) ( والجوهر ) ( والحيز ) ( الهيولى ) ( المادة ) ( والصورة ) ( الكلي ) ( والجزئي ) ( الماهية ) ونحو ذلك عند من ليس له خبره بهذه الأوضاع والاصطلاحات ويؤلفها تأليفا يتضمن القدح فيما أخبر الله به ورسوله فإن المؤمن يعلم فساد ذلك مجملا وإن لم يعرف وجه فسادها لا سيما إذا لم يكن خبيرا بطرق المناظرة وترتيب الأدلة وكيف يفسد المتعارض بالممانعة في موضعها ولمعارضة في موضعها ونحو ذلك ما يبين به فساد الأقوال الباطلة المعارضة للحق
وقول هؤلاء لنفاة الصفات نظير قول كل من آمن باليوم الآخر للملاحدة النفاة إذا قالوا : قد قام الدليل العقلي على نفي المعاد مطلقا أو نفي الأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك في الجنة أو على نفي معاد البدن والنصوص المعارضة لذلك إما أن تأول وأما أن تفوض فإن المؤمنين بالآخرة من أهل الكلام وغيرهم قالوا لهم : نحن نعلم ثبوت المعاد بالاضطرار من دين الإسلام فلا يمكن دفع العلوم الضرورية فلو لم يكن المعاد حقا لزم : إما جحد كون الرسول أخبر به وإما جحد صدقه فيما أخبر وكلاهما ممتنع وإلا فمن علم أن الرسول أخبر به وعلم أنه لا يخبر إلا بحق - علم بالضرورة أن المعاد حق
وهنا بعينه يقوله مثبتو الصفات والأفعال للنفاة حذو القذة بالقذة فإن هؤلاء النفاة للصفات المثبتين للمعاد هم بين المؤمنين بالجميع كالسلف والأئمة وبين الملاحدة المنكرين للصفات والمعاد فالملاحدة تقول لهم : قولنا في نفي المعاد كقولكم في نفي الصفات فلا يستل بالشرع على هذا ولا على هذا لمعارضة العقل له والمؤمنون بالله ورسوله يقولون لهم : قولنا لكم في الصفات كقولكم للملاحدة في المعاد
فإذا قلتم للملاحدة : إثبات المعاد معلوم بالاضطرار من دين الرسول
قلنا لكم : وإثبات الصفات والعلو والأفعال معلوم بالاضطرار من دين الرسول
وقد تقدم من كلام الملاحدة كابن سينا ونحوه ما يبين ذلك وكل من تدبر كلام السلف والأئمة في هذا الباب علم أن الجهمية النفاة للصفات كانوا عند السلف والأئمة من جملة الملاحدة الزنادقة
ولهذا لما صنف الإمام أحمد ما صنفه في ذلك سماه الرد على الزنادقة والجهمية وكذلك ترجم البخاري آخر كتاب الصحيح بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية
وقال عبد الله بن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال يوسف بن أسباط وابن المبارك : أصول البدع أربعة : الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية قيل : والجهمية فقالا : ليست الجهمية من أمة محمد
ونقل مثل ذلك عن الزهري أنه قال : ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه و سلم

كلام الدارمي في كتاب الرد على الجهمية
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية : ( ما الجهمية عندنا من أهل القبلة بل هؤلاء الجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته من الزنادقة الذين قتلهم علي وحرقهم بالنار )
قال : ( والزنادقة والجهمية أمرهما واحد ويرجعان إلى معنى واحد ومراد واحد وليس قوم أشبه بقوم منهم بعضهم ببعض )
قال : ( ولو كان جهم وأصحابه في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم وكبار التابعين لقتلوهم كما قتل علي الزنادقة التي ظهرت في عصره ولقتلوا كما قتل أهل الردة ألا ترى أن الجعد بن درهم أظهر بعض رأيه في زمن خالد بن عبد الله القسري فزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا فذبحه خالد بواسط يوم عيد الأضحى على رؤوس من حضره من المسلمين لم يعبه به عائب ولم يطعن عليه طاعن بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه
وكذلك لو ظهر هؤلاء في زمن أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم ما كان سبيلهم عند القوم إلا القتل كسبيل أهل الردة وكما قتل علي من ظهر منهم في عصره وأحرقه وظهر بعضهم بالمدينة في عهد سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فأشار على وإلى المدينة يومئذ بقتله )
قال : ( ويكفي العاقل من الحجج في إكفارهم ما تأولنا فيه من كتاب الله وروينا فيه عن علي وابن عباس وما فسرنا من واضح كفرهم وفاحش مذهبهم وسنروي عن بعض من ظهر ذلك بين أظهرهم من العلماء
ثنا محمد بن المعتمر السجستاني كان من أوثق أهل سجستان وأصدقهم عن زهير بن نعيم البابي أنه سمع سلام بن أبي مطيع يقول : الجهمية كفار
وسمعت محمد بن المعتمر يقول : سمعت زهير بن نعيم يقول : سئل حماد بن زيد - وأنا معه في سوق البصرة - عن بشر المريسي فقال : ذلك كافر
قال عثمان بن سعيد : وبلغني عن يزيد بن هارون أنه قال : الجهمية كفار وقال : حرضت أهل بغداد غير مرة على قتل المريسي ثنا يحيى الحماني : ثنا الحسن بن الربيع : سمعت ابن المبارك يقول : من زعم أن قوله : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } [ طه : 14 ] مخلوق فهو كافر سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يذكر أنه سمع وكيعا يكفر الجهمية قال : وحدث عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان أنه أكفر من زعم أن القرآن مخلوق وسمعت الربيع بن نافع أبا توبة يكفر الجهمية
وحدثنا الزهراني أبو الربيع قال : كان من هؤلاء الجهمية رجل وكان الذي يظهر من حاله الترفض وانتحال حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال رجل ممن خالطه ويعرف مذهبه : قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي حملكم على الترفض وانتحال حب علي ؟ قال : إذا أصدقك إنا إن ظهرنا رأينا الذي نعتقده رميناه بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقواما ينتحلون حب علي ويظهرونه ثم يقعون بمن شاءوا ويعتقدون ما شاءوا فيقولون ما شاءوا فنسبوا بذاك إلى الترفض والتشيع فلم نر لمذهبنا أمرا ألطف من انتحال حب هذا الرجل ثم نقول ما شئنا ونعتقد ما شئنا ونقع بمن شئنا فلأن يقال : إنا رافضه وشيعة أحب إلينا من أن يقال : زنادقة وكفار وما علي عندنا بأحسن حالا من غيره ممن نقع بهم
قال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي : وصدق هذا الرجل فيما عبر عن نفسه ولم يراوغ وقد استبان لي ذلك في بعض كبرائهم ونظرائهم أنهم يستترون بالتشيع : يجعلونه تسبيبا لكلامهم وخطائهم وسلما وذريعة لاصطياد الضعفاء وأهل الغفلة ثم يبذرون بين ظهراني خطئهم بذر كفرهم وزندقتهم ليكون أنجع في قلوب الجهال وأبلغ فيهم ولئن كان أهل الجهل في شك من أمرهم إن أهل العلم منهم على يقين )

تعليق ابن تيمية
قلت : قد قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره من أئمة السنة : هما صنفان فاحذروهما : الجهمية والرافضة
وهذا الذي حكاه عثمان بن سعيد عن هذا الرجل هو لسان حال أئمة الجهمية المتشيعة كالقرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم وهم رؤوس الملاحدة وأئمتهم وقد دخل كثير من إلحادهم على كثير من الشيعة والمتكلمين من المعتزلة والنجارية والضرارية والأشعرية والكرامية ومن أهل التصوف والفقه والحديث والتفسير والعامة
لكن عامة هؤلاء لا يعتقدون الزندقة بل يقرون بنبوة الرسول صلى الله عليه و سلم لكن دخل فيهم نوع من الإلحاد وشعبة من شعب النفاق والزندقة أضعف إيمانهم وحصل في قلوبهم نوع شك وشبهة في كثير مما جاء به الرسول مع تصديقهم للرسول وتجدهم في هذا الباب في حيرة واضطراب وشك وارتياب لم يحققوا ما ذكره الله تعالى في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } [ الحجرات : 15 ] ولكن ليس كل من دخل عليه شعبة من شعب النفاق والزندقة فقبلها جهلا أو ظلما يكون كافر منافق في الباطن بل قد يكون معه من الإيمان بالله ورسوله ما يجزيه الله عليه ولا يظلم ربك أحدا

تابع كلام الدارمي
قال : أبو سعيد عثمان بن سعيد : ( والزندقة أكبر في نفوس أهل العلم من الارتداد ومن كفر اليهود والنصارى ولذلك قال ابن المبارك : لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب ألي من أن أحكي كلام الجهمية حدثناه الحسن بن الصباح البغدادي عن علي بن شقيق عن ابن المبارك قال أبو سعيد : وصدق ابن المبارك إن في كلامهم ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى )
( وقال أبو سعيد : وذهبت يوما أحكي ليحيى بن يحيى كلام الجهمية لأستخرج منه نقضا عليهم وفي مجلسه يومئذ الحسين بن عيسى البسطامي وأحمد بن حريش القاضي ومحمد بن رافع وأبو قدامه السرخسي - فيما أحسب - وغيرهم من المشايخ فزبرني بغضب وقال اسكت وأنكر علي المشايخ الذين في مجلسه استعظاما أن أحكي كلام الجهمية وتشنيعا عليهم فكيف بمن يحكى كلامهم ديانة ! ثم قال يحيى : القرآن كلام الله فمن شك فيه أو زعم انه مخلوق فهو كافر )

تعليق ابن تيمية
قلت : وكلام السلف والأئمة في تكفير الجهمية وبيان أن قولهم يتضمن التعطيل والإلحاد كثير ليس هذا موضع بسطه
وقد سئل عبد الله ابن المبارك و يوسف بن أسباط فأجابا بما تقدم
وقد تبين أن الجهمية عندهم من نوع الملاحدة الذين يعلم بالاضطرار أن قولهم مخالف لما جاءت به الرسل بل إنكار صفات الله أعظم إلحادا في دين الرسل من إنكار معاد الأبدان فإن إثبات الصفات لله أخبرت به الرسل أعظم مما أخبرت بمعاد الأبدان
ولهذا كانت التوراة مملوءة من إثبات صفات الله وأما ذكر المعاد فليس هو فيها كذلك حتى قد قيل : إنه ليس فيها ذكر المعاد
والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدرا من آيات المعاد فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك
كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لأبي بن كعب : أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] فضرب بيده في صدره وقال ليهنك العلم أبا المنذر ]
وأفضل سورة سورة أم القرآن كما ثبت ذلك في [ حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح قال له النبي صلى الله عليه و سلم إنه لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ] وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم من غير وجه أن [ : { قل هو الله أحد } تعدل ثلثي القرآن ]
وثبت في الصحيح [ أنه بشر الذي كان يقرأها ويقول : إني لأحبها لأنها صفة الرحمن : بأن الله يحبه ] فبين أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى وهذا باب واسع

الوجه السابع
أن يبين أن الفطرة التي فطر الله عليها عباده والعلوم الضرورية التي جعلها في قلوبهم توافق ما أخبر به الرسول من علو الله على خلقه ونحو ذلك فالمعقول الضروري الذي هو أصل العلوم النظرية موافق للأدلة الشرعية مصدق لها لا مناقض معارض لها

الوجه الثامن
أن يقال : الإرادات والقصود الضرورية التي تضطر العباد عندما يضطرون إلى أن يطلبوا من الله قضاء الحاجات وتفريج الكربات موافقة لما أخبر به الرسول لا معارضة لذلك

الوجه التاسع
أن يقال : الأدلة العقلية البرهانية المؤلفة من المقدمات اليقينية هي موافقة لخبر الرسول لا معارضة له ومن كان له خبرة بالأدلة العقلية وتأليفها وتأمل أدلة المثبتة والنفاة رأى بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق فإن أدلة الإثبات أدلة صحيحة مبنية على مقدمات يقينية خالصة من الشبهة وأما حجج النفاة فجميعها مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة ومعان متشابهة ولهذا متى وقع الاستفسار والتفصيل لمجمل كلامهم ووقع البيان والتفصيل لمشتبه معانيهم تبين لكل عاقل فاهم أن النفاة جمعوا بين المختلفات وفرقوا بين المتماثلات وسووا بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين لاشتراكهما في بعض الصفات
ولهذا كان مآل أمرهم إلى أن جعلوا الوجود واحدا فجعلوا وجود الخالق رب العالمين - الذي لا يماثله شيء من الموجودات بوجه من الوجوه ومباينته لكل موجود أعظم من مباينة كل موجود لكل موجود - هو وجود أحقر المخلوقات وأصغر المخلوقات أو مماثلا له لاتفاقهما في مسمى الوجود أو مسمى الذات أو الحقيقة وصار أئمتهم النظار في هذه المسألة التي هي أول ما ينبغي لذي النظر أن يعرفه في حيرة عظيمة فهذا يقول : الوجود واحد لاشتراك الموجودات في مسمى الوجود ولا يميز بين الواحد بالعين والواحد بالنوع أو الجنس اللغوي
وهذا يقول : وجوده وجود مطلق : إما بشرط الاطلاق وإما مطلقا لا بشرط وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه وهذا يمتنع ثبوته عنه وهذا يمتنع ثبوته في الموجودات وإنما يكون مثل هذا فيما تقدره الأذهان لا فيما يوجد في الأعيان
وغاية من يجعل ذلك ثابتا في الخارج أن يجعل وجود الخالق هو وجود المخلوقات أو جزءا منها فيجعل افتقاره إلى المخلوقات كافتقار المخلوقات إليه كما يقول من يفرق بين الوجود والثبوت
وهذا يقول لفظ ( الوجود ) و ( الذات ) وغيرهما مقول عليه وعلى الموجودات بالاشتراك اللفظي المجرد كاشتراك ( المشتري ) و ( سهيل ) فتخرج الأسماء العامة الكلية كاسم ( الوجود ) و ( الذات ) و ( النفس ) و ( الحقيقة ) و ( الحي ) و ( العالم ) و ( القادر ) ونحو ذلك من مسمياتها وتسلبه العقول ما جعله الله فيها من المعاني والقضايا العامة الكلية وهذه خاصة العقل التي تميز بها عن الحس إلى أمثال هذه المقولات التي هي عند من فهمها وعرف حقيقة قول أصحابها ضحكة للعاقل من وجه وأعجوبة له من وجه ومسخطة له من وجه
ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل بها كتبه ؟
فمن تبحر في المعقولات وميز بين البينات والشبهات تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول وكلما عظمت بمعرفة الرجل بذلك عظمت موافقة الرسول
ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع العلوم : إما طبيعية كالحساب والطب وإما شرعية كالفقه مثلا وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك وهي أعظم المطالب وأجل المقاصد فخاضوا فيها بحسب أحوالهم وقالوا فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم
وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام وأمثاله من اليونان بكلام وأبي الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله وأكثر من يتكلم به لا يفهمه
وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما وهذا حال الأمم الضالة كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما كما يعظم الرافضة المنتظر الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر
وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة
وكذلك النصارى تعظم ما هو من هذا الباب وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون : الصفات الذاتية والعرضية والمقوم والمقسم والمادة والهيولى والتركيب من الكم والكيف وأنواع ذلك من العبارات عظمها قبل أن يتصور معانيها ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم
ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله ويسمونها عقليات وإنما هي عندهم تقليديات قلدوا فيها ناسا يعلمون أنهم ليسوا معصومين إذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول : كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفي عليه مثل هذا ؟ أو أن يقول مثل هذا ؟
وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى : { إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم : 4 ] قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز ورضوا بقبول قول لا يعلمون حقيقته وهو مع هذا يقبل أقوالا لا يعلم حقيقتها وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون
وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة - ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم وممن خاطبتهم وممن بلغني أخبارهم - إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها ولم يجد له ما يدفعها به فر إلى التقليد ولجأ إلى قول شيوخه وقد كان في أول الأمر يدعوا إلى النظر والمناظرة والاعتصام بالعقليات والإعراض عن الشرعيات
ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات بل هو كما قال الله تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } [ الحج : 3 ]
وكما قال تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } [ الحج : 8 ]
وكما قال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأنعام : 110 ]
وكما قال : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } [ الفرقان : 44 ]
وكما قال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } [ الفرقان : 27 - 29 ]
وكما قال : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } [ الأحزاب : 66 - 68 ]
وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء
ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع لتناقض أوامره
بخلاف ما جاء من عند الله فإنه متفق مؤتلف فيه صلاح أحوال العباد في المعاش والمعاد
قال تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء : 82 ] وهذه الجمل مبسوطة في مواضع غير هذا
والمقصود هنا أن ننبه المسلم على أن العقل الصريح كلما أمعن في تحقيقه لا يكون إلا موافقا للشرع الذي جاءت به الرسل حتى تتبين لك صحة ما جاء به بالأدلة العقلية التي لا يحتاج فيها إلى خبر مخبر ولو كان معصوما لكن تتعاضد الأدلة السمعية والعقلية الخبرية والنظرية
كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ]
ولكن الناس متفاوتون في هذا بحسب ما يؤتيهم الله من العقل والمعرفة والنظر والاستدلال والتمييز فكل من كان أكمل في معرفة الصواب من هذا كان أكمل في معرفة الموافقة والمطابقة
وهذا أمر يخبر به من خبره فقد يكون الرجل قبل أن يستيقن ما جاءت به السنة عنده شبهة ووهم لظنه أنه قد عارضها ما يعارضها به المعارض : إما من عقلياته وإما من ذوقياته وإما من سياساته فإذا هداه الله وأرشده تبين له في آخر الأمر أن ما وافق الشرع هو المعقول الصريح وهو الذوق الصحيح وهو السياسة الكاملة وأن ما خالف ذلك هو من أمور أهل الجهل والظلم
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل : { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ يونس : 25 ]

الوجه العاشر
أنه ما من قول موافق للسنة إلا وتجد العقلاء الذين يقرون به أكثر وأعظم من العقلاء الذين ينكرونه بل تجد الموافقين له من العقلاء قد اتفقوا على ذلك بغير مواطأة من بعضهم البعض وذلك يبين أنه موجب العقل الصريح بخلاف الأقوال المخالفة فإنك لا تجد من يقولها من طوائف العقلاء إلا من تواطأ على تلك المقالة التي تلقاها بعضهم عن بعض وما تواطأ عليه الناس يجوز فيه الغلط والكذب ما لا يجوز فيما اتفق عليه العقلاء من غير مواطأة ولا تشاعر والله أعلم

الوجه الثاني والثلاثون
أن يقال القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها من عقل أو كشف أو غير ذلك يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به ولا يستفاد من أخبار الله
ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل
وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق كما يجد ذلك أو اعتبره وذلك لأنه إذا جوز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله وبلغه الرسول صلى الله عليه و سلم إلى أمته من القرآن والحديث وما فيه من ذكر صفات الله تعالى وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والأنبياء وأممهم وغير ذلك مما قصه الله في كتابه أو أمر به من التوحيد والعبادات والأخلاق ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته وليس معه ما يدل على ثبوته إلا أخبار الله ورسوله - وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه - فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية إلا أن يحيط علما بكل ما يخطر ببال بني آدم مما يظن انه دليل عقلي
وهذا أمر لا ينضبط وليس له حد فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر ويقع لهم من الآراء والاعتقادات ما يظنونه دلائل عقلية وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس فإذا جوز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبدا فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول - بمجرد إخباره - أبدا فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول لكون الرسول أخبر به أبدا ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علما ولا هدى بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبدا
وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدم بقي لا مصدقا بما جاء به الرسول ولا مكذبا به وهذا كفر باتفاق أهل الملل وبالاضطرار من دين الإسلام وإن قام عنده المعارض المقدم كان مكذبا للرسول فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط
ويتناول كلا منهما قوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا } [ الفرقان : 27 31 ]
وقال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [ الأنعام : 112 - 113 ] وأمثال ذلك
ولهذا كان الأصل الفاسد مستلزما للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والإلحاد ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح وظهر ما في قوله من التناقض والفساد
ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنت الدعوة وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد فإن هذا الأصل متناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه
وقد رأيت كتابا لبعض أئمة الباطنية سماه الأقاليد الملكوتية سلك فيه هذا السبيل وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيها بوجه من الوجوه فصار من أثبت شيئا من الأسماء والصفات كاسم ( الموجود ) و ( الحي ) و ( العليم ) و ( القدير ) ونحو ذلك يقول له : هذا فيه تشبيه لأن الحي ينقسم إلى : قديم ومحدث والموجود ينقسم : إلى قديم ومحدث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فيلزم التركيب وهو التجسيم ويلزم التشبيه فإنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا اشتبها واشتركا في مسمى الوجود وهذا تشبيه وإذا كان أحد الموجودين واجبا بنفسه صار مشاركا لغيره في مسمى الوجود ومتميزا عنه بالوجوب وما به الامتياز غير ما به الاشترك فيكون الواجب بنفسه مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز والمركب محدث أو ممكن لأنه مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلا غيره لا يكون واجبا بنفسه فساق من سلم له الأصول الفاسدة إلى نفي الوجود الواجب الذي يعلم ثبوته بضرورة عقل كل عاقل فأورد على نفسه أنك إذا قلت : ليس بموجود ولا حي ولا ميت كان هذا تشبيها بالمعدوم أيضا فقال : لا أقول لا هذا ولا هذا فأورد على نفسه أنك قد قررت في المنطق أنه إذا اختلفت قضيتان بالسلب والإيجاب لزم من صدق إحداهما كذب الأخرى فإن صدق أنه موجود كذب أنه ليس بموجود وإن صدق أنه ليس بموجود كذب أنه موجود ولا بد لك بذلك من إحداهما فأجاب بأني لا أقول لا هذا ولا هذا فلا أقول : موجود ولا ليس بموجود ولا معدوم ولا ليس بمعدوم
فهذا منتهى كلام الملاحدة وقد حكوا مثل هذا عن الحلاج وأشباهه من أهل الحلول والاتحاد وأنهم لا يثبتونه ولا ينفونه ولا يحبونه ولا يبغضونه
فيقال لهذا الضال : كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع فرفع النقيضين أيضا ممتنع فإذا امتنع أن يكون موجودا ليس بموجود امتنع أن لا يكون موجودا ولا غير موجود فقد وقعت في شر مما فررت منه
وأما التشبيه فإنك فررت من تشبيه بموجود أو معدوم فشبهته بالممتنع الذي لا حقيقة له فإن ما ليس بموجود ولا معدوم لا حقيقة له أصلا وهذا شر مما يقال فيه : إنه موجود أو معدوم
وقد رام طائفة من المتأخرين كالشهرستاني والآمدي والرازي - في بعض كلامه - ونحوهم أن يجيبوا هؤلاء عن هذا بأن لفظ ( الموجود ) و ( الحي ) و ( العليم ) و ( القدير ) ونحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي كما يقال لفظ ( المشتري ) على الكوكب والمبتاع وكما يقال لفظ ( سهيل ) على الكوكب والرجل المسى بسهيل وكذلك لفظ ( الثريا ) على النجم والمرأة المسمات بالثريا ومن هنا قال الشاعر :
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان )
( هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان )
وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وأمثال ذلك مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة إن لم يكن المعنى مشتركا سواء كان متماثلا أو متفاضلا ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككا فالتقسيم لا يكون إلا في الألفاظ المتواطئة التواطؤ العام الذي يدخل فيه المشككة أو في المتواطئة التواطؤ الخاص وفي المشككة أيضا
فأما مثل ( سهيل ) فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل إلا أن يراد أن لفظ ( سهيل ) يطلق على هذا وهذا
ومعلوم أن مثل هذا التقسيم لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ ولهذا كان تقسيم المعاني العامة صحيحا ولو عبر عن تلك المعاني بعبارات متنوعة في اللغات فإن المقسم هو المعنى الذي لا يختلف باختلاف اللغات
وأيضا فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة لكان لا يفهم منها عند الإطلاق الثاني معنى حتى يعرف معناها في ذلك الإطلاق الثاني كما في الألفاظ المشتركة فإنه إذا أطلقه في موضع ما يدل على معناه ثم أطلقه مرة ثانية وأراد به المعنى الآخر فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه
ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكا لفظيا لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله
ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمى لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولا ثم يعلم أن اللفظ دال عليه فإذا كان اللفظ مشتركا فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلا ولا يكون فرق بين قولنا : حي وبين قولنا ميت ولا بين قولنا موجود وبين قولنا معدوم ولا بين قولنا عليم وبين قولنا جهول أو ( ديز ) أو ( كجز ) بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى كديز وكجز ونحو ذلك
ومعلوم أن الملاحدة يكفيهم هذا فإنهم لا يمنعون إطلاق اللفظ إذا تظاهروا بالشرع وإنما يمنعون منه أن نفهم معنى
وسبب هذا الضلال أن لفظ ( التشبيه ) و ( التركيب ) لفظ فيه إجمال وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما فإنه يلزمه عدمه بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل
وكذلك لفظ ( التركيب ) فإن ثبوت معاني لله تعالى ليس هو مما ينفيه الدليل وكون تلك المعاني من لوازم ذاته وأنه لا يكون إلا متصفا بها ليس هو تركيبا ينفيه عقل ولا شرع بل مثل هذا لا بد منه كما قد بسط ذلك في مواضع كثيرة
فهذا وأمثاله هي العقليات الفاسدة التي تطرق بها أهل الإلحاد وكذلك ردهم للدلالة السمعية إذا عارضها عندهم ما هو عندهم عقلي يوجب أن لا يستدل بشيء من كلام الله ورسوله كما تقدم فلا يبقى عندهم لا عقل ولا سمع
وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية قد اعترف حذاقهم به بل التزمه من التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي كما التزمته الملاحدة الفلاسفة
وأما المعتزلة فلا يقولون : الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون لا يحتج بالسمع على مسائل التوحيد والعدل لأن ذلك - بزعمهم - يتوقف العلم بصدق الرسول عليه
وكذلك متأخرو الأشعرية يجعلون القول في الصفات من الأصول العقلية وأما الأشعري وأئمة أصحابه فيحتج عليهم عندهم بالسمع كما يحتج بالعقل

كلام الرازي في نهاية المعقول عن الأدلة السمعية
ولهذا لما ذكر أبو عبد الله الرازي أصول الأدلة التي يحتج بها في أصول الدين أصحابه وغيرهم ذكر هذا الأصل واعترض عليه فقال في نهاية المعقول : ( الفصل السابع في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع ) فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله وذكر القياس وذكر الإلزامات ثم قال : ( والرابع هو التمسك بالسمعيات فنقول : المطالب على أقسام ثلاثة : منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى )
قال : ( أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسل )
قال : ( وأما القسم الثاني وهو ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه بشيء من حواسه فإن حصول غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقا وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن النفس والحس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق وأما القسم الثالث وهو معرفة وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسألة الرؤية والصفات والوحدانية وغيرها )

تعليق ابن تيمية
قلت : ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال فإن فيما ذكر أنه لا يعلم إلا بالسمع ما يمكن علمه بدون السمع إذ علم الإنسان بوجود بعض الممكنات له طرق متعددة غير إخبار الرسول وكذلك ما ذكر أنه لا يعلم بالسمع فيه كلام ليس هذا موضعه
ولكن المقصود ذكر قوله بعد ذلك فإنه قال : ( إذا عرفت ذلك فنقول : أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا لو وقع الدور وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال
وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل وإما نأول النقل فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة فإذن تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا فتعين تأويل النقل
فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين : إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلا غير محتاج إليه وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلا اللهم إلا أن نقول : إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه ولكنا زيفنا هذه الطريقة أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الفلانية الأخرى وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينية وهي عدم دليل عقلي فوجب تأول ذلك النقل وكل ما تبنى صحته على ما لا يكون يقينيا لا يكون هو أيضا يقينيا فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين )
قال : ( وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى منها بأن لا يعلم فسادها بل لا بد وأن يعلم بالبديهية صحتها ويعلم بالبديهية لزومها مما علم صحته بالبديهية ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحال التعارض في العلوم البديهية )
قال : ( فإن قيل : إن الله لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه تعالى أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وأنه غير جائز قلنا : هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على الله شيء ونحن لا نقول بذلك سلمنا ذلك فلم قلتم : إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو أسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل على خلاف ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقصير واقعا من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع فثبت إنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبسا )
قال : ( فخرج مما ذكرناه أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية ولعله يمكن أن يجاب عن هذا السؤال بما به يجاب عن تجويز ظهور المعجزات على الكاذبين نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية )
قلت فليتدبر المؤمن العاقل على هذا الكلام مع أنه قد ينزل فيه درجة ولم يجعل عدم إفادته اليقين إلا لتجويز المعارض العقلي لكونه موقوفا على مقدمات ظنية كنقل اللغة والنحو والتصريف وعدم المجاز والاشتراك والنقل والإضمار والتخصيص وعدم المعارض السمعي أيضا مع العقلي
وبهذا دفع الآمدي وغيره الاستدلال بالأدلة السمعية في هذا الباب ونحن قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا إمكان دلالة الأدلة السمعية على اليقين وبينا فساد ما ذكره هؤلاء الذين أسسوا قواعد الإلحاد
والمقصود هنا أن نبين اعترافهم بما ألزمناهم به وإذا كان كذلك فيقال : نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا اخبر أمته بما أخبرهم به من الغيب من أسماء الله وصفاته وغير ذلك فإنه لم يرد منهم إلا يقروا بثبوت شيء مما أخبر به إلا بدليل منفصل غير خبره فإذا كان القول مستلزما لكون الرسول أراد أن لا يثبت شيء بمجرد خبره وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه كذب على الرسول علم أن هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام
وهؤلاء الذين سماهم أهل التحقيق هم أهل التحقيق عنده سماهم كذلك بناء على ظنه كما يسمي الاتحادية والحلولية أنفسهم أهل التحقيق ويسمي كل شخص طائفته أهل الحق بناء على ظنه واعتقاده
ومثل هذا لا يكون مدحهم زينا ولا ذمهم شيئا إلا إذا كان قولا بحق
والذي مدحه زين وذمه شين هو الله ورسوله والذين جعلهم أهل الحق هم المذكورون في قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا } [ الأنفال : 2 - 4 ] فوصف المؤمنين حقا بأنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وهؤلاء المعارضون لآياته إذا تليت عليهم آياته لم تزدهم إيمانا بل ريبا ونفاقا
وقال تعالى : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } [ محمد : 3 ] فوصف المؤمنين بأنهم اتبعوا الحق من ربهم ومن اتبع الحق كان محقا
والمؤمنون اتبعوا الحق من ربهم فهم أحق الناس بالتحقيق وإذا كان المؤمنون هم المحققين ومن نعتهم أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا كان الموصوفون بنقيض ذلك ليسوا من المحققين عند الله وعند رسوله بل من المحققين عند إخوانهم كما أن اليهود والنصارى والمشركين وكل طائفة من المحققين عند من وافقهم على أن ما يقولونه بحق
وقد وصف المؤمنين بما ذكره في قوله تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 124 - 125 ]
ومن المعلوم أن من ناقض الآيات المنزلة باعتقاده وهواه لم تزده إيمانا ولم يستبشر بنزولها بل تزيده رجسا إلى رجسه
وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } [ الحجرات : 15 ] فالصادق في قوله : آمنوا هو الذي لم يحصل له ريب فيما جاء به الرسول ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به ولكن غايته أن يعلم أن الرسول صادق فيما أخبر به على طريق الجملة فإذا نظر فيما أخبر به لم يعلم ثبوت شيء مما أخبر به
ومن المعلوم أن العلم بأنه صادق مقصوده تصديق أخباره والمقصود بتصديق الأخبار التصديق بمضمونها فإذا كان لم يصدق بمضمون أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم كان بمنزلة من آمن بالوسيلة ولم يحصل له المقصود
ولو قال الحاكم : إن هؤلاء الشهود صادقون في كل ما يشهدون به وهو لا يثبت بشهادة أحد منهم حقا لم يكن في تعديلهم فائدة ومن تدبر هذا الباب علم حقيقته والله أعلم

الوجه الثالث والثلاثون
أن يقال : نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا به بل إذا أقر أنه رسول الله وأنه صادق فيما أخبر ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب - لجواز أن يكون ذلك متيقنا في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك - فإن هذا ليس مؤمنا بالرسول
وإذا كان هذا معلوم بالاضطرار كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله فيصدقه في كل ما أخبر به ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفيا في نفس الأمر وأنه لا دليل يدل على انتفائه وإما أن يكون الرجل غير مصدق للرسول في شيء مما أخبر به إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول ومن لم يقر بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمنا به بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض : إن قام دليل على قوله وافقه وإلا لم يوافقه
ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل لا المؤمنين بهم ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ]
وهذا الذي ذكره هذا في العقل ذكره طائفة أخرى في الكشف كما ذكره أبو حامد في كتابه الإحياء في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه ثم يعرض الوارد في السمع عليه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه )
ومن هنا زادت طائفة أخرى على ذلك فادعوا أنهم يعلمون - إما بالكشف وإما بالعقل - الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها بل ادعى بعضهم أن الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة تلك الحقائق من مشكاة أحدهم كما ادعاه صاحب الفصوص أن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة المسمى عنده بخاتم الأولياء وادعى انه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الموحي به إلى الرسول
ومعلوم أن هذه الأقوال من شر أقوال الكافرين بالرسول لا المؤمنين به

الوجه الرابع والثلاثون
أن الذين يعارضون الشرع بالعقل ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول ويقولون : إن العقل أصل للشرع فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع - إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقروا بصحة الشرع بدون المعارض وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول وبأنه قال هذا الكلام وبأنه أراد به كذا وإلا فمع الشك في واحدة من هذه المقدمات لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل فكيف مع معارضة العقل أما النبوة : فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها وأنه معصوم أن يقول فيها غير الحق لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب لم يستفد بخبره علما ومن كانت النبوة عنده مكتسبة من جني نبي الفلاسفة وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم وقوة بتصرف بها في العلم وقوة تجعل من المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه كما يقول ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة - لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله معصوم أن يقول غير الحق فكيف إذا كان يقول : إن الرسول قد يقول ما يعلم خلاف
فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علما فكيف يتكلمون في المعارضة ؟
وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها وكذلك من قال : إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم كما يقول الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول فكيف يعارضون ذلك المعقول
وكذلك أيضا من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة امتنع أن يعارض بها دليلا ظنيا عنده فضلا عن أن يعارض بها دليلا يقينيا عنده ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقا كأبي حامد والرازي ومن تبعهم ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علما بما أخبروا به إذا لم يكونوا مقرين بأن الرسول بلغ البلاغ المبين المعصوم بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب : إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم كما يقول ابن سينا وأمثاله وإما لتجويز أن يكون لا عالما بذلك كما تقوله طائفة أخرى وإما لأنه جائز في النبوة - لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله وأنه بلغ البلاغ المبين فلا تجد أحدا ممن يقدم المعقول مطلقا على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول فهذا محتاج أولا إلى أن يعلم أن محمدا رسول الله الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وأنه بلغ البلاغ المبين وأنه معصوم عن أن يقره الله على خطأ فيما بلغه وأخبر به عنه ومن ثبت هذا الإيمان في قلبه امتنع مع هذا أن يجعل ما يناقض خبر الرسول مقدما عليه

الوجه الخامس والثلاثون
أن يقال : قول هؤلاء متناقض والقول المتناقض فاسد وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون البعض وليس في المنتسبين إلى القبلة بل ولا في غيرهم من يمكنه تأويل جميع السمعيات
وإذا كان كذلك قيل لهم : ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه ؟
فهم بين أمرين : إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم : إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه
فيقال لهم : فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإن لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية كما تقدم بيانه
وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنه - على قولكم - : إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولا لا معنى مفهوم وهو لا يريد ذلك لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك - جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخلف ذلك أو لكون ذلك ليس معلوما بدليل عقلي ونحو ذلك فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفا على مثل ذلك الشرط جاز أن يكون موقوفا على أمثاله من الشروط إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به
وإن قالوا بتأول كل شيء إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده كان ذلك أبلغ فإنه ما من نص وارد إلا ويمكن الدافع له أن يقول : ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا
فإن كان للمثبت أن يقول : أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده
كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت إن يقول أيضا مثل ذلك
ولا ريب أن المثبتين للعلو والصفات عندهم أن هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه و سلم فهم لا يتناقضون ومن نازعهم يتناقض فإنه لا يمكنه أن يقول لغيره من النفاة شيئا إلا أمكن أهل الإثبات للعلو أن يقولوا له : فإما أن تقبل مثل هذا وإلا كان متناقضا لا يستقيم له قول عند واحد من الطوائف وهذا يبين فساد قوله وهو المطلوب
وهذا الذي ذكرناه بين في كلام كل طائفة حتى في كلام المثبتين لبعض الصفات دون البعض فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونا فيما يتأول وما لا يتأول بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع فلا يقرون إلا بما يعلم ثبوته بدليل منفصل عن السمع وهم لا يجوزون مثل ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا مثل ذلك فعلم أن قولهم باطل وأن قولهم : لا نتأول إلا ما عارضه القطعي - قول باطل ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه وأنه لا يستفاد من السمعيات علم كما ذكره الرازي وغيره مع انهم يستفيدون منها علما فيتناقضون ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول : أخبار الرسول ثلاثة أقسام : ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولا وما لا يعلم بدليل منفصل لا يمكن ثبوته ولا انتفاؤه وكان مشكوكا فيه موقوفا
وهذه حقيقة قولهم الذي ذكرناه أولا وهو ما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مناقض لما أوجبه الرسول من الإيمان بأخباره وانه في الحقيقة عزل للرسول عن موجب رسالته وجعل له كأبي حنيفة مع الشافعي وأحمد بن حنبل مع مالك ونحو ذلك

الوجه السادس والثلاثون
أن يقال : هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبقى معهم إلا طريقان : إما طريق النظار : وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الصوفية : وهي الطريقة العبادية الكشفية وكل من جرب هاتين الطريقتين علم أن مالا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك إن كان له نوع عقل وتمييز وإن كان جاهلا دخل في الشطح والطامات التي لا يصدق بها إلا أجهل الخلق
فغاية هؤلاء الشك وهو عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء الشطح وهو التصديق بالباطل والأول يشبه حال اليهود والثاني يشبه حال النصارى فحذاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك كما هو معروف عن غير واحد منهم كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش ويقول : كان الله ولا عرش وهو لم يتحول عما كان عليه : فقام إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال : دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه يعني أن هذا يعلم بالسمع وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال : عارف قط : يا الله إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من جواب على هذا

فصل : كلام الغزالي عن التأويل وتعليق ابن تيمية عليه
ذكر أبو حامد في كتاب الإحياء كلاما طويلا في علم الظاهر والباطن قال : ( وذهبت طائفة إلى التأويل فيما يتعلق بصفات الله تعالى وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهره ومنعوا التأويل وهم الأشعرية ) - أي متأخروهم الموافقون لصاحب الإرشاد قال : ( وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا كونه سميعا بصيرا والرؤية والمعراج وإن لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والسراط وجملة من أحكام الآخرة ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات )
قلت : تأويل الميزان والصراط وعذاب القبر والسمع والبصر إنما هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصرية
قال أبو حامد : ( وبترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة إلى أمور عقلية روحانية ولذات عقلية )
إلى أن قال : ( وهؤلاء هم المسرفون في التأويل وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إن انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم )
قلت : هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول صلى الله عليه و سلم شيء من الأمور العلمية بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة
وهذان أصلان للإلحاد فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات
وأفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأفضل من كان محدثا من هذه الأمة عمر للحديث وللحديث الآخر : [ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ] ومع هذا فالصديق أفضل منه لأن الصديق إنما يأخذ من مشكاة الرسالة لا من مكاشفته ومخاطبته وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة ففيه صواب وخطأ وإنما يفرق بين صوابه وخطائه بنور النبوة كما كان عمر يزن ما يرد عليه بالرسالة فما وافق ذلك قبله وما خالفه رده
قال بعض الشيوخ ما معناه : قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف وقال أبو سليمان الداراني : إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين : الكتاب والسنة وقال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد : كل ذواق أوكل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال الجنيد بن محمد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن وبكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا وقال سهل أيضا : يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق
وهذا وأمثاله كثير في كلام الشيوخ العارفين يعلمون أنه لا تحصل لهم حقيقة التوحيد والمعرفة واليقين إلا بمتابعة المرسلين وقد يحصل لهم من الدلائل العقلية القياسية البرهانية ومن المخاطبات والمكاشفات العيانية ما يصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم
كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ]
وقال تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط } [ سبأ : 6 ]
وقال تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } [ الرعد : 19 ]
وتجد كثيرا من السالكين طريق العلم والنظر والاستدلال الذين اشتبهت عليهم الأمور وتعارضت عندهم الأدلة والأقيسة يحسنون الظن بطريق أهل الإرادة والعبادة والمجاهدة ظانين أنه ينكشف بها الحقائق
وكثير من السالكين طريق العبادة والإرادة والزهد والرياضة الذين اشتبهت عليهم الأمور وتعارضت عندهم الأذواق والمواجيد يحسنون الظن بطريق أهل العلم والنظر والاستدلال ظانين أنه ينكشف به لهم الحقائق
وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين فلا بد من العلم والقصد ولا بد من العلم والعمل به ومن علم بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم
والعبد عليه واجبات في هذا وهذا فلا بد من أداء الواجبات ولا بد أن يكون كل منهما موافقا لما جاء به الرسول فمن أقبل على طريقة النظر والعلم من غير متابعة للسنة ولا عمل بالعلم كان ضالا غاويا في عمله ومن سلك طريق الإرادة والعبادة والزهد والرياضة من غير متابعة للسنة ولا علم ينبني العمل عليه كان ضالا غاويا ومن كان معه علم صحيح مطابق لما جاء الرسول صلى الله عليه و سلم بلا عمل به كان غاويا ومن كان معه عمل موافق للسنة بدون العلم المأمور به كان ضالا فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالا وإذا لم يعلم بعلمه أو عمل بغير علم كان ذلك فسادا ثانيا والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات والرياضات والمجاهدات ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغي ما ليس فيهم فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم
كما قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } [ الشعراء : 221 - 222 ]
والإنسان همام حارث فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه و سلم كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه و سلم
والأحوال نتائج الأعمال فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا وفي نفسه فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه يظنه من الله تعالى حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج كما سمعه موسى بن عمران ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم وهو يظنه من كرامات الأولياء وهذا باب واسع بسطه موضع آخر
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام ]
وكثيرا ما يرى الإنسان صورة اعتقاده فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال حتى أن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده وليس أحد من الخلق معصوما أن يقر على خطأ إلا الأنبياء فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه بحيث يصير بنفسه مدركا لصفات الرب وملائكته وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه ؟
وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية الذين يجعلون النبوة فيضا من العقل الفعال على نفس النبي ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء وعندهم هذا الكلام باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى
ومع هذا فإن هؤلاء لا يقولون : إن كل أحد يمكنه أن يدرك بالرياضة ما أدركه من هو أكمل منه فلا يتصور على هذا الأصل أن يدرك عامة الخلق ما أدركه النبي صلى الله عليه و سلم ولو فعلوا ما فعلوا فإن كان العلم بما أخبر به لا يعلم إلا بهذا الطريق لم يمكنه معرفته بحال
ثم من المعلوم أن هذا لو كان ممكنا لكان السابقون الأولون أحق الناس بهذا ومع هذا فما منهم من ادعى أنه أدرك بنفسه ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم
ومن المعلوم أن الله فضل بعض الرسل على بعض وفضل بعض النبيين على بعض
كما قال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [ البقرة : 253 ]
وقال : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 55 ] كما خص موسى بالتكليم فلا يمكن عامة الأنبياء والرسل أن يسمع كلام الله كما سمعه موسى ولا يمكن غير محمد أن يدرك بنفسه ما أراه الله محمدا صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج وغير ليلة المعراج
فإذا كان إدراك مثل ذلك لا يحصل للرسل والأنبياء فكيف يحصل لغيرهم
ولكن الذي قال هذا يظن أن تكلم الله لموسى من جنس الإلهامات التي تقع لآحاد الناس ولهذا ادعوا أن الواحد من هؤلاء قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران وله في كتاب مشكاة الأنوار من الكلام المبني على أصول هؤلاء المتفلسفة ما لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى ومن هناك مرق صاحب ( خلع النعلين ) وأمثاله من أهل الإلحاد كصاحب الفصوص ابن عربي الذي ادعى أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء جميعهم إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء
وتلك المعرفة عندهم هي كون الوجود واحدا لا يتميز فيه وجود الخالق عن وجود المخلوق وادعى أن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول وخاتم الأولياء وإن كان قد تكلم به أبو عبد الله الترمذي وغيره وتكلموا فيه بكلام باطل ا كره عليهم العلم والإسمان فلم يصلوا به إلى هذا الحد
ولكن هذا بناه ابن العربي وأمثاله من الملاحدة على أصول الفلاسفة الصائبة وهؤلاء أخذوا كلام الفلاسفة : أخرجوه في قالب المكاشفة والمشاهدة
والملك عند هؤلاء ما يتخيل في نفس النبي من الصورة الخيالية وهم يقولون إن للنبي ثلاثة خصاص : إحداها أن يكون له قوة قدسية ينال بها العلم بلا تعلم والثانية : أن تكون له قوة نفسانية يؤثر بها في هيولى العالم الثالثة : أن يرى ويسمع في نفسه بطريق التخيل ما يتمثل له من الحقائق فيجعلون ما يراه الأنبياء من الملائكة ويسمعونه منهم إنما وجوده في أنفسهم لا في الخارج
وخاتم الأولياء عندهم يأخذ المعقولات الصريحة التي لا تفتقر إلى تخيل ومن كان هذا قوله قال : إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء فإن الملك عنده الخيال الذي في نفس النبي وهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الخيال
هذا وأمثاله هو المكاشفة التي يرجع إليها من استغنى عن تلقي الأمور من جهة السمع وهؤلاء هم الذين سلكوا ما أشار إليه صاحب الإحياء وأمثاله ممن جرى في بعض الأمور على قانون الفلاسفة
وطريق هؤلاء المتفلسفة شر من طريق اليهود والنصارى وقد بسط الكلام على طريقهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هؤلاء مع إلحادهم وإعراضهم عن الرسول وتلقي الهدى من طريقه وعزله في المعنى هم متناقضون في قول مختلف أؤفك عنه من أفك فكل من أعرض عن الطريقة السلفية الشرعية الإلهية فإنه لا بد أن يضل ويتناقض ويبقى في الجهل المركب أو البسيط
وكان المقصود أولا بيان تناقض من أعرض عن الأدلة السمعية الشرعية في الأصول الخبرية كالصفات والنبوات والمعاد وأنه من سلك طريقا يتناول به علم هذه الأمور غير الطريقة الشرعية النبوية فإن قوله متناقض فاسد وليس له قانون مستقيم يعتمد عليه فكيف بمن عارضها بطريق تناقضها يعتمد فيه على آراء متناقضة يحسبها براهين عقلية ومشاهدات ومخاطبات ربانية ؟ وهي خيالات فاسدة وأوهام باطلة كما قال السهيلي : أعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي
وأما بيان فساد ذلك من جهة الرسل والإيمان بهم فنقول :

الوجه السابع والثلاثون
أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي صلى الله عليه و سلم ودين أمته المؤمنين به بطلان لوازم هذا القول وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم بل نعلم الاضطرار أن من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها : أن الرسول صلى الله عليه و سلم لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر : لا علم ولا هدى ولا كتاب منير فلا يستفاد منه علم بذلك ولا هدى يعرف به الحق من الباطل ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلغهم بلاغا بينا ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد
ومعلوم أن كثيرا من خطاب القرآن بل أكثره متعلق بهذه الباب فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدرا وصفة
فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفة ولم يبين لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها إلى مجرد رأيه وذوقه فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدق بمفهوم ذلك ومقتضاه وإلا أعرض عنه كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب - كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول
وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه و سلم سواء كان مؤمنا أو كافرا فإن كل من بلغته دعوة الرسول وعرف ما كان يدعوا إليه علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة
فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد كما سننبه عليه إن شاء الله

الوجه الثامن والثلاثون
قال : إذا كان الرسول صلى الله عليه و سلم ما بين للناس أصول إيمانهم ولا عرفهم علما يهتدون به في أعظم أمور الدين وأجل مقاصد الدعوة النبوية وأجل ما خلق الخلق له وأفضل ما أدركه الخلق وحصلوه وانتهوا إليه بل إنما بين لهم الأمور العملية فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من علمهم وبين لهم أشرف القسمين وأعظم النوعين كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح
وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها وإنما أئمتهم الكبار : القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد كابن سينا والفارابي وابن عربي وابن سبعين وأمثال هؤلاء
ثم من امثل هؤلاء كأئمة الجهمية : مثل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وأبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام وبشر المريسي وثمامة بن أشرس وأمثال هؤلاء فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة أفضل وأشرف مما أتى به موسى ابن عمران ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم وأمثالهما من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا أفضل العلم وأشرف المعرفة وإنما بينها أولئك على قول النفاة
ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله وقد صرح أئمة هؤلاء بهذا فابن عربي وأمثاله يقولون : إن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول
وابن سبعين يقول : إنه بين العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية فعلى قوله : إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه
وطائفة من المتفلسفة يقولون : إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم يقولون : إن أئمتهم كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين
ثم إن هذا كثر في طوائف من جهال البربر والأكراد والفرس والعرب يعتقدون في شيخهم أنه أفضل من النبي صلى الله عليه و سلم ومن شيوخه هؤلاء من يكون منافقا زنديقا
ومن قال في أئمة الإسماعيلية وأمثالهم من الشيوخ المنافقين والفاسقين : إنه أفضل من الرسل فإن هؤلاء شر من النصارى فإن النصارى يزعمون أن الحواريين وأمثالهم أفضل من إبراهيم الخليل وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء والحواريون كانوا مؤمنين فإذا كان من قال هذا من النصارى من أجهل الناس وأكفرهم فمن فضل ملحدا من الملاحدة على أنبياء الله ورسله كان كفره أعظم من كفر النصارى من هذا الوجه
بل هؤلاء قد يكونون شرا ممن يفضل من النصارى على إبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم كبولص وأمثاله الذين يقال : إنهم ابتدعوا للنصارى ما ابتدعوه من الضلالات وأضلوهم وأدخلوا في دين المسيح من دين المشركين والصائبين ومن الروم وأمثالهم ما أفسدوا به دين المسيح صلى الله عليه و سلم وجعلوا النصارى على الضلالات التي فارقوا بها دين المسيح حتى قال من قال من العلماء : إن النصارى صاروا على مذهب الروم المشركين لا أن الروم صاروا على دين النصارى فإن أولئك غيروا شريعة دين المسيح مستبدلين بها ما استبدلوه من شرائع المشركين وغايتهم أنهم ركبوا دينا من دين الفلاسفة والصائبين والمشركين ودين النصارى كما صانع ماني لما ركب دينا من دين المجوس ودين النصارى
فإذا كان هؤلاء من أجهل الناس وأكفرهم فمن جعل أئمة الملاحدة الباطنية أفضل من محمد وإبراهيم وموسى وعيسى كان أكثر من هؤلاء
وهؤلاء الملاحدة ركبوا مذهبا من دين المجوس ودين الصابئين ودين رافضة هذه الأمة فطافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فإنهم يبطنون من مناقضة الرسل وإبطال ما جاءوا به ما لم يبطنه أتباع بولص وأمثاله من النصارى
ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم فقد شاركهم في الأصل وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزما لا محيد عنه كما تقدم إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم وبيانهم وطريقهم التي بينوها وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته

الوجه التاسع والثلاثون
أن يقال : إن الرسل لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب ولو سكتوا عنه للزم تفضيل شيوخ النفاة وأئمتهم على الأنبياء كما تقدم فكيف إذا تكلموا فيه بما يفهم منه الخلق نقيض الحق على قول النفاة فإذا كان الحق هو قول النفاة ولم يتكلموا إلا بما يدل على نقيضه كانوا - مع أنهم لم يهدوا الخلق ويعلموهم الحق عند النفاة - قد لبسوا عليهم ودلسوا بل أضلوهم وجهلوهم وأخرجوهم إلى الجهل المركب وظلمات بعضها فوق بعض : إما من علم كانوا عليه وإما من جهل بسيط أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذين لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال إذ كانوا ما تكلموا به عارضوا به طرق العلم العقلية والكشفية
فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي ويضل ولا يهدي ويضر ولا ينفع ويفسد ولا يصلح ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى كما يوجد ف كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم خيرا من كلام الله وكلام رسله فلا يكون خير الكلام كلام الله ولا أصدق الحديث حديثه بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه وإن كانت نسبته إلى الله كذب ولكنه مما لا يفيد كقوله : الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا لجليل - عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله الذي وصف به نفسه ووصف به ملائكته واليوم الآخر وخيرا من كلام رسوله لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة فلا مضرة فيه ولا فساد بل يضحك المستمع - كما يضحك الناس - من أمثاله
وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم وأديانهم وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسله أو يشكوا ويرتابوا في الحق أو يكونوا - إذا عرفوا بعقلهم - تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه ومعاداة من يقر بذلك وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل
وإنما ذكرنا هذا لأن كثيرا من الجهمية النفاة يقولون : فائدة إنزال هذه النصوص المثبتة للصفات وأمثالها من الأمور الخيرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه فائدتها عندهم اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كد الاجتهاد وحتى تنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق ولا يدل على العلم ولا يفهم منه الهدى بل يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق وأنهم بسبب ذلك ينظرون نظرا يؤديهم إلى معرفة الحق من غير أن ينصب الرسول لهم على الحق دلالة ولا يبينه لهم بخطابه أصلا فمثال ذلك عندهم مثل من أرسل مع الحجاج أدلة يدلونها على طريق مكة وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير طريق مكة ليكون ذلك الخطاب سببا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا طريق مكة بنظرهم لا بأولئك الأدلاء وحينئذ يردون ما فهم من كلام الأدلاء ويجتهدون في نفي دلالته وإبطال مفهومه ومقتضاه
وإذا كان لأمر كذلك فمن المعلوم أن خلقا كثيرا لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون انهم أعلم بالطريق منهم وأن ولاة الأمور قد قلدوهم دلالة الحاج أو تعريفهم الطريق وإن درك ذلك عليهم فيتبعون الأدلاء
والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يقصدوا بكلامهم الدلالة والإفهام والإرشاد إلى سبيل الرشاد صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طريق مكة فأفضت بهم إلى أودية مهلكة ومفاوز متلفة وأرض متشعبة - فأهلكتهم
وطائفة أخرى شكوا وحاروا فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود ولا لطرق المخالفين للأدلاء ركبوا وسلكوا بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا أيضا في أمكنتهم جوعا وعطشا كما هلك أرباب الطرق المتشعبة فلم يظفروا بالمطلوب ولا نالوا المحبوب بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر
وآخرون اختصموا فيما بينهم فصار هؤلاء يقولون : الصواب فيما ذكره الأدلاء ونطق به هؤلاء الخبراء وآخرون يقولون : بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون : إنهم أخبر وأحذق وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق وآخرون حاروا مع من الصواب ووقفوا موقف الارتياب فاقتتل هؤلاء وهؤلاء وخذل الواقفون الحائرون لهؤلاء وهؤلاء ولكن فاتت باختلاف أولئك مصالح دينهم ودنياهم فهلك الحجيج وكثر الضجيج وعظم النشيج واضطربت السيوف وعظمت الحتوف وتزاحف الصفوف وحصل من الفتنة والشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد
فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل وأرشدهم إلى اتباع الدليل ؟ أم يكون مفسدا عليهم دينهم ودنياهم فاعلا بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم ؟ وإذا قال : إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم وكشوفهم ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم لينالوا بذلك أجر المجالدين وتنبعث هممهم إلى طريق المجالدين - هل يصدقه في ذلك عاقل ؟ أو يقبل عذره من عنده حاصل ؟
فهذا مثال ما يقوله النفاة في رسل الله الذين أرسلهم الله تعالى إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم سبيل الله ويدعوهم إليه كما قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } [ إبراهيم : 1 ] وقال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } [ الأحزاب : 45 - 46 ]
وقال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشورى : 52 - 53 ]
فجعل هؤلاء الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيل الله والاجتهاد في تكذيب رسل الله اجتهادا في تصديق رسل الله والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نور الله والحرص على أن لا تصدق كلمته ولا تقبل شهادته أو لا تفيد دلالته سعيا في أن تكون كلمة الله هي العليا والمبالغة في طريق أهل الإشراك بالله والتعطيل مبالغة في طريق أهل التوحيد السالكين سواء السبيل فقلبوا الحقائق وأفسدوا الطرائق وأضلوا الخلائق
وهذه المعاني وأمثالها - وأعظم منها - يعرفها كل من فهم لوازم أقوال هؤلاء المبدلين المعطلين وإن كان قد التبس كثير من كلامهم على من لا يعرف لا الحق ولا نقيضه بل صار حائرا حتى أنك تجد كثيرا ممن عنده علم وفقه وعبادة وزهد وحسن قصد وقد ضرب في العلم والدين بسهم وافر وهو لا يختار أن ينحاز عن المؤمنين بالله واليوم الآخر فيسمع كلام الله وكلام رسوله وأهل العلم والإيمان وكلام أهل الزندقة والإلحاد الذين سعوا في الأرض بالفساد فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا ويصدق الطائفتين أو يعرض عنهما فلا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء بمنزلة من سمع كلام محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه و سلم وكلام مسيلمة الكاذب الكافر ولم يفهم ما بينهما من التناقض والاختلاف فصار يصدق هذا وهذا ويقر كلا منهما على ما قاله ويسلم إليه حاله ويقول : هذا رسول الله وهذا رسوله
لكن هؤلاء لا يمكنهم التظاهر بين المسلمين بإظهار رسالة غير محمد صلى الله عليه و سلم ولكن يقولون ما هو بمعنى الرسالة أو أبلغ منها فيقولون : هذا كلام رسول الله وهذا كلام أولياء الله بل كلام خاتم الأولياء وهذا كلام العارفين المحققين وكلام العقلاء وأهل البراهين وكلام النظار المحققين ونحن نسلم هذا وهذا ففضلاؤهم الذين يفهمون التناقض هم في الباطن مع أعداء الرسول وإليهم أميل وهم عندهم أهل التحقيق والتبيين بحقيقة الطريق
وأما من لم يفهم التناقض فقد يكون الطائفتان عنده على السواء وقد يكون إلى أهل مسيلمة أميل لمعنى من المعاني وإلى أبي بكر الصديق وأمثاله أميل من وجه ثان وربما رجح هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه آخر
فهذا وأمثاله من الأمور الواقعة بسبب هذه الواقعة التي أصلها ترك الاستدلال بكلام الله ورسوله على الأمور العلمية والمطالب الخيرية والمعارف الإلهية

الوجه الأربعون
أن يقال : كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور بكلام عظم قدره وكبر أمره وذكر انه بين لهم به وعلم وهدى به وأفهم ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات ولا معرفة لتلك المطلوبات بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل وهي على غير العلم أدل - كان هذا : إما مفرطا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة فكيف إذا كان قد تكلم في الأمر الإلهية والحقائق الربانية التي هي أجل المطالب العالية وأعظم المقاصد السامية بكلام فضله على كل كلام ونسبه إلى خالق الأنام وجعل من خالفه شبيها بالأنعام وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغام وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علما في مثل هذه القضية بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجح إليه ذوو الإيقان فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال
فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله وأعظمهم هدى لخلق الله لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم الذي هو اعلم الخلق بالله وأنصح الخلق لعباد الله وأفصح الخلق في بيان هدى الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين
ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه فإما أن يكون قد أتي من علمه أو قصده أو عجزه فإنه قد يكون جاهلا بالحق وقد لا يكون جاهلا به بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم وإما أن يكون علمه تاما وقصده البيان لكنه عجز عن البيان والإفصاح لقصور عبادته وعجزه عن كمال البيان والإيضاح
فإن الفعل يتعذر لعدم العلم أو لعدم القدرة أو لعدم الإرادة فأما إذا كان الفاعل له مريدا له وهو قادر عليه وعالم بما يريده لزم حصول مطلوبه
ومن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه و سلم أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده وأمثال ذلك من الغيب وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم
كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ]
ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم يهتدوا حتى يسليه ربه ويعزيه كقوله تعالى : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } [ النحل : 37 ]
وقال تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ]
وقال تعالى : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] وقال تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } [ الأنعام : 35 ]
ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين فقال تعالى : { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } [ النور : 54 ]
وقال تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } [ المائدة : 92 ]
وقال تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ]
ومعلوم انه كان من افصح الناس وأحسنهم بيانا واللغة التي خاطب بها أتم اللغات وأكملها بيانا وقد امتن الله عليهم بذلك كما في قوله تعالى : { الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } [ يوسف : 1 - 2 ]
وقال تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } [ الزخرف : 3 ]
وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ] وقال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 193 - 195 ]
وقال تعالى : { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [ النحل : 103 ] وأمثال ذلك
فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه ويصفه ويخبر به وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم وتعليمهم وهداهم وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبنيا للعلم والهدى والحق فيما خاطب به وأخبر عنه وبينه ووصفه بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالا على العلم والحق والهدى وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام أحق الكلام بأن يكون جهلا وكذبا وباطلا
وهذا قوا جميع من آمن بالله ورسوله فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله ويطلبونه في كلام غيره من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم فكيف بمن يعارض كلامه بكلام الذين عارضوه وناقضوه ويقول أن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين المعارضين لكلام رسول رب العالمين دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة وبعث ه رسوله من العلم والرحمة

الوجه الحادي والأربعون
أن يقال : كل من سمع القرآن من مسلم وكافر علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن اتبعه دون من خالفه كما قال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة : 1 - 2 ]
وقال تعالى : { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 1 - 2 ]
وقال : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 123 - 127 ]
وقال تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } [ الأنعام : 155 ]
وقال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ]
وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ إبراهيم : [ 1 - 2 ]
وكذلك نعلم انه ذم من عارضه وخالفه وجادل بما يناقضه كقوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر : 4 ]
وقال تعالى : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } [ غافر : 56 ] وأمثال ذلك
وإذا كان كذلك فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن أخبر أن من صدق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى ومن أعرض عن ذلك كان جاهلا ضالا فكيف بمن عارض ذلك وناقضه
وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر كان عند من جاء بالقرآن جاهلا ضالا فكيف بمن قال بنقيض ذلك ؟
فلأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط وهؤلاء في الجهل المركب
ولهذا ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء ومثلا لهؤلاء فقال : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } [ النور : 39 ] فهذا مثل أهل الجهل المركب
وقال تعالى : { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } [ النور : 40 ] فهذا مثل أهل الجهل البسيط
ومن تمام ذلك أن يعرف أن للضلال تشابها في شيئين : أحدهما الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والثاني معارضته بما يناقضه فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة
فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أن غير ذلك فقد ناقضه وعارضه سواء اعتقد ذلك بقلبه أو قال بلسانه
وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة وهؤلاء من أهل الجهل المركب الذين أعمالهم كسراب بقيعة
ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه فهو من أهل الجهل البسيط وهؤلاء من أهل الظلمات
وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط فإن القلب إذا كان خاليا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به كان معرضا لأن يعتقد نقيضه ويصدق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق وإلى جهته تمتد الأعناق فالمهتدون فيه أئمة الهدى كإبراهيم الخليل وأهل بيته وأهل الكذب فيه أئمة الضلال كفرعون وقومه
وقال تعالى في أولئك : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [ الأنبياء : 73 ]
وقال تعالى في الآخرين : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون } [ القصص : 41 ]
فمن لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحا لأئمة الضلال
ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه تقصير من قصر في إظهار السنة والهدى مثل ما وقع في هذا الباب فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التكذيب والجحود في توحيد الله تعالى وصفاته كان من أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى الكتاب والسنة يريدون أن طريقة السلف والأئمة إنما هو الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبر معانيها وفقهها وعقلها
ومن هنا قال من قال من النفاة : ( إن طريقة الخلف أعلم وأحكم وطريقة السلف أسلم ) لأنه ظن أن طريقة الخلف فيها معرفة النفي الذي هو عنده الحق وفيها طلب التأويل لمعاني نصوص الإثبات فكان في هذه عندهم علم بمعقول وتأويل لمنقول ليس في الطريقة التي ظنها طريقة السلف وكان فيه أيضا رد على من يتمسك بمدلول النصوص وهذا عنده من إحكام تلك الطريق
ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص لتعارض الاحتمالات وهذا عنده أسلم لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معان فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة
فلو كان قد بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات وفهم ما دلت عليه وتدبره وعقله وإبطال طريقة النفاة وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول - علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوام وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به وفهم ذلك ومعرفته وأن ذلك هو الذي يدل عليه صريح المعقول ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعا وعقلا وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات فقد قال غير الحق : إما عمدا وإما خطأ كما أن من قال على الرسول : إنه لم يبعث بإثبات الصفات بل بعث بقول النفاة كان مفتريا عليه
وهؤلاء النفاة هم كذابون : إما عمدا وإما خطأ : على الله وعلى رسوله وعلى سلف الأمة وأئمتها كما أنهم كذابون : إما عمدا وإما خطأ : على عقول الناس وعلى ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية
والكذب قرين الشرك كما قرن بينهما في غير موضع كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين } [ الحج : 30 - 31 ]
وقال تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف : 152 ]
وقال تعالى : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ القصص : 74 - 75 ]
وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب } [ آل عمران : 7 ] حيث ظنوا أن المراد بالتأويل : صرف النصوص عن مقتضاها
وطائفة تقول إن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل وهؤلاء يجوزون مثل هذه التأويلات التي هي تأويلات الجهمية النفاة
ومنهم من يوجبها تارة ويجوزها تارة وقد يحرمونها على بعض الناس أو في بعض الأحوال لعارض حتى أن الملاحدة من المتفلسفة والمتصوفة وأمثالهم قد يحرمون التأويلات لا لأجل الإيمان والتصديق بمضمونها بل لعلمهم بأنه ليس لها قانون مستقيم وفي إظهارها إفساد الخلق فيرون الإمساك عن ذلك لمصلحة وإن كان حقا في نفسه
وهؤلاء قد يقولون : الرسل خاطبوا الخلق بما لا يدل على الحق لأن مصلحة الخلق لا تتم إلا بذلك بل لا تتم إلا بأن تخيلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجودا في الخارج لنوع من المصلحة كما يخيل للنائم والصبي والقليل العقل ما لا وجود له لنوع من المناسبة لما له في ذلك من المصلحة
وطائفة يقولون : هذا التأويل لا يعلمه إلا الله
ثم من هؤلاء من يقول : تجرى على ظواهرها ويتكلم في إبطال التأويلات بكل طريق
ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالف ظاهرها لم يحمل على ظاهره وما حمل على ظاهره لم يكن له تأويل يخالف ذلك فضلا عن أن يقال : يعلمه الله أو غيره
بل مثل هذا التأويل يقال فيه : كما قال تعال : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] فإن كان منتفيا لا وجود له لا يعلمه الله إلا منتفيا لا وجود له لا يعلمه ثابتا موجودا
وسبب هذا الاضطراب أن لفظ ( التأويل ) في عرف هؤلاء المتنازعين ليس معناه معنى التأويل في التنزيل بل ولا في عرف المتقدمين من مفسري القرآن فإن أولئك كان لفظ ( التأويل ) عندهم بمعنى التفسير ومثل هذا التأويل يعلمه من يعلم تفسير القرآن
ولهذا لما كان مجاهد إمام أهل التفسير وكان قد سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن كله وفسره له كان يقول : إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل أي التفسير المذكور
وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقولون : إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل ومرادهم به التفسير وهم يثبتون الصفات لا يقولون بتأويل الجهمية النفاة التي هي صرف النصوص عن مقتضاها ومدلولها ومعناها
وأما لفظ ( التأويل ) في التنزيل فمعناه : الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية
وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله ولهذا كان السلف يقولون : الاستواء معلوم والكيف مجهول فيثبتون العلم بالاستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقه ويقولون : الكيف مجهول وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو
وأما التأويل بمعنى : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح كتأويل من تأول : استوى بمعنى استولى ونحوه فهذا عند السلف والأئمة - باطل لا حقيقة له بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته
فلا يقال في مثل هذا التأويل : لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم بل يقال فيه : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية كتأويل من تأول الصلوات الخمس : بمعرفة أسرارهم والصيام بكتمان أسرارهم والحج : بزيارة شيوخهم والإمام المبين : بعلي بن أبي طالب وأئمة الكفر : بطلحة والزبير والشجرة الملعونة في القرآن : ببني أمية واللؤلؤ والمرجان : بالحسن والحسين والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين : بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والبقرة : بعائشة وفرعون : بالقلب والنجم والقمر والشمس : بالنفس والعقل ونحو ذلك
فهذه التأويلات من باب التحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه ومثل هذه لا تجعل حقا حتى يقال إن الله استأثر بعلمها بل هي باطل مثل شهادة الزور وكفر الكفار يعلم الله أنها باطل والله يعلم عباده بطلانها بالأسباب التي بها يعرف عباده : من نصب الأدلة وغيرها
وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى كما فهمه الصحابة والتابعون ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسول لكن على وجه النفاق والخداع
وهو حال الباطنية وأشباههم ممن يتظاهر بالإسلام واتباع القرآن والرسالة بل بموالاة أولياء الله تعالى من أهل بيت النبوة وغيرهم من الصالحين وهو في الباطن من أعظم الناس مناقضة للرسول فيما أخبر به وما أمر به لكنه يتكلم بألفاظ القرآن والحديث ويضم إلى ذلك من المكذوبات ما لا يحصيه إلا الله ثم يتأول ذلك من التأويلات بما يناسب ما أبطنه من الأمور المناقضة لخبر الله ورسوله وأمر الله ورسوله ويظهر تلك التأويلات لمستجيبيه بحسب ما يراه من قبولهم وموافقتهم له
مثل أن يروا أن العالم كله مفعول ومصنوع لشيء يسميه العقل الأول فجعله هو رب الكائنات ومبدع الأرض والسموات ولكنه لازم للواجب بنفسه ومعلول له وأنه يلزمه عقل ونفس وفلك ثم يلزم ذلك العقل عقل ونفس وفلك حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الذي أبدع بزعمه جميع ما تحت السماء من العناصر والحيوان والمعادن وغير ذلك وهو الذي يفيض عنه العلم والنبوة والرسالة وغير ذلك في أنفس العباد وعنه صدر القرآن والتوراة وغير ذلك
ثم يريد أن يوفق بين هذا وبين ما أخبرت به الرسل فيقول : هذه العقول هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وقد يقول عن هذا العقل الفعال : إنه جبريل الذي ما هو على الغيب بضنين أي ببخيل لأنه دائم الفيض بزعمه لكن يحصل الفيض بحسب استعداد القوابل
ومن المعلوم بالاضطرار لكل من تدبر ما أخبرت به الرسل من صفات الملائكة أن هذه العقول التي وصفها هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركون ليست هي الملائكة فإنا نعلم بالاضطرار أنهم لم يجعلوا ملكا واحدا أبدع جميع ما سوى الله تعالى ولا ملكا أبدع جميع ما تحت السماء ولا جعلوا الملائكة أربابا ولا آلهة
بل قد قال تعالى : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } [ آل عمران : 80 ]
وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] إلى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] ونحو ذلك من الآيات
فغاية الملك أن يكون شافعا عند الله ولا يشفع إلا من بعد إذنه
ومن المعلوم أن كفر هؤلاء أعظم من كفر النصارى فإن النصارى يقرون بإله خلق جميع المخلوقات لا يجعلون له معلولا خلق المخلوقات لكن يقولون : إنه اتحد بالمسيح
وأما هؤلاء فيثبتون عقولا لا حقيقة لها ثم يقولون إن كلا منها أبدع الآخر وسائر العالم
وتسميتهم للعقول بالملائكة باطل ثم يستدل من يجمع بين كلامهم وكلام الأنبياء بحديث موضوع نبه على وضعه أبو حاتم البستي والعقيلي والدارقطني والخطيب وابن الجوزي
وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : [ أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب ] ومع هذا فهو لفظه : لما خلق الله العقل فهذا اللفظ يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا يقتضي أنه أول المخلوقات بل هذا اللفظ يقتضي أنه خلق قبله غيره فإنه قال له : [ ما خلقت خلقا أكرم علي منك ]
وإيضا فإنه وصف بالإقبال والإدبار والعقل عندهم لا يقبل ولا يدبر
وإيضا فإنه قال : بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب وهؤلاء عندهم جميع الموجودات صادرة عنه : من العقول والأفلاك والأرض والحيوان والنبات ونحو ذلك
والأعراض من العلوم والإرادات فقول القائل : بك آخذ وبك أعطي إلى آخره يقتضي أن به هذه الأعراض الأربعة وعندهم جميع الكائنات هو مبدعها وهو ربهم الأعلى فمرتبته عندهم أجل مما وصف في هذا الحديث
فهؤلاء يتمسكون من السمعيات بمثل هذا الحديث المكذوب وهو لا يدل إلا على نقيض المطلوب : لا إسناد ولا متن ثم يفسرون هذه الأحاديث مقلوبا ويعبرون بتلك الألفاظ عن معان غير ما عناه الرسول صلى الله عليه و سلم كما يعبرون بلفظ ( الملك ) و ( الملكوت ) و ( الجبروت ) عن : الجسم والنفس والعقل
ولفظ الملك والملكوت والجبروت في كلام الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الاله عليه وسلم لا يراد به ذلك
وكذلك يعبرون بلفظ ( الملائكة والشياطين ) عن : قوى النفس المحمودة والمذمومة وبالضرورة من الدين أن الرسل أرادوا بالملائكة والشياطين أعيانا قائمة بأنفسها متميزين لا مجرد أعراض قائمة بنفس الإنسان كالقوة الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة وقوة الشهوة والغضب وإن كان قد يسمى بعض الإعراض باسم صاحبه

الوجه الثاني والأربعون
أن يقال إن هؤلاء متناقضون تناقضا بينا فإنهم جعلوا المعلومات ثلاثة أقسام : ما لا يعلم إلا بالعقل وما لا يعلم إلا بالسمع وما يعلم بكل منهما وجعلوا من المعلومات التي لا تعلم إلا بالسمع الإخبار عما يمكن وجوده وعدمه
ومعلوم أن ما ذكروه ينفي أن يكون الدليل السمعي حجة في هذا القسم أيضا وذلك لأن الشيء الذي يمكن وجوده وعدمه إذ دل الدليل السمعي على أحد طرفيه وجوزنا أن لا يكون مدلول الدليل السمعي ثابتا أمكن هنا أيضا أن لا يكون ذلك المدلول المخبر به ثابتا في نفس الأمر وأن يكون الشارع لم يرد ما دل عليه قوله ولا يحتاج ذلك إلى تجويز قيام دليل عقلي يعارض ذلك فإن المعارض الدال على أن مدلول الدليل السمعي غير ثابت أو أن الشارع لم يرد بكلامه ما دل عليه إذا قدر عدمه لم يلزم انتفاء مدلوله فإن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل العقلي النافي لموجب الدليل السمعي عدم مدلوله إذا جوزنا أن يكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر فإن كما لا يلزم من عدم علمنا عدم الدليل لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه
وحينئذ فلا يستدل بالسمع على ما لا مجال للعقل فيه من الأمور الأخروية وهذا نهاية الإلحاد
فإن اعتذروا من ذلك بأن الشارع لا يجوز أن يريد بكلامه ما يخالف ظاهره إلا أن يكون في العقل ما يدل على ذلك
قيل : جوابكم عن هذا كجوابكم للمعتزلة لما قالوا : لا يجوز أن يسمعه الخطاب الذي أراد به خلاف ظاهره إلا إذا أخطر بباله العقلي المعارض
فلما قلتم له : هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وأيضا فالتفريط من المكلف كما تقدم إيراده
فيقال لكم هنا كذلك : هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وأيضا فالتفريط من المكلف لأنه لما اعتقد في الأدلة السمعية أنها تفيد اليقين وهي لا تفيد اليقين كان مفرطا فكان جزمه بمدلول خبر الشارع مطلقا تفريط منه مع تجويزه أن يريد بخطابه خلاف ظاهره
فإن سلكوا طريقة أخرى : وهو أنه لا يحتج بالسمع على شيء من المسائل العلمية وقالوا : المعاد ونحوه معلوم بالضرورة من دين الرسول صلى الله عليه و سلم كما علم وجوب الصلاة وأجابوا به ابن سينا وكان هذا أيضا جوابا لأهل الإثبات فإن إثبات الأسماء والصفات والأفعال معلوم بالضرورة بل وإثبات لعلو أيضا
ومنشأ الضلال قوله : ( لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما دل عليه الدليل السمعي ) وإثبات هذا التقدير هو الذي أوقعكم في هذه المحاذير فكان ينبغي لكم أن تعلموا أن هذا التقدير يجب نفيه قطعا وأنه يمتنع أن يقوم دليل قاطع عقلي مخالف للدليل السمعي
ثم هؤلاء يحكمون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن فيحكون ذلك عن الأئمة : كأبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد في المحافل
فإذا قيل لأحدهم في الخلوة : أنت حكيت أن هذا قول هؤلاء الأئمة : فمن نقل ذلك عنهم ؟ قال هذا : العقلاء والأئمة لا يخالفون العقلاء فيحكون أقوال السلف والأئمة لاعتقادهم أن العقل دل على ذلك
ومن المعلوم أنه لو كان العقل يدل على ذلك باتفاق العقلاء لم يجز أن يحكى عن الإنسان قول لم ينقله عنه أحد ولهذا كان أهل الحديث يتحرون الصدق حتى أن كثيرا من الكلام الذي هو في نفسه صدق وحق موافق للكتاب والسنة يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم فيضعفونه أو يقولون : هو كذب عليه لكونه لم يقله أو لم يثبت عنه وإن كان معناه حقا
ولكن أهل البدع أصل كلامهم الكذب : إما عمدا وإما بطريق الابتداع ولهذا يقرن الله بين الكذب والشرك في غير موضع من كتابه كقوله تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف : 152 ] وقوله تعالى : { واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به } [ الحج : 30 - 31 ]
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ عدلت شهادة الزور والإشراك مرتين أو ثلاثا ]
وقال تعالى : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ القصص : 74 - 75 ]
وهذا كحكاية الرازي وإجماع المعتبرين على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أحد أن ينقل عن نبي من أنبياء الله تعالى ولا من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة ولا أعيان أئمتها وشيوخها إلا ما يناقض هذا القول ولا يمكنه أن يحكي هذا عمن له في الأمة لسان صدق أصلا
وكما تقول طائفة - كأبي المعالي وغيره : اتفق المسلمون على أن الاجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادا فكل جزء لا يتجزأ وليس له طرف واحد
ومعلوم أن هذا القول لم يقله إلا طائفة من أهل الكلام لم يقله أحد من السلف والأئمة وأكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية على خلاف ذلك

الوجه الثالث والأربعون
أن يقال : المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا : إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني وقد تناقضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقوله ولكن نهاية ما يقولونه : إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين وإن ما ناقضها من الأدلة السمعية الشرعية ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة التي يدعون أنها براهين قطعية
ولهذا كان لازم قولهم والإلحاد والنفاق والإعراض عما جاء به الرسول والإقبال على ما يناقض ذلك كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل كما قال : { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } [ غافر : 5 ]
وقوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [ غافر : 4 ]
وقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [ الأنعام : 112 - 113 ] وأمثال ذلك وهذا باب واسع في كتاب الله
ومقصودنا تنبيه المؤمنين على حال مثل هؤلاء الكفار في كتاب الله وإلا فالمقصود هنا دفعهم عن الرسل ومن جاهد الكفار والمنافقين لم يحتج عليهم بأقوال من كذبوه من المرسلين ولكن المؤمن بالرسل يستفيد بهذا : أن جنس هؤلاء هم المكذبون للرسل
وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك :
الأول : أن نبين فساد ما ادعوه معارضا للرسول صلى الله عليه و سلم من عقلياتهم
الثاني : أن نبين أن ما جاء به الرسول معلوم بالضرورة من دينه أو معلوم بالأدلة اليقينية وحينئذ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول
الثالث : أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه إما بأن ذلك معلوم بضرورة العقل وإما بأنه معلوم بنظره وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقا سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول وبأنه أخبر بذلك أو لم يكن كذلك فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا
وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم والذين قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو لله ونحوها فإن النصوص التي في الكتاب والسنة بإثبات علو الله على خلقه كثيرة منتشرة قد بهرتهم بكثرتها وقوتها ولي سمعهم في نفي ذلك لا آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا قول أحد من سلف الأمة إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب كحديث عوسجة وأمثاله وإما أن يحتجوا بما يعلم أنه لا دلالة له على مطلوبهم كاستدلالهم بأنه أحد والأحد لا يكون فوق العرش لأنه لو كان فوق العرش لم يكن أحدا بناء على أن ما فوق العرش يكون جسما والجسم منقسم فلا يكون أحدا والأجسام متماثلة فيكون له كفو ونظير
وقد بين فساد مثل هذه الأدلة السمعية بوجوه كثيرة في غير هذا الموضع وبينا أن اسم الواحد والأحد لا يقع في لغة العرب إلا على نقيض مطلوبهم كقوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة : 6 ] وقوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ المدثر : 11 ] وقوله : { وإن كانت واحدة فلها النصف } [ النساء : 11 ] وقوله : { يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة : 266 ] وقوله : { فابعثوا أحدكم بورقكم } [ الكهف : 19 ] وقوله : { ولا يشعرن بكم أحدا } [ الكهف : 19 ] وقوله : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 185 ] وقوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } [ المائدة : 106 ] وقوله : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 4 ] وقوله : { قل إني لن يجيرني من الله أحد } [ الجن : 22 ] وقوله : { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف : 110 ] وأمثال ذلك كثير وأن لفظ المثل والمساوي منتفيان في لغة العرب عما ادعوا هم تماثلهما وتساويهما
كقوله تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] فقد نفى التماثل عن صنفين من بنى آدم فنفي التماثل عن الحيوان والإنسان والفلك والتراب أولى
فعلم أنه ليست في لغة العرب أن يكون كل ما كان متحيزا مماثلا لكل ما هو متحيز وإن ادعى بعض المتكلمين تماثل ذلك عقلا فالمقصود أن هذا ليس مثلا في اللغة
والقرآن نزل بلغة العرب فلا يجوز حمله على اصطلاح حادث ليس من لغتهم لو كان معناه صحيحا فكيف إذا كان باطلا في العقل
وقوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير } [ فاطر : 19 ] { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [ فاطر : 22 ] وقوله : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] وعقلاؤهم يعلمون فساد ما يستدلون به من الأدلة الشرعية وكلهم يعترف بأن مثل هذه الأدلة لا تعارض ما في القرآن من إثبات العلو والفوقية ونحو ذلك
ولهذا لم يكن معهم على نفي ذلك أصل يعتصمون منه من جهة الرسول صلى الله عليه و سلم وإنما يتمسكون بما يظنونه من العقليات فيحتاجون إلى بيان تقديم ذلك على الأدلة الشرعية
وإذا كان كذلك فنحن نبين أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية لا معارضة لها ونذكر ما ذكروه هم في ذلك ليكون أبلغ في الحجة

كلام الرازي عن الجهة والمكان
قالوا : وهذا لباب ما ذكره الرازي في ( الأربعين ) قال : ( إنه تعالى ليس من جهة ولا مكان ) قال : ( وادعى كثير من المخالفين العلم البديهي بأن موجودين لا بد من كون أحدهما ساريا في الآخر كالعرض والجوهر أو مباينا عنه في الجهة كالجوهرين )
قال : وهذا باطل لوجوه
أحدهما : لو كان بديهيا لامتنع إطباق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية
الثاني : أن مسمى الإنسان مشترك بين الأشخاص ذوات الأحياز المختلفة والمقادير المختلفة فهو من حيث هو ممتنع أن يكون له قدر معين وحيز معين وإلا لم يكن مشتركا فيه بين كل الأشخاص فإن قلت : فالإنسان من حيث هو إنسان لا وجود له إلا في العقل والكلام في الموجودات الخارجية قلت : الغرض : منه أنه لا يمتنع تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية
الثالث : أن الخيال والوهم لا يمكننا أن نستحضر لنفسيهما صورة ولا شكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى
الرابع : أن العقل يتصور النفي والإثبات ثم يحكم بتناقضهما مع أنه لا يحكم بكون أحدهما ساريا على الآخر أو مباينا عنه في الجهة أو لا ساريا ولا مباينا ثم أنا نجد العقل يتوقف عن القسم الثالث إلا لبرهان يثبته أو ينفيه وأن العقل يدرك ماهيات مراتب الأعداد مع أنه لا يمكنه أن يحكم على أحد منها بأن موضوعها كذا ومقدارها كذا
إذا عرفت ذلك فنقول : المعني من اختصاص الشيء بالجهة والمكان : أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى فإن الباري كذلك كان مماسا للعالم أو محاذيا له قطعا
ثم قالت الكرامية : إنه تعالى مختص بجهة فوق مماسا للعرش أو مباينا عنه ببعد متناه وهو قول اكثر طوائفهم وإما مباينا عنه ببعد غير متناه وهو قول الهيصمية وهذا لا يعقل مع إثبات الجهة لأنه إذا كان في جانب والعالم في جانب كان البعد بينهما محصورا فهذا ما ذكروه

تعليق ابن تيمية
فيقال : قد ذكرتم عمن ذكرتموه من منازعيكم أنهم ادعوا العلم البديهي ببطلان قولكم وصحة نقيضه حيث جوزتم وجود موجود لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك وأنه يجوز وجود موجودين ليس أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا عنه بالجهة
فقال هؤلاء المنازعون : نحن نعلم بالبديهة بطلان هذا فاحتجتم إلى مقامين
أحدهما : أن تبينوا أن بطلان هذا ليس معلوما بالبديهة وإلا فإذا كان بطلان القول معلوما بالبديهة لم يمكن إقامة الدليل على صحته لأن النظريات لا تعارض الضروريات بل ما عارضها كان من باب السفسطة
والمقام الثاني : بيان ثبوت ذلك فإنه لا يلزم من عدم العلم بامتناعه أو العلم بإمكانه ثبوت ذلك في الخارج
وإذا ثبت هذان المقامان لكم فإما أن يمكن مع ذلك القول بمقتضى النصوص من أن الله فوق العرش أو لا يمكن فإن أمكن ذلك لم يكن بين ما ذكرتموه من المعقولات وبين النصوص الإلهية تعارض وإن لم يمكن ذلك ثبت التعارض بينهما فقد تبين أن ثبوت التعارض مبني على هذه المقدمات الثلاث فإن لم تثبت الثلاث بطل كلامكم فكيف إذا تبين بطلان واحدة منها فكيف إذا تبين بطلانها كلها
وبيان ذلك في كل مقام

المقام الأول
أما المقام الأول : فإن المثبتين قالوا : إنهم يعلمون بالبديهة امتناع وجود موجودين لا يكون أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا له بالجهة وانه لا يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه بل قد يقولون : إن علمتم بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري وأن الخلق كلهم إذا حزبهم شدة أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه ويسألونه وأن هذا أمر متفق عليه بين الأمم التي لم تغير فطرتها لم يحصل بينهم بتواطئ واتفاق ولهذا يوجد هذا في فطرة الأعراب والعجائز والصبيان من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين ومن لم يقرأ كتابا ولم يتلق مثل هذا عن معلم ولا أستاذ وهذا القدر ما زال يذكره المصنفون في هذا الباب من أهل الكلام والحديث وغيرهم
قالوا : وإذا كان مما يجيز هؤلاء الذين لم يتواطئوا بثبوته عندهم كانوا صادقين فإنه يمتنع على الجمع الكثير الكذب من غير تواطئ وبمثل هذا علم ثبوت ما يخبر به أهل التواتر مما يعلم بالحس والضرورة فإن المخبر إذا لم يكن خبره مطابقا فإما أن يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وتعمد الكذب يمتنع في العادة على الجمع الكثير من غير تواطئ والخطأ على الجمع الكثير ممتنع في الأمور الحسية والضرورية قالوا : وهذا بخلاف إثبات موجودين ليس أحدهما داخلا في الآخر ولا خارجا عنه فإن هذا لا تقوله إلا طائفة يذكرون أنهم علموا ذلك بالنظر لا بالضرورة وقد تلقاه بعضهم عن بعض فهو قول تواطئوا عليه ولهذا لا يقول ذلك من لم ينظر في كلام النفاة
وإما الإقرار بعلو الله تعالى : ورفع الأيدي إليه فهو مما اتفقت عليه الأمم الذين يقولون ذلك ويفعلونه من غير اتفاق ولا مواطأة
وحينئذ فالجمع الكثير : إما أن يجوز عليهم الاتفاق على مخالفة البديهيات وإما أن لا يجوز فإن لم يجز ذلك عليهم ثبت أن هذه المقدمة بديهة لأنه اتفق عليها أمم كثيرة بدون التواطؤ وإن جاز ذلك عليهم بطل احتجاجهم على أن هذه المقدمة ليست بديهية فإن الجمع الكثير أنكروها وإذا بطلت حجتهم على أنها ليست بديهية بقي أحد المتناظرين يقول : إن مقدمته معلومه له بالبديهة والآخر لا يمكنه إبطال قوله فلا تكون له حجة عقلية على بطلان قوله وهو المطلوب
فكيف والنفاة لا يدعون بديهيات فطرية ولا سمعيات شرعية وإنما يدعون نظريات عقلية والمثبتون يقولون : معنا نظريات عقلية مع البديهيات الفطرية ومع السمعيات اليقينية الشرعية النبوية
وأيضا فيقال : إذا قال المنازعون المثبتون : إن قولنا معلوم بالبديهة لم يمكن أن يناظر بقضية نظرية لأنه لا يمكن القدح بالنظريات في الضروريات كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة ولا يقبل مجرد قوله على منازعه بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة التي لم تتغير فطرتهم بالاعتقادات الموروثة والأهواء
ومن المعلوم أن هذه المقدمة مستقرة في فطر جميع الناس الذين لم يحصل لهم ما يغير فطرتهم من ظن أو هوى
والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت الفطرة لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات
قالوا : ويتبين خطأ الوهم والخيال في ذلك بأن يسلم للعقل مقدمات تستلزم نقيض حكمه مثل أن يسلم للعقل مقدمات تستلزم ثبوت موجود ليس بجسم ولا في جهة فيعلم حينئذ أن حكمه الأول باطل
والمثبتون يقولون : هذا كلام باطل لوجوه :
أحدها : أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهيان أحدهما مقبول والآخر مردود كان هذا قدحا في مبادئ العلوم كلها وحينئذ لا يوثق بحكم البديهية
الثاني : أنه إذا جوز ذلك فالتمييز بين النوعين : إما أن يكون بقضايا بديهية أو نظرية مبنية على البديهية وكلاهما باطل فإنا إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى وما هو كاذب مقبول التمييز حتى يعلم أنها من القسم الصحيح وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى فيفضي إلى التسلسل الباطل أو ينتهي الأمر إلى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز فلا يبقى طريق يعلم به الحق من الباطل وذلك يقدح في التمييز والنظريات موقوفة على البديهيات فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة : فيها حق وباطل كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل وهذا جامع كل سفسطة
وبتقدير ثبوت السفسطة لا تكون لنا عقليات يثبت بها شيء فضلا عن أن تعارض الشرعيات
الثالث : أن قول القائل : إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود تمتنع الإشارة الحسية إليه ممنوع
الرابع : أنه بتقدير التسليم بكون المقدمة جدلية فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة لم ينتفع العقل بتلك القضية إلا أن تكون معلومة له بالبديهة الصحيحة فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية
الخامس : أن قول القائل : إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون : ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك
فإذا قيل لهم : حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها
قالوا : إبطال لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال موقوف على ثبوت هذه العقليات وثبوتها موقوف على إبطال هذا الحكم وإذا لم يثبت هذا إلا بعد هذا ولا هذا بعد هذا كان هذا من الدور الممتنع
السادس : أن يقال : إن أردتم بالعقليات ما يقوم القلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها فليس الكلام هنا في هذه ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها فلم قلتم : إن هذا موجود فالنزاع في هذا ونحن نقول : إن بطلان هذا معلوم بالبديهية
السابع : أن يقال : الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقا وما كان مخالفا فأما المطابق مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه ونحو ذلك فهذا الوهم والخيال حق وقضاياه صادقة وأما غير المطابق : فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه والأمر بالعكس والله لا يحب كل مختال فخور فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه وأمثال ذلك
قالوا : وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم : إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل ونحن نقول : إنه من حكم الوهم والخيال المطابق
فإذا قلتم : إن العقل دل على أنه باطل كان الشأن في المقدمات التي ينبني عليها ذلك وتلك المقدمات أضعف في الفطرة من هذه المقدمات فكيف يدفع الأقوى بالأضعف
الثامن : أن المثبتين قالوا : بل المقدمات المعارضة لهذا الحكم هي من الوهم والخيال الباطل مثل إثبات الكليات في الخارج وتصور النفي والإثبات المطلقين ثابتين في الخارج وتصور الأعداد المجردة ثابتة في الخارج فإن هذه المتصورات كلها لا تكون إلا في الذهن ومن اعتقد أنها ثابتة في الخارج فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له وجعل هذا التوهم والخيال الباطل مقدمة في دفع القضايا البديهية
التاسع : أن يقال : لا نسلم أن في الفطرة قضايا تستلزم نتائج تناقض ما حكمت به أو لا كما يدعونه فإن هذا مبني على أن المقدمات المستلزمة ما يناقض الحكم الأول مقدمات صحيحة وليس الأمر كذلك كما سنبينه إن شاء الله تعالى فإن هذه المقدمات هي النافية لعلو الله على خلقه ومباينته لعباده والمقدمات المستلزمة لهذا ليست مسلمة فضلا عن أن تكون بديهية
الوجه العاشر : أن الذين جعلوا هذه القضايا من حكم الوهم الباطل هم طائفة من نفاة الصفات الجهمية من المتكلمين والمتفلسفة ومن تلقى ذلك عنهم وهذا معروف في كتب ابن سينا ومن اتبعه من أهل المنطق
وكثير من أهل المنطق كابن رشد الحفيد وغيره يخاف ابن سينا فيما ذكره في هذا الباب من الإلهيات والمنطقيات ويذكر أن مذهب الفلاسفة المتقدمين بخلاف ما ذكروه وأما الأساطين قبله فالنقل عنهم مشهور بخلافهم في هذا الباب

كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات
والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوا من ابن سينا ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد فإنه قال في ( إشارته ) التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة - لما ذكر مواد القياس وتكلم عن القضايا من جهة ما يصدق بها وذكر أن : أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة : مسلمات ومظنونات وما معها ومشتبهات بغيرها ومتخيلات
قلت : المتخيلات هي مواد القياس الشعري والمشتبهات هي مواد السوفسطائي وما قبل ذلك هو مواد البرهان والخطابي والجدلي
قال : والمسلمات : إما معتقدات وإما مأخوذات والمعتقدات أصنافها ثلاثة : الواجب قبولها والمشهورات والوهميات والواجب قبولها : أوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا أقيستها معها
وتكلم عن القضايا الواجب قبولها بما ليس هذه موضعه وقد بسط الكلام فيما في منطقهم اليوناني من الفساد - مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات اللازمة للماهية ودعواهم أن الحد الحقيقي يفيد تعريف الماهية وأن الحقائق مركبة من الأجناس والفصول وكلامهم في الكليات الخمسة وما ذكروه في مواد البرهان ودعواهم أن التصورات المكتسبة لا تنال إلا بحدهم والتصديقات المكتسبة لا تحصل إلا بمثل قياسهم وغير ذلك مما ليس هذا موضعه
والمقصود هنا أنه قال : ( وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها بسبب أن الوهم تابع للحس فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه وهذا الصنف من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها وهي إحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات مثل اعتقاد المعتمد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى وانه لا بد في كل موجود أن يكون مشارا إلى جهة وجوده
وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها لكانت تكون مشهورة وإنما يثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك لشدة استيلاء الوهم على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر بل إنه باطل شنع بل تكاد أن تكون الأوليات والوهميات التي لا تزاحم من غيرها مشهورة ولا تنعكس )
قلت : وقد ذكر في غير هذا الموضع شرح أقوى الدراكة وذكر القوى التي تتخيل بها المحسوسات والتي تحفظ بها وسمى الأولى على اصطلاحهم ( الحس المشترك ) والثانية ( الخيال )
قال : وأيضا فالحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس : إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها وأيضا فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصور ) وهذه هي الذاكرة
قال : ( وتجد قوة أخرى لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم وتركب أيضا الصور بالمعاني وتفصلها عنها وتسمى عند استعمال العقل مفكرة وعند استعمال الوهم متخيلة وكأنها قوة ما للوهم وبتوسط الوهم للعقل )
قلت : والمقصود أن يعرف اصطلاحهم ومرادهم بلفظ الخيال والوهم ونحو ذلك وأن الخيال هو تصور الأعيان المحسوسة في الباطن والوهم تصور المعاني التي ليست محسوسة في تلك الأعيان كلاهما تصور معين جزئي والعقل هو الحكم العام الكلي الذي لا يختص بعين معينة ولا معنى معين
وإذا عرف ذلك فيقال : هذه القوة في الباطن بمنزلة القوة الحسية في الظاهر والقدح فيها كالقدح في الحسيات وهذه القوة لا يجوز أن يناقض تصورها للمعقول كما لا يناقض سائر القوى الحسية للمعقول لأن المعقولات أمور كلية تتناول هذا المعين وهذا المعين سواء كان جوهرا قائما بنفسه أو معنى في الجوهر والحس الباطن والظاهر لا يتصور إلا أمورا معينة فلا منافاة بينهما فالحس الظاهر يدرك الأعيان المشاهدة وما قام بها من المعاني الظاهرة كالألوان والحركات والذي سموه الوهم جعلوه يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي لا تدرك بالحس الظاهر كالصداقة والعداوة ونحو ذلك والتخيل هو بمثل تلك المحسوسات في الباطن ولهذا جعلوا الإدراكات ثلاثة : الحس والتخيل والعقل
قال ابن سينا : ( والشيء يكون محسوسا عندما يشاهد ثم يكون متخيلا عند غيبته بتمثل صورته في الباطن كزيد الذي أبصرته مثلا إذا غاب عنك فتخيلته وقد يكون معقولا عندما يتصور من زيد مثلا معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره وهو عندما يكون محسوسا تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته مثل : أين ووضع وكيف ومقدار بعينه لو توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته ولذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته إذا زال وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي يتعلق بها الحس فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها وأما العقل فيقتدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتا إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية ومن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته فهو معقول لذاته ليس يحتاج إلى عمل يعمل به يعده لأن العقل ما من شانه أن يعقله بل لعله في جانب ما من شانه أن يعقله )
قلت : هذا الكلام هو من أصول أقوالهم ومنه وقعوا في الاشتباه والالتباس حتى صاروا في ضلال عظيم

الرد المفصل على كلام ابن سينا
فإنه يقال : قوله : ( وقد يكون معقولا عندما يتصور من زيد مثلا معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره )
أتعني به أن ذلك الإنسان المعقول الذي يكون لهذا وهذا وهو شيء ثابت في الخارج هو بعينه لهذا المعين ولهذا المعين مغاير للإنسان المعين ولصفاته القائمة به ؟ أم تعني به الإنسان المعقول الكلي الثابت في العقل الذي يتناول المعينات تناول اللفظ العام لمفرداته ؟
فإن أردت الأول فهذا باطل لا حقيقة له ونحن نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من الإنسان المعين الآخر بل كل منهما مختص بذاته وصفاته ولم يشتركا في شيء ثابت في الخارج أصلا ولهذا يكون أحدهما موجودا مع عدم الآخر وبالعكس ويموت أحدهما مع حياة الآخر وبالعكس ويتألم أحدهما مع لذة الآخر وبالعكس

كلام الرازي في شرح الإشارات
ولهذا قال الشارحون لكلامه كالرازي : ( إن الشخص المعين إما أن يدرك بحيث يمنع نفس إدراكه من الشركة وإما أن لا يكون كذلك
والأول لا يخلو : إما أن يتوقف حصول ذلك الإدراك على وجود ذلك المدرك في الخارج أو لا يتوقف
فهذه أقسام ثلاثة : أولها الإدراك الذي يجتمع فيه الأمران وهو أن يكون مانعا من الشركة ويكون متوقفا على وجود المدرك في الخارج وهذا هو إدراك الحس فإني إذا أبصرت زيدا فالمبصر يمنع لذاته من أن يكون مشتركا فيه بين كثيرين وهذا الإبصار لا يحصل إلا عند حصول المدرك في الخارج
وثانيها : أن يحصل فيه أحد الموضعين دون الآخر فيكون مانعا من الشركة ولكنه لا يتوقف على الوجود الخارجي وهو التخيل فإني إذا شاهدت زيدا ثم غاب فإني أتخيله على ما هو عليه من الشخصية فنفس ما تخيلته يمنع من الشركة وأما هذا الإدراك فإنه لا يتوقف على وجود المدرك في الخارج فإني يمكنني أن أتخيله بعد عدمه
وثالثهما : أن يخلو عن الموضعين جميعا فلا يكون مانعا من الشركة ولا موقوفا على وجود المدرك في الخارج وهو المسمى بالإدراك العقلي )

تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا
قلت : فقد بينوا أن الإدراك العقلي هو ما لا يمنع الشركة ولا يشترط فيه وجود المدرك من خارج ومعلوم أن هذا هو إدراك الكليات الثابتة في العقل وإذا كان كذلك فقوله : ( وهو عندما يكون محسوسا تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته ) كلام يستلزم أن يكون في الخارج شيئان : أحدهما : ماهية مجردة عن المحسوسات والثاني : محسوسات غشيت تلك الماهية المجردة المعقولة الثابتة في الخارج وهذا باطل يعلم بطلانه بالضرورة من تصور ما يقول
فإنه إن كان المعقول المجرد لا يكون إلا في النفس فكيف يكون في الخارج معقول مجرد تقارنه المعينات المحسوسة واحدا بعد واحد أو تقارنه تارة وتفارقه تارة أخرى ؟ وقوله : ( مثل أين ووضع وكيف ومقدار بعينه لو توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته )
يقال له : نعم إذا تصورنا بدل المعنى غيره لم يؤثر فيما في النفس من الإنسان المعقول الكلي المجرد فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين كما لا يؤثر ذلك في لفظ الإنسان المطلق فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين فشمول اللفظ ومعناه الذي هو في الذهن سواء لكن ذلك المعين إذا توهمنا بدله غيره لم يكن في ذلك البدل من هذا المعين أصلا بل كان البدل نظيره وشبيهه ومثله فإما أن يكون هو إياه أو يكون في الخارج حقيقة معينة في هذا المعين هي نفسها حقيقة ثابتة في هذا المعين فهذا هو محل الغلط
ويقال لمن ظن هذا : لما خلق الله هذا المعين كانت تلك الحقيقة موجودة قبله أو حدثت معه
فإن حدثت معه فهي معينة لا مطلقة كلية لأن الكلي لا يتوقف على وجود هذا المعين وإن كانت موجودة قبله فإن كانت مجردة من الأعيان لم يحتج فيها إلى شيء من المعينات وإلا فالقول في مقارنتها لذلك المعين كالقول في هذا
وأيضا فإنه يقال : هل انتقلت من غيره وقارنته ؟ أو قامت به وغيره ؟ فإن انتقلت من غيره فارقت ذلك المعين فثبت أن المعين لا يحتاج إلى مطلق يقارنه وإن قامت به وبغيره فإما أن يكون جوهرا أو عرضا فإن كانت عرضا فالعرض الواحد لا يكون في محلين وإن كانت جوهرا فالجوهر الواحد لا يكون في محلين
فإن قال : هذا في الجواهر المحسوسة وأما الجواهر المعقولة فقد تقدم بمحلين
قيل : إن أردت بالجواهر المعقولة ما في القلوب فتلك أعراض لا جواهر وإن أردت هذه الكليات التي تدعي وجودها في الخارج فتلك لا محل لها عندك فضلا عن أن تقوم بمحلين
وهذا أيضا مما يناقض قولهم : إن المطلق جزء من المعين فكيف يكون ما لا يتخصص بحيز ولا مكان ولا جزءا مما يتخصص بحيز ومكان
وإذا قال القائل : المعقول الذي لا حيز له ولا مكان ولا جهة ولا يشار إليه جزء وبعض وداخل في هذا الجسم المتحيز الذي له مكان وجهة وحيز - لعلم كل عاقل فساد ما يقول وهذا حقيقة قول هؤلاء
وأيضا فتلك الحقيقة المجردة المطلقة إذا كانت كلية والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكانت جزءا من المعين - كان في كل معين كليات كثيرة لا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فيكون في كل إنسان معين حيوان كلي وناطق كلي وإنسان كلي وجسم كلي وحساس كلي وقائم بنفسه كلي وجوهر كلي وموجود كلي ومخلوق كلي وآكل كلي وشارب كلي ومتنفس كلي وأمثال ذلك مما يمكن أن يوصف به الإنسان
ومن المعلوم بصريح العقل أن الكلي الذي قد يعم جزئيات كثيرة لا يكون بعض جزئي واحد فإن الكثير لا يكون بعض القليل وجزءه ولا يكون ما يتناول أمورا كثيرة ويشملها ويعمها أو يصلح لذلك بعض واحد لا يقبل العموم والشركة
وقوله : ( والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية )
فيقال : هذا مبني على أن في الخارج شيئا موجودا في هذا الإنسان المعين عرض له هذا الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل والمادة التي خلق منها بدنه ليست موجودة الآن بل استحالت وعدمت وليس فيه الساعة مني أصلا
وقوله : ( لا يجردها عنه ) إنما يصح لو كان هنا مادة موجودة مغايرة لهذا البدن المشهود حتى يمكن تجريد أحدهما على الآخر نعم إن أريد بالمادة البدن وأن الروح مقارنة للبدن فهذا كلام صحيح
لكن الروح معينة والبدن معين ومقارنة أحدهما الآخر ممكن وهؤلاء يشتبه عليهم مقارنة الروح للبدن وتجريدها عنه بمقارنة الكليات المعقولة لجزئياتها وتجريدها عنها والفرق بين هذا وهذا أبين من أن يحتاج إلى بسط
وهم يلتبس عليهم أحدهما بالآخر فيأخذون لفظ ( التجريد ) و ( المقارنة ) بالاشتراك ويقولون : العقول المفارقة للمادة ولا يميزون بين كون الروح قد تكون مقارنة للبدن وبين المعقولات الكلية التي لا تتوقف على وجود معين فإن الروح - التي هي النفس الناطقة - موجودة في الخارج قائم بنفسه إذا فارقت البدن
وأما العقليات الكلية المنتزعة من المعينات فإنما هي في الأذهان لا في الأعيان فيجب الفرق بين تجريد الروح عن البدن وتجريد الكليات عن المعينات
وأما قوله : ( وكذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته )
فسبب هذا أن الحس لا يدركه كله وإن كان كله محسوسا بمعنى أنه يمكن إحساسه ورؤيته في الجملة ولكن باطنه ليس بمحسوس لنا عند رؤية ظاهره لا لعدم إمكان إحساسه لكن لاحتجاب باطنه أو لمعنى آخر
وهذا أيضا من مثارات غلطهم فإنهم قد لا يفرقون في المحسوس بين ما هو محسوس بالفعل لنا وبين ما يمكنه إحساسه وإن كنا الآن لا نستطيع أن نحسه فإن عنى بالمحسوس الأول فلا ريب أن الأعيان منها ما هو محسوس ومنها ما ليس بمحسوس وما أخبرتنا به الأنبياء من الغيب ليس محسوسا لنا فلا نشهده الآن بل هو غيب عنا ولكن هو مما يمكن إحساسه ومما يحسه الناس بعد الموت
ولهذا كانت عبارة الأنبياء عليهم السلام تقسم الأمور إلى غيب وشهادة قال تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] وقال : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك } [ هود : 49 ] وقال : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } [ الحشر : 22 ]
وأما هؤلاء فيقسمونها إلى محسوس ومعقول والمعقول في الحقيقة : ما كان في العقل وأما الموجودات الخارجية فيمكن أن ينالها الحس وأن يوقف الإحساس بها على شروط متيقنة الآن
وأما قوله : ( وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها )
فيقال له : هذه حجة عليكم فإن ما يتخيله الإنسان في نفسه إنما هو موجود في نفسه فالصورة الخيالية ليست موجودة في الخارج ولا يشترط في التخيل ثبوت المتخيل في الخارج
وقولكم : ( يتخيله مع تلك العوارض ) إثبات لشيئين ولا حقيقة لذلك بل لم يتخيل إلا الصورة التي هي عرض قائم بنفسه
وقولكم : ( فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها ) كلام ملتبس فإن الصورة التي تخيلها في نفسه ليس لها حامل في الخارج وحامل الصورة التي في الخارج هو موجود معها فالصورة المحمولة في الخارج ليست عين ما في نفسه وما في نفسه ليست الصورة المحمولة
والتحقيق أنه يتخيل الصورة مع غيبوبتها بالكلية عن حسه الظاهر وليس مع غيبوبة حاملها قط سواء عني بالصورة نفس الشخص المتصور أو نفس الشكل القائم به
وقوله : إن الخيال يتخيله مع تلك العوارض لا يقدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجردها عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس وأما العقل فيقدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتا إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا )
فقد يعترض على بذلك بأن يقال : إنه يقتضي أن تجريد الخيال الكلي من جنس تجريد العقل فإن ما يتخيله المختال هو مثال المحسوس المعين فلم يجرد منه معنى كلي أصلا لكن إن ارتسم فيه صورة تشاكله كما ترتسم في الحائط صورة تشاكل الصورة المعينة ثم قد يتخيل المعين بجميع صفاته وقد يتخيل بعضها دون بعض وقد يتصور عينه مع مغيب صورة بدنه - كان المتصور حقيقة المعينة كالروح دون الإنسانية المطلقة
وأما العقل فقد يراد به عقل الصورة المعينة فهو من جهة كونه تصورا معينا من جنس التخيل ومن جهة كونه لا يختص بشكل معين من جنس تصور العقل
وقد يراد بالعقل تصور الكلي المطلق كتصور الإنسان المطلق وجوابه أن الإنسان المطلق قد يتخيل مطلقا والبهائم لها تخيل كلي ولهذا إذا رأت الشعير حنت إليه ولولا أن في خيالها صورة مطلقة مطابقة لهذا الشعير وهذا الشعير لم تطلب هذا المعين حتى تذوقه فطلبها له إذا رأته يقتضي أنها أدركت أن مثل الأول وإنما تدرك التماثل إذا كان في النفس صورة تطابق المتماثلين يعتبر بها تماثلهما
لكن يقال : فحينئذ لا فرق بين التخيل والتعقل من جهة كون كل منهما يكون معينا ويكون مطلقا وكل منهما ليس عين ما فيه هو عين الموجود في العقل بل مثاله
فقوله : ( حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا )
تحقيقة أن المحسوس لم يعمل به شيء أصلا ولا فيه معقول أصلا بل العقل تمثل معقولا يطابق المحسوس وأمثاله
وقوله : ( وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية وعن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته فهو معقول لذاته )
ففيه كلامان :
أحدهما : أن يقال : ثبوت مثل هذا المعقول تبع لثبوت المعقول المنتزع من المحسوس وذلك ليس إلا في العقل لا وجود له في الخارج فيكون المعقول المجرد كذلك وحينئذ فليس في ذلك ما يقتضي أن يكون في الخارج معقول مجرد
الثاني : أن يقال : ثبوت هذه المعقولات المجردة في الخارج فرع إمكان وجودها وإمكان وجودها مبني على إمكان وجود ما لا يمكن الإحساس به فلا يجوز إثبات إمكان وجود ذلك بناء على وجود هذه المجردات لأن ذلك دور قبلي وهو ممتنع
والمقصود أن في كلامهم ما يقتضي أنه ليس في المعقولات إلا ما يعقله العاقل في نفسه مثل العلم الكلي وقد يدعون ثبوت هذه المعقولات في الخارج فيتناقضون وهذا موجود في كلام أكثرهم يقولون كلهم : الكليات وجودها في الأذهان لا في العيان ثم يقول بعضهم : إن الكليات تكون موجودة في الخارج ولهذا كثيرا ما يرد بعضهم على بعض في هذا الموضع وهو من أصول ضلالتهم ومجازاتهم وكلامهم في المعقولات المجردة من هذا النمط وليس لهم دليل على إثباتها وإذا حرر ما يجعلونه دليلا لم تثبت إلا أمور معقولة في الذهن
واسم ( الجوهر ) عندهم يقال على خمسة أنواع على : العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وهم متنازعون في واجب الوجود : هل هو داخل في مسمى ( الجوهر ) على قولين فأرسطو وأتباعه يجعلونه من مقولة الجوهر وابن سينا وأتباعه لا يجعلونه من مقولة الجوهر وإذا حرر ما يثبتونه من العقل والنفس والمادة والصورة لم يوجد عندهم إلا ما هو معقول في النفس أو ما هو جسم أو عرض قائم بجسم كما قد بسط في موضعه
والمراد هنا أن يعرف أن المعقولات التي هي العلوم الكلية الثابتة في النفس لا ينازع فيها عاقل وكذلك تصور المعينات الموجودة في الخارج سواء كان المتصور عينا قائمة بنفسها أو معنى قائما بالعين وسواء سمي ذلك التصور تعقلا أو تخيلا أو توهما فليس المقصود النزاع في الألفاظ بل المقصود المعاني
وإذا عرف أن الإنسان يقوم به تصور لأمور معينة موجودة في الخارج وتصور كلي مطابق للمعينات تبين ما وقع من الاشتباه في هذا الباب
فقول القائل : إن حكم الوهم أو الخيال قد يناقض حكم العقل : إذا أراد به أن التصور المعين الذي في النفس لما هو محسوس أو لما يحسه كالعداوة والصداقة قد يناقض العقل الذي حكمه كلي عام - كان هذا باطلا
وإن أراد به أن العقل يثبت أمورا قائمة بنفسها تقوم بها معاني وتصوره للمحسوسات ولما قام بها يناقض ذلك - كان هذا أيضا باطلا فإنه لا منافاة بين هذا وهذا وذلك لأن الكلام ليس في مناقضة تصور الجزئيات للكليات بل في تناقض القضايا الكلية بالسلب والإيجاب
وإذا أراد به أن ما سماه الوهم والخيال يحكم حكما كليا يناقض حكما كليا للعقل وهذا هو مرادهم - كان هذا تناقضا منهم وذلك أنهم قد فسروا حكم الوهم المناقض للعقل عندهم بأنه يقضي قضاء كليا يناقض القضاء الكلي المعلوم بالعقل مثل أنه يقضي أنه ما من موجود إلا ويمن الإشارة إليه وما من موجودين إلا وأحدهما محايث للآخر أو مباين له ويمنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأمثال ذلك
فيقال لهم : هذه قضايا كلية وأحكام عامة وأنتم قلتم : إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس كإدراك الصداقة والعداوة إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما نشاهده
وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أمورا جزئية بمنزلة الحس وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال كما أنها ليست من إدراك الحس وإنما هي قضايا كلية عقلية بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية وهذا لا محيد لهم عنه وهذا بمنزلة الحكم بأن كل وهم وخيال فإنما يدرك أمورا جزئية
فهذه القضية الكلية عقلية وإن كانت حكما على الأمور الوهمية الخيالية وكذلك إذا قلت : كل صداقة فإنها ضد العداوة فهذا حكم بما في عقل كل الأفراد التي هي وهمية
وكذلك إذا قلنا : كل محسوس فإنه جزئي فهذه قضية كلية عقلية تتناول كل حسي
ومعلون أنه كل ما كان الحكم أعم كان أقرب إلي العقل فقولنا : كل موجود قائم بنفسه فإنه يشار إليه وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين من أعم القضايا وأشملها فكيف تكون من الوهميات التي لا تكون إلا جزئية
وحينئذ فقولهم : إن حكم الوهم والخيال قد يناقض حكم العقل بمنزلة قولهم : إن حكم الحس قد يناقض حكم العقل وبمنزلة قولهم : إن حكم العقل يناقض حكم العقل وليس الكلام في الحس والوهم والخيال والعقل إذا كان فاسدا عرضت له آفة فإن هذا لا ريب في إمكان تناقض أحكامه وإنما الكلام في الحس المطلق وتوابعه مما سموه توهما وتخيلا

كلام آخر لابن سينا في الإشارات
وأيضا فقد قال ابن سينا في مقامات العارفين : أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض : الأول تنحية ما سوى الحق عن مستن الآثار والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والثالث : تلطيف السر للتنبيه
والأول : يعين عليه الزهد والاني يعين عليه العبادة المشفوعة بالفكر ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول في الأوهام
والثالث : يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف )

تعليق ابن تيمية
قلت : وقد تكلمنا على ما في هذا الكلام من حق وباطل في غير هذا الموضوع والمقصود هنا انه جعل من الأمور التي يحتاج إليها العارف ما يجذب فوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي من العبادة وسماع الألحان وسماع الوعظ فإن كان الأمر القدسي أمرا معقولا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه وقوى الوهم والتخيل لا تناسب إلا الأمور الحسية دون العقلية المجردة كان هذا من الكلام الذي يناقض بعضه بعضا
بل كان الواجب على العارف أن يعرض عما يحكم به الوهم والخيال لينال معرفة الأمر القدسي المعقول المجرد الذي يناقض حكم الوهم والخيال لا يناسبه
ولكن ما ذكره في مقدمات العارفين هو الأمر الفطري فإن القلوب الطالبة لله إذا تحركت بما يصرف إرادتها إلى العلو ويصرف إرادتها عن السفل كان هذا مناسبا لمطلوبها ومرادها ومحبوبها ومعبودها فإن الله الذي هو العلي الأعلى هو المعبود المحبوب المراد المطلوب فإذا حركت النفس بما يصرف قواها إلى أرادته انصرفت قواها إلى العلو وأعرضت عن السفل
والذي يبين هذا أن هذه القوة الوهمية وفعلها الذي هو الوهم لا يريدون به أن يتوهم في الشيء ما ليس فيه وهو الوهم الكاذب
وكذلك لفظ ( التخيل ) لا يريدون تخيل ما لا وجود له في الخارج بل هذا وهذا يتناول عندهم توهم ما لا وجود في الخارج وتخيل ما له وجود في الخارج وهو إدراك صحيح صادق مطابق
وذلك لأن لفظ ( الوهم ) و ( الخيال ) كثيرا ما يطلق على تصور ما لا حقيقة لا له في الخارج بل هذا المعنى هو المعروف من لغة العرب
قال الجوهري : ( وهمت في الحساب أوهم وهما إذا غلطت فيه وسهوت ووهمت في الشيء بالفتح أوهم وهما إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره وتوهمت : أي ظننت وأوهمت غيري إيهاما والتوهم مثله واتهمت فلانا بكذا والاسم التهمة بالتحريك ويقال : أوهم في الحساب مائة أي أسقط وأوهم في صلاته ركعة ويقال : قد أيهم إذا صار به الريبة )
قلت : فهذا أبو نصر الجوهري قد نقل في صحاحه المشهور في لغة العرب أن مادة هذه اللفظ تستعمل في جهة الغلط بمعنى الخطأ تارة وتستعمل بمعنى الظن تارة ولم ينقل أنها تستعمل بمعنى اليقين وهم يستعملونها في تصور يقيني وهو تصور المعاني التي ليست بمحسوسة ولا ريب في ثبوتها كعداوة الذئب للنعجة وصداقة الكبش لها وهو في لغة العرب يقال في هذه المعاني : تصورتها وعملتها وتحققتها وتيقنتها وتبينتها ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العلم ولا يقال : توهمتها وإلا إذا لم تكن معلمه فاصطلاحهم مضاد معروف في لغة العرب بل وفي سائر اللغات
وإذا كان كذلك فلإدراك الصحيح الذي يسمونه هم توهما وتخيلا هو نوع من التصور والشعور والمعرفة

كلام ابن سينا في إثبات القوة الوهمية وتعليق ابن تيمية عليه
يوضح ذلك أنهم قالوا في إثبات القوة الوهمية : كما قال ابن سينا : ( الحيوانات ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس : إدراكا جزئيا : يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصورة )
فقد تبين أن هذه القوة تدرك معاني غير محسوسة وغير متأدية في الحس ففرق بينها وبين الحسية والخيالية بأن الخيالية إدراك ما تأدى من الحس
وقد فسر الشارحون ما دل عليه كلامه فقالوا هذا بيان إثبات الوهم والحافظة : أما الوهم فقوة يدرك الحيوان بها معاني جزئية لم تتأد من الحواس إليها كإدراك العداوة والصداقة والموافقة والمخالفة في أشخاص جزئية فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة تدركها وكونها مما لا يتأدى من الحواس دليل على مغايرتها للحس المشترك ووجودها في الحيوانات العجم دليل على مغايرتها للنفس الناطقة
قالوا : وقد يستدل على ذلك أيضا بأن الإنسان ربما يخاف شيئا يقتضي عقله الأمن منه كالموتى وما يخالف عقله فهو غير عقله
وقال ابن سينا في إشاراته : ( كل ملتذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرك هو بالقياس إليه خير ثم لا يشك أن الكمالات وإدراكاتها متفاوتة فكمال الشهوة مثلا أن يتكيف العضو الذاتي بكيفية الحلاوة مأخوذة عن مادتها ولو وقع مثل ذلك لا عن سبب خارج كانت اللذة قائمة وكذلك الملموس والمشموم ونحوهما وكمال القوة الغضبية : أن تتكيف النفس بكيفية غضب أو بكيفية شعور بأذى يحصل من المغضوب عليه والوهم والتكيف بهيئة ما يرجوه أو يذكره وعلى هذا حال سائر القوى )
والمقصود أنه جعل كمال الوهم اتصافه بصفة ما يرجوه أو يذكره والمرجو في المستقبل والمذكور في الماضي : كلاهما لا بد أن يكون هنا مما يوافقه ويحبه فإن الكمال - كما قد ذكروه - إنما يكون بإدراك الملائم لا المنافي
والقوة الوهمية هي التي تدرك بها الصداقة والعداوة والموافقة والمخالفة والصداقة هي الولاية التي أصلها المحبة والعداوة أصلها البغض
فالقوة الوهمية عندهم هي التي يدرك بها الحيوان ما يحبه وما يبغضه من المعاني التي لا تدرك بالحس والخيال ثم يكون حبه وبغضه لمحل ذلك المعنى تبعا لحبه وبغضه ذلك المعنى فالشاة إذا توهمت أن في الذئب قوة تنافرها أبغضته والتيس إذا توهم أن في الشاة قوة تلائمه أحبها فهذه القوة هي التي تدرك المحبوبات والمكروهات من المعاني القائمة بالمحسوسات وهي التي يحصل بها الرجاء والخوف فيرجو حصول المحبوب ويخاف حصول المكروه ولهذا علقوا الرجاء والخوف بها كما تقدم من كلامهم وجعلوا كمالها في التكييف بهيئة ما ترجوه أو تذكره وقالوا : إن خوف الإنسان من الموتى ونحوهم هو بهذه القوة
وعلى هذا فكل حب وبغض ورجاء وخوف لما لم يحسه الحيوان بحسه الظاهر فهو بهذه القوة

كلام ابن سينا في الشفاء عن قوة الوهم
ولهذا عظموا شأنها فقال ابن سينا في شفائه في القوة المسماة بالوهم : ( هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلي ولكن حكما تخييليا مقرونا بالجزئية وبالصورة الحسية وعنه تصدر أكثر الأفعال الحيوانية )
وقال أيضا في شفائه : ( ويشبه أن تكون القوة الوهمية هي بعينها المفكرة المتخيلة والمتذكرة وهي بعينها الحاكمة فتكون بعينها حاكمة وبأفعالها وحركاتها متخيلة بما تعمل من الصور والمعاني والمتذكرة بما ينتهي إليه عملها وأما الحافظة فهي قوة خزانتها )

تعليق ابن تيمية
فهذه ألفاظه ومن الناس من قال : هذا يدل على اضطرابه في أمر هذه القوى وليس المقصود هنا الكلام فيما يتنازعون فيه وهو أن هذه الإدراكات الجزئية والأفعال الجزئية : هل هي للنفس وإن كان بواسطة الجسم أو هي للجسم وهل محل هذه شيء واحد أو أشياء متعددة ؟ وهل هو بقوة واحدة أو بقوى متعددة ؟
فإن الكلام في هذا مما لم يتعلق بالمقصود في هذا المكان فإنه لا خلاف بين العقلاء أن الإنسان - بل وغيره من الحيوان - يتصور في غيره ما يحبه ويواليه عليه ويرجو وجوده ويتصور ما يبغضه ويعاديه عليه ويخاف وجوده
فهذا التصور أمر معلوم في الإنسان وفي الحيوان وهم سموا التصور وهما وقالوا إنه يحصل بقوة تسمى الوهمية
والناس متنازعون في إدراك الحيوان وأفعاله : كالسمع والبصر والتفكير والعقل وغير ذلك من أنواع التصورات والأفعال سواء كان تصور ولاية أو عداوة أو غير ذلك : هل هو بقوى في الحيوان أم لا ؟
فالأول : قول الجمهور والثاني : قول من يقول : إنه ليس للعبد قدرة مؤثرة في مقدوره
والأولون على قولين : منهم من يخص القوى بالأفعال الاختيارية ومنهم من يجعله في جميع الحوادث
وهؤلاء نوعان : منهم من يقول بقول المتفلسفة الذين يقولون : إن الله موجب بذاته بدون مشيئة وعلمه بالجزئيات وهذا باطل شرعا وعقلا ومنهم من يقول : إن الله خالق ذلك كله بمشيئته وعلمه وقدرته
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور علمائها : يثبتون ما في الأعيان من القوى والطبائع ويثبتون للعبد قدرة حقيقة وإرادة ويقولون : عن هذه الأمور جعلها الله أسبابا لأحكامها وهو يفعل بها كما قال تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف : 57 ]
وقال تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } [ البقرة : 164 ] إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة
وكلام السلف والأئمة المذكور في غير هذا الموضع ولهذا نص أحمد بن حنبل و الحارثي و المحاسبي وغيرهما أن العقل غريزة في الإنسان
ولكن من قال بالقول الأول من نفاة الأسباب والقوى الذين سلكوا مسلك الأشعري في نفي ذلك قالوا : إنما العقل هو نوع من العلوم الضرورية كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن طيب والقاضي أبو يعلى والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم
والمقصود أن هذا التصور لمعان في الأعيان المشهودة : كتصور أن هذا يوافقني ويواليني وينفعني وفيه ما أحبه وهذا يخالفني ويعاديني ويضرني وفيه ما أبغضه أمر متفق عليه بين العقلاء سواء قيل بتعدد القوى أو اتحادها أو عدمها وسواء قيل : المدرك هو النفس أو البدن
إذا كان كذلك فيقال إذا كان ( الوهم ) مفسرا عندهم بما ذكروه من تصور معنى ( غير محسوس في الأعيان المحسوسة وألا يتأدى من الحس فمعلوم أن هذا تدخل فيه كل صفة تقوم بالحي من الصفات الباطنة : كالقدرة والإرادة والحب والبغض والشهوة والغضب وأمثال ذلك
فإن القدرة في القادر كالعداوة في العدو والصداقة في الصديق بل قد يكون ظهور الولاية والعداوة والحب والبغض إلى الحس الظاهر أقرب من ظهور القدرة
وعلى هذا فيكون تصور الملك والملك هو أيضا من الوهم فإن كون الشخص المعين ملكا لغيره أو مالكا لغيره : هو تصور معنى في الشخص المحسوس وذلك المعنى غير محسوس ولا يتخيل تخيل المحسوسات
وكذلك تصور الشهوة والنفرة : يكون أيضا من باب التصور الوهمي في اصطلاحهم وكذلك تصور الألم في الغير واللذة فيه هو من الباب فإن ما يجده الحيوان في نفسه من اللذة والألم غير محسوس
فإن قيل : هذه الأمر تدرك بآثار تظهر يدرك الحس تلك الظواهر فلا يقال : هي موهومة
قيل : إن كان هذا كافيا فمعلوم أن تصور الشاة صورة الذئب المحسوسة إدراك لتلك الصورة فتلك الصورة مستلزمة للعداوة وكذلك إدراك التيس صورة الشاة وكذلك إدراك الإنسان شعار صديقه وعدوه مثل إدراك كل من الطائفتين المقتتلتين شعار الأخرى المسموعة بالأذن كالشعائر المتداعي بها والمرئية كالرايات المرئية هي أيضا مما يدرك بالحس ويستدل بها على الولاية والعداوة التي ليست بمحسوسة بل هي في الأشخاص المحسوسة
ففي الجملة ليس من شرط الصورة الوهمية عندهم أن يدركها الوهم بلا توسط شيء محسوس بل لا تدرك تلك المعاني إلا في الأشياء المحسوسة ولا بد أن تدرك تلك الأشياء المحسوسة فيكون الوهم مقارنا للحس لا بد من ذلك وإلا فلو أدرك الوهم ما يدركه مجردا عن الحس لكان يدرك ما يدركه لا في أعيان محسوسة فلا بد أن يدرك بباطنه وهو القوة المسماة بالوهم عندهم وبظاهره وهو الحس : ما في المدرك من الأمر الباطن وهو المعنى كالصداقة والعداوة والظاهر وهو الشخص الذي هو محل ذلك
وعلى هذا فميل كل جنس إلى ما يناسبه في الباطن هو بسبب إدراك هذه القوة كما يتفق في المتحابين والمتباغضين والمتحابون قد يكون تحابهم لاشتراكهم في التعاون على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم كما يوجد في أجناد العساكر وأهل المدينة الواحدة وأهل الدين الواحد والنسب الواحد ونحو ذلك
وفي الجملة فميل الحيوان إلى ما يظن أنه ينفعه ونفوره عما يظن أنه يضره : بسبب هذه القوة فإن إدراكه كون هذا نافعا له موافقا له ملائما له وكون هذا ضارا له مخالفا له منافرا له : هو بهذه القوة
وعلى هذه فينبغي إن يكون إدراك ما في الأغذية والأدوية من الملائمة هو بهذه القوة فإن الإنسان يتوهم في الخبز أنه يلائمه إذا أكله كما يتوهم الفرس ذلك في الشعير ويتوهم في السيف أنه يضره إذا ضرب به كما يتوهم الحمار ذلك في العصا
وفي الجملة فتصور الإنسان - بل والحيوان - لما ينفعه ويضره هو بهذه القوة على موجب اصطلاحهم فإن الإنسان إذا رأى بئرا محفورة يتصور أنه إن وقع فيها عطب - كان هذا بهذه القوة لأن الحس إنما شهد مكانا عميقا أما كونه يضر الإنسان إذا سقط فيه فهذا لا يعلم بالحس ولهذا كان من لا تمييز له يسقط في مثل هذا المكان كالصبي والمجنون والبهيمة وإن كان له حس فالذي يسميه الناس عقلا سماه هؤلاء وهما وتصور الإنسان أن هذا ماله وهذا مال غيره وهذه الدار داره وهذه دار غيره هو بهذه القوة لأن الحس الظاهر لا يميز بين هذا وهذا وإنما يعرف هذا من هذا بقوة باطنة تتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس وهو أن هذه الدار أو المال له أو لأقاربه أو لأصدقائه وتلك الدار أو المال للأجانب أو الأعداء فإن هذه المعاني هي في المحسوس وليست محسوسة وإدراك كون هذا الإنسان عادلا جوادا رحيما شجاعا وهذا ظالما بخيلا قاسيا جبانا هو على موجب اصطلاحهم وهم فإن هذا إدراك أمور غير محسوسة في المحسوسات
وكذلك سائر الأخلاق التي بها مدح وقدح مثل البر والفجور والعفة والصدق والكذب والكرم واللؤم وأمثال ذلك فإن هذه معان تقوم بالشخص المحسوس ونفس الأخلاق القائمة فيه ليست بمحسوسة وإنما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عنها كما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عن الصداقة والعداوة
ومعلوم أن إدراك هذه الأمور هي مما يدخل في مسمى العقل والعلم والمعرفة عند عامة العقلاء بل إدراك كون المعروف معروفا وكون المنكر منكرا هو أيضا مما يدخل في ( الوهم ) على اصطلاحهم فإن المعروف هو المحبوب الموافق الملائم والمنكر هو المكروه المخالف المنافي وما يدرك به هذه المعاني من الأمور الحسية وهم بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم ولا يبقى فرق بين الوهميات والعقليات في مثل هذا إلا كون الوهميات جزئية والعقليات كلية
ومعلوم أن إدراك كثير من هذه المعاني من خواص العقل ومما يبين هذا أن الرجل إذا رأى امرأته مع من يظن به السوء كان هذا إدراكا لأمر غير محسوس في المحسوس وهو إدراك ما ينافيه وهو ميل الأجنبي إلى امرأته وميل امرأته إليه وكذلك المرأة إذا وجدت مع زوجها امرأة أخرى فظنت أن بينهما اتصالا وحصلت لها الغيرة فالغيرة إنما تحصل بهذه القوة فإن الغيرة من باب كراهة المؤذي وبغضه وهو من جنس إدراك العداوة فيما يغار منه كما أن الرجل يميل إلى أبيه وأمه وزوجته لما يستشعره من محبتهم ومودتهم وإدراك ما منهم من المحبة والمودة هو أيضا عندهم وهم لأنه إدراك في المحسوس بما ليس بمحسوس وهو الولاية التي بينهما كما قالوا في إدراك التيس معنى الشاة وإذا رأى إنسان امرأة أجنبية فقد يدرك منها أنها تميل إليه فيكون كإدراك التيس معنى في الشاة وقد يدرك منها أنها تنفر عنه فيكون كإدراك الشاة معنى في الذئب وهذا باب واسع
والمقصود أن يجمع بين هذا وببن ما قاله ابن سينا في مقامات العارفين وهو خاتمة مصحفهم وقد قال الرازي : ( هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا يلحقه من بعده )
وأقره الطوسي على هذا الكلام وقال : ( قد ذكر الفاضل الشارح أن هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده )
وهذا الذي هو غاية ما عند هؤلاء من معارف الصوفية إذا تدبره من يعرف ما بعث الله به رسوله وما عليه شيوخ القوم - المؤمنون بالله ورسوله - المتبعون لكتاب والسنة تبين له أن ما ذكره في الكتاب بعد كمال تحقيقه لا يصير به الرجل مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله وأولياء الله هم المؤمنون المتقون فإنه غايته هو الفناء في التوحيد الذي وصفه وهو توحيد غلاة الجهمية المتضمن نفي الصفات مع القول بقدم أفلاك وأن الرب موجب بالذات لا فاعل بمشيئتة ولا يعلم بالجزئيات ولو قدر أنه فناء في توحيد الربوبية المتضمن للإقرار بما بعث الله به رسوله من الأسماء والصفات لم يكن هذا التوحيد وحده موجبا لكون الرجل مسلما فضلا عن أن يكون عارفا وليا لله إذ كان هذا التوحيد يقر به المشركون عباد الأصنام فيقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما يجعل الفناء في هذا التوحيد هو غاية العارفين صوفية هؤلاء الملاحدة كابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله ولهذا يستأنسون بما يجدونه من كلام أبي حامد موافقا لقولهم إذ كان في كثير من كلامه ما يوافق الباطل من قول هؤلاء كما في كثير من كلامه رد لكثير من باطلهم
ولهذا صار كالبرزخ بينهم وبين المسلمين فالمسلمون ينكرون ما وافقهم فيه من الباطل عند المسلمين وهم ينكرون عليه ما خالفهم فيه من الباطل عند المسلمين
ومن أسباب ذلك أن هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرد أن يعلم الوجود أو يعلم الحق فيكون عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود وهو التشبه بالإله على قدر الطاقة وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنما هي شروط وأعوان على مثل ذلك فلم يثبتوا كون الرب تعالى معبودا مألوها يحب لذاته ويكون كمال النفس أنها تحبه فيكون كمالها في معرفته ومحبته بل جعلوا الكمال في مجرد معرفة الوجود عند أئمتهم أو مجرد معرفته عند من يقرب إلى الإسلام منهم
فهذا أحد نوعي ضلالهم والنوع الآخر أنه لو قدر كمالها في مجرد العلم فما عندهم ليس بعلم بل كثير منه جهل
والقدر الذي حصل لهم من العلم لا تحصل به النجاة فضلا عن حصول السعادة الكبرى فهم أبعد من الكمال البشري وعن النجاة في الآخرة والسعادة من اليهود والنصارى من حيث هم كذلك وإن كان من اليهود والنصارى من هو أبعد عن ذلك ممن كان أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى إذ النجاة والسعادة باتباع الرسل علما وعملا
وكتبهم ليس فيها إيمان بنبي معين ولا كتاب معين : لا توراة ولا إنجيل ولا قرآن ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى بل ولا فيها إثبات رب معين وإنما فيها إثبات موجود كلي وأمور كلية ولا فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه ومعلوم أن النجاة والسعادة لا تحصل إلا بذلك بل ليس عندهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ولا الإيمان بأن الله قدر مقادير العباد فإنه عندهم لا يعلم الجزئيات فكيف يقدرها ؟ ومعلوم أن السعادة لا تحصل إلا بذلك
وهؤلاء لما كان قولهم مخالفا للفطرة التي فطر الله عليها عباده : من الإقرار به ومن محبته كان ما ذكروه من كمال النفس منافيا لهذا ولهذا
ولهذا اضطرب كلامهم في هذا الباب فتارة يحتاجون أن يثروا بما يوجب محبته وموالاته مع الإقرار به سبحانه وبعلوه على خلقه وتارة يدعون ما يوجب انتفاء هذا وهذا
وقد تقدم أقوالهم في الوهم ومعناه عندهم والقضايا الوهمية والمقصود أن يجمع بين النظر في ذلك وبين ما ذكروه في مقامات العارفين الذي هو أجل ما عندهم وكثير منه أو أكثره كلام جيد ولكن الاقتصار عليه وحده مع ما عندهم لا يوجب نجاة النفوس من العذاب فضلا عن حصول السعادة لها ولكن كل ما قالوه - هم وغيرهم - من حق مقبول ويتبين من ذلك الحق وغيره بطلان ما يناقضه من الباطل الذي قالوه أيضا

عود إلى كلام ابن سينا في مقامات العارفين في الإشارات
قال ابن سينا : ( العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر سيئا على عرفانه وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا رغبة لرغبة ولا لرهبة وإن كانتا فيكون المرغوب فيه أو المهروب عنه هو الداعي وفيه المطلوب ويكون الحق ليس الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره وهو الغاية وهو المطلوب دونه )

تعليق ابن تيمية
فيقال : هذا الذي قاله من كون الحق تعالى عند العارف هو المراد المعبود لنفسه لا يراد لغيره فيكون هو الواسطة إلى ذلك الغير ويكون ذلك الغير هو الغاية - كلام صحيح وهو مبادئ ما يتكلم فيه أهل الإيمان والإرادة بل هو من شعائرهم ومن أشهر الأمور عندهم
وقد قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [ الأنعام : 52 ]
وقال تعالى : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى } [ الليل : 19 - 21 ]
وقال تعالى : { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } [ الأحزاب : 29 ]
وقال تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ]
وقال : { والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة : 165 ]
وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا } [ التوبة : 24 ]
وقد قال تعالى : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } [ النساء : 125 ]
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه أنه قال : [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ]
وفي الصحيحين أنه قال : [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ]
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم [ ويعلم أنه قال : والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ]
وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال : [ والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي فقال : الآن يا عمر ]
فإذا كان هذا حب الرسول التابع لحب الله فكيف في حب الله الذي إنما وجب حب الرسول لحبه والذي لا يجوز أن نحب شيئا من المخلوقات مثل حبه ؟ بل ذلك من الشرك
قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة : 165 ] وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له
والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل فلا يكون أحد مؤمنا حتى يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأن يعبد الله مخلصا له الدين
فهذا الذي ذكره في مقامات العارفين هو أول قدم يضعه المؤمن في الإيمان ولا يكون مؤمنا من لم يتصف بهذا وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها على أن الله يحب لذاته لم ينازع في ذلك إلا طائفة من أهل الكلام والرأي الذين سلكوا مسلك الجهمية في بعض أمورهم فقالوا : إنه لا يحب ولا يحب
وابن سينا والفلاسفة وإن كانوا يردون على هؤلاء كما يرد عليه أئمة الدين فهم أقرب إلى الحق من ابن سينا وأتباعه كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وقال طائفة من النظار : إن الإرادة لا تتعلق إلا بمعدوم محدث وهو ما يراد أن يفعل فأما القديم الواجب بنفسه فلا تتعلق به الإرادة
وقالوا : قول القائل : ( أريد الله ) أي : أريد عبادته ونحو ذلك
وقال آخرون : بل الإرادة تتعلق بنفس القديم الواجب بنفسه كما نطقت به النصوص
والتحقيق أنه لا منافاة بين القولين فإن كون الشيء محبوبا لذاته مرادا لذاته : هو أن المحب المريد لم يطلب إرادته لما سواه بل كان هو أقصى مراده وإنما يكون الشيء مرادا محبوبا لما للمحب المريد في الاتصال بذلك من السرور واللذة إذ المحبة لا تكون إلا لما يلائم المحب فما يحصل عند ذكره ومعرفته والنظر إليه من اللذة هو مطلوب المحب المريد المحب لذاته
كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة ]
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ]
فقد بين الرسول صلى الله عليه و سلم أن الله لم يعط أهل الجنة شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهذا غاية مراد العارفين وهذا موجب حبهم إياه لذاته لا لشيء آخر ؟
فمن قال : إنه لا يحب لذاته ولا يتلذذ بالنظر إليه كما تزعمه طائفة من أهل الكلام والرأي فقط أخطأ ومن قال : إن محبة ذاته وإرادة ذاته لا تتضمن حصول لذة العبد بحبه ولا يطلبه العبد ولا يريده بل يكون العبد محبا مريدا لما لا يحصل له لذة به فقط أبطل
ومن قال : إن العبد يفنى عن حظوظه وإرادته وأراد بذلك أنه يفنى عن حظوظه وإرادته المتعلقة بالمخلوقات فقد أصاب وأما إن أراد أن يفنى عن كل إرادة وحب وتبقى جميع الأمور عنده سواء فهذا مكابر لحسه ونفسه
وكل مراد محبوب لذاته فلا معنى لكونه مرادا محبوبا لذاته إلا أن ذاته هو غاية مطلب الطالبين بمعنى أن ما يحصل لهم من النعيم واللذة هو غاية مطلوبهم لا يطلبونها لأجل غيرها فأما بتقدير أن تنتفي كل لذة فلا يتصور حب فإن حب ما لا لذة في الشعور به ممتنع
وعلى هذا فقول القائل : ( العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه ) لا منافاة بينهما
وكذلك قوله : ( وتعبده له فقط ) لا ينافي قوله ( ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه ) بل كونه تعبده له فقط إنما كان محمودا لأنه مستحق للعبادة وإنما انبغى للعبد أن يفعلها لأنها نسبة شريفة وإلا فلو فعل العبد ما لا خير فيه كان مذموما لكن يفرق بين من يكون قد عرف الله معرفة أحبه لأجلها وبين من سمع مدح أهل المعرفة فاشتاق إلى كونه منهم لما في ذلك من الشرف فإن هذا في الحقيقة إنما مراده تعظيم نفسه وجعل المعرفة طريقا إليها
وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور كما حكي أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال : ( فأخلصت أربعين يوما فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال : لي : إنك إنما أخلصت للحكمة لم تخلص لله )
وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة أو نيل المكاشفات والتأثيرات أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه أو غير ذلك من المطالب
وقد عرف أن ذلك يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضا لن من أراد شيئا لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته والأول يراد لكونه وسيله إليه فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالما أو عارفا أو ذا حكمة أو متشرفا بالنسبة إليه أو صاحب مكاشفات وتصرفات ونحو ذلك فهو هنا لم يرد الله بل جعل الله وسيله له إلى ذلك المطلوب الأدنى وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره
وفطر العباد مجبولة على محبته لكن منهم من فسدت فطرته
قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم : 30 ]
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم : 30 ] ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و سلم [ فيما يرويه عن ربه قال : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
وأما قول القائل : ( لا للرغبة والرهبة )
فهذا له ثلاث معان :
أحدهما : أن يراد به : لا لرغبة في حصول مطلوب المحب من المحبوب لذاته ولا لرهبة من ذلك وهذا ممتنع فإنه ما من عبد مريد محب إلا وهو يطلب حصول شيء ويخاف فواته
والثاني : أنه لا يرغب في التمتع بمخلوق ولا يخاف من التضرر بمخلوق فيمكن أن يعبد الله من يعبده بدون هذه الرغبة والرهبة
كما قال عمر رضي الله عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخاف الله لم يعصه
وفي الأثر : [ لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد ] وقد ثبن في الصحيح [ أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ]
وكذلك الملائكة فلولا تمتع أهل الجنة بذلك التسبيح الذي هو لهم كالنفس لم يكن الأمر كذلك
وقد ثبت في الحديث الصحيح المتقدم قوله : [ فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ]
والثالث : أن يراد : أن العبد لا يرهب مما يضره كألم العذاب ولا يرغب فيما يحتاج إليه كالطعام والشراب فهذا ممتنع فإن ما جعل الله العبد محتاجا إليه متألما إذا لم يحصل له لا بد أن يرغب في حصوله ويرهب من فواته وما كان ملتذا به غير متألم بفواته كأكل أهل الجنة وشربهم فهذا يرغب فيه ولا يرهب من فواته فوجود تلك اللذة العليا الحاصلة بمعرفة الله ورؤيته لا ينافي وجود لذات أخر حاصلة بإدراك بعض المخلوقات ومن نفى الأولى من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم فقط أخطأ ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقهم فقد أخطأ ومع أن هؤلاء المتفلسفة لا يثبتون حقيقة الأولى فإنهم لا يثبتون أن الرب تحبه الملائكة والمؤمنون وإنما يجعلون الغاية تشبههم به لا حبهم إياه وفرق بين أن تكون الغاية كون هذا مثل هذا وبين أن تكون الغاية كون هذا يحب هذا محبة عبودية وذل
ولهذا قالوا : ( الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ) ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلا له
وهم أيضا لا يثبتون معرفة تحصيل بها النجاة والسعادة بعد الموت بل المعروف عندهم وجود مطلق أو مقيد بالسلوب ولا يثبتون بعد الموت تجدد نظر إليه إذ المفارقات عندهم ليس فيها حركة أصلا لا من الناظر ولا من المنظور إليه وهو خلاف ما دلت عليه الدلالة الشرعية والعقلية

فصل تابع كلام ابن سينا في الإشارات عن مقامات العارفين
ثم قال : ( إشارة : المستحيل بوسيط الحق مرحوم من وجه فإن لم يطعم لذة البهجة به فيستطعمها إنما معارفته مع اللذات المخدجة فهو حنون إليها غافل عما وراءها وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحتنكين فإنهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب صاروا يتعجبون من أهل الجد إذا ازوروا عنها عائقين لها عاكفين على غيرها كذلك من غض النقص بصره عن مطالعة بهجة الحق أعلى كفيه بما يليه من اللذات : لذات الزور فتركها في دنياه من كره وما تركها إلا ليستأجل أضعافها وإنما يعبد الله ويطيعه ليخوله في الآخرة ويشبعه منها فيبعث إلى مطعم شهي ومشرب هني ومنكح بهي إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في أولاه وآخرته إلا إلى لذات قبقبه وذبذبه والمستبصر بهداية القدس في شجون واجب الإيثار قد عرف اللذة الحق وولى وجهه سمتها مترحما على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولا له حسب وعده )

تعليق ابن تيمية
فيقال : ينبغي أن يفرق بين كون الإنسان محبا مريدا وبين كونه يعرف أنه محب مريد وكذلك يفرق بين كونه سامعا رائيا عالما وبين كونه عالما بكونه كذلك ذاكرا له
مثال ذلك : أن الإنسان لا يفعل فعلا اختياريا وهو يعلم أنه يفعله إلا بإرادة فكل من شهد المسجد ليصلي فيه الصلاة الحاضرة وهو يعلم أنها الجمعة أو الفجر امتنع أن يصلي إلا وهو ناو لهذه الصلاة ومع هذا فقد يظن كثير من الناس أنه لا ينوي أو لا تحصل له نية حتى يتكلم بذلك وربما كرر ذلك ورفع صوته به وآذى من حوله وأصابه من جنس ما يصيب الجنون
وكذلك المعرفة بالله فطرية ضرورية كما قد بسط في موضعه وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وماله وبين الله ورسوله فإنه يختار الله ورسوله
والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة ولكن المنافقون - الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم - ليسوا من هؤلاء وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقا لا يكاد يشتاقه إلى شيء
وقد قال الحسن البصري : لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا
والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة
ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح وقد تشغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما لقوة حاجته العاجلة إليه كالجائع الشديد الجوع فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ لا يصلين أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين ]
وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين والإنسان إنما يشتاق إلى من يشعر به من المحبوبات فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره
ولما كانت الجنة فيها كل نعيم يتنعم به من غير تنغيص مما يعرفونه وما لا يعرفونه
كما قال تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ]
وقال : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف : 71 ]
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله تعالى : إني أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] الآية ]
وكان النعيم الذي فيها منه ما له نظير عند المخاطبين إذا ذكر اشتاقوا إليه ومنه ما لا نظير له عندهم - أخبرهم الله تعالى منه بما له نظير فإنه بذلك يحصل شوقهم ورغبتهم فيما أمروا به ثم إذا فعلوا ما أمروا به نالوا بذلك ما لم يخطر بقلوبهم كما أخبر بذلك الكتاب والسنة
ولذة النظر وإن كانت أفضل اللذات وسببها - وهو حب الله ورسوله - موجود في قلب كل مؤمن لكن الظاهر من الحب والشهوات ومعرفة الناس لكون ذلك مشتهاة ومرغوبا فيها وان محبتها غالبة وذكرهم لذلك أظهر من معرفتهم بما في حب الله ورسوله
والنظر إليه من ذلك ومن ذكرهم لذلك وإن كان ذلك موجودا فيهم فوجود الشيء غير معرفته وذكره وظهوره فذكر الله في كتابه من اللذات الظاهرة كالأكل والشرب والنكاح ما يعرف كل أحد أنه لذة وما تشتاق إليه كل نفس ويعرفون أنه مما يرغب فيه وذلك لا ينال إلا بعبادة الله وطاعته
وهم إذا عبدوا الله فقد يحصل لهم من حلاوة المعرفة والعبادة ما هو اعظم من ذلك وإذا كشف الحجاب في الآخرة فنظروا إليه كان ذلك أحب إليهم من جميع ما أعطاهم فكان ترغيبهم في العبادة بذلك شائقا لهم إلى هذا وكان كمن أسلم رغبة في الدنيا فلم تغرب الشمس إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس وكمن دخل في العلم والدين لرغبه في مال أو جاه أو رهبة من عزل أو عقوبة أو أخذ مال فلما ذاق حلاوة العلم والإيمان كان ذلك أحب إليه مما طلعت عليه الشمس
وإذا كان هذا في الدنيا فما الظن بما في الآخرة ؟ وإذا عرفت هذا عرفت شيئين : أحدهما : أن كل مؤمن تحقق إيمانه فإنما يعبد الله والله أحب إليه من كل ما سواه وإن كان لا يستشعر هذا في نفسه بل يكون ما يرجوه من الأكل والشرب النكاح وما يخافه من العقاب باعثا له على العبادة لكن إذا ذاق حلاوة الإيمان وطعم العبادة كان الله أحب إليه من كل شيء وإن كان يغيب عن علمه بحاله حتى لا يرغب ولا يرهب إلا من غير ذلك فما كل محبوب واجب يستحضر في كل وقت ولا تحصل به الرغبة ولا من فواته الرهبة بل تحصل الرغبة والرهبة بالمحبوب الأدنى والمرهوب الأدنى ويقوده ذلك إلى المحبوب الأعلى وهذا موجود فيمن ذاق طعم المحبوب الأعلى فإنه قد يعترض له هوى في محبوب أدنى فيكون حضوره ودواعي الشهوة إليه يوجب تقديمه مع علمه بأنه يفوته بذل ما هو أحب إليه منه وكمن يشتهي شيئا فيتناوله وهو بعلم أنه يضره وأنه يفوته به ما هو أحب إليه بل يعلم أنه يوجب له ما يضره فإذا حصل له ترهيب يصده عن ذلك أو رغبة فيما ترغب فيه نفسه حتى يترك ذاك كان هذا دواء نافعا له يشتاق به إلى المحبوب الأعلى
والله قد أنزل كتابه شفاء لما في الصدور وهدى للخلق ورحمة لهم وبعث رسوله بالحكمة
وأما ما ذكره هذا الرجل من الكلام المزخرف الذي قال الله فيه : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [ الأنعام : 112 - 113 ]
وذلك أنه عظم من يعبد الحق لذاته وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم وهو أصل الملة الحنيفية وأساس دعوة الأنبياء لكن هذا حاصل فيما جاءت به الرسل لا في طريق الصحابة فإن أصحابه لا يعبدون الله بل ولا يحبونه أصلا بل ولا يطيعونه وإنما العبادات عندهم رياضة للنفوس لتصل إلى علمهم الذي يدعون أنه كمال النفس والكمال عندهم في التشبه به لا في أن يكون محبوبا مرادا
ولهذا لم يتكلم أحد منهم في مقامات العارفين بمثل هذا الكلام الذي تكلم به ابن سينا وهو أراد أن يجمع بين طريقهم وطريق العارفين أهل التصوف فأخذ ألفاظا مجملة إذا فسر مراد كل واحد منها تبين أن القوم من أبعد الناس عنه محبة الله وعبادته وأنهم أبعد عن ذلك من اليهود والنصارى بكثير كثير
ولهذا يظهر فيهم من إهمال العبادات والأوراد والأذكار والدعوات ما لا يظهر في اليهود والنصارى ومن سلك منهم مسلك العبادات فإن لم يهده الله إلى حقيقة دين الإسلام وإلا صار آخر أمره ملحدا من الملاحدة من جنس ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما
وأيضا فإنه استحقر ما وعد الناس به في الآخرة من أنواع النعيم وطلب تزهيد الناس فيما رغبهم الله فيه وهو مضادة للأنبياء وهو في الحقيقة منكر لوجود ذلك كما هو في الحقيقة منكر لوجود محبة الله ومعرفته والنظر إليه وإنما الذي أثبته من ذلك خيال كما أن الذي أثبته من لذة المعرفة إنما هو مجرد كونه عالما معقولا موازيا للعالم الموجود وظن أنه بهذا تحصل اللذة التي يسعد بها في الآخرة وينجو بها من العذاب وهذا ضلال عظيم
وقد أعرض الرازي عن الكلام على هذا فلم يمدحه ولم يذمه وأما الطوسي فمدحه عليه لأنه ملحد من جنسه والكلام على هؤلاء مبسوط في موضعه

فصل : تابع كلام ابن سينا في مقامات العارفين وتعليق ابن تيمية عليه
ثم قال ( إشارة : أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد
إشارة : ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض : الأول : تنحية ما دون الحق من مستن الإيثار الثاني : تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التوهم والتخيل إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي الثالث : تلطيف السر للتنبيه والأول يعين عليه الزهد الحقيقي والثاني : تعين عليه أشياء : العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام والثالث : نفس الكلام الواعظ من قائل زكي بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد وأما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تأمر فيه شمائل المعشوق ليس سلطان الشهوة )
فيقال قد ذكر أن المريد يحتاج في الرياضة - التي تسمى السلوك إلى ثلاثة أشياء متعلقة بالقصد والعمل والعلم
أما القصد فأن لا يقصد إلا الحق فينحي ما سواه عن طريق القصد فلا يقصد إلا إياه وهذا حق لكن لا يكون إلا على دين المرسلين وأما إرادة الله ومحبته دون ما سواه فليس هو طريق هؤلاء المتفلسفة بل هو ممتنع على أصولهم الفاسدة وليس زهدهم زهد الأنبياء ولكن زهدهم للتوفر على مطلوبهم الذي يرونه كمالا لا على عبادة الله
وأما العمل فهو تطويع قوة النفس الأمارة بالسوء لقوتها المطمئنة وهذا متفق عليه لكن عند أهل الملل أن هذا تكميل لعبادة الله وطاعته وعند الملاحدة إنما هو تهذيب للنفس لتستعد لما جعلوه هم كمالا
وليس المقصود هنا ذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل فإن هذا له موضع آخر وإنما المقصود ذكر ما يتعلق بكلامهم في قوى التوهم والتخيل فإنه قال : ( لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي )
فذكر أن المقصود انجذاب قوى التخيل الوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي ولم يقل : إلى التوهمات والتخيلات كما قال انجذاب قوى التخيل والوهم لأنه يريد أن يجذب قوى التخيل والوهم
فالتخيل لصور المحسوسات والوهم لما فيها من المعاني والجذب يكون إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي لا إلى التخيل فإنه ليس المقصود جذبها إلى صورة متخيلة بل إلى أمر متوهم وهو المعاني التي تحبها النفس لأن الوهم كما تقدم تصور المعاني المحبوبة في الأعيان وهي التي تكون لأجلها الولاية والعداوة
والمقصود حصول التوهمات المناسبة للأمر القدسي والانصراف عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والتوهمات هي تصور ما يحب ويبغض ويوالى ويعادى ويوافق ويخالف ويرجى ويخاف من المعاني التي في الأعيان فيريد أن يتصور ما يحب ويرجى لينجذب إليه وما يكره ويخاف لينجذب عنه ويكون ما يجب ويرجى في الأمر القدسي والمكروه والمخوف في الأمر السفلي
وقد ذكر أن المراد المعبود لذاته هو الله تعالى فلا بد أن يتصور ما يوجب حبه لله وبغضه لما يصرفه عن ذلك وأن يتصور من رجائه وخوفه ما يصرفه إليه كما يتصور في الدنيا ما يجذبه عنها
وإذا كان قد قال هذا مع قوله : ( إن الوهم أن يتصور في المحسوسات أمرا غير محسوس لم يمكن حتى هذا يتصور في حق الله تعالى ما يوجب انجذاب القلب إليه وقد سمى ذلك توهما
وقوله : ( ولتنجذب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي )
إن أريد التوهمات المناسبة لقدس الرب تعالى مثل كونه هو الذي يستحق أن يعبد ويحمد وأمثال ذلك من المعاني المناسبة لعبادته فقد جعل الشعور بهذه من باب التوهم
وإن أريد به توهم معان في غير الرب فتلك لا يحتاج إليها في عبادته تعالى ولا يحتاج العابد لله إلى أن يتصور ما يناسب محبته لله وعبادته بشعوره بما يوجب محبة الله وعبادته إياه دون ما سواه فإن عبادة الله وحده تحصل إذا عرف من الله ما تحصل به محبته لله فلا يحتاج أن يعرف من غيره ما يوجب محبته لله ولو قدر أن تصور لغيره يوجب محبته فقد جعل طلب ما يوجب انجذاب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي
فهذه الأمور سواء كانت صفات لله أو أمورا تقتضي محبة الله فإنه جعلها من باب التوهم
وهذا يوجب كون الله عاليا على خلقه من وجوه :
أحدهما : أنه قد ذكر أن الحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس وهذا قوة الوهم كما تقدم فإذا كان قد قال مع ذلك : أنه لا بد من تطويع القوة الأمارة للقوة المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والتوهمات المناسبة لإرادة الله وحده إنما تكون بتصور معنى فيه يوجب انجذاب القلب إليه
وهو سبحانه يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فإنه واحد لا شريك له وهم يقولون : انحصر نوعه في شخصه فلا يجوز أن يكون التصور الجاذب للقلب إليه وحده إلا تصور معين في معين وهذا هو التوهم عندهم
فهذا تصريح منهم بأن التوهم تصور صفاته فقولهم مع ذلك بنفي إدراك هذه القوة له تناقض
الثاني : أن القوة المتوهمة إذا كانت لا تتصور إلا في معين والمعين لا يكون كليا امتنع أن يكون هذا معقولا إذا كانت المعقولات هي الكليات كما قد يقولونه ولأنه لا حجة لهم على إثبات معقول غير الكليات
الثالث : أن هذا يوجب أن كون محسوسا أي يمكن الإحساس به وهو رؤيته كما ثبت أنه يرى في الآخرة لأن التوهم عندهم أن يتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس
فإذا كان هو سبحانه يجب أن يوالى ويحب دون ما سواه وكان ذلك بتوهم الأمور المناسبة لذلك التوهم وهو تصور أمر غير محسوس في معين محسوس لزم أن يكون هو معينا محسوسا
الوجه الرابع : أنه جعل الذي يعين على تطويع النفس ثلاثة أشياء : العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام والثالث : نفس الكلام الواعظ
ومعلوم أن العبادة لا تكون إلا بقصد وإرادة والقصد والإرادة الذي تنجذب معه قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة لعبادة الله منصرفة عن المناسبة للأمر السفلي لا يكون إلا إذا تصور في المراد الذي انجذبت إليه قوة التوهم ما يوجب إرادته ومحبته فتكون إرادته توجب موالاته ومحبته بل وخوفه ورجائه
وهذا كله عندهم من عمل القوة المتوهمة فدل على أنه لا بد عندهم أن يكون الحق تعالى مما يتعلق الوهم بمعان فيه وهذا لازم لكلامهم لا محيد عنه
الوجه الخامس : أنه قال : ( الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام )
فتبين أنه يطلب كون الوهم يقبل الكلام الملحن والقوة الوهمية هي التي تدرك المعنى المحبوب والمكروه في المعين المحسوس الجزئي كما تقدم
فدل بها على أن الكلام الملحن يكون فيه ما يوجب قبول الوهم للكلام الذي يدعو إلى عبادة الله ومحبته وذلك بما تقدم من كون الوهم هو الذي يشعر بالمعاني التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي فكان حب العبد لربه وعبادته إياه مشروطا بتوهمه في ربهما يحبه العبد فوجب كون الرب عندهم محسوسا وكون الوهم يتصور فيه ما يحب لأجله
السادس : أنه قال : ( لينجذب التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمكر السفلي )
والسفلي ضد العلوي فدل ذلك على أن القدسي علوي
فإن قيل : يراد بذلك علو القدر أو الصفات
قيل : هذا لا يصح هنا لأن قوى الوهم إنما تنجذب إلى معان غير محسوسة في أمر محسوس وما كان محسوسا أمكن أن يكون فوق العالم
السابع : أن يقال : ما أشار إليه من هذه المعاني وغن كان التعبير عنه بعبارات غير معروف فهذا هو الذي فطر الله عليه عباده فإنهم إذا حزبهم أمر احتاجوا فيه إلى توجيه قلوبهم إلى الله توجهوا إلى العلو وتصوروا أن الله جواد كريم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويرزقهم وينصرهم فعرفوا منه ما يوافق مطلوبهم ومرادهم ومحبوبهم
وهذا هو الذي يسميه هؤلاء التوهم
وأيضا فمن كان محبا له محبا لذكره متلذذا بمناجاته فإنه يجد
في فطرته معنى يطلب بالعلو ويتصور أن ربه متصف بما يستحق لأجله أن يعبد ويحب ويطاع وهذا هو الذي يسمونه التوهم ويجد قلبه منصرفا إلى العلو منصرفا عن السفل إلا إذا كان قد غيرت فطرته
فإن قيل له : ربك ليس فوق أو غير ذلك بأن يقال : ليس في جهة أو لا يختص أو لا تحصره أو نحو ذلك من العبارات المجملة التي يراد بها : أنه ليس فوق فيحتاج حينئذ أن يصرف فطرته علما وإرادة عما فطر عليه
فما ذكره في مقامات العارفين موافق لما فطر الله عليه عباده أجمعين بخلاف
ما ذكره هناك فإنه مخالف للفطرة كما تقدم
الثامن : أن الشرائع الإلهية جاءت بما يوافق الفطرة
التاسع : أنه قد اتفق على ذلك سلف الأمة
العاشر : أنه دلت على ذلك الدلائل العقلية اليقينية
الحادي عشر : أن موجب ما ذكروه أن لا يكون الرب معبودا إلا بتعلق المعنى الذي سموه الوهم به وأن من نفى تعلق الوهم بمعنى في الرب فقد أبطل كون الرب محبوبا معبودا فمن قال بعد ذلك : إنه لا يقبل في الإلهيات هذه القضايا الوهمية فقد نفى كون الرب مستحقا لأن العبد وأن يحب وهذا حقيقة قولهم ولهذا كان حقيقة قولهم تعطيل الرب عن أن يكون موجودا وأن يكون مقصودا وأن يكون معبودا
وعلى هذا كانت أئمتهم كالقرامطة الباطنية الذين قادوا حقيقة قولهم وكذلك باطنية الصوفية الذين وافقوهم كأصحاب ابن عربي وابن سبعين فإن الذين عرفوا حقيقة قولهم كالتلمساني كانوا من أبعد الناس عن عبادة الله وطاعته وطاعة رسله وأشدهم فجورا وتعديا لحدود الله وانتهاكا لمحارمه ومخالفة لكتابة ولرسوله وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم
وحينئذ فنقول قوله : ( إن القضايا الوهمية كاذبة )
إن أراد به القضايا الكلية التي تناقض معقولا فتلك عندهم ليست من قضايا الوهم وإن أراد به ما يدركه الوهم من الأمور المعينة في المحسوسات فتلك صادقة عنده لا كاذبة وهي لا تعارض الكليات
وقوله : ( إن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ويقابلها )
فيقال له : هذا يقتضي تمكنها من الفطرة وثبوتها في النفس وأن الفطرة لا تقبل نقيضها وهذا يقتضي صحتها وثبوتها لا ضعفها وفسادها
وأما قوله : ( لأن الوهم تابع للحس فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم )
فيقال له : إن أردت بالوهم التابع للحس ما سميته وهما وهو توهم معاني جزئية غير محسوسة في المحسوسات الجزئية فلا ريب أن الوهم تابع للحس وهذا الوهم قد ذكرت أنه صحيح مطابق كالحس فإن قدحت في هذا قدحت في الحس وإن جعلت هذا معارضا للعقل كان بمنزلة جعل الحس معارضا للعقل
وإن أردت بالوهم ما يقضي قضاء كليا أن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه محال ونحو ذلك من القضايا الكلية التي تزعم أنها معارضة للعقل كان هذا الكلام باطلا من وجهين :
أحدهما : أن هذه قضايا كلية مطلقة والوهم قد ذكرت أن تصوراته جزئية فلا يكون هذا من الوهميات
الثاني : أن يقال : هذه القضايا الكلية كسائر القضايا الكلية التي مبادئها من الحس كالقضاء بأن السواد والبياض يتضادان والحركة والسكون يتناقضان والجسم الواحد لا يكون في مكانين وأمثال ذلك
بل هذه بمنزلة الحكم بأن الموجود إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه وأمثال ذلك
فالقدح في هذه القضايا الكلية كالقدح في تلك فإن الجاز القدح في هذه لأن مبادئها الحس جاز القدح في تلك وإلا فلا إذ الحس وما يتبعه - مما يسمونه توهما وتخيلا - لا يدرك إلا أمورا معينة جزئية ثم يقضي الذهن قضاء كليا فإن جاز أن تكون تلك القضايا الكلية باطلة بسبب كونها مبدئها من هذا الوهم الذي هو في الأصل الصحيح عندهم جاز أن تكون القضايا الكلية باطلة إذا كان مبدئها من الحس عندهم
فلو قال قائل يمكن في الموجود غير المحسوس أن يكون لا وجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره - كان بمنزلة قول القائل : يمكن فيه أن يكون لا مباينا لغيره ولا محايثا له ولا مداخلا له ولا خارجا عنه
وإن جاز أن يقال لهذا : هذه قضايا وهمية والوهم تابع للحس جاز أن يقال للأول : وهذه قضايا وهمية أو يقال : قضايا حسية وحكم الحس والوهم لا يقبل إلا في الحسيات فلا يحكم في الوجود المطلق وتوابعه لأن ذلك معقول غير محسوس فما به ترد تلك القضايا الكلية يمكن أن يقال في أمثالها من القضايا الكلية المتناولة لجميع الموجودات والمعلومات
وأما قوله في بيان أنها كاذبة : ( من المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم )
فيقال له : هذا كلام على تقدير أن يكون للمحسوسات مباد لا يمكن تعلق الحس بها وهذا هو رأس المسألة وأول النزاع فإذا جعلت هذا حجة في إثبات مطلوبك فقد صادرت على المطلوب
ثم يقال لك : الوهم إنما يتصور عندك في الأمور الجزئية وهذه القضايا كلية لا جزئية
ويقال لك أيضا : هذا بعينه يرد عليك في تقسيم الوجود إلى : قائم بنفسه وبغيره وقديم ومحدث وجوهر وعرض وعلة ومعلول ونحو ذلك فإن ما ذكرته من هذه القضايا يتناول هذه
ويقال لك ما تعني بقولك : ( إن المحسوسات إذا كان لها مباد وأصول كانت قبل المحسوسات )
أتعني به أن ما أحسسناه له مباد وأصول لم نحسها ؟ أم تعني به أن ما يمكن أن يحس به يجب أن يكون له مبدأ لا يمكن الإحساس به ؟
فإن عنيت الأول فهو مسلم لكن لا يلزم من عدم إحساسنا بها أن لا يكون الإحساس بها ممكنا ولا يقول عاقل : إن كل ما لم نشهده الآن لا يمكن أن نشهده بعد الموت أو في وقت آخر فإنه ما من عاقل إلا ويجوز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن بل يجوز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلا عن غيرها
وإن قال : إنه لا بد أن يكون لكل ما يمكن أن يحس به مبدأ لا يمكن أن نحس به فهذا ممنوع وهو رأس المسألة ولم يذكر عليه دليلا
وهو في إشاراته لم يذكر على ذلك من الأدلة إلا ما ذكره الرازي وأمثاله فإنه قال : ( في الوجود وعلله : إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو يوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له ولا وجود )
قال : ( وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء فإنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد لا على الاشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو : إما أن يكون بحيث يناله الحس أو لا يكون فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا أعجب وإن كان محسوسا فله لا محالة : وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتى أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذن الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير المحسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل الكلي )
فهذا لفظه وأتباعه مشوا خلفه فأثبتوا ما ليس بمحسوس بإثبات الكليات المعقولة وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج بل ليس في الخارج كلي البتة والذي يقال إنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معينا جزئيا فما كان كليا في العقل يوجد في الخارج معينا لا كليا كما قد بسط في موضعه
فهذا الكلام وأمثاله هو الذي يثبت به أن للموجود مبادئ لا يمكن أن يحس بها
وأما قوله : ( إذا كانت للمحسوسات مبادئ كانت غير محسوسة ) فتلبيس لأن لفظ ( المحسوس ) يراد به ما هو محسوس لنا بالفعل وما يمكن إحساسه ولا ريب أن المحسوسات بالفعل لها مبادئ غير محسوسة
لكن لم قلت : إن كل ما يمكن إحساسه له مبدأ لا يمكن إحساسه هذه حكاية المذهب
وأما قوله : ( ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه ) فهذا ممنوع وقد عرف أن أدلته على إثبات ذلك من جنس هذه الأدلة التي أثبت بها الموجودات العقلية الثابتة في الخارج بإثبات كليات وهو مثل إثباته لما كان خارج الذهن
ثم يقال له : الوهم المساعد للعقل : إن أردت به ما سميته وهما وهو ما يتصور في المحسوسات الجزئية معاني غير محسوسة كالصداقة والعداوة فليس في هذه التصورات مقدمة تساعد على إثبات موجود لا يمكن الإحساس به بل تلك المقدمات مثل إثبات الكليات وأمثالها ليس فيها مقدمة يتصورها هذا الوهم
وإن أردت بالوهم المساعد ما يقضي قضايا كلية مثل قضاء الذهن بأن بين هذا الإنسان وهذا الإنسان إنسانية مشتركة ونحو ذلك فهذه قضايا عقلية لا وهمية
وأيضا فالقاضي بإثبات إنسانية مطلقة هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له كما أنه هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يقارن وجود أحدهما الآخر أو يتقدم عليه وأن كل موجود فلا بد أن يكون قائما بنفسه أو بغيره
فهذه القضايا الكلية إن سميتها وهمية كانت العقليات هي الوهميات وإن سميتها عقليات وقدرت تناقضها لزم تناقض العقليات
واعلم أن هؤلاء قد يجيبون بجواب يمكن أن يجاب به كل من قدح في العقليات الكلية
وقولك : ( فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم )
يقال لك : ما الوهم الناكص : أهو الذي سميته وهما ؟ فذاك إنما يتصور معاني جزئية فليس له في الكليات حكم : لا بقبول ولا رد فلا يقال فيه : لا يقبل ولا ينكص كما لا يقال في القضايا الكلية : إن الحس يقبلها ولا يردها كما لا يقال : إن البصر يميز بين الأصوات والسمع يميز بين الألوان
وإن قلت : إن العقل يثبت موجودا معينا لا يمكن الإشارة إليه والوهم لا يتصور معينا لا يشار إليه
فيقال لك : العقل إنما يثبت أمورا كلية مطلقة لا يثبت شيئا معينا إلا بواسطة غيره كالحس وتوابع الحس ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية وإذا أردنا أن ندخل شيئا من المعينات تحت القضايا الكلية فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية
فإذا علمنا أن كل شيء : فإما قائم بنفسه أو بغيره وان كل موجود : فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه وأن كل موجود : فإما قديم وإما محدث وأن كل موجود أو كل ممكن فهو : إما جوهر وإما عرض وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث أو جوهر أو عرض أو واجب أو ممكن أو نحو ذلك فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء وتصور القضية الكلية شيء آخر
فليتدبر الفاضل هذا ليتبين له أن من لم يثبت موجودا يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان كما يثبتون العدد المطلق والمقدار المطلق والحقائق المطلقة والوجود المطلق وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان لا موجودة في الأعيان
ولهذا من أثبت أن في الوجود موجودا واجبا قديما وقال : إنه يمتنع الإشارة إليه امتنع أن يكون عنده معينا مختصا ولزم أن يكون مطلقا مجردا في الذهن فلا حقيقة له في الخارج
وهذا مذهب أئمة الجهمية فإنهم يثبتون موجودا مطلقا يمتنع وجوده في الخارج فابن سينا وأتباعه يقولون : هو وجود مطلق بشرط نفي جميع الأمور الثبوتية وهو أبلغ الأقوال في كونه معدوما وآخرون يقولون : هو مطلق بشرط نفي الأمور الثبوتية والسلبية لا بشرط شيء من الأمور الثبوتية والسلبية كما يقول هذا وهذا طائفة من ملحدة الباطنية ومن وافقهم من الصوفية
ومن المعلوم أن الوجود المشروط فيه نفي هذا وهذا ممتنع فكيف بالمشروط فيه النفي ؟ فإن ما اشترط فيه العدم كان أولى بالعدم مما لم يشترط فيه وجود ولا عدم ومما اشترط فيه نفي الوجود والعدم جميعا ؟ وهذا هو المطلق بشرط الإطلاق
وهم يقرون في منطقهم ما هو متفق عليه بين العقلاء من أن المطلق بشر الإطلاق لا وجود له في الخارج ويقررون أن الفصول المميزة بين موجودين لا بد أن تكون أمورا وجودية لا تكون عدمية وهم لا يميزون الوجود الواجب عن الوجود الممكن إلا بأمور عدمية ومن ظن أن مذهب ابن سينا إثبات وجود خاص بمنزلة الوجود المشروط بسلب جميع الحقائق فجعل فيه وجودا مشتركا ووجودا مختصا لم يفهم مذهبه كما فعل ذلك الطوسي منتصرا له فلم يفهم مذهبه
والقونوي وأمثاله يقولون : هو المطلق لا بشرط وهذا إما أن يكون ممتنعا في الخارج وإما أن يكون جزءا من الممكنات فيكون الواجب جزءا من الممكنات
وقد بسط بيان تناقض أقوالهم في غير هذا الموضع واعتبر ما ذكرناه من أن كل ما يثبتونه بالبرهان القياسي فإنه قضايا كلية مطلقة بأنهم إذا أرادوا أن يعينوا شيئا موجودا في الخارج داخلا في تلك القضية الكلية عينوه إما بالحس الباطن أو الظاهر إذ العقل يدرك الكليات والحس هو الذي يدرك الجزئيات فإذا أثبتوا أن الحركة الإرادية مسبوقة بالتصور وأرادوا تعيين ذلك عينوا : إما نفس الإنسان فيشيرون إليها وإما النفس الفلكية فيشيرون إلى الفلك
وإن أثبتوا وجود موجود معين في الخارج يدخل تحت هذه القضية من غير إشارة إليه تعذر ذلك عليهم
وكذلك إذا ثبت بالعقل أن الكل أعظم من الجزء وأن الأمر المساوية لشيء واحد متساوية وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا معدوما ونحو ذلك فمنى أراد الإنسان إدخال معين في هذه القضية الكلية أشار إليه والقضايا الكلية تارة يكون لجزيئاتها وجود في الخارج وتارة تكون مقدورة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان وهذا كثيرا ما يقع فيها الغلط والالتباس
وليس المقصود الأول بالعلم إلا علم ما هو ثابت في الخارج وأما المقدورات الذهنية فتلك بحسب ما يخطر للنفوس من التصورات سواء كانت حقا أو باطلا وما يثبته هؤلاء النفاة من إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه ولا هو داخل العالم ولا خارجه عند التأمل والتدبر نبين أنه من المقدرات الذهنية لا من الموجودات العينية
وغير أن ابن سينا وأتباعه م المنطقيين مثل أبي البركات صاحب المعتبر وغيره لم يخرجوا هذه القضايا التي سماها ابن سينا ( وهميات ) من الأوليات البديهيات كما أخرجها ابن سينا وما أظن صاحب المنطق أرسطو أخرجها أيضا
وأما قوله : ( وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها ) إلى آخره
يقال له : هذا أيضا مما يبين قوتها وصدقها فإنهم اعترفوا بأنها أقوى من المشهورات التي ليست بأولية وهذه المشهورات عند أكثر العقلاء من العقليات الضروريات فإذا كانت هذه أقوى منها لزم أن تكون أقوى من بعض العقليات الضروريات وذلك يوجب صدقها
وذلك أنه قال : ( فأما المشهورات فمنها هذه الأوليات ونحوها مما يجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها ومنها الآراء المسماة بالمحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة وهي أن لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه لم يؤدب بقبوله قضايا ما والاعتراف بها ولم يمكنه الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل والأنفة والحمية وغير ذلك - لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه وحسه مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان للإنسان قبيح وأن الكذب قبيح ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج ولو توهم الإنسان نفسه وأنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع أنفعالا نفسيا أو خلقا لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه ولي كذلك حال قضائه لأن الكل أعظم من الجزء وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وإن كانت صادقة فليست تنسب إلى الأوليات ونحوها إذا لم يكن بينة الصدق عند العقل الأول إلا بنظر وإن كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب
والمشهورات : إما من الواجبات وإما من التأديبات الصلاحية وما تتطابق عليها الشرائع الإلهية وإما خلقيات وانفعالات وإما استقرائيات وهي : إما بحسب الإطلاق وإما بحسب صناعة
قلت : ليس هذا موضع بسط القول
قال ابن سينا : ( وأما القضايا الوهمية فهي قضايا كاذبة إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها بسبب أن الوهم تابع للحس فما لا يوافق الحس لا يقبله الوهم ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها وهي أحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى وانه لا بد في كل موجود من أن يكون مشارا إلى جهة وجوده )
فيقال له : هذا الكلام إنما يصح أن لو ثبت وجود أمور لا يمكن الإحساس بها حتى يكون حكم هذه في ما هو مقدم على تلك أو ما هو أعم منها وثبوت وجود هذه الأمور إنما يصح إذا ثبت إمكان ذلك وإمكان ذلك إنما يصح إذا ثبت بطلان هذه القضايا التي يسميها الوهميات فلو أبطلت هذه الوهميات بإثبات ذلك لزم الدور فإن هذه القضايا تحكم بامتناع وجود ما لا يمكن الإشارة إليه والمقدمات التي تثبت ذلك ليست مسلمة عندها بل لا يمكن عندها تسليم ما يستلزم نقيض ذلك فإنه قدح في الضروريات بالنظريات
وأيضا فالوهم عندهم إنما يتصور معاني جزئية وهذه القضايا كلية فامتنع أن يكون وهمية
وأيضا فما يثبت به وجود هذه الموجودات قضايا سوفسطائية كما بين في موضعه
وأما قوله : ( وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها لكانت تكون مشهورة وإنما تثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية )
فيقال له : هذا من أصدق الدليل على صحتها وذلك أن هذه مشهورة عند جميع الأمم الذين لم تغير فطرتهم وعند جميع الأمم المتبعين لسنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المسلمين واليهود والنصارى وإنما يقدح فيها المبتدعة من أهل الديانات كالمعتزلة ونحوهم
وابن سينا لما كان من أتباع القرامطة الباطنية وهو يعاشر أهل الديانات المبتدعين من الرافضة والمعتزلة أو من فيه شعبة من ذلك وهؤلاء يقولون : إن الله ليس فوق العرش لم تكن هذه مشهورة عند هؤلاء
ومن المعلوم باتفاق هؤلاء وغيرهم أن الأنبياء لم يقدحوا في هذه القضايا ولا أخبروا بما يناقضها بل أخبار الأنبياء كلها توافق هذه القضايا
والقرآن والتوراة والإنجيل فيها من الموافق لهذه القضايا ما لا يحصيه إلا الله وكذلك في الأخبار النبوية والآثار السلفية بل لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم قول يناقض إثبات هذه القضايا
وابن سينا وأمثاله مقرون بان الكتب الإلهية إنما جاءت بما يوافق مذهب المثبتة للصفات والعلو بما لا يناقض ذلك وهم يسمون ذلك تشبيها ويقولون : الكتب الإلهية إنما جاءت بالتشبيه ويجعلون هذا مما احتجوا به كما قد حكينا كلامه في ذلك وأنه احتج بذلك على هؤلاء الذين وافقوه على نفي الصفات والعلو
وقال : إذا كان هذا التوحيد حق والأنبياء لم تخبر به بل بنقيضه فكذلك في أمر المعاد فكيف يزعم من هذا أن السنن الشرعية والديانات الحقيقة منعت هذه أن تكون مشهورة
فعلم أن المانع لشهرتها هو قول لم يوجد عن الأنبياء وأتباع الأنبياء وأن شهرتها إنما امتنعت بين هؤلاء الذين ابتدعوا قولا ليس مشروطا وحينئذ فيكون المانع من شهرتها عند من لم تشتهر عنده سنة بدعية لا شرعية وديانة وضعها بعض الناس ليست منقولة عن نبي من الأنبياء
ولا ريب أن المشركين والمبدلين من أهل الكتاب لهم شرائع وديانات ابتدعوها ووضعوها وتلك لا يجب قبولها عند العقلاء وإنما يجب أن يتبع ما يثبت نقله عن الأنبياء المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم
وكذلك قوله إنه : ( يثلم في شهرتها العلوم الحكمية )
فيقال له : قد نقل غيرك من الفلاسفة القدماء أنهم كانوا يقولون بموجب هذه القضايا كما بين ذلك ابن رشد الحفيد وغيره بل المنقول عن متقدمي الفلاسفة وأساطينهم بل أرسطو وعن كثير من متأخريهم القول بما هو أبلغ من هذه القضايا من قيام الحوادث بالواجب وما يتبع ذلك كما تقدم نقل بعض ذلك عنهم
وقوله : ( ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك لشدة استيلاء الوهم )
فيقال له : هذا يدل على تمكنها في الفطرة وثبوتها في الجبلة
وأنها مغروزة في النفوس فمن دفع ذلك عن نفسه لم يقاوم نفسه ولم يمكنه دفعها عن نفسه
وهذا حد العلم الضروري وهو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه معه دفعه عن نفسه فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه ولا يقاوم نفسه في دفعها تبين أنها ضرورية وأن هؤلاء الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها وتغيير خلقه كأمثالهم من الجاحدين المكذبين بالحق الذين يكذبون بالحق المعلوم بالبهتان والسفسطة وأن قدحهم في هذا كقدح أمثالهم من السوفسطائية في أمثال هذه
وأما قوله : ( لشدة استيلاء الوهم )
فقد قلنا غير مرة : إن الوهم قد فسروه بالقوة التي تتصور معاني جزئية في محسوسات جزئية وهذا الوهم إنما تصرفه في الجزئيات من المعاني وأما هذه القضايا فهي قضايا كلية فهي من حكم العقل الصريح فالمخالف لها مخالف لصريح العقل وهو المتبع لقضايا الوهم الفاسد فإنه يثبت موجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو موجودا لا داخل العالم ولا خارجه وهذا الموجود لا يثبته في الخارج إلا الوهم والخيال الفاسد لا يثبته لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ولا وهم مطابق ولا خيال مستقيم كما لا يثبته حس سليم فنفاة ذلك ينفون موجب العقل والشرع والحس السليم والوهم المستقيم والخيال القويم ويثبتون ما لا يدرك إلا بوهم فاسد وخيال فاسد
وقوله : ( على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر )
فيقال له : هذا أيضا حجة عليكم فإن المنازع يقول : أنه لم يقم دليل شرعي ولا عقلي على إثبات موجود لا يمكن أن يعرف بالحس بوجه من الوجوه وإن كان لا يمكن أن يعرف كثير من الناس بحسه ولا يمكن أن يعر ف بالحس في كثير من الأحوال
وقد عرف من مذهب السلف وأهل السنة والجماعة أن الله يمكن أن يرى في الآخرة وكذلك الملائكة والجن يمكن أن ترى وما يقوم بالمرئيات من الصفات يمكن أن يعرف بطريقها كما تعرف المسموعات بالسمع والملموسات باللمس ويقول : إن الرسل صلوات الله عليهم قسموا الموجودات إلى غيب وشهادة وأمروا الإنسان بالإيمان بما أخبروا به من الغيب
وكون الشيء شاهدا وغائبا أمر يعود إلى كونه الآن مشهودا أو ليس الآن بمشهود فما لم يكن الآن مشهودا يمكن أن يشهد بعد ذلك بخلاف هؤلاء النفاة فإنهم قسموا الموجودات في الخارج إلى محسوس وإلى معقول لا يمكن الإحساس به بحال
وهذا مما ينفيه صريح العقل لا مما يثبته وإنما المعقول الصرف ما كان ثابتا في العقل كالعلوم الكلية وليس للكليات وجود في الخارج مع انه قد يقال : إنه يمكن الإحساس بها أيضا إذا أمكن الإحساس بمحلها كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك
لكن نحن لا نحس الآن بهذه الأمور بالحس الظاهر وعدم إحساسنا الآن بذلك لا يمنع أن الملائكة يمكنها الإحساس بذلك وأنه يمكننا الإحساس بذلك في حال أخرى وأنه يمكن كل واحد أن يحس بما في باطن غيره كما يمكنه الإحساس الآن بوجهه وعينه وإن كان الإنسان لا يرى وجهه وعينه فقد يشهد الإنسان من غيره ما لا يشهده من نفسه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
وأيضا فالحس نوعان : حس ظاهر يحسه الإنسان بمشاعره الظاهرة فيراه ويسمعه ويباشره بجلده وحسن باطن كما أن الإنسان يحس بما في باطنه من اللذة والألم والحب والبغض والفرح والحزن والقوة والضعف وغير ذلك
والروح تحس بأشياء لا يحس بها البدن كما يحس من يحصل له نوع تجريد بالنوم وغيره بأمور لا يحس بها غيره
ثم الروح بعد الموت تكون أقوى تجردا فترى بعد الموت وتحس بأمور لا تراها الآن ولا تحس بها
وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه كما يرى الأنبياء الملائكة ويسمعون كلامهم وكما يرى كثير من الناس الجن ويسمعون كلامهم
وأما من يقول بعض الفلاسفة : إن هذه المرئيات والمسموعات إنما هي في نفس الرائي لا في الخارج فهذا مما قد علم بطلانه بأدلة كثيرة وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
ومن كان له نوع خبرة بالجن : إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس أو بالأخبار المتواترة له عن الناس علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء
وكذلك ما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو مما يوجب العلم اليقيني بوجودهم في الخارج كقصة ضيف إبراهيم المكرمين ومجيئهم إلى إبراهيم وإتيانه لهم بالعجل السمين ليأكلوه وبشارتهم لسارة بإسحاق ويعقوب ثم ذهابهم إلى لوط ومخاطبتهم له وإهلاك قرى قوم لوط وقد قص الله هذه القصة في غير هذه الموضع
وكذلك قصة مريم وإرسال الله إليها جبريل في صورة بشر حتى نفخ فيها الروح وكذلك قصة إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم : [ تارة في صورة أعرابي ]
[ وتارات في صورة دحية الكلبي ]
فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس توسع له طرق الحس ولم يرى الحس مقصورا على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن فإن هذا الحس غنما يدرك بعض الموجودات
وحينئذ فإذا قيل : إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان
وهذا منتهى ما عند ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة ولهذا كان كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ويجعلون النعيم والعذاب أمرين قائمين بالنفس من جملة أعراضها لا ينفصل شيء من ذلك عنها وقد بينا بعض ما في هذا القول من الضلال في غير هذا الموضع
ولهذا جعل في منطقه العلوم اليقينية العقلية هي هذه العقليات ونفى أن تكون المشهورات العملية من اليقينيات ونفى أن يكون ما يثبت الموجودات الحسية الغائبة من اليقينيات وسمى هذه وهميات فبإنكاره هذا أنكر الموجودات الغائبة عن إحساس أكثر الناس في هذه الدنيا فلم يصدق بالموجودات الغائبة ولا بكثير مما يشاهد في هذا العالم من الملائكة والجن وغير ذلك وبإنكاره المشهورات أن تكون يقينية أنكر موجب القوة العملية في النفس التي بها تستحسن ما ينفعها من الأعمال وتستقبح ما يضرها فأخرج الأعمال التي لا تكمل النفس إلا بها من أن تكون يقينية كما أخرجها من أن تكون من الكمال ولم يجعل كمال النفس إلا مجرد علم مجرد لا حب معه لله تعالى في الحقيقة وإنما الأعمال عندهم لأجل إعداد النفس لنيل ما يظنونه كمالا من العلم
وهذا العلم الذي يدعونه غالبه جهل وما فيه من العلم فليس علما بموجودات معينة وإنما هو علم أمور مطلقة في الذهن لا وجود لها في الخارج فلم يحصل له من الكمالات العلمية والعملية ما يوجب سعادتهم في الآخرة ولا نجاتهم من النار وكان كثير من اليهود والنصارى أقرب إلى السعادة والنجاة منهم كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن حكم الذهن بأنه ما من موجود قائم بنفسه وإلا يمكن الإشارة إليه وأنه يمتنع وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له بل إن صانع العالم فوق العالم - ليس مما تواطأ عليه الناس وقبله بعضهم عن بعض كقول النفاة : إنه يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل ذلك مما أقر به الناس بفطرتهم وعرفوا ببدائه عقولهم وضروات قلوبهم
والقادحون فيما يسلمون ذلك ويدعون أن فطر الناس أخطأت في هذا الحكم وأنه من حكم الوهم والخيال الباطل
فإذا كانوا معترفين بأن هذا مما أقروا به بلا مواطأة لم يمكن أن يقال : إنهم كذبوا على فطرتهم لأن هؤلاء القائلين بذلك أضعاف أضعاف أضعاف أهل التواتر بل هم جماهير بني آدم فإذا قالوا : إن هذا أمر نجده في قلوبنا وفطرتنا وجب تصديقهم في ذلك
وحينئذ فلا يجوز إبطال هذه القضايا البديهية بقضايا نظرية لأن البديهيات أصل للنظريات فلو جاز القدح بالنظريات في البديهيات والنظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات كان ذلك قدحا في أصل النظريات فلزم من القدح في البديهيات بالنظريات فساد النظريات وإذا فسدت لم يصح القدح بها وهو المطلوب
فهذا ونحوه يبين أنه لا تسمع من النفاة حجة على إبطال مثل هذه القضية البديهية ثم يبين فساد ما استدل به على بطلان ذلك

الرد على قول الرازي : الوجه الأول
أن يقال : من المعلوم أن هذا لا ينكره إلا من يقول بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه وينكرون أن يكون الله نفسه فوق العالم فإنهم يقولون : لو كان فوق العرش لكان مباينا له بالجهة مشارا إليه وذلك ممتنع عندهم فيجوزون وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا مدخلا له ووجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويقولون : الباري ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له
وطائفة من الفلاسفة تقول مثل ذلك فيما تثبته من العقول والنفس الناطقة ولهم في النفس الفلكية قولان
وإذا كان كذلك فجماهير الخلائق يخالفون هؤلاء ويقولون بأن الله نفسه فوق العالم وإذا كان الله نفسه فوق العالم فإن كان ذلك مستلزما لجواز الإشارة إليه وأن يكون مباينا للعالم بالجهة فلازم الحق حق وامتنع حينئذ وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له ولا يشار إليه وإن أمكن أن يكون هو نفسه فوق العالم ويكون مع ذلك غير مشار إليه ولا مباين للعالم بالجهة - بطل قول هؤلاء النفاة فإنهم إنما نفوا أن تكون نفسه فوق العالم لأن ذلك عندهم مستلزم لكونه مشارا إليه ومباينا للعالم بالجهة وإذا بطل قولهم حصل المقصود ولم يكن إلى هذه المقدمات الضرورية حاجة
فالمقصود أنه لا يوافقهم على أنه ليس فوق العالم إلا أقل الناس ومن لم يوافقهم على ذلك فإما أن ينكر وجود موجودين : ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له وإما أن لا ينكر ذلك فإن لم ينكر ذلك مع إنكار قولهم بأنه ليس فوق العالم كان إنكاره لقولهم أعظم من ترك إنكاره لما يبطل قولهم
فإن المقصود ما يبطل قولهم فإذا كان الناس : إما منكر له وإما منكر لما يستلزم إبطاله ثبت اتفاق جمهور الناس على إنكاره وهو المطلوب
ثم يقال : هذه القضية قد صرح أئمة الطوائف الذين كانوا قبل أن يخلق الله الكرامية والحنبلية بأنها قضية بديهية ضرورية فمن ذلك ما ذكره عبد العزيز بن يحيى المكي المشهور صاحب الحيدة وهو من القدماء الذين لقوا الشافعي ومن هو أقدم من الشافعي وهو مشاهير متكلمي أهل السنة الذين اتفقت الأشعرية مع سائر الطوائف المثبتة على تعظيمه واتباعه

كلام عبد العزيز الكناني في مسألة الاستواء والعلو
قال في ( الرد على الزنادقة والجهمية ) : ( زعمت الجهمية في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] إنما المعنى استولى كقول العرب : استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليها )
قال : ( فيقال له : هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال : لا قيل له : فمن زعم ذلك ؟ فمن قوله : من زعم ذلك فهو كافر يقال له : يلزمك أن تقول : إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض
قال الله عز و جل : { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السماوات والأرض
ثم قال : { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ]
وقوله : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } [ غافر : 7 ] وقوله : { استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } [ البقرة : 29 ]
وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ]
فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول : المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه إذ كان استوى على العرش معناه عندك : استولى فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله
وقد روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اقبلوا لبشرى يا بني تميم قد بشرتنا فأعطنا قال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال : كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء ]
وروي [ عن أبي رزين - وكان يجب النبي صلى الله عليه و سلم مسألته أنه قال : يا رسول الله كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق العرش على الماء ]
قال : ( فقال الجهمي : أخبرني كيف استوى على العرش ؟ أهو كما يقال : استوى فلان على السرير فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول : إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا قال : فيقال له : أما قولك : كيف استوى ؟ فإن الله لا يجري عليه : كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنهم لم يخبرهم كيف ذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول : إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب : فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا : إن الله عز و جل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم : ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم ! وأنتم تقولون : إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضا أن تقول : إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أن الله في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ! فلما شنعت مقالته قال : أقول : إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا للشيء قال : فيقال له : أصل قولك : القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا لأنه لو كان شيئا داخلا فمن القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا منه فلما لم يكن في قولك شيئا استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجا من الشيء فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك : التعطيل )
فهذا كلام عبد العزيز يبين أن القياس المعقول يوجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا وأن ذلك صفة توجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له
والقياس هو الأقيسة العقلية والمعقول هو العلوم الضرورية وعبد العزيز هذا قبل وجود الحنبلية والكرامية كما تقدم
وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي والأشعري وأمثالهم وممن ذكر ذلك عنه أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامه فإن جمع من كلامه وجمع كلام الأشعري أيضا وبين اتفاقهما في عامة أصولهما

كلام ابن كلاب في مسألة العلو
قال ابن كلاب : ( وأخرج من النظر والخبر قول من قال : لا في العالم ولا لخارج منه فنفاه نفيا مستويا لأنه لو قيل له : صفة بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه ورد أخبار الله نصا وقال في ذلك ما لا يجوز في خبر ولا معقول وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص وهم عند أنفسهم قياسون )
قال : ( فإن قالوا : هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه وانفراد العرش به قيل : إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه عالم بها فلا وإن كنتم تذهبون إلى خلوها من استوائه عليها كما استوت على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول : استوى الله وعلى العرش ونحتشم أن نقول : استوى على الأرض واستوى على الجدار وفي صدر البيت )
وقال أيضا أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب : ( يقال لهم : أهو فوق ما خلق ؟ فإن قالوا نعم قيل ما تعنون بقولكم : إنه فوق ما خلق ؟ فإن قالوا : بالقدرة والعزة قيل لهم : ليس عن هذا سألتكم وإن قالوا : المسألة خطأ قيل : فليس هو فوق فإن قالوا : نعم ليس هو فوق قيل لهم : وليس هو تحت فإن قالوا : ولا تحت أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم وإن قالوا : هو فوق وهو تحت قيل لهم : فوق تحت وتحت فوق )
وقال أيضا : ( يقال لهم : إذا قلنا : الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان فهذا محال فلا بد من نعم قيل لهم فهو لا مماس ولا مباين ؟ فإذا قالوا نعم : قيل لهم فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت في الوهم ؟ فإذا قالوا : نعم قيل : فينبغي أن يكون بصفة المحال من هذه الجهة وقيل لهم أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين ؟ فإذا قالوا : نعم قيل : فأخبرونا عن معبودكم : مماس هو أو مباين ؟ فإذا قالوا : لا يوصف بهما قيل لهم : فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون : عدم كما تقولون للإنسان : عدم إذا وصفتموه بصفة العدم ؟ وقيل لهم : إذا كان عدم المخلوق وجودا له فإذا كان العدم وجودا كان الجهل علما والعجز قوة )
وقد ذكر هذا الكلام وأشباهه ذكره عنه أبو بكر بن فورك في الكتاب الذي أفرده في لمقالاته وقال فيه : إنه أحب من سماه من أعيان أهل عصره : ( أن أجمع له متفرق مقالات أبي محمد بن كلاب شيخ أهل الدين وإمام المحققين المنتصر للحق وأهله المبين بحجج الله الذاب عن دين الله لما من به الله تعالى من معالم طرق دينه للحق وصراطه المستقيم السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع الموفق لاتباع الحق والمؤيد بنصرة الهدى والرشد ) وأثنى عليه ثناء عظيما
قال : ( وكان ذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري )
قال : ( ولما كان الشيخ الأول والإمام السابق أبو محمد عبد الله بن سعيد الممهد لهذه القواعد المؤسس لهذه الأصول والفاصل بحسن ثنائه بين حجج الحق وشبه الباطل بالتنبيه على طرق الكلام فيه والدال على موضع الوصل والفصل والجمع والفرق الفاتق لرتق الأباطيل والكاشف عن لبس ما زخرفوا وموهوا ) وذكر كلاما طويلا في الثناء عليه
والمقصود أن ابن كلاب إمام الأشعري وأصحابه ومن قبلهم كالحارث المحاسبي وأمثاله يبين أن من قال : لا هو في العالم ولا خارج منه فقوله فاسد خارج عن طريق النظر والخبر وأنه قد ورد خبر الله نصا ولو قيل له : صفة بالعدم ما قدر أن يقول أكثر منه وأنه قال ما لا يجوز في خبر ولا معقول وأنهم قالوا : هذا هو التوحيد الخالص وهو النفي الخالص فجعلوا النفي الخالص هو التوحيد الخالص
وهذا الذي قاله هو الذي يقوله جميع العقلاء الذين يتكلمون بصريح العقل بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد
ولذلك قال : ( إذا قالوا : ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم )
وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة من متأخري الشيعة ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية وغيرهم من طوائف الفقهاء الذين بقولون : ليس هو تحت وليس هو فوق
وذكر حجة ثالثة فقال : ( أنتم تصفونه بالصفات الممتنعة التي مضمونها الجمع بين المتقابلين في الموجودات فيلزمكم أن تصفوه بسائر المتقابلات )
قال : ( فيقال لهم : إذا قلنا الإنسان - يعني : وغيره من الأعيان القائمة بأنفسها - لا مماس ولا مباين للمكان فهذا محال باعترافهم )

تعليق ابن تيمية
وهم يقولون : إنه لا مماس ولا مباين للمكان فيصفونه بالصفة المستحيلة الممتنعة في المخلوق التي لا تثبت في التوهم ويقولون : يجوز أن نصفه بما يمتنع تصوره وتوهمه في غيره من هذا السلوب فإذا جوزوا أن يوصف بما يمتنع تصوره في سائر الموجودات فليصفوه بسائر الممتنعات من الموجودات فيقولوا : لا هو قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا بغيره ولا متقدم على غيره ولا مقارن له ونحو ذلك ويقولوا : هذا إنما يمتنع في غيره من الموجودات لا فيه وحينئذ فيقولون : لا هو حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا موجود ولا معدوم وهذا منتهى قول القرامطة وهو جمع النقيضين أو رفع النقيضين
ومن المعلوم أن العقل إذا جزم بامتناع اجتماع الأمرين أو امتناع ارتفاعهما سواء كان أحدهما وجودا والآخر عدما وهو التناقض الخاص أو كانا وجودين فإنا نعلم ذلك ابتداء بما نشهده في الموجودات التي نشهدها كما أن ما يثبت من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام وأمثال ذلك إنما نعلمه ابتداء بما نعلمه في الموجودات التي نعرفها ثم إذا اخبرنا الصادق المصدوق عن الغيب الذي لا نشهده فإنما نفهم مراده الذي أراد أن يفهمنا إياه لما بين ما أخبر به من الغيب وبين ما علمناه في الشاهد من القدر الجامع الذي فيه نوع تناسب وتشابه فإذا أخبرنا عما الجنة من الماء واللبن والعسل والخمر والحرير والذهب لم نفهم ما أراد إفهامنا إن لم نعلم هذه الموجودات في الدنيا ونعلم أن بينها وبين ما في الجنة قدرا مشتركا وتناسبا وتشابها يقتضي أن نعلم ما أراد بخطابه وإن كانت تلك الموجودات مخالفة لهذه من وجه آخر
كما قال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء رواه الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس وقد رواه غيره واحد منهم محمد بن جرير الطبري في التفسير في قوله : { وأتوا به متشابها } [ البقرة : 25 ]
وإذا كان بين المخلوق والمخلوق قدر فارق مع نوع من إثبات القدر المشترك الذي يقتضي التناسب والتشابه من بعض الوجوه فمعلوم أن ما بين الخالق والمخلوق من المفارقة والمباينة أعظم مما بين المخلوق والمخلوق فهذا مما يوجب نفي مماثلة صفاته لصفات خلقه ويوجب أن ما بينهما من المباينة والمفارقة أعظم مما بين مخلوق ولمخلوق مع أنه لولا أن بين مسمى الموجود الموجود والحي والحي والعليم والعليم والقدير والقدير وأمثال ذلك من المعنى المتفق المتواطئ المناسب والمتشابه ما يوجب فهم المعنى لم يفهمه ولا أمكن أن يفهم أحد ما أخبر به عن الأمور الغائبة
وإذا كان هذا في الخطاب السمعي الخبري فكذلك في النظر القياسي العقلي فإنما نعرف ما غاب عنا باعتباره بما شهدناه فيعتبر الغائب بالشاهد ويحصل في قلوبنا بسبب ما نشهده من الأعيان والجزئيات الموجودة قضايا كلية عقلية فيكون إدراج المعينات فيها هو قياس الشمول كالذي يسميه المنطقيون المقدمتان والنتيجة ويكون اعتبار المعين بالمعنى هو قياس التمثيل الجامع المشترك سواء كان هو دليل الحكم أو علة دليل الحكم
والناس في هذا المقام : منهم من يزعم أن القياس البرهاني هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل لا يفيد اليقين بل لا يسمى قياسا إلا بطريق المجاز كما يقول ذلك من يقوله من أهل المنطق ومن وافقهم من نفاة قياس التمثيل في العقليات والشرعيات كابن حزم وأمثاله ومنهم من ينفي قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كأبي المعالي ومتبعيه مثل الغزالي والرازي والآمدي وأبي محمد المقدسي وأمثالهم
ومنهم من يعكس ذلك فيثبت قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كما هو قول أئمة أهل الظاهر مثل داو بن علي وأمثاله وقول كثير من المعتزلة البغداديين كالنظام وأمثاله ومن الشيعة الإمامية كالمفيد والمرتضى والطوسي وأمثالهم
وكثير من هؤلاء يقول : إن قياس التمثيل هو الذي يستحق أن يسمى قياسا على سبيل الحقيقة وأما تسمية قياس الشمول قياسا فهو مجاز كما ذكر ذلك الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما
والذي عليه جمهور الناس وهو الصواب أن كليهما قياس حقيقة وأن كليهما يفيد اليقين تارة والظن أخرى بل هما متلازمان فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك الذي هو علة الحكم أو دليل العلة أو هو ملزوم للحكم وهذا المشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول فإذا قال القايس : نبيذ الحنطة المسكر حرام قياسا على نبيذ العنب لأنه شراب مسكر فكان حراما قياسا عليه وبين أن المسكر هو مناط التحريم فيجب تعلق التحريم بكل مسكر - كان هذا قياس تمثيل وهو منزلة أن يقول : هذا شراب مسكر وكل مسكر حرام فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حدا أوسط هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى بل هما متلازمان وإنما يتفاوتان في ترتيب المعاني والتعبير عنها ففي الأول يؤخر الكلام في المشترك الذي هو الحد الأوسط وبيان أنه مستلزم للحكم متضمن له ويذكر الأصل الذي هو نظير الفرع ابتداء وفي الثاني يقدم الكلام في الحد الوسط ويبين شموله وعموه وانه مستلزم للحكم ابتداء
والمقصود هنا أنا إذا حكمنا بعقولنا حكما كليا يعم الموجودات أو يعم المعلومات مثل قولنا : إن الموجود : إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما مشار إليه وإما قائم بالمشار إليه وكل موجودين : فأحدهما إما متقدم على الآخر وإما مقارن له وإما مباين له وإما محايث له وقلنا : إن الصانع : إما أن يكون متقدما على العالم أو مقارنا له وإما أن يكون خارجا عنه أو داخلا فيه - كان علمنا بهذه القضايا الكلية العامة بتوسط ما علمناه من الموجودات
فإذا كنا نعلم أن المعلوم : أما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما فادعى مدع أن الواجب لا يقال : إنه موجود لا معدوم أو ليس بموجود ولا معدوم - كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية - كنا وإن لم نشهد الغائب نعلم أن هذا الخير العام والقضية الكلية تتناول غيره وإذا قلنا لهذا : هل يمكنك إثبات شيء في الشاهد ليس بموجود ولا معدوم ؟ قلنا : لا قلنا له : فكيف تثبت في الغائب ما ليس بموجود ولا معدوم ؟ - كنا قد أبطلنا قوله

قول القائل : أنا لا أصفه بالوصفين المتقابلين لأن القابل لذلك لا يكون إلا جسما
فإذا قال : أنا أصفه لا بهذا ولا بهذا بل أنفي عنه هذين الوصفين المتقابلين لأن اتصافه بأحدهما إنما يكون لو كان قابلا لأحدهما وهو لا يقبل واحدا منهما لأنه لو قبل ذلك لكان جسما إذ هذه من صفات الأجسام فإذا قدرنا موجودا ليس بجسم لم يقبل لا هذا ولا هذا - قيل له : فهكذا سائر الملاحدة إذا قالوا : لا نصفه لا بالحياة ولا بالموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا البصر ولا العمى ولا السمع ولا الصمم لأن اتصافه بأحدهما فرع لقبوله لأحدهما وهو لا يقبل واحدا منهما لأن القابل للاتصاف بذلك لا يكون إلا جسما فإن هذه من صفات الأجسام فإذا قدرنا موجودا ليس بجسم لم يقبل هذا ولا هذا فما كان جوابا لهؤلاء الملاحدة فهو جواب لك فما تخاطب به أنت النفاة الذين ينفون ما تثبته أنت يخاطبك به المثبتون لما تنفيه أنت حذو القذة بالقذة
ونحن نجيبك بما يصلح أن تجيب أنت ونحن به لسائر الملاحدة فإن حجتك عليهم قاصرة وبحوثك معهم ضعيفة كما بينا ضعف مناظرة هؤلاء الملاحدة في غير موضع

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : إن ما يقدر عدم قبوله ولهذا أشد نقصا واستحال وامتناعا من وصفه بأحد النقيضين مع قبوله لأحدهما وإذا قدرنا جسما حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما كالإنسان والملك وغيرهما كان ذلك خيرا من الجسم الأعمى الأصم الأبكم وإن أمكن أن يتصف بضد الكمال
وهذا الجسم الأعمى الأصم الذي يمكن اتصافه بتلك الكمالات أكمل من الجماد الذي لا يمكن اتصافه لا بهذا ولا بهذا والجسم الجماد خير من العدم الذي يكون لا مباينا لغيره ولا مداخلا له ولا قديما ولا محدثا ولا واجبا ولا ممكنا فأنت وصفته بما لا يوصف به إلا ما هو أنقص من كل ناقص

الوجه الثاني
أن يقال : قولك : ( فهذه من صفات الأجسام ) لفظ مجمل فإن عنيت أن يكون هذه الصفات لا يوصف بها إلا من هو من جنس المخلوقات وإذا وصفنا الرب بها لزم أن يكون من جنس الموجودات مماثلا لها - كان هذا باطلا فإنك لا تعلم أن هذه لا يوصف إلا مخلوق فإن هذا أو المسألة فلو قدرت أن تبين أن هذه لا يوصف بها إلا مخلوق لم تحتج إلى هذا الكلام يقال لك : لا سبيل لك إلى هذا النفي ولا دليل عليه
وإن قلت : إن هذه الصفات توصف بها المخلوقات وتوصف بها الأجسام
قيل لك : نعم وليس في كون الأجسام المخلوقة توصف بها ما يمنع اتصاف الرب بما هو اللائق به من هذا النوع كاسم الموجود والثابت والحق والقائم بنفسه ونحو ذلك فإن هذه الأمور كلها توصف بها الأجسام المخلوقة فإن طرد قياسه لزم الإلحاد المحض والقرمطة وأن يرفع النقيضين جميعا فيقول : لا موجود ولا معدوم ولا ثابت ولا منتف ولا حق ولا باطل ولا قائم بنفسه ولا بغيره وهذا لازم قول من نفى الصفات وحينئذ فيلزمه الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين ويلزمه أن يمثله بالممتنعات والمعدومات فلا يفر من محذور إلا وقع فيما هو شر منه

الوجه الثالث
أن يقال لهذا النافي للمباينة والمداخلة : أنت تصفه بأنه موجود قائم بنفسه قديم حي عليم قدير وأنت لا تعرف موجودا هو كذلك إلا جسما فلا بد من أحد الأمرين : إما أن تقول : هو موجود حي عليم قديم وليس بجسم فيقال لك : وهو أيضا له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم ويقال لك : هو مباين للعالم عال عليه وليس بجسم
وإن قلت : يلزم من كونه مباينا للعالم عاليا عليه أن يكون جسما لأني لا أعقل المباينة والمحايثة إلا من صفات الأجسام
قيل لك : ويلزم من كونه حيا عليما قديرا أن يكون جسما لأنك لا تعقل موجودا حيا عليما قديرا إلا جسما فهذا نظير هذا فما تقوله في أحدهما يلزمك نظيره في الآخر وإلا كنت متناقضا مفرقا بين المتماثلين
وإما أن تقول : أنا أقول : إنه موجود قائم بنفسه حي عليم قدير لأن ذلك قد علم بالشرع والعقل وإن لزم أن يكون جسما التزمته لأن لازم الحق حق
قيل لك : وهكذا يقول من يقول : إنه فوق العالم مباين له : أنا أصفه بذلك لأنه قد ثبت ذلك بالشرع والعقل وإذا لزم من ذلك أن يكون جسما التزمته لأن لازم الحق حق
وإما أن تقول : أنا لا أعرف لفظ الجسم أو تقول : لفظ الجسم فيه إجمال وإبهام فإذا عنيت به الجسم المعروف في اللغة وهو بدن الإنسان لم أسلم لأني لا أعلم موجودا حيا عالما قادرا إلا ما كان مثل بدن الإنسان فإن الروح هي أيضا حية عالمة قادرة وليست من جنس البدن وكذلك الملك وغيره
وإن عنيت بالجسم أنه يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بحيث ينفصل بعضه عن بعض الفعل
قيل : أنا أتصور موجودا عالما قادرا قبل أن أعلم أنه يمكن تفريقه وتبعيضه فلا يلزم من تصوري للموجود الحي العالم القادر أن يكون قابلا لهذا التفريق والتبعيض
وإن عنيت بالجسم أنه يمكن أن يشار إليه إشارة حسية لم يكن هذا ممتنعا عندي بل هذا هو الواجب فإن كان ما لا يمكن أن يشار إليه لا يكون موجودا
وإن عنيت بالجسم انه يمكن مركب من الجواهر المنفردة الحسية أو من المادة والصورة اللذان يجعلان جوهران عقليان فأنا ليس عندي شيء من الأجسام كذلك فضلا عن أن يقدر مثل ذلك فإذا كنت نافيا لذلك في المخلوقات البسيطة فتنزيه رب العالمين عن ذلك أولى
وإن عنيت بالتبعيض أنه يمكن أن يرى منه شيء دون شيء كما قال ابن عباس وعكرمة وغيرهما من السلف ما يوافق ذلك لم أسلم لك أن أن هذا ممتنع
وإن عنيت بالجسم أنه يماثل شيئا من المخلوقات لم نسلم الملازمة
فأي شيء أجبت به الملحدة من هذه الأجوبة قال لك المثبت لمباينته للعالم وعلوه عليه مثل ما قلت أنت لهؤلاء الملاحدة
قال ما تعني بقولك : لو كان عاليا على العالم مباينا له كان جسما ؟ إن عنيت أنه بدن لم نسلم لك الملازمة
وإن عنيت انه يبل التفريق والتبعيض فكذلك
وإن عنيت أنه مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة لم نسلم الملازمة أيضا
وإن عنيت شيئا أنه يكون مماثلا لشيء من المخلوقات لم نسلم الملازمة
وإن عنيت أنه يشار إليه أو أنه يرى منه شيء دون شيء منع انتفاء اللازم

الوجه الرابع
أن يقال : الحكم بأن المعلوم : إما موجود وإما معدوم وأن الموجود : إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما متقدم على غيره وإما مقارن له وإما مباين لغيره وإما محايث له وأن القائم بنفسه أو القائم القابل لصفات الكمال : إما حي وإما ميت وإما عالم وإما جاهل وإما قادر وإما عاجز وإن ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله وأن المتصف بصفات الكمال أكمل من المتصف بصفات النقص وممن لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا
وهذه العلوم وأمثالها مستقرة في العقول وهي إما علوم ضرورية أو قريبة من الضرورية والقطع بها أعظم من القطع بوجود موجود لا يمكن الإشارة الحسية إليه وأن الواجب الوجود لا يشار إليه فإن ما يشار إليه فهو جسم فلو أشير إليه لكان جسما وليس بجسم فإن هذه الأمور إما أن تكون معلومة الفساد بالضرورة أو بالنظر وإما أن تكون إذا علمت لا تعلم إلا بطرق نظرية فلا يمكن القدح بها في تلك المقدمات الضرورية فالاعتبار والقياس تارة يكون بلفظ الشمول والعموم وتارة بلفظ التشبيه والتمثيل
وكذلك إذا قلنا : إما أن يكون قائما بنفسه أو بغيره أو قديما أو محدثا أو واجبا أو ممكنا فكذلك إذا قلنا : إما أن يكون مباينا أو محايثا أو داخلا أو خارجا
فبين ابن كلاب - وغره من أئمة النظار - لهؤلاء النفاة : أنكم إذا جوزتم خلو الرب عن الوصفين المتقابلين - الذين يعلمون أنه يمتنع خلو الوجود عنهما - لزمكم مثل ذلك وأن تصفوه بسائر الممتنعات فقال : إذا وصفتموه بأنه لا مماس ولا مباين وأنتم تعلمون أن الموجود الذي تعرفونه لا يكون إلا مماسا أو مباينا فوصفتموه بما هو عندكم محال فيما تعرفونه من الموجودات لزمكم أن تصفوه بأمثال ذلك من المحالات فتقولون : لا قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا غيره ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وأمثال ذلك
وذكر أيضا حجة أخرى رابعة فقال : أليس يقال لما ليس بثابت في الإنسان : لا مماس ولا مباين ؟ فإذا قالوا : نعم قيل : فأخبرونا عن معبودكم : مماس هو أم مباين ؟ فإذا قالوا لا يوصف بهما قيل لهم : فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون عدم كما تقولون للإنسان : عدم إذا وصفتموه بصفة العدم
يقول : أنتم تعرفون أن سلب هذين المتقابلين جميعا هو من صفات المعدومات فالموجود الذي تعرفونه القائم بنفسه لا يقال : إنه ليس مباينا لغيره من الأمور القائمة بأنفسها ولا مماسا لها بخلاف المعدوم فإنه يقال : لا هو مماس لغيره ولا مباين له فإذا وصفتموه بصفة المعدوم فجعلتم ما هو صفة لما هو عدم في الموجودات صفة للخالق الموجود الثابت وحينئذ فيمكن أن يوصف بأمثال ذلك فيقال : هو عدم كما يوصف ما عدم من الأناسي بأنه عدم فقال لهم : إذا كان عدم الموجود وجودا له فإذا كان العدم وجودا كان الجهل علما والعجز قوة أي إذا جعلتم المعدوم - الذي لا يعقل إلا معدوما - جعلتموه موجودا أمكن حينئذ أن يجهل علما والعجز قوة والموت حياة والخرس كلاما والصمم سمعا والعمى بصرا وأمثال ذلك
وهذا حقيقة قول النفاة فإنهم يصفون الرب بما لا يوصف به إلا المعدوم بل يصفون الموجود الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم بصفات الممتنع الذي لا يقبل الوجود فإن كان هذا ممكنا أمكن أن يجعل أحد المتناقضين صفة لنقيضه كما ذكر
ولا ريب أن النفاة لا تقر بوصفه بالامتناع والعدم والنقائص لكن نقول : لا نصفه لا بهذا ولا بهذا لا نصفه بالعلم ولا الجهل ولا الحياة ولا الموت ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس
فإذا قيل لهم : عن لم يوصف بصفة الكمال لزم اتصافه بهذه النقائص
قالوا : هذا إنما يكون فيما يقبل الاتصاف بهذا وهذا
ويقول المنطقيون : هذان متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعا بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فإنهما قد يرتفعان جميعا إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات فإنها لما لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها إنها حية ولا ميتة ولا عالمة ولا جاهلة وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار وأضلوا به خلقا كثيرا حتى الآمدي وأمثاله من أذكياء النظار اعتقدوا أن هذا كلام صحيح وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة ومتكلمو أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات
وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح المعلوم بالعقل الصريح
وجواب هذا من وجوه بسطناها في غير هذا الموضع
منها أن يقال : فما يقبل الاتصاف بهذه الصفات مع إمكان انتفائه عنه أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها بحال فالحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة فيكون إما سميعا وإما أصم وإما بصيرا وإما أعمى وإما حيا وإما ميتا - أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا ولا هذا بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك
فإذا قلتم : إن الموجود الواجب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال - مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها - جعلتموه أنقص من الحيوانات وجعلتموه بمنزلة الجمادات وكان من وصفه بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بالكمالات خيرا منكم فمن وصفه بالعمى والصمم والعور مع إمكان زول هذه النقائص عنه - كان خيرا منكم
وهم يشنعون بما يحكى عن بعض ضلال اليهود والنصارى من أن الله ندم على الطوفان حتى عض على إصبعه وجرى الدم وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وآلى على نفسه أنه لا يغرق بنيه وأن بعض بني إسرائيل وجده ينوح على خراب بيت المقدس وفي بعض كتب النصارى أنه ينام
ومن قال إن بشرا - كمسيح الهدى ومسيح الضلالة - أنه الله مع كونه يأكل ويشرب وأنه أعور
وأمثال هؤلاء الذين يصفونه بهذه النقائص - مع إمكان اتصافه بالكمال - هم خير ممن يقول : لا يمكن اتصافه بصفات الكمال بحال
بل من جعل يأكل ويشرب فهو خير ممن يقول : لا يمكن أن يكون حيا ولا عالما ولا قادرا فإن الحي الذي يأكل ويشرب خير من الجماد الذي لا يعلم ولا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر علم أن من نفى عنه صفات الكمال كان شرا من جميع هذه الطوائف فإنهم جعلوه كالمعدوم أو الجماد وهؤلاء شبهوه بالحيوان الذي فيه صفة كمال مع نوع من النقص فكان تعطيل الأول له من صفات الكمال وتمثيله له بالمعدومات والجمادات شرا من تعطيل هذا له عن بعض صفات الكمال مع إثباته لكثير من صفات الكمال وكان تشبيهه له بالحيوان أمثل من تشبيه ذاك له بالجماد والمعدوم
وهكذا من قيل له : هو واجب فإنه إن لم يكن واجبا كان ممكنا وهو قديم فإنه إن لم يكن قديما كان محدثا وهو خالق فإن القائم بنفسه إن لم يكن خالقا كان مخلوقا وهو مباين للعالم خارج عنه فإنه إن لم يكن مباينا له خارجا عنه كان داخلا فيه محصورا محوزا

كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة في إثبات علو الله واستوائه
وممن ذكر ذلك الإمام أحمد فيما خرجه في ( الرد على الزنادقة والجهمية ) قال : ( بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش ؟ وقد قال الله عز و جل : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] فقالوا هو تحت الأرضين السبعة كما هو على العرش فهو على العرش وفي السماوات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان وتلو آيات من القرآن : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فقلنا قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء
فقالوا : أي شيء ؟ قلنا أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء وقد أخبرنا أنه في السماء فقال : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } [ الملك : 16 ] { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } [ الملك : 17 ] وقال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] وقال : { إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران : 55 ] وقال : { بل رفعه الله إليه } [ النساء : 158 ] وقال : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } [ الأنبياء : 19 ] وقال : { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] وقال : { ذي المعارج } [ المعارج : 3 ] وقال : { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] وقال : { وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ]
فهذا خبر الله أنه في السماء ووجدنا كل شيء أسفل مذموما بقول الله عز و جل : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] وقال : { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } [ فصلت : 29 ]
وقلنا لهم : أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد ؟
ولكن معنى قول الله عز و جل : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } [ آل عمران : 129 ] يقول : هو إله من في السماوات وإله من في الأرض وهو الله على العرش وقد أحاط الله بعلمه ما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان
وذلك قوله تعالى : { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } [ الطلاق : 12 ]
ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شيء صاف لكان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح والله وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه
وخصلة أخرى لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار
فالله عز و جل - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق وعلم كيف هو وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق
وما تأوله الجهمية من قول الله عز و جل : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] فقالوا : إن الله عز و جل معنا وفينا قال : فقلنا : فلم قطعتم الخبر من أوله بأن الله يقول : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } يعني : إلا الله - بعلمه - رابعهم { ولا خمسة إلا هو } بعلمه { سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم } يعني بعلمه فيهم { أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } [ المجادلة : 7 ] يفتح الخبر بعلمه فيهم ويختمه بعلمه
ويقال للجهمي : إذا قال : إن الله معنا بعظمة نفسه قيل له : هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه ؟ فإن قال : نعم فقد زعم أن الله يباين خلقه وأن خلقه دونه وإن قال لا كفر وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له : أليس الله كان ولا شيء ؟ فيقول : نعم فقل له : حين خلق الشيء خلقه من نفسه أو خارجا من نفسه ؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل : واحد منها : إن زعم أن الله خلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال : خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء وإن قال : خلقهم خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة )

تعليق ابن تيمية
فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له ومع المحايثة : إما أن يكون هو العالم وإما أن يكون العالم فيه لأنه سبحانه قائم بنفسه والقائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها قد تكون جميعا قائمة بغيرها
فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده وأن أحدا لا يقول به إذ من المعلوم لكل أحد أن الله تعالى قائم بنفسه لا يجوز أن كون من جنس الأعراض التي تفتقر إلى محل يقوم به
وكذلك من هذا الجنس قول من يقول : لا هو مباين ولا محايث لما كان معلوما بصريح العقل بطلانه لم يدخله في التقسيم إذ من المستقر في صريح العقل أن الموجود : إما مباين لغيره وإما مداخل له فانتفاء هذين القسمين يبطل قول من يجعله لا مباينا ولا مداخلا كالمعدوم وقول من يجعله حالا في العالم مفتقرا إلى المحل كالأعراض إذ المفتقر إلى المحل لا يقوم بنفسه ولا يكون غنيا عما سواه فيمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه
ولهذا لم يقل مثل هذا أحد من العقلاء وإن قال بعضهم ما يستلزم ذاك فما كل من قال مذهبا التزم لوازمه
وقد نفى أيضا قول من يقول : هو في كل مكان بتقسيم آخر من هذا الجنس إذ القائل بأنه لا داخل العالم ولا خارجه لا يمكنه أن ينفي قول من يقول : إنه في كل مكان لأنه إن جوز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يقبل الإشارة إليه لم يمكنه مع هذا السلب أن ينفي قول من يقول : هو في كل مكان لا الجسم مع الجسم ولا كالعرض مع العرض أو الجسم فإنه إذا احتج على نفي ذلك بأنه لو كان في كل مكان للزم احتياجه إلى محل أو نحو ذلك قال له المنازع : هو في كل مكان وهو مع ذلك لا يحتاج إلى محل فإن المحتاج إلى المحل إنما هو العرض أو الجسم وهو ليس بجسم ولا عرض بل هو لا مماس للأشياء ولا مباين لها إذ المماسة والمباينة من صفات الجسم وهو ليس بجسم
كما قد يقول : إنه في كل مكان وليس بحال ولا مماس ولا مباين فإذا قال النافي : هذا لا يعقل قال له نظيره الذي يقول : لا داخل العالم ولا خارجه : وقولك أيضا لا يعقل فكلا القولين مخالف للمعروف في العقول فليس إبطال أحدهما دون الآخر بأولى من العكس
وإنما يمكن أن يرد على الطائفتين أهل الفطر السليمة الذين لم يقولوا ما يناقض صريح العقل
ومن المعلوم أن من قال : إنه في العالم مثل كون القائم بنفسه في القائم بنفسه - كان قوله أقل فسادا من قول من قال : إنه في العالم كالقائم بغيره مع القائم بنفسه فإن هذا لا يقوله عاقل فإذا بطل الأول بطل الثاني
فأبطل الإمام أحمد هذا القول أيضا فقال : ( بيان ما ذكره الله في القرآن من قوله تعالى : { وهو معكم } [ الحديد : 4 ]

كلام آخر للإمام أحمد عن المعية
وهذا على وجوه : قول الله لموسى : { إنني معكما } [ طه : 46 ] يقول في الدفع عنكما
وقال : { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } [ التوبة : 40 ] يقول : في الدفع عنا وقال : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } [ البقرة : 249 ] يقول : في النصر لهم على عدوهم
وقال : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } [ محمد : 35 ] في النصر لكم على عدوكم
وقال : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم } [ النساء : 108 ] يقول : بعلمه فيهم
وقال : { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين } [ الشعراء : 61 62 ] يقول : في العون على فرعون
قال : ( فلما ظهرت الحجة على الجهمي لما ادعى على الله أنه مع خلقه في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا : إذا كان غير مباين أليس هو مماسا ؟ قال : لا قلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس له ولا مباين له ؟ فلم يحسن الجواب فقال : بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم فقلنا له : إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء ؟ قال : بلى قلنا : فأين يكون ربنا : قال : يكون في الآخرة في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا في كل شيء قلنا فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى )

تعليق ابن تيمية
فكان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يبينون فساد قول الجهمية سواء قالوا : إنه في كل مكان أو قالوا : لا داخل العالم ولا خارجه أو قالوا : إنه في العالم أو خارج العالم إذ جماع قولهم أنه ليس مباينا للعالم مختصا بما فوق العالم
ثم هم مع هذا مضطربون : يقولون هذه تارة وهذا تارة ولا يمكن بعض طوائفهم أن يفسد مقالة الأخرى لاشتراكهم في الأصل الفاسد
ولهذا كان الحلولية والاتحادية منهم الذين يقولون : إنه في كل مكان يحتجون على النفاة منهم الذين يقولون : ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له بأن قد اتفقنا على أنه ليس فوق العالم وإذا ثبت ذلك تعين مداخلته للعالم إما أن يكون وجوده وجود العالم أو يحل في العالم أو يتحد به كما قد عرف من مقالاتهم
والذين أنكروا الحلول والاتحاد من الجهمية ليست لهم على هؤلاء حجة إلا من جنس حجة المثبتة عليهم وهو قول المثبتة : إن ما لا يكون داخلا ولا مباينا غير موجود فإن أقروا بصحة هذه الحجة بطل قولهم وإن لم يقروا بصحتها أمكن إخوانهم الجهمية الحلولية أن لا يقروا بصحة حجتهم إذ هما من جنس واحد

كلام الرازي في الرد على الحلولية
واعتبر ذلك بما ذكره الرازي في الرد على الحلولية فإنه لما ذكر الكلام : ( في أنه يمتنع حلول ذاته أو صفة من صفاته في شيء ) ذكر : أن النصارى تقول بالحلول تارة والتحاد تارة أخرى ) قال : ( والحلول باطل لأن الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل فحلوله بصفة الجواز ينفي افتقار الحال إلى المحل وبصفة الوجوب يقتضي افتقار الواجب إلى غيره وحدوثه أو قدم المحل )
قال : ( فإن قلت : أنه قد يقتضي الحلول بشرط وجود المحل أو المحل يقتضي حلوله فيه فلم يلزم قدم المحل ولا حلول الواجب
قلت : كلاهما يمنع وجوب الحلول والاتحاد باطل لأن المتحدين إن بقيا عند الاتحاد أو عدما وحصل ثالث فلا اتحاد فإن بقي أحدهما دون الآخر فلا اتحاد لامتناع كون المعدوم عين الموجود )
قال الرازي : ( ناظرت بعض النصارى فقلت : تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ؟ قال : نعم فقلت : فما الدليل على أنه تعالى لم يحل في بدن زيد ولا عمرو والذبابة والنملة ؟ فقال : لأنه ثبت في حق عيسى أنه أحيى الأموات وأبرأ الأكمه والأبرص ولم يوجد في حق غيره فقلت له : فقد سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ولأنه ظهر على يد موسى قلب العصا ثعبانا وانقلاب الخشبة ثعبانا أعجب من انقلاب الميت حيا فهو أولى بالدلالة على الحلول في الجملة )
قال : ( وبالجملة مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه )

تعليق ابن تيمية
قلت : ما ذكره من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح ولكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة
وذلك أن الحلول على وجهين :
أحدهما : أهل الحلول الخاص كالنصارى والغالية من هذه الأمة الذين يقولون بالحلول إما في علي وإما في غيره
الثاني : القائلون بالحلول العام الذين يقولون في جميع المخلوقات نحوا مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام أو ما هو شر منه ويقولون : النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا كما يقول ذلك الاتحادية أصحاب صاحب ( الفصوص ) وأمثاله وهم كثيرون في الجهمية
بل عامة عباد الجهمية وفقهائهم وعامة الذين ينتسبون إلى التحقيق من الجهمية هم من هؤلاء كابن الفارض وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم
فإذا قال الجهمي الذي يقول : إنه في كل مكان ويقول مع ذلك بأن وجوده غير وجود المخلوقات أو يقول بالاتحاد من وجه والمباينة من وجه كما هو قول ابن عربي وأمثاله كما حكى الإمام أحمد عنهم يقول : إنه في كل مكان لا مماس للأمكنة ولا مباين لها وأنه حال في العالم أو متحد به لا كحلول الأعراض والأجسام في الأجسام وأشباه ذلك
فاحتج موافقوهم على نفي المباينة كالرازي وأمثاله بما ذكروه من قولهم : الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل فإما أن يكون الحلول جائزا أو واجبا فإن كان جائزا انتفى افتقاره إلى المحل فلزم الجمع بين النقيضين : أن يكون مفتقرا إلى المحل غير مفتقرا إليه لكون حلوله جائزا لا واجبا وإن كان الحلول واجبا لم يكن الحال واجبا بنفسه بل بغيره
قال لهم الحلولية : قولكم الحلول المعقول يقتضي افتقار الحال إلى المحل إنما يكون إذا كان الحال عرضا فضلا عن أن يكون جسما فضلا عن أن يكون لا جسما ولا عرضا فأما إذا قدر حال ليس بجسم ولا عرض فلم قلتم : إن حلوله يقتضي افتقاره إلى المحل ؟ وقالوا لهم : إذا جوزتم وجود موجود لا مباين لغيره ولا حال فيه فلم لا يجوز وجود موجود حال في غيره ليس مفتقرا إليه ؟
فإذا قلتم : لا نعقل حالا في شيء إلا مفتقرا إليه
قيل لكم : هذا كما قلتموه للمثبتة : هذا من حكم الهم والخيال لما قال المثبتة : لا نعقل موجودا إلا مباينا لغيره أو محايثا له
وهذا هو السؤال الذي أورده أحمد من جهة الجهمية حيث قالوا : ( هو في كل مكان : لا مماس ولا مباين فضلا عن أن يقولوا : مفتقرا فإن الافتقار إنما يعقل في حلول الأعراض فأما حلول الأعيان القائمة بأنفسها في الأعيان القائمة بأنفسها فلا يجب فيه الافتقار
والقائلون بالحلول إنما يقولون : هو حلول عين في عين لا حلول صفة في محل فلهذا قال لهم الإمام أحمد وأمثاله : أهو مماس أو مباين ؟ فإذا سلبوا هذين المتقابلين تبين مخالفتهم لصريح العقل وكانت هذه الحجة عليهم خيرا من حجة الرازي حيث أنه نفى حلول العرض في محله فإن هذا لم يقله أحد
وكذلك ما نفاه من الاتحاد ليس فيه حجة على ما ادعوه من الاتحاد فإنهم لا يقولون ببقائهما بحالهما ولا ببقاء أحدهما وإنما يشبهون الاتحاد باتحاد الماء واللبن والماء والخمر واتحاد النار والحديد
فقوله : ( هذا ليس باتحاد ) نزاع لفظي فهم يسمون هذا اتحادا فلا بد من بيان بطلان ما أثبتوه من الحلول والاتحاد وإلا كان الدليل منصوبا في غير محل النزاع
أما الأئمة الذين ردوا على الحلولية فأبطلوا نفس ما ادعوه وإن كان هؤلاء لا يقرون بأنا نقول بالحلول كما لا يقر القائلون بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بالتعطيل فلزوم الحلول لهؤلاء كلزوم التعطيل لهؤلاء والتعطيل شر من الحلول
ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا لأن العقول تنفر عن التعطل أعظم من نفرتها عن الحلول وتنكر قول من يقول : إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطرق الأولى
ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء
وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة فذكروها في مثالبه وهو أنه كان له أخت نصرانية وأنها هجرته لما أسلم وأنه قال لها : أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم فرضيت عنه لأجل ذلك
وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى وهو أشبه بالنصارى لأنه يلزمهم أن يقولوا : إنه في كل مكان وهذا أعظم من قول النصارى أو أن يقولوا ما هو شر من هذا وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه
ولهذا كان غير واحد من العلماء كعبد العزيز المكي وغيره يردون عليهم بمثل هذا ويقولون : إذا كان المسلمون كفروا من يقول : إنه حل في المسيح وحده فمن قال بالحلول في جميع الموجودات أعظم كفرا من النصارى بكثير
وهم لا يمكنهم أن يردوا على من قال بالحلول إن لم يقولوا بقول أهل الإثبات القائلين بمباينته للعالم فيلزمهم أحد الأمرين : إما الحلول وإما التعطيل والتعطيل شر من الحلول ولا يمكنهم إبطال قول أهل الحلول مع قولهم بالنفي الذي هو شر منه وإنما يمكن ذلك لأهل الإثبات
وهم وإن قالوا : إن مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه فلا يقدرون على إبطاله مع قولهم بالتجهم ولهذا لم يكن فيما ذكروه حجة على إبطاله فيلزمهم : إما إمكان تصحيح قول النصارى والحلولية وإما إبطال قولهم وهذا لا حيلة فيه لمن تدبر ذلك
وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد حيث يقال : إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا ويقولون : النصارى كفرهم لأجل التخصيص وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي بل يعبد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب الفتوحات المكية و فصوص الحكم وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعا بل هؤلاء يخضعون لأولئك ويعتقدون فيهم ولاية الله وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق كما قد رأيناه وجربناه
وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد والتصوف والأخلاق ودعوى المكاشفات والمخاطبات ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم كما يسلمون للنبي صلى الله عليه و سلم ما لا يفهمونه من أقواله فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول بمثابة من صدق محمدا رسول الله ومسيلمة الكذاب : صدق كلا منهما في أنه رسول كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه و سلم
فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية أو نفاة العلو وحده إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات أعرضوا عن فهم معناها وإثبات موجبها ومقتضاها وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها وآمنوا للرسول إيمانا مجملا بأنه لا يقول إلا حقا ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالا مستقرا إلا بإثبات نقيضه
فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى إما مباين للعالم وإما مداخل له كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة بل إما أن يقر بالمداخلة وإما أن يبقى خاليا من اعتقاد المتقابلين المتناقضين ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده ولا ينكره ولا يرده بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمدا قال : إنه رسول الله وأن مسيلمة قال : إنه رسول الله وهو لم يصدق واحدا منهما ولم يكذب واحدا منهما فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه
فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو
وقول النفاة للمباينة والمداخلة جميعا لما كان في حقيقة الأمر نفيا للمتقابلين المتناقضين بمنزلة قول القرامطة الذين يقولون : لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز - كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة فإن كلاهما مبطل لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين فلهذا لا تكاد تجد أحدا من نفاة المباينة والمداخلة جميعا أو من الواقفة في المباينة يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها وكانت حجتهم أقوى من حجته
فإذا قال لهم : لا يعقل الحلول إلا حلول العرض فيكون الحال مفتقرا إلى المحل أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم : لو كان حالا لم يخل من المباينة والمماسة فإن القائم بنفسه إذ حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا - قالوا للنفاة : هذا إنما يكون إذا كان الحال متخيرا أو قائما بمتحيز أو قالوا : هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها فأما إذا قدرنا موجودا قائما بنفسه ليس بجسم ولا متحيز لم يمتنع أن يكون حالا بلا افتقار إلى المحل ولا مماسة ولا مباينة
فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة : هذا لا يعقل
قالوا لهم : إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه ولا مباين للعالم ولا محايث له ولا داخل فيه ولا خارج عنه وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم : قائم بنفسه لا مماس له ولا مباين له وليس بجسم ولا متحيز أو وجود موجود مباين له وليس بجسم ولا متحيز - كان هذا أقرب إلى العقل
وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه ولا يكون محيزا : لا جسما ولا جوهرا : إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قول من يثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه وكان حينئذ قول من أثبت موجودا خارج العالم أو داخله وقال : إنه لا يشار إليه - أقل فسادا في العقل من هذا وإن كان وجود موجود لا يشار إليه و ولا يكون جسما ولا متحيزا ممكنا في العقل فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك : إنه خارج العالم لم يجب أن يشار إليه ولا يكون جسما منقسما ولا مطابقا موازيا محاذيا للعرش لا أكبر ولا أصغر ولا مساويا
وإن قيل مع ذلك : إنه حال في العالم لم يجز أن يقال : إنه مماس أو مباين لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه فما لا يكون جسما لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا وإذا كان قائما بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال : هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل بل إثبات ما لا يشار إليه وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه ولا هو داخل العالم ولا خارجه
ومما يقرر هذه الحجج : أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأن نفي ذلك ليس معلوما بضرورة العقل - احتجوا على ذلك بإثبات الكليات واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس وقالوا : إنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا توصف بحركة ولا سكون ولا مباينة لغيرها ولا حلول فيه
قالوا : وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء : إذا جوزتم إثبات الكليات لا داخل العالم ولا خارجه مع أنها متعلقة بمعينات بل جعلتموها جزءا من المعينات حيث قلتم : المطلق جزء من المعين وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية لا داخل العالم ولا خارجه مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف وجوزتم أيضا وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم فما المانع أن يكون واجب الوجود مع تدبيره وتصريفه للعالم متعلقا به تعلق النفوس بالأبدان وتعلق الكليات بالأعيان
والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا : إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقا بالأبدان بل الموجودات كلها كذلك وكان قول الجهمية الذين يقولون : إن اللاهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول : إن المجردات في الأبدان والأعيان
ومما يزيد الأمر وضوحا أن هؤلاء الفلاسفة المشائين ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمس أنواع من الجواهر : واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه وهو الجسم في اصطلاحهم وأربعة : هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها وهي : العقل والنفس والمادة والصورة مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة وهما جوهران عقليان كما يقولون : إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها
فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة معها جواهر عقلية لا ينالها الحس بحال ويجعلون هذا حالا وهذا محلا - لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالا أو محلا لهذه المحسوسات
وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم كابن سبعين وأمثاله فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن - كالمادة مع الصورة وكالصورة مع المادة أو ما يشبه ذلك - يجعلون الوجود الواجب جزءا من الممكن كما أن المطلق جزء من المعين حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطا بوجود المشروط فيكون كل منهما شرطا في وجود الآخر

كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن
وهذه حقيقة قولهم : يجعلون الواجب مع الممكن كل منهما مفتقر إلى الآخر ومشروط به كالمادة والصورة فابن عربي يجعل أعيان الممكنات ثابتة في العدم والوجود الواجب فاض عليها فلا يتحقق وجوده إلا بها ولا تتحقق ماهيتها إلا به وبنى قوله على أصلين فاسدين
أحدهما : أن الوجود واحد ليس هنا وجودان أحدهما واجب بنفسه والآخر بغيره
والثاني : أن وجود كل شيء زائد عن حقيقته وماهيته وأن المعدوم شيء موافقة لمن هذا وهذا : من المعتزلة والفلاسفة ومن وافقهم من متأخري الأشعرية فالحقائق والذوات عنده ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها فكان كل منهما مفتقرا إلى الآخر ولهذا يقول : إن الحق يتصف بجميع صفات المخلوقات من النقائص والعيوب وأن المخلوق يتصف بجميع صفات الله تعالى من صفات الكمال كما قال : ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وصفات الذم ؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي من أولها إلى آخرها صفات له كما أن صفات المحدثات حق للحق )
ولهذا قال : ( فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة :
{ فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } [ الصافات : 102 ] فالولد عين أبيه فما رأى يذبح غير نفسه { وفديناه بذبح عظيم } [ الصافات 107 ] فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان بل بحكم ولد من هو عين الوالد { وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] فما نكح سوى نفسه )
وقال : ( فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده )
وقال : ( ولما كان فرعون في مرتبة الحكم قال : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا بذلك وقالوا : { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } { فاقض ما أنت قاض } [ طه : 72 ] فالدولة لك فصح قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] وإن كان عين الحق )
وقال : ( فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عتاب موسى على أخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء )
وقال في قصة قوم نوح : { ومكروا مكرا كبارا } [ نوح : 22 ] لأن الدعوة إلى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية )
وقوله : ( ادعوا إلى الله عين المكر فأجابوه مكرا كما دعاهم مكرا ) فقالوا في مكرهم : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } [ نوح : 23 ] فإنهم إذا تركوا هؤلاء جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن الحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله كما قال في المحمديين : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] : أي حكم الله
وفسر قوله : قضى بمعنى قدر لا بمعنى أمر
قال : ( وما حكم الله بشيء إلا وقع )
( والعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود )
وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقا لم يسبق إليه وكان آخر قوله : ( وأن الله في النار نار وفي الماء ماء وفي الحلو حلو وفي المر مر وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء ) كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع
وكذلك ابن حموية الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه
وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها :
( لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت )
( كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة )
( وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة )
إلى أن قال :
( وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت )
( إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلال )
( فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت )
( وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي )
( وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدث )
فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول : أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه فهو المرسل والمرسل إليه والرسول ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره : ( الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله )
ويقول أيضا ( نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ) ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وعنده أن غاية هذا التحقيق والعرفان
ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو : يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه ويرقي بها المرضي كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب كما أخبرنا بذلك الثقاة وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب
ويقول من هو من شعرائهم العارفين :
( وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويشهد هذا السر من هو ذائق )
ويقول :
( وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم )
وأمثال هذا كثير
والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء ومنهم من لا يوافقهم ومن وافقهم يقال له : أين ذاك النفي - لا داخل ولا خارج - من هذا الإثبات ؟ وهو أنه وجود كل موجود
فيقول : هذا حكم عقلي وهذا حكم ذوقي أو يرجع عن ذلك النفي ويقول : المطلق جزء من المعينات والوجود الواجب للموجودات : مثل الكلي الطبيعي للأعيان كالجنس لأنواعه والنوع لأشخاصه كالحيوانية في الحيوانات والإنسانية في الأناسي وهذا غايته أن يجعله شرطا في وجود الممكنات لا مبدعا فاعلا لها فإن الكليات لا تبدع أعيانها بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطا في وجودها بل جزءا منها
ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم أو يقولون : نحن لا نفهم هذا أو يقولون : هذا ظاهره كفر لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها
ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان المنكرين للحلول والاتحاد وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين
فإن قول المشركين الذين يقولون : إنما نعبدهم : { ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] خير من قول هؤلاء فإن هؤلاء أثبتوا خالقا ومخلوقا غيره يتقربون به إليه وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق
وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول : العالم لا هو الله ولا غير الله
ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة وجرى فيها ما جرى من الأحوال ونصر الله الإسلام عليهم طلبنا شيوخهم لنتوبهم فجاء من كان من شيوخهم وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقول لنا ليسلم من العقاب فقلنا له : العالم هو الله أو غيره ؟ فقال : لا هو الله ولا غيره
وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا كان من أعيان شيوخهم ومحققيهم وممن لا أتباع ومريدون وله ولأصحابه سلطان ودولة ومعرفة ولسان وبيان حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة ما كان دخولهم في ذلك سببا لانتقاص الإسلام ومصيره أسوأ من دين النصارى والمشركين لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم وبيان فساد أقاويلهم وإقامة الحجة عليهم وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس الذي باطنه كفر وإلحاد لا يفهمه إلا خواص العباد
والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعا - من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية كابن سينا والرازي وأبي حامد وأمثالهم - أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم بل يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية ردا مستقيما بل إن لم يكن موافقا لهم كان معهم بمنزلة المخنث كالرافضي مع الناصبي فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علنا أو يفسقه فإنه إذا قال للرافضي : بماذا علمت أن عليا مؤمن ولي الله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته وهذا إنما يعلم بالنقل والنقل إما متواتر وإما آحاد
فإن قال له الرافضي : بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته قال له : وهذا أيضا متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم
وقال له أيضا : أنت تقول : إن عليا كان يستجيز التقية وأن يظهر خلاف ما يبطن ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن
فإن قال الرافضي للناصبي : علمت ذلك بثناء النبي صلى الله عليه و سلم وشهادته له بالإيمان والجنة كقوله : [ لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ] وقوله : [ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ] ونحو ذلك
قال له الناصبي : قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول : إنهم ارتدوا بعد موته فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحا أن يكون علي ذلك ؟
وأيضا فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم والكافر والفاسق لا تقبل روايته
فإن قال : هذه نقلها الشيعة
قال له الناصبي : الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وهم يقولون : إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا : إما عشرة أو أقل أو أكثر ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب
فإن قال : أنا أثبت إيمانه بالقرآن كقوله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } [ التوبة : 100 ] وقال : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ]
وقال : { وكلا وعد الله الحسنى } [ النساء : 95 ]
وقوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } [ الفتح : 18 ] قال له الناصبي : هذه الآيات تتناول أبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول عليا ليس في ظاهرها ما يخص عليا فإن جاز أن يدعي خروج هؤلاء منها أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة أمكن الخوارج الذين يكفرون عليا أن يقولوا مثل ذلك
والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على الخوارج وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة الذين يقرون بعموم هذه الآيات وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة وأنهم كانوا صادقين في روايتهم فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة على التناقض
وهكذا الرد على الحلولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنة المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين أو ما هما في معنى النقيضين ورفع النقيضين أشد بطلانا من المناقض الباطل فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما فمن رفع النقيضين أو ما في معناهما لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين إلا ويمكن ممن أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها
ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات كان اعظم بطلانا وفسادا من وصفه بما هو أقرب إلى الموجود
ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب كمالا للموصوف إلا أن تتضمن أمرا وجوديا كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه ولا نوم فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته
وكذلك قال تعالى : { وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] متضمن كمال قدرته
وقوله : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } [ سبأ : 3 ] يقتضي كمال علمه
وكذلك قوله : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] يقتضي عظمته بحيث لا تحيط به الأبصار
وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له ولك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه مشارك له في الصنع فإن ذلك نقص في الصانع فأما العدم المحض والنفي الصرف مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال وكونه لا مباينا للعالم ولا مداخلا له فإن هذا أمر يوصف به المعدوم لا يمكن رؤيته بحال وليس هو مباينا للعالم ولا مداخلا له والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح ولهذا كان تنزيهه الله تعالى بقوله : ( سبحان الله ) يتضمن مع نفي صفات النقص عنه إثبات ما يلزم ذلك من عظمته فكان التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء
ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته كقوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } [ الإسراء : 1 ] وأمثال ذلك
ولما قال : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] كان تنزيهه عما وصفوه به متضمنا لعظمته اللازمة لذلك النفي
وإذا كان كذلك فنفاة النقيضين وما هو في معنى النقيضين لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئا من الإثبات ولا التعظيم بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له
ولهذا من يقول من يعذر الطائفتين : إن هؤلاء قصدوا تنزيهه وهؤلاء قصدوا تعظيمه فإذا كان التنزيه إن لم يتضمن تعظيما لم يكن مدحا كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم من غير أن يكون فيه تعظيم فلم يكن أولئك النفاة أن يبطلوا حج هؤلاء المعظمين له وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقض قالوا لهم : إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقض ما هو أعظم من ذلك
فإن قال النفاة : هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولا يقتضي افتقاره إلى المحل كالصورة مع المادة وكالوجود مع الثبوت ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر نحن قد بينا : إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجا إلى المحل وذلك باطل لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم فقد أبطلنا قول هؤلاء
قيل عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه ليس كل من قال بالحلول يقول افتقاره إلى المحل بل كثير من القائلين بالحلول يقولون : إنه في كل مكان مع استغنائه عن المحل وهو قول النجارية وكثير من الجهمية وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم
الثاني : أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزما للافتقار فأنتم لم تثبتوا غناه عما سواه فإن طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود
وإن قيل : إنها تدل على ذلك فلم تدل على أنه مغاير للعالم بل يجوز أن يكون هو العالم
ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود فإن طريقتهم المشهورة : أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن الممكن لا بد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب ومن قال : كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة ومن قال : إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة أو كالوجود مع الثبوت فقد وفى بموجب هذه الحجة بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم
وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار
ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له محدث وأن الحوادث مشهودة
وهذا حق لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم فيلزم ثبوت قديم لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتا إلا بذلك التقسيم إذ كانوا يجوزون على القديم أن يكون ممكن الوجود فإذا قالوا : القديم إن كان ممكنا فلا بد له من واجب لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن وهذا ممتنع وهو أيضا مستلزم للدور فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود والذي قد يكون قديما وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود
وأيضا فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب وهي باطلة
وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول : الواجب هو حال وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن وهذا الممكن لا يمكن إثباته
وأيضا فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث والحادث لا بد له من القديم والقديم لا يستلزم أن يكون واجبا
وإذا قالوا : القديم إن كان واجبا ثبت الواجب وإن كان ممكنا ثبت الواجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين
قيل : هذا إذا صح لزم أنه لا بد من واجب كما أن الموجود مستلزم أنه لا بد من واجب وهذا مما لا نزاع فيه لكنه لا يدل على إثبات صانع لا على أنه مغاير للأفلاك ولا على أنه ليس بحال بل يستلزم أنه لا بد من موجود يمتنع عدمه وهذا مما يوافق عليه منكرو الصانع والقائلون بقدم العالم وأهل الحلول وغيرهم فتبين أنه ليس في كلامهم إبطال مذهب الحلول
والمقصود هنا أن السلف والأئمة كانوا يردون على من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى وقول النفاة لمباينته للعالم ومداخلته له أبعد عن العقل من قول المثبتين لأنه قائم بنفسه في كل مكان مع نفي مماسته ومباينته
والسلف ردوا هذا وهذا وكان ذلك تنبيها على إبطال الحلول بمعنى حلول العرض في المحل لكن هذا لم يقل به أحد وإن كان النفاة لم يمكنهم إلا إبطاله خاصة دون أقوال أهل الحلول المعروفة عنهم
ومما يبين هذا أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه قديم أزلي لا يجوز عليه العدم ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه
فالنفاة تصفه بهذه الصفات السلبية : أنه لا مباين للعالم ولا مداخل ولا فوق ولا تحت ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء وأمثال ذلك بل ويقولون أيضا : إنه لا تمكن رؤيته ولا غير ذلك من الإحساس به ولا يمكن الإشارة إليه
وآخرون منهم يقولون : ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا غير ذلك من الصفات
وآخرون يقولون : لا يسمى موجودا حيا عالما قادرا إلا مجازا أو بالاشتراك اللفظي وأن هذه الأسماء لا تدل على معنى معقول ويقولون : إذا أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون متحيزا والمتحيز مركب أو كالجوهر الفرد في الصغر ونحو ذلك فيفرون من هذه الصفات لاعتقادهم أن ذلك يقتضي التجسيم والأجسام عندهم موجودة لكنها عند بعضهم محدثة وعند بعضهم ممكنة فإذا وصفوا الواجب القديم بذلك لزم أن يكون عندهم ممكنا أو محدثا وذلك ينافي وجوبه وقدمه ويقولون : إن هذه المقدمات معلومة بالنظر
وأما المثبتون فيقولون : الموصوف بهذه الصفات السلبية لا يكون إلا ممتنعا والامتناع ينافي الوجود فضلا عن وجوب الوجود فيقولون : إن الواصفين له بهذه الصفات وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود
ويقولون : إن هذه المقدمات معلومة بالضرورة فهم يقولون لأولئك : أنتم فررتم من وصفه بالإمكان فوصفتموه بالامتناع ومن وصفه بالحدوث فوصفتموه بالعدم
ويقولون : إن الأجسام الجامدة خير من الموصوف بهذه الصفات فضلا عن الأجسام الحية الناقصة فضلا عن الأجسام الحية الكاملة ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين جسم حي كامل وبين معدوم أو ممتنع كان ذلك خيرا من هذا وإن كانت هذه النتيجة لازمة لمقدمات يقول أهلها : إنها معلومة بالاضطرار كانت أثبت من مقدمات يقول أهلها : أنتم لا تعلمونها إلا بالنظر مع اختلافهم في كل مقدمة منها
فعلم بذلك أن المثبتة هم أقطع بما يقولونه وأشد تعظيما لما يثبتونه وأن النفاة أقرب إلى الظن وأبعد عن التعظيم والإثبات
يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبت هذه الصفات : من العلو والمباينة ونحو ذلك للزم أن يكون جسما وكون الواجب القديم جسما ممتنع وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين والعمدة فيها طريقان : طريق الجهمية والمعتزلة وطريق الفلاسفة
ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء وأهل الكلام من الأشعرية وغيرهم فهو تبع فيها : إما للمعتزلة والجهمية وإما للفلاسفة
فأما المعتزلة والجهمية فطريقهم هي طريق الأعراض والحركات وأنه لو ثبت للقديم الصفات والأفعال لكان محلا للأعراض والحركات وذلك يقتضي تعاقبها عليه وذلك يوجب حدوثه
وقد عرف أن الفلاسفة - مع طوائف من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام - يطعنون في هذه الطريقة وقد صنف الأشعري نفسه كتابا بين فيه عجز المعتزلة عن إثبات هذه الطريق كما سيأتي بيان ذلك
وأما طريق الفلاسفة فهي مبنية على أن واجب الوجود لا يكون متصفا بالصفات لأن ذلك يستلزم التركيب
وقد علم ما بينه نظار المسلمين من فساد هذه الطريقة
فإذا ليس بين النفاة مقدمة اتفقوا عليها يبنون عليها النفي بل هم يشتركون فيه كاشتراك المشركين وأهل الكتاب في تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم واشتراك أهل البدع في مخالفة الحديث والسنة مآخذ كل فريق غير مآخذ الآخر
وإذا كانت مقدماتهم ليست مما اتفقوا عليه بل ولا اتفق عليه أكثرهم بل أكثرهم ينكر صدق جميعها علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية لأن الضروريات لا ينكرها جمهور العقلاء الذين لم يتواطأوا عليها ولا يكفي أن تكون بعض المقدمات معلومة بل لا بد أن تكون الجميع معلومة وما لم تكن معلومة بالضرورة فلا بد أن تستلزمها مقدمات ضرورية وليس معهم شيء من ذلك بل غاية هؤلاء لفظ ( التركيب ) وأنه لا يكون واجبا وقد علم ما في ذلك من الإجمال والاشتراك
وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك وأن الأفعال يجب تناهيها وقد علم نزاع العقلاء فيها وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين
وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره من شيوخه في هذه المقدمات وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يعترضوا عليه وإن كلام الرازي يعتمدها في مواضع أخر فنظره استقر على القدح فيها
وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف بتحرير الدلائل في تقرير المسائل هو وغيره - قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل وهو بطلان حوادث لا أول لها وذكر الأبهري الدليل المتقدم : دليل الحركة والسكون وقولهم : لو كان الجسم أزليا لكان : إما متحركا أو ساكنا والقسمان باطلان
أما الأول فلأنها لو كانت متحركة للزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل يقتضي عدم المسبوقية فيلزم الجمع بينهما ولأنها لو كانت متحركة لكانت بحال لا يخلو من الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإلا لكان الحادث أزليا وهو محال ولأنها لو كانت متحركة لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له وانقضاء ما لا نهاية له المحال والموقوف على المحال محال ولأنها لو كانت متحركة لكان قبل كل حركة حركة أخرى لا إلى أول وهو محال ولأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة ومن الحركة التي قبل الحركة اليومية إلى الأزل جملة أخرى فتطبق إحداهما على الأخرى بأن يقابل الجزء الأول من الجملة الثانية وبالجزء الأول من الجملة الأولى والثاني بالثاني فإما يتطابق إلى غير النهاية أو لم يتطابقا فإن تطابقا كان الزائد مثل الناقص وإن لم يتطابقا لزم انقطاع الجملة الثانية وإذا لزم انقطاع الجملة الثانية لزم انقطاع الجملة الأولى أيضا لأن الأولى لا تزيد على الثانية إلا بمرتبة واحدة
ثم تكلم على تقدير السكون وهذا هو الذي تقدم ذكر الرازي له
ومن تدبر كتب أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم يف حدوث الأجسام علم أن هذا عمدة القوم

كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه
قال الأبهري : ( والإعراض على قوله : يلزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير قلنا : لا نسلم وإنما يلزم الجمع بينهما أن لو كان الواحد مسبوقا بالغير وغير مسبوق بالغير وليس كذلك فإن المسبوق بالغير لا يكون إلا الحركة وغير المسبوق بالغير هو الجسم فلا يلزم الجمع بين المسبوقية وعدم المسبوقية في شيء واحد )
قلت : وهذا الاعتراض فيه نظر ولكن الاعتراض المتقدم : وهو أن المسبوق لغير آحاد الحركة لا جنسها فكل من أجزائها مسبوقة بالغير وأما الجنس ففيه النزاع - اعتراض جيد وإلا فإذا كانت الحركة من لوازم الجسم لم يكن سابقا لها فكيف يقال : إن الحركة مسبوقة بالجسم ؟
وكان الأبهري لم يفهم مقصود القائل : إن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير فظن أنه أراد أنها مسبوقة بالجسم وإنما أراد أن الحركة تقتضي أن يكون بعض أجزائها سابقا على بعض
قال الأبهري : ( وأما قوله : لو كانت متحركة لكانت بحالة لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث قلنا : لا نسلم قوله : لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا قلنا : لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كانت الحادث الواحد يصير بعينه أزليا وليس كذلك بل يكون قبل كل حادث آخر لا إلى أول فلا يلزم قدم الحادث وأما قوله فإنها لو كانت متحركة لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له قلنا : لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها ولم قلتم بأن ذلك غير جائز والنزاع ما وقع إلا فيه ؟ وأما قوله بأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة قلنا : لا نسلم وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الحركة مجتمعة في الوجود ليحصل منها جملة ومجموع واستدل هو على حدوث العالم بأن صانع العالم إن كان موجبا بالذات لزم دوام آثاره فلا يكون في الوجود حادث وإن كان فاعلا بالاختيار امتنع أن يكون مفعوله أزليا لأنه يكون قاصدا إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل محال وقد اعترض بعضهم على دليله بأنه يجوز أن يكون بعضه حادثا له فاعل بالاختيار وبعضه قديم له موجب بالذات وجوزه بعضهم بأنه يجوز أن يكون موجبا بالذات ومعلوله فاعل بالاختيار أحدث غيره )
قلت : وهذا الاعتراض ساقط لأن ما كان فاعلا بالاختيار فحدوث فعله بعد أن لم يكن حادث من الحوادث فإذا كان مفعولا لعلة تامة موجبة امتنع أن يتخلف عنها معلولة ولا يجوز أن يحدث عنها شيء ولا عن لازمها ولا لازم لازمها وهلم جرا وإن قدر أن البعض الحادث له فاعل واجب بنفسه غير فاعل للآخر فهذا مع أنه لم يقله أحد وأدلة التوحيد للصانع تبطله فهو يبطل حجة القائلين بالقدم لأن عمدتهم أن الواجب بنفسه لا يتأخر عنه فعله فإذا جوزوا تأخر فعله عنه بطل أصل حجتهم
وهذا الدليل الذي احتج به قد ذكرنا في غير موضع أنه يبطل قول الفلاسفة بأنه صدر عن علة موجبة وأن قولهم هذا يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب
وأما كون الفاعل باختياره يمتنع أن يقارنه فعله فقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع ولكن نبين فساد قول الفلاسفة بأن يقال : الفاعل بالاختيار : إما أن يجوز أن يقارنه فعله وإما أن يجب تأخره فإن وجب تأخره بطل قولهم بقدم العالم فإن الفعل إذا لزم تأخره كان تأخر المفعول أولى إن جعل المفعول غير الفعل وإن جعل المفعول هو الفعل فقد لزم تأخره فتأخره لازم على التقديرين وإن جاز مقارنة فعله له فإما أن يكون التسلسل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وحينئذ فإذا كان الفعل المقارن قديما لم يقدح هذا في وجوب حدوث المفعولات
وهذا يقوله من يقول : إنه أحدث من الحوادث بتخليق قديم أزلي قائم بذاته كما تقول ذلك طوائف من المسلمين وإن كان التسلسل ممكنا أمكن أن يكون بعد ذلك الفعل فعل آخر وبعده فعل آخر وهلم جرا وأن تكون هذه الأفلاك حادثة بعد ذلك كما أخبرت به النصوص وهو المطلوب
والأبهري وغيره اعترضوا على هذه المقدمة لما ذكروها في حجة من احتج على حدوث العالم بأنه ممكن وكل ممكن فهو محدث لأن المؤثر فيه إما أن تؤثر فيه حالة وجوده وهو باطل لأن التأثير حالة الوجود يكون إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال وإما حال العدم وهو محال لأن يستلزم الجمع بين الوجود والعدم فتعين أن يكون لا حال الوجود ولا حال العدم وهو حال الحدوث
فاعترض الأبهري وغيره على ذلك بأنه لم لا يجوز أن يكون التأثير حال الوجود ؟ ( قوله : يكون تحصيلا للحاصل قلنا : لا نسلم لأن التأثير عبارة عن كون المرجح مترجح الوجود على العدم بالمؤثر وجاز أن يكون الممكن مترجح الوجود على العدم حال الوجود فيقول له من يعارضه في دليله مثل ذلك فإذا قال : لو كان الفعل الذي فعله الفاعل المختار أزليا لكان الفاعل قاصدا إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل
قالوا : بل وجود الموجود وحصول الحاصل مقصده واختياره فقولك لو كان قاصدا إلى إيجاد الموجود إن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بدون قصده فهذا ممنوع وإنما يستقيم هذا إذا ثبت أن الأزلي لا يمكن أن يكون مرادا مقصودا وهو أول المسألة وإن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بقصده فهذا هو المدعي فكأنك قلت : لو كان مقصودا لأزلي موجودا بقصده لكان موجودا بقصده وإذا كان هذا هو المدعي فلم قلت : إنه محال : ولكن يلزم هؤلاء على هذا التقدير أن لا يكون فرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وهم يقولون : إن أريد بالموجب الذات أنه لم يزل فاعلا فهذا لا يمنع كونه مختارات على هذا التقدير وإن أريد به ما يلزمه موجبه ومعلوله فهذا أيضا لا يمنع كونه مختارا أيضا على هذا التقدير
وهذا القسم باطل بلا شك سواء سمي موجبا أو مختارا لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث فإن موجبه إذا كان لازما له - ولازم اللازم لازم - كانت جميع الموجبات لوازم قديمة فلا يكون شيء من المحدثات صادرا عنه ولا عن غيره إذ القول في كل ما يقدر واجبا كالقول فيه فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل
ولا ريب أن هذا لازم للفلاسفة الدهرية الإلهيين وغيرهم كأرسطو والفارابي وابن سينا لزوما لا محيد عنه وأن قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث فاعل وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعل
وأما القسم الأول وهو كونه لم يزل فاعلا سواء سمي موجبا أو مختارا فهذا لا يوجب قدم هذا العالم لإمكان توقفه على أفعال قبل ذلك كما تحدث سائر الحوادث الجزئية

فصل
والمقصود في هذا المقام أن هؤلاء النفاة للعلو والمباينة لم يتفقوا على مقدمة واحدة يبينون عليها مطلوبهم بل كل منهم يقدح في مقدمة الآخر وإذا كان اتفاقهم على النفي مبنيا على المقدمات التي بها اعتقدوا النفي - وتلك المقدمات متنازع فيها بينهم ليس فيها مقدمات متفق عليها تبنى عليها النتيجة المذكورة - علم أن ما اشتركوا فيه من النتيجة كان من لوازم مع ما اعتقدوه من القضايا المختلف فيها لا القضايا الضرورية
وحينئذ فاتفاقهم على النفي لا يمنع أن يكون اتفاقا على خلاف المعلوم بالضرورة كما لو كان لرجل مال كثير وله غرماء كثيرون فأقام كل منهم شاهدين بقدر من المال واستوفاه حتى استوفى المال كله وكل من الغرماء يقدح في شهود الآخر كان اللازم من الحكم بشهادة الشهود كلهم أخذ مال ذاك الرجل كله ولا يقال أن هؤلاء عدد كثير لا يتفقون على الكذب فإنهم لم يتفقوا على خبر واحد بل كل طائفة أخبرت بخبر تكذبها فيه الأخرى ولزم من مجوع الأخبار أخذ المال فهم لم يخبروا بقضية واحدة توجب أخذ المال بل الكذب ممكن عليهم كلهم
كذلك المتفقون على رد بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وعلم بضرورات العقول ويمكن أن يقع منهم على هذا الوجه وهذا كاشتراك الكفار في تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم وقول هؤلاء : هو ساحر وهؤلاء : هو كاذب وهؤلاء : هو مجنون فهم في الحقيقة مختلفون لا متفقون
وأيضا فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب الذين يعلمون أنه كذب يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ منهم وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية فقد يعتبر عنها بعبارات غيها إجمال واشتباه يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخالف الضرورة وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة كان هذا جائزا باتفاق العقلاء فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمدا فكيف خطأ ؟
فإذا تلقى تلك الأقوال عن أولئك السابقين إليها عدد آخرون واشتهرت بين من اتبعهم فيها صاروا متواطئين على قبولها لما فيها الاشتباه والإجمال مع تضمنها مخالفة الضرورة وإن كان كثير من القائلين بها - أو أكثرهم - لا يعلمون ذلك وهذا هو السبب في اتفاق طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل كمقالات النصارى والرافضة والجهمية

كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه
ثم إن المتقدمين من النظار يحكون إجماع الخلائق على نقيض قول النفاة كما ذكره أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الأشعري وأصحابه ذكره في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في كتاب الصفات في باب القول في الاستواء : ( فرسول الله صلى الله عليه و سلم وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته وأعلمهم جميعا به يجيز السؤال بأين ويقوله ويستصوب قول القائل : إنه في السماء ويشهد له بالإيمان عند ذلك وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا ويحيلون القول به ولو كان خطأ كان رسول صلى الله عليه و سلم أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها : لا تقولي ذلك فتوهمين أن الله عز و جل محدود وأنه في مكان دون مكان ولكن قولي : إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت
كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه و سلم مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب الإيمان به لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته فكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له )
قال : ( ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد ؟ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول : أين ربك ؟ إلا قال : ( في السماء ) إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول : في كل مكان كما يقولون : وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه نعوذ بالله من مضلات الفتن )
فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق فطري مغروز في فطر العباد اتفق عليه عامتهم وخاصتهم وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل يدعون أنهم أفضل الناس جهم ونفر قليل معه وبين أيضا ابن كلاب أن قول الجهمية هو نظير قول الدهرية وهو كما قال فإن منتهى كلام الجهمية إلى أنه لا موجود إلا العالم
قال : ( يقال للجهمية : أليست الدهرية كفارا ملحدين في قولهم : إن الدهر هو واحد إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم منه ولا يباين العالم ولا يباينه ولا يماس العالم ولا يماسه ولا يداخل شيئا من العالم ولا يداخله لأنه واحد والعالم غير مفارق له ؟ فإذا قالوا نعم : قيل لهم : صدقتم فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم ؟ وهل تجدون بينكم وبينهم فرقا أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به ؟ وقد قلتم : إنه غير مفارق للعالم ولا العالم مفارق له ولا هو داخل العالم ولا العالم داخل فيه ولا مماس للعالم ولا العالم مماس له فأين تذهبون يا أولي الألباب إن كنتم تعقلون ؟ من أولى أن يكون قد شبه الله بخلقه : نحن أو أنتم ؟ ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا : واحد منفرد بائن ؟ فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذ زعمتم مثل زعم الملحدين وقلتم مثل مقالة المخالفين الضالين وخرجتم من توحيد رب العالمين )
قال : ( وكذلك مشاركتكم الثنوية في إلحادهم لما قالوا : إن الأشياء من شيئين لا تنفك منهما ولا ينفكان منها وإن الأشياء تولدت عنهما ومنهما وأن النور والظلمة لا نهاية لهما في أنفسهما وأن أحدهما مازج الآخر فتولدت الأشياء منهما ؟ وقلتم لهم : كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئا لا في نفسه ؟ وكيف يجيء ما لا نهاية له فيكون في غيره ؟ فقيل لكم مثل ذلك : كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئا لا في نفسه ولا بائنا من نفسه ؟ ويلزمكم إذا زعمتم أنه لاتفاق النور والظلمة أصل الأشياء وأن الأشياء تحدث منهما وأنهما لا ينفكان مما كان بعدهما ولا ينفك عنهما كذلك زعمتم أن الواحد الذي { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] - تعالى عما قلتم - كان لا نهاية له ثم خلق الأشياء غير منفكة منه ولا هو منفك منها ولا يفارقها ولا تفارقه فأعظمتم معناهم ومنعتم القول والعبارة )
فيقال : هذا الذي ذكره ابن كلاب من موافقة الجهمية في الحقيقة للدهرية والثنوية يحققه ما فعلته غالية الجهمية من القرامطة الباطنية فأنهم ركبوا لهم قولا من قول الفلاسفة الدهرية وقول المجوس الثنوية وقولهم هو منتهى قول الجهمية
وكان ذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا : فارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلا هؤلاء ]
وفي الحديث الآخر الصحيح : [ لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ]
ومشابهة اليهود والنصارى أيسر من مشابهة فارس والروم فإن الفرس كانوا مجوسا والروم إن لم يكونوا نصارى كانوا مشركين صابئة وغير صابئة فلاسفة وغير فلاسفة والباطنية ركبوا مذهبهم من قول المجوس ومن دخل فيهم ومن قول المشركين من الروم ومن دخل فيها كاليونان ونحوهم
وأما الأشعري وأئمة أصحابه فهم مصرحون بأن الله نفسه فوق العرش كما ذكر ذلك في كتبه كلها الموجز و الإنابة و المقالات وغير ذلك

كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية
قال : ( إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل : نقول : إن الله عز و جل مستو على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وقد قال : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] وقال : { بل رفعه الله إليه } [ النساء : 158 ] وقال : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } [ السجدة : 5 ]
وقال تعالى حكاية عن فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } [ غافر : 36 - 37 ] كذب موسى في قوله : إن الله عز و جل فوق السماوات
وقال عز و جل : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } [ الملك : 16 ] فالسماوات فوقها العرش
فلما كان العرش فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال : { أأمنتم من في السماء } يعني : جميع السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى أن الله عز و جل ذكر السماوات فقال : { وجعل القمر فيهن نورا } [ نوح : 16 ] ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز و جل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز و جل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض )
قال : ( وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قول الله عز و جل : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] أنه استولى وملك وقهر وأن الله عز و جل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عنه أحد من المسلمين أن يقول : إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها )
قال : ( وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين تعالى الله عن قولهم )
وقال : ( دليل آخر وقال الله عز و جل : { ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى : 51 ] فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول : ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول : ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو أرسل رسولا ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم )
قلت : ومقصود الأشعري من هذا أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدا بحجاب منفصل عنه بل هو محتجب عن جميع الخلق بمعنى أنه لا يمكن أحد أن يراه فاحتجابه عن بعضهم دون البعض دل على نقيض قولهم : وذلك أن نفاة المباينة يفسرون بالاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لمانع من الرؤية في العين ونحو ذلك من الأمور التي لا تنفصل عن المحجوب بل نسبتها إلى جميع الأشياء واحدة
قال الأشعري : ( دليل آخر قال تعالى : { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } [ الأنعام : 62 ] وقال تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } [ الأنعام : 30 ] وقال : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } [ السجدة : 12 ] وقال تعالى : { وعرضوا على ربك صفا } [ الكهف : 48 ] وكل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك - زعموا - التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل )
قلت : فقد احتج على عدم مداخلته بقوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } [ الأنعام : 30 ] وقوله : { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } الأنعام : [ 62 ] وقوله تعالى : { ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } [ السجدة : 12 ] وقوله : { وعرضوا على ربك صفا } [ الكهف : 48 ] فإنه لو كانت نسبته إلى جميع الأمكنة واحدة لا يختص بالعلو لكان في المردود كما هو في المردود إليه وفي الواقف كما هو الموقوف عليه وفي الناكس كما هو فيمن نكس رأسه عنده وفي المعروض كما هو في المعروض عليه
فهذه النصوص تنفي مداخلته للخلق وتوجب مباينته لهم فلو أمكن وجود موجود لا مباين ولا محايث لكان نسبة ذاته إلى جميع المخلوقات نسبة واحدة وهو مناقض لما ذكر
وقوله : ( مع نفي المداخلة أنه على العرش ) يبين أنه يثبت المباينة لا ينفيها كما ينفي المداخلة
قال الأشعري أيضا : ( وروت العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإنه بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز و جل فوق ذلك
قلت : وهذا الحديث رواه الحاكم أبو محمد العسال في كتاب المعرفة له من حديث عبد الوهاب الوراق الرجل الصالح : ثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك قال عبد الوهاب الوراق : من زعم أن الله ههنا فهو جهمي خبيث إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة
قال الأشعري : ( ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحاديث النزول كقوله : [ ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من داع فأستجيب له ؟ حتى يطلع الفجر ) ]
قال الأشعري : دليل آخر قال الله تعالى : { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] وقال تعالى : { تعرج الملائكة والروح إليه } [ المعارج : 4 ] وقال : { استوى إلى السماء وهي دخان } [ فصلت : 11 ] وقال : { ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ] وقال : { ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } [ السجدة : 4 ] فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست الأرض فدل على أن الله منفرد بوحدانيته مستو على عرشه
وقال الأشعري : ( دليل آخر قال عز و جل : { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] وقال تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } [ البقرة : 210 ] وقال تعالى : { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى } إلى قوله : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 7 - 18 ]
وقال عز و جل لعيسى ابن مريم : { إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران : 55 ]
وقال : { وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه } [ النساء : 157 - 158 ] وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء )
قال الأشعري : ( ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز و جل في الأمر النازل بهم يقولون جميعا : يا ساكن العرش ومن حلفهم جميعا : لا والذي احتجب بسبع سماوات ) فقد حكى الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات وهذا مناقض لقول من يقول : إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن هؤلاء يقولون : ليس للعرش به اختصاص وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئا
ومن أثبت الرؤية منهم إنما يفسر رفع الحجاب بخلق إدراك العين لا أن يكون هناك حجاب منفصل يحجب العبد عن الرؤية

كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء
وقال : القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابي : الإبانة و التمهيد وغيرهما : ( فإن قال قائل : أتقولون : إنه في كل مكان ؟ قيل له : معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وقال : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] وقال : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } [ الملك : 16 ]
ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي نرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وشمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله ) فقد وافق القاضي أبو بكر لأبي الحسن الأشعري وأنكر أن يكون في كل مكان وجعل مقابل ذلك أنه على العرش لم يجعل مقابل ذلك أنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن الأقسام أربعة ليس لها خامس : إما أن يكون نفسه مباينا للعالم وإما أن يكون مداخلا له وإما أن يكون مباينا ومداخلا وإما أن يكون لا مباينا ولا مداخلا
فهؤلاء جعلوا مقابلة المداخلة المباينة ولم يقولوا : لا داخل العالم ولا خارجه وهؤلاء أئمة طوائفهم

كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل : ( فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه )
قال : ( وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه )
قال : ( والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة ) قال : ( والدليل عليه : أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية )
قال : ( ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول : ليس في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل : طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله : طلبته فإذا هو معدوم )

تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي اختلف فيه قول القاضي اختلف فيه أصحاب أحمد وغيرهم فكان طائفة يقولون : العلو من الصفات السمعية الخبرية كالوجه واليد ونحو ذلك وهذا قول طوائف من الصفاتية ولهذا نفاه من متأخري الصفاتية من نفى الصفات السمعية الخبرية كأتباع صاحب الإرشاد )
وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم متفقون على إثبات الصفات السمعية مع تنازعهم في العلو : هل هو من الصفات العقلية أو السمعية
وأما أئمة الصفاتية كابن كلاب وسائر السلف فعندهم أن العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول الجمهور من أصحاب أحمد وغيرهم وإليه رجع القاضي أبو يعلى آخرا وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف وهو قول الكرامية وغيرهم
وأما الاستواء فهو من الصفات السمعية عند من يجعله من الصفات الفعلية بلا نزاع فإن ذلك لم يعلم إلا بالسمع وهذا الذي ذكره ابن كلاب وغيره من أن المنازع من المسلمين في أن الله فوق العرش كانوا قليلين جدا يبين خطأ من قال : إن النزاع إنما هو مع الكرامية والحنبلية بل جماهير الخلق من جميع الطوائف على الإثبات : جمهور أئمة الفقهاء من : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والداوودية وجمهور أهل التصوف والزهد والعبادة وجمهور أهل التفسير وجمهور أهل الحديث وجمهور أهل الكلام من الكرامية والكلابية والأشعرية والهشامية وجمهور المرجئة وجمهور قدماء الشيعة
وإنما الخلاف في ذلك معروف عن جهم وأتباعه والمعتزلة ومن وافقهم من الخوارج ومتأخري الشيعة وتأخري الأشعرية وللمعتزلة والفلاسفة فيها قولان
بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضا كما ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين : أرسطو وأتباعه ومن أكثر الناس عناية بها وموافقة لها وبيانا لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها حتى صنف كتاب تهافت التهافت وانتصر فيه لإخوانه الفلاسفة ورد فيه على أبي حامد في كتابه الذي صنفه في تهافت الفلاسفة مع أن في كلام أبي حامد من الموافقة للفلاسفة في مواضع كثيرة ما هو معروف وإن كان يقال : إنه رجع عن ذلك واستقر أمره على التلقي من طريقة أهل الحديث بعد أن أيس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضا
فالمقصود أن ابن رشد ينتصر للفلاسفة المشائين - أرسطو وأتباعه - بحسب الإمكان وقد تكلمنا على كلامه وكلام أبي حامد في غير هذا الموضع وبينا صواب ما رده أبو حامد من ضلال المتفلسفة وبينا ما تقوى به المواضع التي استضعفوها من رده بطرق أخرى لأن الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعبا إلا إذا اتبعت السنة من كل الوجوه وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالف فيه السنة واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات المخالفة للسنة
وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم ووجدت كثيرا من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه يوافقون خصومهم تارة على الباطل ويخالفونهم في الحق تارة أخرى ويستطيلون عليهم بما وافقهم عليه من الباطل وبما خالفوهم فيه من الحق كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات - أو لبعضها كالعلو وغيره - لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك
والمقصود هنا أن ابن رشد نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة وقرر ذلك بطرقهم العقلية التي يسمونها البراهين مع أنه يزعم أنه لا يرتضي طرق أهل الكلام بل يسميها هو وأمثاله من الفلاسفة الطرق الجدلية ويسمون المتكلمين أهل الجدل كما يسميهم بذلك ابن سينا وأمثاله فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي الشمولي الذي ذكروه في المنطق إلى : برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي من النوع البرهاني وان غالب مقاييس المتكلمين إما الجدلي وإما من الخطابي كما يوجد هذا في كلام هؤلاء المتفلسفة كالفارابي وابن سينا ومحمد بن يوسف العامري ومبشر بن فاتك وأبي علي بن الهيثم والسهروردي المقتول وابن رشد وأمثالهم وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منهما في كلامهم وأشرف وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية بل وسوفسطائية فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف إذا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي بما تكلم فيه المتكلمون بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة
والمقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد عنهم وهذا لفظه في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصوليين قال : ( والقول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ومثل قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } [ البقرة : 255 ] ومثل قوله : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ومثل قوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } [ السجدة : 5 ] ومثل قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } [ المعارج : 4 ] ومثل قوله : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } [ الملك : 16 ] إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا وإن قيل فيها : إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من في السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم حتى قرب من سدرة المنتهى )
قال : ( وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية )
قال : ( ونحن نقول : إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي : إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول : إن للحيوان فوقا وسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضا مكان للهواء وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضا جسم آخر ويمر الأمر إلى غير نهاية فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير الجسم فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم وليس لهم أن يقولوا : إن خارج العالم خلاء وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدما وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله وذلك أنه لما لم يكن ههنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود أعني أنه يقال : إنه موجود في الوجود إذ لا يمكن أن يقال : إنه موجود في العدم فإن كان ههنا موجود هو أشرف الموجودات فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهي السماوات ولشرف هذا الجزء قال الله تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } [ غافر : 57 ]
قال : ( فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع وأنه وجه العسر في نفيهم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجوه في الشاهد مثل العلم في الفاعل فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته مثل العلم بالنفس أو يضرب له مثال في الشاهد فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور لها لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع ولا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأوله
والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب : صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم الراسخون في العلم وهؤلاء هم الأقل من الناس وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها وهؤلاء هم فوق العامة دون العلماء وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع وهم الذين ذمهم الله تعالى وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثال ما يعرض لخبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر وكذلك التعلم الشرعي هو نافع للأكثر وربما يضر الأقل ولهذا الإشارة بقوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } [ البقرة : 26 ] لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منها والأقل من الناس وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها فيعرض لبعض الناس أن يرى الممثل به هو الممثل نفسه فتلزمه الحيرة والشك وهو الذي يسمى متشابها في الشرع وهذا ليس يعرض للعلماء والجمهور وهم صنفا الناس بالحقيقة لأن هؤلاء هم الأصحاء والغذاء الملائم إنما يوافق أ أبدان الأصحاء وأما أولئك فمرضى والمرضى هم الأقل ولذلك قال تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ آل عمران : 7 ] وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام
وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا : إن هذا التأويل هو المقصود به وإما أتى به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ونعوذ بالله من هذا الظن بالله بل نقول : إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع من قال فيما ليس بمتشابه : إنه متشابه ثم أوله بزعمه وقال لجميع الناس : إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا : إن ظاهره متشابه وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعلمهم عنها فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل فما كان أنفع في العمل فهو أجدر فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا : أعني العلم والعمل )
قال : ( ومثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال ما أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر لحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا لأقل الناس فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب وقال للناس : هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على وجه الذي تأوله عليه هذا المتأول ففسدت به أمزجة كثير من الناس فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها عرض منه للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدا عن موضوعه الأول ولما علم الرسول صلى الله عليه و سلم أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال : [ ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ] يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس )
قال : ( وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه إليه فهمه وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم وبدعهم في مسائل وأتي فيه بحجج مشككة وشبه محيرة أضلت كثيرا من الناس عن الحكمة والشريعة جميعا ثم قال في كتابه المعروف بجواهر القرآن إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية وأن الحق إنما أثبته في المضنون به على غير أهله ثم جاء في كتابه المعروف بـ مشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله وقال : إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى وهو الذي صدر عنه هذا المحرك وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية وهو قد قال في غير ما وضع : إن علومهم الإلهية تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم وأما في كتابه الذي سماه المنقذ من الضلال فتحامل فيه على الحكماء وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين : فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة فرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة وهذا كله خطأ بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم دون أن يكون عندهم برهان عليها وهذا لا يحل ولا يجوز أعني التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده البرهان عليها لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعا أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس وحفظ الأمرين أيضا جميعا عند آخرين أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيه بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضا بمعان فيها لا يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان وأما حفظه للأمرين جميعا فإن كثيرا من الناس لا يرى بينهما تعارضا من جهة الجمع الذي استعمل منهما وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما وذلك في كتابه الذي سماه التفرقة بين الإسلام والزندقة وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر وإن خرق الإجماع في التأويل فإذا ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه وللحكمة بوجه ونافع لهما بوجه وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعا أعني الحكمة والشريعة وأنه نافع لهما بالعرض وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات : إما إبطال الحكمة وإما إبطال الشريعة وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور فأما قد وقع التصريح فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها غير مخالفة لها وذلك بأن يعرف كل أحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة أعني على كنه الشريعة ولا على كنه الحكمة وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي : إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها وإما رأي خطأ في الحكمة أعني تأويل خطأ عليها كما عرض في مسألة علم الجزئيات وفي غيرها من المسائل )
قال : ( ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول عليها وكذلك الرأي في الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة ولذلك اضطررنا نحن إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة )

كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى
قال : ( فإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول : إن الذي بقي علينا من هذا الجزء من المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء أعني في الجزء المعدوم ) يعني جزء التنزيه فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية فقال : ( فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء أعني في الجزء المعدوم لقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ولذلك أنكرتها المعتزلة وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع المر عليهم والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه واعتقدوا وجوب التصريح بهذا لجميع المكلفين وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول وأعلوا الأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] )
قال : ( وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون يوجد في الحجج ما يوجد في الناس أعني كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة يوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجج مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في جواز إثبات الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة : إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال : إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذ كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة أعني في مكان ولا في كل جهة بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا وهي ثلاثة أشياء : حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون المبصر ذا لون والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع علوم النظر والهندسة وقد قال القوم - أعني الأشعرية - إن أحد المواضع التي يجب فيها أن ينقل حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا بأن كل عالم حي لكون الحياة تظهر في الشاهد شرطا في وجود العلم قلنا لهم : وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شرط في الرؤية فألحقوا الغائب فيها بالشاهد على أصلكم )
قال : ( وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان ينظر ذاته في المرآة وليس ذاته منه في جهة ولا في غير جهة تقابله وذلك أنه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته لا تحال في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة )
قال : ( وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط والخيال هو في جهة إذ كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عندهم من ذلك حجتان : إحداهما - وهي الأشهر عندهم - ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو من أن يرى من جهة أنه متلون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود
وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه ثم يقولون : وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان كذلك لما رئي ما هو غير جسم وباطل أن يرى من قبل أنه ملون إذ لو كان كذلك لما رئي وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان كذلك لما رئي الجسم قالوا : وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب لم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود )
قال : ( والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون وكذلك ما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن يبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون السمع والبصر وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذا كله خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة - وما أشبهها - إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن لا تسمع وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان فإن من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محسوس هذه غير محسوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعا كما لا يمكن أن يعود اللون صوتا والذين يقولون : إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت فقد وجب أن يسألوا فيقال لهم : ما هو البصر ؟ فلا بد أن يقولوا : هو قوة تدرك بها المرئيات : الألوان وغيرها ثم يقال لهم : ما هو السمع ؟ فلا بد أن يقولوا : هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم : فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط أو سمع فقط ؟ فإذا قالوا : سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا : بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سيما فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئا واحدا حتى المتضادات وهذا شيء - فيما أحسبه - يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه - يعني هؤلاء الأشعرية )
قال : ( وهو رأي سوفسطائي لأقوام مشهورين بالسفسطة وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهي أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات والذات هي نفس الوجود المشتركة لجميع الموجودات فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو هو موجود )
قلت : هذه الحجة من جنس الأولى لكن هذه على قول مثبتة الأحوال وتلك على رأي نفاة الأحوال لكن ذكرها على هذا الوجه فيه تناقض حيث جعل الأحوال لا ترى بل إنما يرى الوجود والوجود حال عند مثبتة الأحوال لكن مضمون ذلك أنها تدرك الحال المشتركة وهي الوجود لا لما اختصت به
ثم قال ابن رشد : ( وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه ولكان في الجملة لا يمكن في الحواس : لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن يكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا فلا يكون فرق بين مدرك السمع ومدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس وذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أنه ما يدرك ثانيا أخذ أنه يدرك بذاته )
قال : ( ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة )
قال : ( والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة - حتى ألجأت القائلين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة التي هي ضحكة عند من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية - هو التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أنه من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ههنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئى بالأبصار لأن مدرك الأبصار هي في الأجسام أو أجسام وكذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا لا يليق أيضا الإفصاح به للجمهور فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك عن التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى ووصف لهم نفسه سبحانه بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من ذلك بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودات في المعاد أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل : إنه نور وإن له حجابا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل : إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا كله شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذا المعنى المثالات التي لم يمكن تصورها إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا صنفا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه الصلاة و السلام : [ إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ] ومن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول )
قال : ( وقد تبين لك من هذه أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا إثباتها )

تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
قلت : هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة : الحشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية : باطنية الصوفية وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث ليس هو من باطنية الشيعة كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام وهو في نفي الصفات أسوأ حالا من المعتزلة وأمثالهم بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية حتى أنه يجعل العلم هو العالم والعلم هو القدرة وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة وهو أن ما يشهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفا لأن ذلك تركيب ووافق أبا حامد - مع تشنيعه عليه - على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب المستلزم لنفي الصفات - طريقة فاسدة واختار طريقة المعتزلة وهي أن ذلك تركيب والمركب يفتقر إلى مركب وهي أيضا من نمط تلك في الفساد
وكذلك أيضا زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم : زيف طريقة ابن سينا وطرق المعتزلة والأشعرية بكلام طويل واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة وأنها ليست بجسم فيلزم أن يكون الله ليس بجسم
ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسما أضعف بكثير من نفس ذلك في الواجب والمنازعون له في النفس أكثر من المنازعين له في ذلك لكن مما يطمعه ويطمع أمثاله في ذلك ضعف مناظرة أبي حامد لهم في مسألة النفس فإن أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم وبين أنه لا حجة لهم على ذلك وغنما الحجة على ذلك طريق المعتزلة : طريقة الأعراض والحوادث وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم
وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين وإن كانوا قد يقولون : إنه رجع عن ذلك لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة ويوافقهم أخرى فعلماء المسلمين يذمونه بمن وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني وأبي نصر القشيري وأبي بكر الطرشوشي وأبي بكر بن العربي وأبي عبد الله المازري وأبي عبد الله الذكي ومحمود الخوارزمي وابن عقيل وأبي البيان الدمشقي ويوسف الدمشقي وابن حمدون القرطبي القاضي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي محمد المقدسي وأبي عمرو بن الصلاح وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم
والمتفلسفة الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه في الكتاب والسنة كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وابن سبعين وابن هود وأمثالهم
وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة كما يفعل ذلك صاحب خلع النعلين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه
وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل : لفظ الملك والملكوت والجبروت وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله
والمقصود هنا أن ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية - لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة - ومع أن قول ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الاخر وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة والقائلون بالحلول والاتحاد كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام أبي حامد وأمثاله وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة
وابن رشد هذا مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم يقول : إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي وابن العباس القلانسي والأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسن التميمي وابن الزاغوني وأمثالهم ممن يقول إن لله فوق العرش وليس بجسم
وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية : إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية بل ولا إثبات المكان وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا قول أرسطو وأتباعه فهؤلاء يقولون : مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة مما يلاقيه
ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئا فلا مكان هناك على اصطلاحهم إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسما وإذا كان كذلك فالموجود هنالك لا يكون في مكان ولا يكون جسما ولهذا قال : ( فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم لا وجود ما ليس بجسم ) فقرر إن كان ذلك كما قرر إثباته كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس
والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له : لا يكمن أن يوجد هناك شيء : لا جسم ولا غيره أما الجسم فلما ذكره وأما غيره فلأنه يكون مشارا إليه بأنه هناك وما أشير إليه فهو جسم
وهذا كما يقول المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم أتباعهم فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولهم وإن كان ممكنا فوجد موجود هو وراء أجسام العالم وليس الجسم أولى بالجواز لأنه إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه لا في العالم ولا خارجا عنه ولا يشار إليه وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم كان إنكار العقل للأول أعظم من إنكاره للثاني فإن كان الأول مقبولا وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه
وما ذكره ابن رشد من أن : هذه الصفة - صفة العلو - لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الشريعة - كلام صحيح وهو يبين خطأ من يقول : إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها ( الوهميات ) مثل أن : كل موجود فلا بد أن يشار إليه فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين
وما نقله ابن رشد عن هذه الأمة فصحيح وهذا مما يرجع أن نقله لأقوال فلاسفة أصح من نقا ابن سينا ولكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين وكذلك في مسالة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور للفلاسفة في ذلك قولان
والرازي إذا قال : ( اتفق الفلاسفة ) فإنما عنده ما في كتاب ابن سينا وذويه وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء
ولا ريب أن مسائل الإلهيات كالنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جدا وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين وأما كلامهم في واجب الوجود نفسه فكلام قليل جدا مع ما فيه من الخطأ وهم لا يسمونه واجب الوجود ولا يقسمون الوجود إلى واحب وممكن وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى كما قد بسط أقوالهم في موضع آخر
وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه وتلك الأمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب وغالبه تقسيم لأجناس الجواهر والأعراض ولهذا كانوا نوعين : نوعا نظارين مقسمين للكليات ونوعا متأهلين بالعبادة والزهد على أصولهم أو جامعين بين الأمرين كالسهروردي والمقتول وأتباع ابن سبعين وغيرهم
وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جدا ولهذا كانوا على قولين : منهم من يثبت موجودا واجبا مباينا للأفلاك ومنهم من ينكر ذلك وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك وهذا لا دليل عليه بل الدليل يبطله
وابن سينا سلك طريقته المعروفة وهو الاستدلال بالوجود على الواجب ثم دعواه أن الواجب لا يجوز أن يتعدد ولا تكون له صفة وهذه أيضا طريقة ضعيفة ولعلها أضعف من طريقة أولئك أو نحوها أو قريبة منها
وإذا كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلا كثير الخطأ فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم ما يكون فيف موافقة لما جاءت به الأنبياء لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده والذي هو أشرف المعارف وأعلاها فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده فالفارابي لون وابن سينا لون وأبو البركات صاحب المعتبر لون وابن رشد الحفيد لون والسهروردي المقتول لون وغير هؤلاء ألوان أخر
وهم في هواهم بحسب ما تيسر لهم من النظر في كلام أهل الملل فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة كابن سينا وأمثاله فكلامه لون ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث كأبي البركان وابن رشد فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا
لكن قد يخفى ذلك على من يمعن النظر ويظن أن قول ابن سينا أقرب إلى المعقول كما يظن أن كلام المعتزلة والشيعة أقرب إلى المعقول من كلام الأشعرية والكرامية وغيرهم من أهل الكلام ومن نظار أهل السنة والجماعة ومن المعلوم - بعد كمال النظر واستيفائه - أن كل من كان إلى السنة وإلى طريق الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد لا تناقض وتعارض
وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه من يسلم له مذهب أرسطو وأنا المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوي ومعلوم أن من الناس من يقول : إن للناس في المكان أقوالا آخر منهم من يقول : إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول : إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكنا عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد
والنزاع في هذا الباب نوعان : أحدهما معنوي كمن يدعي وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم وأكثر العقلاء ينكرون ذلك
والثاني نزاع لفظي وهو من يقول المكان من يحيط بغيره يقول آخر : ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه
ولا ريب أن لفظ ( المكان ) يقال على هذا وهذا ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات : هل يقال : أن الله تعالى في مكان أم لا ؟ هذا كتنازعهم في الجهة والحيز لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ ( الحيز ) أو ( المكان ) وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان ومن لا يقر بالآخر وسبب ذلك إما إتباع ما ورد أو اعتقاد في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر
وحقيقة الأمر في المعنى أن ينظر إلى المقصود فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن سواء كان محيطا به أو كان تحته فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار ومن اعتقد أن العرش هو المكان وأن الله فوقه مع غناه عنه فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار
فمما يجب نفيه بلا ريب وافتقار الله إلى ما سواه فإنه سبحانه غني عن ما سواه وكل شيء فقير إليه فلا يجوز أن يوصف بصفة تتضمن افتقاره إلى ما سواه وأما إثبات النسب والإضافات بينه وبين خلقه فهذا متفق عليه بين أهل الأرض وأما علوه على العالم ومباينته للمخلوقات فمتفق عليه بين الأنبياء والمرسلين وسلف الأمة وأئمتها وبين هؤلاء الفلاسفة كما ذكر ذلك عنهم لكن آخرون من الفلاسفة ينازعون في ذلك

فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة
فهذا ونحوه بعض كلام رؤوس أهل الكلام والفلسفة في هذا الباب يبين خطأ من جعل النزاع في ذلك مع الكرامية والحنبلية ويبين أن أكثر طوائف العقلاء يقولون بالعلو وبامتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأما كلام من نقل مذهب السلف والأئمة فأكثر من أن يمكن سطره

كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة
قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له : فأئمتنا كسفيان الثوري مالك سفيان بن عيينة حماد بن سلامة حماد بن زيد عبد الله بن المبارك فضيل بن عياض أحمد بن حنبل إسحق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وإنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء
وأبو نصر هذا كان مقيما بمكة في أثناء المائة الخامسة

كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول
وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي أحد أئمة وقته بالأندلس في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال : وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى : { وهو معكم أين ما كنتم } [ الحديد : 4 ] ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء
وقال أيضا : ( قال أهل السنة في قوله : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد في الحقيقة لا على المجاز

كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة
وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي السيخ المشهور في كتاب الحجة له : ( إن قال قائل : قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فاذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب : أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيته وأخذت عنهم ومن بلغني قوله من غيرهم ) فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه ( أن الله مستو على عرشه بان من خلقه كما قال في كتابه : { أحاط بكل شيء علما } [ الطلاق : 12 ] { وأحصى كل شيء عدد } [ الجن : 28 ]

كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته
وقال قبله الحافظ أبي نعيم الأصبهاني المشهور صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه : ( طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن عن خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه )

كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته
وقال الشيخ أبو أحمد الكرخي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله وقرأها على ( الناس وجمع الناس عليها وأقرتها طوائف أهل السنة وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة الملاحدة قد أنتشر أمرهم وكان أهل ابن سينا وأمثالهم من أهل دعوتهم وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك ويقال إنه قال لابن فورك : فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا ؟ أو قال : فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم ؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الأسفراييني يطلب الجواب عن ذلك فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما ومن الناس من يقول : إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم وفقهاء الرأي فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه وغزا المشركين بالهند وهذه العقيدة مشهورة وفيها : ( كان ربنا وحده ولا شيء معه ولا مكان يحويه فخلق كل شيء بقدرته وخلق العرش لا لحاجته إليه فاستوى على استواء استقرار كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما ومن في البر والبحر لا مدبر غيره ولا حافظ سواه يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم والخلق كلهم عاجزون : الملائكة والنبيون والمرسلون وسائر الخلق أجمعين وهو القادر بقدرة والعلم بعلم أزلي غير مستفاد وهو السميع بسمع والبصير ببصر تعرف صفتهما من نفسه لا يبلغ كنهها أحد من خلقه متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوق كآلة المخلوقين لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه صلى الله عليه و سلم وكل صفة وصف بها نفسه أو وصف بها نبيه فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز )

كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد
قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال : ( هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على أن المعتزلة في قولهم : إن الله بكل مكان )
قال : ( والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى ) وذكر عدة آيات إلى أن قال : ( هذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم )
وقال أبو عمر أيضا : ( أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] : هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله )
وقال أيضا ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع : الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة ويزعم أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود بلاشون والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة )

كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته
قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصبهاني أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة : ( أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين )
قال فيها : ( وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز و جل مستو فيه على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول : هل من داع فأستجب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ حتى يطلع الفجر )
قال : ( ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال )

كلام ابن أبي حاتم
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : ( سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين - وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته )
إلى أن قال : ( وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما )

كلام أبي محمد المقدسي
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي : ( إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة والأتقياء والأئمة من الفقهاء فتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم وينتظرون مجيء الفرج من ربهم وينطقون بذلك بألسنتهم ولا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته )
قال : ( وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم ونعلم تواتر الرواية بوجوه منهم يزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانا وننبه من خفي ذلك عليه حتى يصير كالمشاهد له عيانا )

كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء
وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي لما ذكر اختلاف الناس في تفسير ( الاستواء ) قال : ( وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار : أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات )
وقال أيضا في كتابه الكبير في التفسير لما تكلم على آية الاستواء قال : ( هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في شرح الأسماء الحسنى وذكر فيها أربعة عشر قولا ) وذكر قول النفاة من المتكلمين فقال : وأنهم يقولون : ( إذا وجب تنزيه الرب عن الحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه له تنزيه الرب عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون ويلزم من ذلك التغير والحدوث )
وذكر أقوال هؤلاء المتكلمين وقال : ( قد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء )

كلام أبي بكر النقاش
وأما كلام السلف أنفسهم فأكثر من أن يمكن حصره قال أبو بكر النقاش صاحب التفسير والرسالة : ( حدثنا أبو العباس السراج قال : سمعت قتيبة بن سعيد يقول : هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة : نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ]

كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة ( أنبأ أبو بكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال : قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش ويعلم كل شيء في أسفل الأرضين السابعة وفي قعور البحار ) وفي رواية : ( وفي رؤوس الآكام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما دون العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس وإلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء من معرفة غيره )

كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة و عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من طبقة شيوخ الشافعي و أحمد و إسحاق : أنه ذكر عنده الجهمية فقال ( هم شر قولا من اليهود والنصارى وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هم : ليس عليه شيء )
ورويا أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور وهو من هذه الطبقة قال : ( أصحاب جهم يريدون أن يقولوا : أن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا : ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا )
وروى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي من تلك الطبقة قال : كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا : ليس في السماء شيء )
ورويا عن علي بن عاصم شيخ البخاري وغيره قال : ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربا )
وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال : سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال : إنما يحاولون أن يقولوا : ليس في السماء شيء )
وروى عبد الله وغيره عن أبيه أحمد بن حنبل : ثنا شريح بن النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك بن أنس يقول : الله في السماء وعلمه في كل مكان
وروى هذا الكلام مالك مكي خطيب قرطبة فيما جمعه من تفسير مالك نفسه وكل هذه الأسانيد صحيحة

كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات
وروى أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال : ( كنا نحن والتابعون متوافرون نقول : إن الله تعالى فوق العرش ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته )
فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين الذي كان فيه مالك و ابن الماجشون و ابن أبي ذئب ونحوهم أئمة أهل الحجاز والليث بن سعد ونحوه أئمة أهل مصر والثوري و ابن أبي ليلى و أبو حنيفة ونحوهم أئمة أهل الكوفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ونحوهما أئمة أهل البصرة وهؤلاء ونحوهم أئمة الإسلام شرقا وغربا في ذلك الزمان وقد حكى الأوزاعي عن شهرة القول بذلك في زمن التابعين وهم أيضا متطابقون على ما كان عليه التايعون كما ذكرنا قوا مالك و حماد بن زيد وغيرهما

كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر
وقال أبو حنيفة في كتاب الفقه الأكبر المعروف المشهور عند أصحابه الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال : قال أبو حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال : قد كفر لأن الله يقول : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وعرشه فوق سبع سماوات قال أبو مطيع : قلت : فإن قال : إنه على العرش ولكنه يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال : هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل ) وفي لفظ : قال : ( سألت أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض قال قد كفر لأن الله يقول : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وعرشه فوق سبع سماوات
قال : ( فإنه يقول : على العرش استوى ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر )

كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له : بماذا نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما يقول الجهمية بأنه ههنا في الأرض )
ومنن ذكر هذا عن ابن المبارك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وهكذا قال الإمام أحمد وغيره

كلام ابن خزيمة
وقال محمد بن إسحق بن خزيمة - الملقب بإمام الأئمة - : ( من لم يقل بأن الله فوق سماواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ) وهذا معروف عنه رواه الحاكم في تاريخ نيسابور وأبو عثمان النيسبوري في رسالته المشهورة

كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن
وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال : ( سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق )

كلام مالك بن أنس
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس صاحب ربيعة من وجوه متعددة يقول في بعضها : الاستواء معلوم وفي بعضها : غير مجهول وفي بعضها : استواؤه غير مجهول فيثبت العلم بالاستواء وينفي العلم بالكيفية

كلام آخر لبعض الأئمة
وروى ابن أبي حاتم عن هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلا في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال له : أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه ؟ قال : لا أدري ما بائن من خلقه قال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب بعد
وروى أيضا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم ويقول : لا حتى يقول : الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه
وعن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال : كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم وإنما يحاولون أن يقولوا : ليس في السماء إله
وجميع الطوائف تنكر هذا إلا من تلقى ذلك عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم من الفلاسفة فأما العامة من جميع الأمم فلا يستريب اثنان في أن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم وأنهم إذا قيل لهم : لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء ولا يحجب العباد عنه شيء ولا ترفع إليه الأيدي ولا تتوجه القلوب إليه طالبة له في العلو فإن فطرهم تنكر ذلك وإذا أنكروا هذا في هذه القضية المعينة التي هي المطلوب فإنكارهم لذلك في القضايا المطلقة العامة التي تتناول هذا وغيره أبلغ وأبلغ وأما خواص الأمم فمن المعلوم أن قول النفاة لم ينقل عن نبي من الأنبياء بل جميع المنقول عن الأنبياء موافق لقول أهل الإثبات وكذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عنهم إلا ما يوافق قول أهل الإثبات
وأول من ظهر عنه قول النفاة هو الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وكانا في أوائل المائة الثانية فقتلهما المسلمون وأما سائر أئمة المسلمين مثل مالك و الثوري و الأوزاعي و وأبي حنيفة و الشافعي و أحمد بن حنبل وغيرهم فالكتب مملوءة بالنقل عنهم لما يوافق قول أهل الإثبات
وكذلك شيوخ أهل الدين مثل الفضيل بن عياض و بشر الحافي وأحمد بن أبي الحواري و سهل بن عبد الله التستري و عمرو بن عثمان المكي و الحارث المحاسبي و محمد بن خفيف الشيرازي وغير هؤلاء
وكتب أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات فكيف يقال : ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية ؟
ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن أحمد بن حنبل كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه
وأيضا فعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وأبو الحسن بن مهدي الطبري وعامة قدماء الأشعرية يقولون : إن الله بذاته فوق العرش ويردون على النفاة غاية الرد وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على بطلان ما يعارض به النفاة من الحجج العقلية وأما النفي فلم يكن يعرف إلا عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم ومن وافقهم من الفلاسفة وإلا فالمنقول عن أكثر الفلاسفة هو قول أهل الإثبات كما نقله ابن رشد الحفيد عنهم وهو من أعظم الناس انتصارا لهم وسلوكا لطريقتهم لا سيما لأرسطو وأتباعه كما أنه يميل إلى القول بقدم العالم أيضا

الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني
من أجوبة قوله : ( لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة )
هو أن يقال : لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض كما اخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم
فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية فإنه ما من طائفة من طوائف الضلال - وإن كثرت - إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية

الوجه الثالث
أن يقال : ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون : إنهم جحدوا العلوم الضرورية
فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره يقول جمهور العقلاء : إنهم جحدوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى يقول جمهور الناس : إنهم جحدوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة أزلية الأعيان باقية وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة يقول جمهور العقلاء : إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد : هو الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر به وأنه وإن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة يقول جمهور العقلاء إنهم جحدوا العلم الضروري
والقائلون بأن العالم هو العلم والمعلوم والعاقل هو العقل والمعقول والعاشق هو العشق والمعشوق واللذة هي الملتذ والعلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة يقول جمهور العقلاء : إنهم خالفوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط يقول جمهور العقلاء : إنهم خالفوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن النفس لا تدرك إلا الكليات دون الجزئيات يقول جمهور العقلاء : إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة وأن الصوت يرى والطعم يسمع واللون يشم يقول جمهور العقلاء : إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل أو يحدث فناء لا في محل يقول جمهور العقلاء : أن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأن الإرادة تحدث في الإنسان من غير سبب يوجب حدوثها مما يقول جمهور العقلاء : إن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأنه حي عليم قدير من غير حياة ولا علم ولا قدرة مما يقول جمهور العقلاء : إن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأن النبي صلى الله عليه و سلم نص على علي بالخلافة نصا جليا أشاعه بين المسلمين فكتموه ولم يظهروه يقول جمهور العقلاء : إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة
والقائلون بان للأمة إماما معصوما عمره سنتان - أو ثلاث أو أربع - دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة أو أن عليا لم يمت وأمثال ذلك يقول جمهور الناس : إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة
وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين مما يقول جمهور العقلاء : إن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك من يقول : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسمي المنافقين مؤمنين ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين وهم مع ذلك مخلدون في النار مما يعلم جمهور العقلاء المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام
وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات ونقص منه أشياء مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة
وقول النصارى : إن الكلمة اتحدث بالمسيح وإنها ليس هي الآب الجامع للأقانيم وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق وهي جوهر والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب مما يقول الناس : إنه معلوم الفساد بالضرورة
ومثل هذا إذا تتبعناه كثير
فوجده الأقوال التي يقول جمهور الناس : إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب فكيف يقال : لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة ؟
ولكن إذا قيل : ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت كما في خبر أهل التواتر
كان الجواب : أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب الذي يعلمون كلهم أنه كذب وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير إذا كان هناك شبهة أو هوى فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم مثل التعبير عن هذه المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصورا في خلقه أو مفتقرا إلى مخلوق فيوافقون على هذا المعنى الصحيح ظانين أنه مفهوم تلك العبارة فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم وهو أنه ما فوق السماوات رب ولا وراء العالم شيء موجود فهذا لا يوافقهم عليه - بعد - فهمه - أحد بفطرته وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة لا سيما إن كان له هوى وغرض
وإذا كان المتفقون على هذا النفي - بعد فهمه - إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم واتفاقهم على جحد ما يخالف ذلك وإن كان معلوما بالضرورة كما وقع مثل ذلك في عامة فرق أهل الضلال ومع هذا فلا يكاد بوجد منهم من يرجع إلى فطرته بلا هوى إلا وفطرته تنكر إثبات موجود لا مباين ولا محايث لكن يقهر فطرته بالشبهة أو العادة أو التقليد كما يقهر النصراني فطرته إذا أنكرت أن يكون الله هو المسيح ابن مريم
وعامة هؤلاء إذا أصابت أحدا منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ففطرته وضرورته تقر بالعلو وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين وعقيدته التي اعتقدها تقليدا أو عادة أو شبهة تناقض فطرته وضرورته

الوجه الرابع
أن يقال : هذا معارض بما هو أبلغ منه فإن الجموع الكثيرة يقولون : إنهم يجدون في أنفسهم عند الضرورة معنى يطلب العلو في توجه قلوبهم إلى الله ودعائه وأنه يمتنع في عقولهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأن هذا معلوم لهم بالضرورة فإن امتنع اتفاق الجمع العظيم على مخالفة البديهة فتجب الحجة المثبتة فيبطل نقيضها وإن لم تمتنع بطلت حجة النفاة فيثبت بطلانها على التقديرين

فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين
وأما الوجه الثاني فقوله : إن مسمى الإنسان المشترك بين الأشخاص ممتنع أن يكون له قدر معنى وحيز معنى وما أوردوه من أن هذا لا وجود له إلا في العقل وأن النزاع في الموجودات الخارجية وجوابه بأن الغرض تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن المثبتين إنما ادعوا أنه لا يوجد في الخارج موجودان إلا ولا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له وأما ما في النفس من العلوم الكلية فلم ينفوه ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون العلوم الكلية ثابتة في النفس إمكان ثبوتها في الخارج وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم إمكان وجود موجود في الخارج لا محايث للاخر ولا مباين له
وأما قوله : المقصود أنه ممكن تعقل أمر لا يثبت له العقل جهة ولا قدرا
فيقال : بتقدير صحة ذلك هذا يفيد إمكان تعقل ثبوته في النفس لا يفيد إمكان تعلقه في الخارج فمورد النزاع لا دليل عليه وما أثبته ليس مورد النزاع

الوجه الثاني
أن يقال : هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها كما يطابق اللفظ العام لأفراده وأما في نفسها فأعراض معينة كل منها عرض معين قائم في نفس معينة كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين والخط المعين بالورق المعين فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى الذهني والمعنى يطابق الموجود الخارجي وكل من تلك الثلاثة قد يقال له : عام وكلي ومطلق باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص
وإذا كان كذلك فالإنسان المطلق من حيث هو الذي تصوره الذهن هو علم وعرض معين في محل معين فإذا قدر أن محل العلم وغيره من صفات الإنسان كالحب والرضا والبغض وغير ذلك مما يشار إليه إشارة حسية كما يقوله جمهور الخلق كانت الإشارة إلى ما فيه من الأعراض كالإشارة إلى كل عرض قائم بمحله وحينئذ فإذا كان المشار إليه حسيا له قدر معين وحيز معين فلمحل الصورة الذهنية قدر معين وحيز معين وله أيضا جهة
والكليات ثابتة في النفس كالجزئيات الثابتة فيها فالنفس تعلم الإنسان المطلق والإنسان المعين والإشارة إلى أحدهما كالإشارة إلى الآخر فلا فرق حينئذ بين تصور الإنسان المشترك الكلي والإنسان المعين الجزئي من هذه الجهة لكن أحدهما لا يوجد إلا في النفس والآخر يوجد في الخارج ويوجد تصوره في النفس

الوجه الثالث
أن يقال : هذه الماهية المطلقة من حيث هي هي إما أن يقال : هي ثابتة في الخارج وإما أن لا يقال هي ثابتة في الخارج فإن من الناس من يقول بثبوت الماهيات المجردة منفردة عن الأعيان كالقائلين بالمثل الأفلاطونية
ومن الناس من يقول بثبوتها مقارنة للمعينات والمطلق جزء من المعين ويقولون : المطلق لا بشرط موجود في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فليس موجودا في الخارج ويسمون المطلق لا بشرط الكلي الطبيعي والمطلق بشرط الإطلاق هو العقلي وكونه كليا ومطلقا هو الكلي المنطقي إذ العقل عندهم مركب من الطبيعي والمنطقي فيقول : الإنسان من حيث هو - مع قطع النظر عن جميع قيوده - هو الطبيعي وكونه عاما وكليا ومطلقا هو المنطقي والمؤلف منهما هو العقلي
وآخرون يقولون : ليس في الخارج ما هو كلي في الخارج أصلا بل ليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص ولكن ما كان في النفس كليا يوجد في الخارج ولا يوجد في الخارج إلا معينا
فإذا قيل : الكلي الطبيعي موجود في الخارج وأريد به : أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح وإذا قيل : إن الطبيعة الكلية مع كونها كلية توجد في الخارج أو أن الكلي الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه جزء من المعين الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أو أن هذا الإنسان المعين مركب من جوهرين : أحدهما حيوان والآخر ناطق أو من عرضين : حيوانية وناطقية أو نحو هذه المقالات فهذا كله باطل وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يقال : هذه الكليات : إما أن يقال : إنها ثابتة في الخارج وإما أن لا يقال فإن لم يقل بذلك لم يكن فيها حجة على إمكان وجود موجود في الخارج لا يشار إليه وإذا قيل بثبوتها في الخارج فمن المعلوم أن هذا ليس من العلوم البديهية الأولية بل لم يقل هذا إلا طائفة من أهل المنطق اليوناني وهم متناقضون في ذلك ويقولون القول ويقولون ما يناقضه وبعضهم ينكر على بعض إثبات ذلك
وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم مغروزة في أنفسهم وأنهم مضطرون إليها لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم
لكن طائفة منهم تقول : إنها مع هذا خطأ لاعتقادهم أنها - وإن كانت ضرورية في فطرتهم - ففطرتهم تسلم مقدمات تنتج نقيضها وهؤلاء لا ينازعون أنها فطرية مبتدأة في النفوس ولكن يقدحون فيها بطرق نظرية
فإذا قال لهم المثبتون : نحن لا نقبل القدح في القضايا المبتدأة في النفس بالقضايا النظرية أو قالوا : نحن لا نسلم لكم المقدمات التي تستدلون بها على نقيض هذه القضايا كما لا نسلم لكم ثبوت الكليات في الخارج ونحو ذلك ظهر انقطاع المعارض لهم وأنهم يريدون دفع القضايا الضرورية بمجرد الدعاوى الوهمية الخيالية

فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين
وأما الوجه الثالث : فقوله ( إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحصرا لأنفسهما صورة وشكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى )

كلام ابن سينا في الإشارات
فهذه الحجة من جنس حجة ابن سينا على ذلك فإنه قال في إشاراته في الحجة الثانية : ( لو كان موجودا بحيث يدخل في الوهم والحس لكان الحس والوهم يدخل في الحس والوهم ولكان العقل - الذي هو الحكم الحق - يدخل في الوهم ومن بعد هذه الأصول فليس شيء من العشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة والجبن مما يدخل في الحس والوهم وهي من علائق الأمور المحسوسة فما ظنك بموجودات إن كانت خارجة الذوات عن درجة المحسوسات وعلائقها )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : الوهم والخيال والقوة الباصرة وغير ذلك من القوى هي من باب الأعراض الباطنة في الإنسان وكذلك العشق والخجل والوجل ونحوهما
ومن المعلوم أن أحدا لم يقل : إن كل عرض له شكل وصورة وإنما غاية من يقول ذلك أن يقوله في الجسم القائم بنفسه لا في العرض بل الأعراض الظاهرة المشهودة كالألوان والحركات والطعوم والروائح ليس لها في أنفسها شكل وصورة قائمة بنفسها فكيف بالأعراض الباطنة
فإن قال : بل هذه لها صورة وشكل : إما باعتبار محلها وصورتها وشكلها بحسب الجسم الذي قامت به أو يجعل نفس العرض القائم بالجسم له صورة وشكل
يقال : وهذا يمكن أن يقال في الأعراض الباطنة القائمة بباطن الإنسان كحسه الباطن وحركته الباطنة وتوهمه وتخيله القائم بدماغه ونفسه ونحو ذلك فإن هذه أعراض قائمة ببعض بدن الإنسان وبروحه التي هي النفس الناطقة أو بهما وذلك جسم له شكل وصورة فلها من الشكل والصورة من جنس ما للطعم واللون والحركات

الوجه الثاني
أن هذه الأمور : إما أن تكون قائمة بنفسها وإما أن تكون قائمة بغيرها فإن قال : هي قائمة بنفسها مثل أن يريد بالوهم والخيال الروح الباطن في الدماغ الذي تقوم به هذه القوى أو جسما آخر فمعلوم أن ذلك له ما لغيره من الأجسام من الشكل والصورة وإن كانت قائمة بهذه الأجسام فلها حكم أمثالها من الأعراض القائمة بالأجسام
فعلى التقديرين لم يثبت بذلك إمكان وجود موجود لا جسم ولا قائم بجسم فضلا عن أن يثبت وجود ما ليس في جهة وما لا يمكن الإشارة إليه
وهكذا القوى في الخجل والوجل وسائر الأعراض النفسية
فإن قال : هذه الأعراض عندي قائمة بالنفس الناطقة وتلك ليست جسما ولا قوة في جسم ولا يمكن الإشارة إليها وليست داخل السماوات والأرض ولا خارج السماوات والأرض ولا تصعد ولا تنزل ولا تتحرك ولا تسكن
فيقال له : هذا منتف في التخيل والتوهم ونحو ذلك مما يعرف بأن محله قائم بنفسه وهو جسم
ثم يقال : إن ثبت ما تقوله في النفس الناطقة كان ذلك حجة في إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه وإن لم يثبت ذلك لم يكن في مجرد الدعوى حجة لك في إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه وقال لك المنازع : جميع هذه الأعراض عندي يمكن الإشارة إليها بالإشارة إلى محلها كما يشار إلى غيرها من الأعراض ويمكن الإحساس بها وإن كنت الآن لا أحس بها كما لا أحس ببعض أعضاء بدني الباطنة والظاهرة
وأهل الملل يعلمون أن الملائكة والجن موجودون في الخارج وجمهور العباد لا يحسون بهم والعقلاء لا يرتابون في إمكان أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشاهده نحن الآن وهذا معلوم بالضرورة

الوجه الثالث
أن يقال : المثبتون قالوا : إنه لا يمكن وجود موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له أو قالوا : لا يمكن وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه أو لا يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك فهذه قضية كلية لا تبطل - إن قبلت البطلان - إلا بثبوت نقيضها
وقول القائل : إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحضرا لأنفسهما صورة ولا شكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى - كلام أجنبي لا يقدح في مقصودهم سواء كان حقا أو باطلا إلا أن يثبت أن ما لا يمكن الوهم والخيال أن يثبت له صورة وشكلا لا يمكن الإشارة إليه بل يكون لا محايثا لغيره ولا مباينا له ونحو ذلك
ومعلوم أن هذا باطل فإن القوة الباصرة وغيرها من القوى قائمة بالجسم يشار إليها كما يشار إلى كل عرض قائم بالجسم وهي محايثة لمحلها كما تحايث الأعراض للجواهر وتحايث سائر الأرض القائمة لمحلها كما يحايث العرض العرض فليست خارجة عن المباينة والمحايثة فلم يكن في إثبات ذلك ما يناقض دعواهم الكلية التي قالوا : إنها معلومة بالضرورة

الوجه الرابع
أن يقال : قول القائل : إن الوهم والخيال والقوة الباصرة وغيرها من القوى والعشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة لا تدخل في الحس والوهم والخيال : إما أن يعني به أنه لا يمكن الإنسان أن يحس هذه الأمور أو لا يمكن الإحساس بها بحال
فإن أراد الأول لم يكن فيه حجة
وإن أراد الثاني معه المنازع ذلك وقال : بل هذا مما يمكن الإحساس به وطالبه بالدليل على أنه لا يمكن الإحساس به

الوجه الخامس
أن يقال : حكم الإنسان بأن هذه الأعراض والقوى أو النفس الحاملة لها لا يتصور أن تحس بها أضعف من حكمة بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له وبأن كل موجود قائم بنفسه مشار إليه ونحو ذلك
بل يقال بأن العاقل إذا رجع إلى فطرته وقيل له : هل يمكن أن يخلق الله في الإنسان قوة يحس بها - إما بالمشاهدة وإما باللمس وإما بغير ذلك - ما في باطن غيره من القوى والأعراض ومحل ذلك وعرض على فطرته وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه - كان جزمه بامتناع هذا أقوى من جزمه بامتناع الأول
فإذا كان كذلك لم يمكن أن يجزم بامتناع الأول ويجعل امتناعه دليلا على إمكان الثاني

الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه : الوجه الأول
أن ما يتصوره العقل من النفي والإثبات : إما أن يكون معينا أو مطلقا فإن كان إثبات معين ونفيه كان تصوره تبعا لذلك المعين فإذا كان ذلك المعين محايثا لغيره أو مباينا كان تصوره كذلك فإذا كان العقل يجزم بانتفاء وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين نفى الثالث وإن تصور النفي المطلق والإثبات المطلق كان هذا من القضايا العامة الكلية والكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان وقد تقدم أن الكلام إنما هو في الوجود الخارجي لا الذهني

الوجه الثاني
أن يقال : لا نسلم أنه لا يحكم بكون أحدهما محايثا للآخر بل تصوره للنفي والإثبات محله الذهن وتصور أحدهما هو حيث هو تصور الآخر ولا نعني بالمحايثة إلا هذا

الوجه الثالث
أن يقال : هو عبر عن قول هؤلاء بعبارة لا يقولونها فإنهم لا يقولون : إن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما ساريا على الآخر أو مباينا عنه فإن الأعراض المجتمعة في محل واحد ليس كل منهما مباينا للآخر ولا يقال : إن العرض سار في العرض بل يقال : إن الأعراض سارية في المحل اللهم إلا أن يعبر معبر بلفظ السريان عن كون أحد العرضين بحيث هو الآخر فإن هذا قد يسمى محايثة ومداخلة ومجامعة ونحو ذلك وإذا كان كذلك فتصور النفي وتصور الإثبات يجتمعان كما تجتمع سائر التصورات والتصورات محلها كلها محل العلم من الإنسان وهذه كلها متحايثة متجامعة قائمة بمحل واحد

الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج فإن يقدر أن الشيء : إما موجود وإما معدوم وإما لا موجود ولا ومعدوم وأن الموجود : إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا وأنه : إما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه أو بغيره أو لا قائم بنفسه ولا بغيره وأمثال ذلك من التقديرات ثم لم يكن هذا دليلا على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج فكذلك تقديره لأن الشيء : إما محايث وإما مباين وإما لا محايث ولا مباين لا يدل على إمكان كل من الأقسام في الخارج

الوجه الثاني
أن يقال : القوم لا يقولون : إما ساري وإما مباين ولكن يقولون : إما أن يكون مباينا له وإما أن يكون محايثا له - أي بحيث هو سواء كان ساريا فيه سريان الصفة في الموصوف وإما أن يكون جميعا ساريين في موصوف واحد كالحياة والقدرة القائمة لموصوف واحد
وحينئذ فلا يسلم توقف العقل عن نفي القسم الثالث فإن من يقول : أنا أعلم بالضرورة أن الموجودين : إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين يجزم بانتفاء موجود لا يكون مباينا للموجود الآخر ولا محايثا له

الوجه الثالث
أن يقال : القسم الثالث : إما أن يقول : إنه ممكن إمكانا ذهنيا أو خارجيا والإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع والثاني معناه العلم بالإمكان في الخارج
وهو قد فسر مراده بالأول وهو عدم العلم حتى يقوم الدليل وحينئذ فيقال : مجرد الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالامتناع - لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به وإنما غايته أن يقول : إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه والمدعي يقول : أنا أعلم امتناعه بالضرورة وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم
ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها فكيف يقدح فيها شك الشاك فيه

الوجه الرابع
أن يقال : لا نسلم توقف العقل بعد التصور التام بل لا يتوقف إلا لعدم التصور أو لوجود ما يمنع من الحكم لظن أو هوى كسائر المنازعين في القضايا الضرورية من أهل الجحود والتكذيب
ومعلوم أن هؤلاء كثيرون في بني آدم فإن الله قد أخبر عن قوم فرعون أنهم جحدوا بآياته واستيقنتها أنفسهم
وقال تعالى عن اليهود : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] وقال تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [ البقرة : 75 ]
وقال عن المشركين : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] وقال موسى لفرعون : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } [ الإسراء : 102 ]
وقد أخبر عن كذب طوائف وإذا كان كثير من الطوائف يتعمدون الكذب والتكذيب بما يعلمون أنه حق وهذا جحد لما علموه وتيقنوه علم أن في الطوائف من قد يتفقون على جحد ما يعلمونه وكل طائفة جاز عليها المواطأة على الكذب جاز عليها ذلك ويجوز أيضا أن يشتبه عليها الحق بالباطل حتى تجحد ما هو حق في نفسه لاشتباهه عليها وإن كان معلوما بالضرورة عند غيرها فإنه إذا جاز تعمد الكذب عليهم فجواز الخطأ عليهم أولى
ومعلوم أن الحس قد يغلط والعقل قد يغلط فيجوز على الطائفة المعينة غلط حسهم أو عقلهم وإذا كانت المعاني دقيقة وفيها ألفاظ مجملة وقد ألقى بعضهم إلى بعض أن هذا القول باطل وكفر أمكن أن لا يتصوروه على وجهه وإن كان غيرهم يتصوره لسلامته من الهوى ومن الاعتقاد المانع من ذلك

الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه : الوجه الأول
ما أجاب به بعض أصحابهم حيث قال : هذا لا يرد عليهم لأن الأعداد أمور ذهنية والكلام في أمور خارجية

الوجه الثاني
أن يقال : العدد مع المعدود والتقدير مع المقدر كالحد مع المحدود والاسم مع المسمى والعلم مع المعلوم ونحو ذلك فالعلم والقول والعدد والحد الذي هو القول الدال والتقدير ونحو ذلك هي قائمة بالعالم القائل العاد الحاد المقدر وإذا العدد هو معنى يقوم بالعاد كان حكمه حكم سائر ما يقوم بالإنسان من هذه الأمور وموضع ذلك نفس الإنسان وأما مقدورها فهو تابع لمحلها كأمثالها من الأعراض

الوجه الثالث
أن يقال : هذه الأعداد هي من جملة الكليات والقول فيها كالقول في كليات الأنواع ومن المعلوم أن أصحاب فيثاغورس لما أثبتوا عددا مجردا قائما بنفسه أنكر ذلك عليهم جماهير العقلاء من إخوانهم وغيرهم وكانوا أضعف قولا من أصحاب أفلاطون الذي أثبتوا الحقائق المجردة الكلية قائمة بأنفسها التي يسمونها ( المثل الأفلاطونية )
فإذا كان قد تقدم بطلان حجة من احتج بكليات الحقائق فبطلان حجة من احتج بكليات العدد أولى وأحرى

فصل تابع كلام الرازي في الأربعين
قال الرازي : ( وإذا عرفت ذلك فنقول : المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان : أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى فإن كان الباري كذلك كان مماسا للعالم أو محاذيا له قطعا ثم قول أكثر الكرامية : إنه مختص بجهة فوق مماس للعرش أو مباين عنه ببعد متناه وقالت الهيصمية : هو مباين عنه ببعد غير متناه )

الرد عليه
فيقال : الناس لهم في هذا المقام أقوال : منهم من يقول : هو نفسه فوق العرش غير مماس ولا بينه وبين العرش فرجة وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وابن الباقلاني وغير واحد من هؤلاء وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرة من أصناف العلماء ومن أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم
وهؤلاء يقولون : إنه بذاته فوق العرش وليس بجسم ولا هو محدود ولا متناه
ومنهم من يقول : هو نفسه فوق العرش وإن كان موصوفا بقدر لا يعلمه غيره ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش ومنهم من يجوز ذلك وهذا قول أهل الحديث والسنة وكثير من أهل الفقه والصوفية والكلام غير الكرامية فأما أئمة أهل السنة والحديث وأتباعهم فلا يطلقون لفظ ( الجسم ) نفيا ولا إثباتا وأما كثير من أهل الكلام فيطلقون لفظ ( الجسم ) كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وأتباعهما

وجوه للرازي في الأربعين الوجه الأول
قال الرازي : لما وجوه : الأول : لو كان مشارا إليه فإن لم ينقسم كان في الحقارة كالجوهر الفرد وتعالى عنه وفاقا وإن انقسم كان مركبا وقد سبق بطلانه )
قال ( وعبر أصحابنا عن هذا بأنه لو كان فوق العرش فإن كان أكبر منه أو مثله كان منقسما لكون العرش منقسما وإن كان أصغر فإن بلغ إلى صغر الجوهر الفرد جاءت الحقارة المنزه عنها وفاقا وإلا لزم التركيب ثم من قال بأن كل متحيز قابل للقسمة كفاه أن يقول : كل متحيز فإن يمينه غير يساره وقدامه غير خلفه ولزم التركيب )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
قول من يقول : هو فوق العرش وليس بمنقسم ولا متحيز ولا له يمين ولا يسار يتميز منه بعضه عن بعض كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث والصوفية الذين يقولون : هو فوق العرش وليس بجسم كالتميميين والقاضي أبي يعلى وأتباعه كابن الزاغوني وغير ذلك وكما يقول ذلك من يقول من الفلاسفة كما حكاه ابن رشد عن الحكماء كما تقدم بعض ذلك
وهؤلاء خلق كثيرون فإن هؤلاء يقولون : لا نسلم أنه إذا لم ينقسم كان الجوهر الفرد ويقولون : لا نسلم أنه يلزم أنه يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا فإن هذه الأقسام الثلاثة إنما تلزم إذا كان جسما متحيزا محدودا فإذا كان فوق العرش وليس بجسم مقدر محدود لم يلزم لا هذا ولا هذا مع أنه مشار إليه
فإن قال النفاة : فساد هذا معلوم بالضرورة فإنا نعلم بالضرورة أن ما كان فوق غيره فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو بقدره ونعلم أنه يتميز منه جانب عن جانب وهذا هو الانقسام
قالت لهم المثبتة : تجويز هذا أقرب إلى العقل من تجويز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه وتجويز وجود موجودين ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له وأنتم تقولون : إن الحكم بكون الشيء أكبر من غيره وأصغر ومساويا وأنه مباين له ومحايث له ومشار إليه ونحو ذلك هو من حكم الوهم التابع للحس وتقولون : إن حكم الوهم لا يقبل في غير الأمور الحسية وتزعمون أن الكلام في صفات الرب تعالى من هذا الباب
فيقال لكم : إن كان مثل هذا الحكم غير مقبول لم يقبل حكمكم بأنه إما أكبر وإما أصغر وإما مساو فإن هذا حكم على ذوات المقدار فإذا قدر ما لا مقدار له وهو فوق غيره لم يلزمه شيء من الأقسام الثلاثة وإن كان مثل هذا الحكم مقبولا لزم الحكم بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له
ومن المعلوم بضرورة العقل أنا إذا عرضنا على العقل أو الوهم أو الخيال أو الحس - أو ما شئت فقل - قولين : أحدهما يتضمن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه والآخر يتضمن إثبات موجود خارج العالم ليس بجسم ولا منقسم ولا يكون أكبر من العالم ولا أصغر - كان إنكار العقل - إن أنكر القولين - للأول أعظم وتجويزه - إن جوز القولين - للثاني أعظم
فإن ادعى المدعي أن فساد قول من يثبت موجودا خارج العالم ولا أكبر ولا أصغر ولا مساويا معلوم بالضرورة
قيل له : وفساد قول من يثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه هو معلوم بالضرورة بطريق الأولى وقد تقدم بيان قول من يقول : إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة وإن المنازعون له يقولون : هذا حكم الوهم لا حكم العقل فهكذا يقول هؤلاء : إن قولكم هذا فاسد من حكم الوهم لا من حكم العقل
ولكن هؤلاء النفاة فيهم جهل وظلم فإنهم يحتجون على منازعيهم بحجة هي لهم ألزم ويثبتون قولهم بحجة هي على قول منازعيهم أدل وهذا القول مع أنه أقرب إلى العقل فهو أقرب للسمع فإن صاحبه لا يحتاج أن يتأول النصوص المثبتة للعلو والفوقية والاستواء فيكون قوله أقرب إلى اتفاق الشرع والعقل وأقرب إلى الشرع منفردا فيكون أرجح من قولهم على كل تقدير
وهكذا هو عند أهل الإسلام فإن الكلابية والكرامية والأشعرية أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم باتفاق جماهير المسلمين وعوامهم

الوجه الثاني
أنه يقال له : ما تعني بقولك : إن كل مشار إليه فإما أن ينقسم أو لا ينقسم ؟ أتعني بالانقسام إمكان تفريقه وتجزئته وتبعضه ؟ أم تعني به أن كل مشار إليه إذا لم يكن بقدر الجوهر الفرد فإنه يكون مركبا من الجواهر المنفردة ؟ أو تعني به أنه يشار إلى شيء منه دون شيء ويرى منه شيء دون شيء ويتميز منه شيء عن شيء
فإن أردت الأول لازم التقدير الأول فإنه لا يلزم من كونه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه أن يكون صغيرا بقدر الجوهر الفرد فإنا نعلم بالاضطرار إمكان كون الشيء كبيرا عظيما مع أنه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه بل قد تنازع الناس في كثير من المخلوقات : هل تقبل التفريق أو لا تقبله ؟ ومن قال : إنها تقبله أثبته بالدليل لم يقل : إنه معلوم بالضرورة
وكذلك إن عنى به أنه مركب من المادة والصورة كما يقول بعض الفلاسفة فأكثر العقلاء ينكرون ذلك والصواب قول من ينكر ذلك كما هو مذكور في غير هذا الموضع وبتقدير تسليمه ينازع من سلمه في صحة المقدمة الثانية ويمنع صحة انتفاء اللازم
وإن أردت به المعنى الثالث : وهو أنه يتميز منه شيء عن شيء
فيقال لك : هذا القول لازم لجميع الخلائق أما الصفاتية فإنهم يثبتون العلم والقدرة والإرادة والكلام ومن المعلوم أن هذه المعاني متميزة في أنفسها ليس كل واحد منها هو الآخر وأما غيرهم فيعلمون الفرق بين كونه عالما وكونه قادرا وكونه حيا ونحو ذلك والمتفلسفة يعلمون الفرق بين كونه موجودا وكونه واجبا وكونه عاقلا وعقلا وعاشقا وعشقا ولذيذا وملتذا ونحو ذلك ففي الجملة لزوم مثل هذه المعاني المتعددة المتكثرة لازم لجميع الخلائق وهذه مسألة الصفات
فإذا قال النفاة : عندنا العلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة والوجوب هو الوجود ونحو ذلك
كان لهم جوابان : أحدهما أن يقال : هذا معلوم الفساد بالضرورة كما تقدم ولا يرتاب عاقل في فساد مثل هذا بعد تصوره
والثاني أن يقال : إذا جاز لكم أن تثبتوا معاني متعددة ومتغايرة في الأحكام واللوازم والأسماء ليس التغاير بينها تغاير العموم والخصوص كاللون والسواد وتقولون : إنه لا تعدد فيها ولا كثرة ولا انقسام جاز لمنازعكم أن يثبت ذاتا فوق العالم لا انقسام فيها ولا تركيب وكان هذا أقرب إلى العقل
فإن جاز أن تقولوا : لا يتميز العلم عن القدرة ولا الإرادة عن الحياة جاز أن يقول : لا يتميز ما يحاذي يمين العرش عما يحاذي يسار العرش
ومن المعلوم أن التعدد في الصفات أظهر من التعدد في المقدر فإن كان ذلك مقبولا كان هذا أولى بالقبول وإن كان هذا مردودا كان ذلك أولى بالرد ولا يمكن أحد من العقلاء أن يرد ما يثبت أنه من المعاني المتعددة المعلومة بصريح العقل ومع نطق الشرع بذلك في غير موضع فإن الله تعالى أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى التي تتعدد معانيها : كالعليم والقدير والرحيم والعزيز وغير ذلك وأثبت له من الكلمات التي لا تعادلها ما شهد به الكتاب العزيز فقد أثبت تعدد أسمائه وكلماته وفي ضمن ذلك تعدد صفاته وهو الواحد المسمى بأسمائه الحسنى المنعوت بصفات العلى الصادق العدل في كلماته التامات صدقا وعدلا وإذا كانت هذه الحجة مبنية عل نفي الصفات فقد علم فساد أصلها

الوجه الثالث
أن يقال : قولك : ( وإن انقسم كان مركبا وقد سبق بطلانه ) قد سبق قولك : أنه ليس بمتحيز لأن كل متحيز منقسم لذاته بناء على نفي الجزء وكل منقسم لذاته ممكن لافتقاره إلى جزئه الذي هو غيره وكون المفتقر إلى الغير ممكنا بالذات
ومعلوم أن هذه الحجة قد تبين فسادها بطريق البسط في مواضع متعددة وبين أن مبناها على ألفاظ مجملة مشتبهة وهي أصل توحيد الفلاسفة وقد بين نظار المسلمين فسادها كما بين ذلك أبو حامد الغزالي وغيره

جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات
والرازي أجاب الفلاسفة عن حجة التركيب في مسألة الصفات فقال في نهاية العقول : ( قوله : يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا : إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما يلتزمه فأين المحال ؟ وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات وفي الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات )
وقال أيضا : ( مما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا : إن الله عالم بالكليات وقالوا : إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وقالوا : إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى حتى ابن سينا قال : إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات بل كانت م لوازم الذات ومن كان هذا مذهبا له كيف يمكنه أن ينكر الصفات ؟ وفي الجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة إلا أن الصفاتية يقولون : إن الصفات قائمة بالذات والفلاسفة يقولون : إن هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضا والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفلسفي قواما وتقوما فلا فرق إلا بالعبارة وإلا فلا فرق في المعنى )

الوجه الرابع
أن يقال : ( إذا كان لفظ : التحيز والانقسام والجزء والافتقار والغير ألفاظا مجملة فلفظ ( المتحيز ) يراد به ما حازه غيره من الموجودات وليس مرادهم بهذا ويراد به ما كان منحازا عن غيره أو ما كان بحيث يشار إليه وإن لم يكن معه موجود سواه وهذا مرادهم بلفظ ( المتحيز ) ولهذا يقولون : العالم متحيز
ولفظ ( الانقسام ) يراد به الانقسام المعروف الذي يتضمن تفريق الأجزاء وليس هذا مرادهم ويراد به ما يتميز منه شيء عن شيء أو جانب عن جانب وهذا مرادهم
ولفظ ( الجزء ) يراد به ما كان منفردا فانضم إليه غيره أو ما أمكن التفريق بينه وبين غيره وليس هذا مرادهم ويراد به ما حصل الامتياز بينه وبين غيره وهذا مرادهم ولفظ ( الافتقار ) يراد به أن يكون الشيء مفتقرا إلى فاعل يفعله وليس هذا مرادهم هنا ويراد به أن يكون ملازما لغيره فلا يوجد أحدهما مع الآخر وهذا مرادهم وقد يقال : إنه يراد به كون الشيء مفتقرا إلى أمر منفصل عنه وليس هذا مرادهم هنا ويراد به أن يكون الشيء لا يتم إلا بما يدخل فيه مما يقال : إنه جزء كالصفة وهذا مرادهم هنا
وإذا عرف ذلك كان مضمون كلامهم أنه لو كان مشارا إليه للزم أن لا يوجد إلا بلوازمه التي لا يوجد إلا بها الداخلة في مسمى اسمه ومعلوم أن ما كان كذلك لم يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه المستلزمة لهذه اللازمات والمتصفة بهذه الصفات بل إذا كانت حقيقته متصفة بصفات الكمال الوجودية كانت أحق بالوجود من أن لا يوصف إلا بأمور سلبية يستلزم أن تكون ممتنعة الوجود مشبهة بالمعدومات والجمادات فما لا يتصف بشيء من صفات الكمال فلا بد أن تكون له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا فعل ولا عظمة ولا رحمة بل يكون موجودا مطلقا أو مجردا - كان ممتنع الوجود لا واجب الوجود وما لا يكون إلا كاملا لا يكون إلا بكماله وما يجب أن يكون حيا عليما قديرا لا يكون إلا بحياته وقدرته وعلمه وليس لزوم صفات الكمال له واستلزامه إياها موجبا لكونه لا يكون موجودا بنفسه
وتسمى المسمى هذا جزءا وبعضا ونحو ذلك غايته أن يقال : لا يمكن وجود الكل إلا بوجود بعضه ومن المعلوم أن وجود الكل لا يوجد إلا بوجود الكل فيكون الكل موجودا بالكل ولا يتضمن ذلك افتقارا له إلى غيره فإذا كان قول القائل : إنه مفتقر إلى نفسه أو كله لا يقدح في وجوب وجوده فقوله : هو مفتقر إلى صفته أو بعضه أولى أن لا يقدح في وجوب وجوده
ومما يبين ذلك أن هؤلاء المتفلسفة يقولون : إن وجوده مستلزم لوجود المعلولات الممكنات فلا يتصور وجوده بدون وجودات ممكنة معلولة منفصلة عنه وذلك لا يقدح عندهم في وجوب وجوده بنفسه فكيف يقدح في وجوب وجوده كونه مستلزما لصفات كمال لازمة له قائمة بنفسه ؟ فإن كان استلزامه لغيره افتقارا إليه فافتقاره إلى معلوله المنفصل أعظم امتناعا وإن لم يكن افتقارا إلى اللازم لم يكن استلزامه الصفات افتقارا إليها
ومثل هذا التناقض كثير في كلام المخالفين للسنة تحقيقا لقوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء : 82 ]

الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين
قال الرازي : ( الوجه لثاني : لو كان مشارا إليه لكان متناهيا من جميع الجوانب لما سبق من تناهي الأبعاد ولأن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه وإن كان من بعضها فالجانب المتناهي إن وافق غير الفصل والوصل وإن خالفه فيها وكل مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ففيه أجزاء بسيطة فأمكن على كل منها أن يماس ما على يمينه ويساره وبالعكس فصح عليه الوصل والفصل وكل ما كان كذلك كان تأليفه بمؤلف تعالى عنه وكل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد
فاختصاصه بذلك القدر المخصص ولأنه لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات لأنه يكون فوقه أمكنة خالية عنه والخصم ينفيه )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
قول من يقول : هو فوق العرش ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحدا منهما وهو قول من تقدم ممن يقول : هو فوق العرش ولا يوصف بأن له قدرا كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي وغيرهم
وإذا قال لهم النفاة : هذا ممتنع في بديهة العقل
قالوا لهم : القول بوجود موجود لا يشار إليه ولا يقبل الوصف بالنهاية وعدمها ولا بدخول العالم ولا بخروج منه أظهر فسادا في بديهة العقل فإنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود خارج العالم بائن منه لا يوصف بثبوت النهاية ولا انتفائها ووجود موجود لا داخل العالم لا خارجه ولا بائن ولا محايث ولا متناه ولا غير متناه - كان الثاني أظهر فسادا في العقل كما تقدم نظيره

الوجه الثاني
قول من يقول : هو غير متناه : إما من جانب وإما من جميع الجوانب كما قال ذلك طوائف أيضا من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم وحكاه الأشعري في المقالات عن طوائف
فإذا قيل لهم : هذا ممتنع
قالوا : قول منازعينا أظهر امتناعا
وإذا قيل لهم : يلزمكم أن يكون مخالطا للعالم
قالوا : منازعونا منهم من يقول : هو بذاته في كل مكان ومنهم من ينفي ذلك ونحن يمكننا أن نقول كما قال هؤلاء وهؤلاء وإذا ادعى هؤلاء إمكان ذلك من غير مخالطة ادعينا مثل ذلك

الوجه الثالث
قول السلف والأئمة وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف الذين يقولون : له حد لا يعلمه غيره
فإذا قيل لهؤلاء : كل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد واختصاصه بذلك القدر المخصص منفصل - منعوا هذا كما تقدم ذكره وقالوا : لا نسلم أن كل ما اختص بقدر افتقر إلى مخصص منفصل عنه ولا نسلم أن كل ما ثبت لواجب الوجود من خصائصه - يمكن أن يوجد بخلاف ذلك
وتقدم الكلام على هاتين المقدمتين واعترف هؤلاء المحتجين بهما بفسادهما
وأما قوله : ( لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات لأنه يكون فوقه أمكنة خالية منه )
فكلام ساقط لأنه ليس هناك شيء موجود : لا مكان ولا غير مكان وإنما هناك : إما خلاء هو عدم محض ونفي صرف ليس شيئا موجودا على قول طائفة وإما أنه لا يقال هناك لا خلاء ولا ملاء
وعلى كل تقدير فليس هناك شيء موجود بل يقال لمن احتج بهذا : أنت تقول ليس فوق العالم شيء موجود ولا وراء العالم شيء موجود مع أنه متناه عندك فكيف يجب أن يكون فوق رب العالمين شيء موجود ؟
ثم قال : ( أنتم تزعمون أنكم تحتجون بالمعقولات اليقينية لا بالمقدمات الجدلية فهب أنه لا يكون فوق جميع الموجودات فأين دليلكم العقلي على امتناع هذا

الوجه الرابع
قول بعض هؤلاء النفاة لبعض : لم قلتم : ( إن عدم تناهيه : إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه ) ولم لا يجوز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو غير مخالط ؟ فإن قالوا : لأن فرض مشار إليه غير متناه لا يخالط العالم - ممتنع في صريح العقل
قيل : وفرض موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ممتنع في صريح العقل
فإن قلتم : هذا في حكم الوهم
قالوا : وإثبات المخالطة لما لا نهاية له من حكم الوهم
وهؤلاء النفاة لمباينته للعالم منهم من يقول : ( إنه جسم وهو في كل مكان وفاضل في جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء
وقال بعضهم : مساحته على قدر مساحة العالم
وقال بعضهم : هو جسم له مقدار في المساحة ولا ندري كم ذلك القدر )
( ومنهم من يقول : إنه جسم تحل الأشياء فيه وهو الفضاء وليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم : هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به ) ( وقال بعضهم : ليس لمساحة البارئ نهاية ولا غاية وإنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا : وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب )
حكى هذه الأقوال الأشعرية في المقالات وحكى عن زهير الأثري أنه كان يقول : ( إن الله بكل مكان وإنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] بلا كيف ) وكذلك أبو معاذ التومني
وهذا القول الذي حكاه الأشعري عن هؤلاء يشبه قول كثير من الصوفية والسالمية كأبي طالب المكي وغيره
فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان على أقوال : منهم من يقول : له قدر ومنهم من يقول : ليس له غاية ولا نهاية ومنهم من يقول : هو جسم ومنهم من يقول : ليس بجسم
ثم من هؤلاء من يقول : إنه غير متناه من جميع الجوانب وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء وأيضا فإنهم إذا قالوا : إنه يخالط الأشياء قالوا : هذا لا يقدح في كماله كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار
وقول هؤلاء وإن كان باطلا كما قد بين في غير هذا الموضع فالمقصود أن النفاة الذين يقولون : ليس بداخل العالم ولا بخارجه لا يمكنهم إبطال قول هؤلاء بل قد يقول القائل : إن قول هؤلاء الحلولية خير من قول أولئك المعطلة الذين يقولون : لا داخل العالم ولا خارجه
ولهذا قال من قال : ( متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء )
ومنهم من يقول هذا تارة وهذا تارة ومنهم من يقول : هذا اعتقادي وهذا ذوقي ووجدي
وإنما يتمكن من إبطال قول هؤلاء كلهم أهل السنة المثبتة الذين يقولون : إنه مباين للعالم فأما بعض هذه الطوائف مع بعضهم فإنهم متناقضون
فإذا قالوا : لا نسلم أنه يجب أن يخالط العلم أو لا نسلم أن في ذلك محذورا بل يمكن عدم المخالطة أو المخالطة بلا نقص ولا عيب - كان قول هؤلاء من جنس أقوال أولئك فإنهم أثبتوا ما يحيله العقل
فإذا قالوا لأولئك : هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل كان هذا بمنزلة قول أولئك : إن إحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه من حكم الوهم فإنهم قد قالوا : إنه حكم في غير المحسوس بحكم المحسوس فإن لم يكن في الوجود ما لا يمكن الإحساس به بطل قولهم وإن كان فيه ما لا يمكن الإحساس به وادعى هؤلاء أنه غير متناه من جميع الجوانب وهو غير جسم عند بعضهم وجسم عند آخرين منهم - كان الحكم حينئذ بكونه يكون مخالطا للعالم وأن ذلك ممتنع عليه حكما على غير المحسوس بحكم المحسوس وهم لا يقبلون هذا الحكم
ثم إن الكلام هنا من جهة من يقول : إنه مشار إليه ويقول : إنه متناه وهو مع ذلك جسم أو ليس بجسم وإذا قال هؤلاء : كل مشار إليه فهو جسم كان كقولهم : لو كان فوق العرش لكان مشارا إليه ولكان جسما وقد نازعهم في ذلك طوائف
وتبين أن قول من قال : هو فوق العرش وليس بجسم ليس هو أبعد عن العقل من قول من قال : أنه لا داخل العالم ولا خارجه أصلا فإن هذا أقرب إلى المعدوم من ذلك وكل ما كان أقرب إلى العدم كان أبعد عن الوجود الواجب
فهكذا من قال : يشار إليه وهو غير متناه ولا يخالط أو يخالط ولا نقص في ذلك - فقوله ليس أبعد عن العقل من قول أولئك بل نظير قولهم أن يقال : إنه في كل مكان بذاته ولا يشار إليه ولا نهاية له كما قال بعضهم
فهذه الأقوال حكم ببطلانها حاكم واحد فإن رد حكمه في بعضها رد في سائرها فهذا جواب هؤلاء

الوجه الخامس
قول من يقول : لا نسلم أنه إذا كان متناهيا من بعض الجهات يلزم ما ذكره من المحذور وقوله : ( الجانب المتناهي إن وافق غير المتناهي في الماهية صح عليه أن ينقلب غير متناه وإلا لزم التركيب فيصح الفصل والوصل وما كان كذلك احتاج إلى مؤلف يؤلفه )
قالوا : لا نسلم أنه يجوز عليه الفصل والوصل والحال هذه لإمكان أن يكون ذلك الاتصال من لوازم الذات كقيام الصفات اللازمة لموصوفها وأيضا الموافقة في الماهية إنما تقتضي جواز انقلابه غير متناه إن لو لم يكن المقدار المعين من لوازم وجوده
فإن قال : إن كل مختص بقدر فهو ممكن فهي المقدمة الثانية وقد تقدم إبطالها فلا يمكنه حينئذ تقرير المقدمة الأولى إلا بالثانية فلا يكون قد أقام دليلا على أنه إذا كان متناهيا لزم التناهي من جميع الجوانب إلا لافتقار الاختصاص إلى مخصص وهذا : إن كان دليلا صحيحا فهو كاف سواء قدر التناهي من جميع الجوانب أو بعضها وإن لم يكن صحيحا بطل كلامه على بطلان تناهيه من جميع الجوانب ومن بعضها

الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال : الرازي : الوجه الثالث : ( أنه لو كان مشارا إليه فإن صح عليه الحركة والسكون كان محدثا لما سبق في مسألة الحدوث وإلا كان كالزمن المقعد وهو نقص تعالى عنه )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال قد تقدم إبطال هؤلاء لدليل الحركة والسكون كما أبطله الرازي نفسه في كتبه العقلية المحضة وأبطل كل ما احتج به النفاة من غير اعتراض على إبطال ذلك وكذلك أبطله الآمدي والأرموي وغيرهما

الوجه الثاني
قول من يقول : هو مع كونه مشارا إليه لا يقبل الوصف بالحركة والسكون ولا بضد ذلك كما يقولون هم : إنه لا يقبل الوصف بالدخول والخروج والمباينة والمحايثة ونحو ذلك من المتقابلات
فإن قيل لهؤلاء : إثبات مشار إليه لا يقبل ذلك غير معقول
قالوا : هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه
وهؤلاء إذا قيل لهم : إما أن يكون مباينا وإما أن يكون محايثا
قالوا : هذا من عوارض الجسم فإذا قدر موجود لا يقبل ذلك لم يوصف بمباينة ولا محايثة فيقول لهم هؤلاء : كونه موصوفا بالحركة والسكون فرع على قبوله لذلك فإذا قدر موجود مشار إليه لا يقبل ذلك لم يوصف بأحدهما
ومن الناس من يقول : الحركة من خصائص الجسم ومنهم من يقول : الحركة يوصف بها ما ليس بجسم كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس ويقول : إنها غير جسم وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب

الوجه الثالث
أن يقال : اتصاف المتصف بالحركة والسكون : إما أن يكون صفة كمال أو لا فإن لم يكن صفة كمال لم يكن سلب ذلك نقصا فلا محذور فيه وإن كان صفة كمال أمكن اتصافه بذلك فلا محذور فيه
فإن قيل : هو صفة كمال للجسم دون غيره
قيل : إما أن نعلم ثبوت موجود غير الجسم أو لا نعلمه فإن لم نعلمه لم يمكن إثبات موجود قائم بنفسه : لا تكن الحركة كمالا وإن علمنا وجود موجود ليس بجسم فالعلم بذلك ليس بضروري بل هو نظري فلا بد له من دليل
وحينئذ فإما أن يمكن وجود مشار إليه ليس بجسم أو لا يمكن فإن أمكن جاز أن يشار إلى الباري تعالى ويكون فوق العرش وليس بجسم وإن لم يمكن وجود مشار إليه إلا أن يكون جسما فلا بد من دليل يدل على إثبات وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه ولا يكون جسما
وهذه الوجوه هي أدلة ثبوت ذلك
فإذا قيل : لو لم يصح عليه الحركة والسكون لكان كالزمن لم يمكن إثبات ذلك إلا إذا ثبت أن كل مشار إليه يقبل الحركة والسكون وأن كل مشار إليه جسم
وهذا لا يثبت إلا إذا بطل قول من يقول : يمكن أن يشار إليه ولا يكون جسما أو يمكن أن يكون فوق العرش ولا يكون جسما
وهؤلاء لا يمكن إبطال قولهم إلا إذا بطل قول من يقول بوجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه لأنه بتقدير صحة قول هؤلاء يمكن صحة قول أولئك فإنه إذا جاز في العقل إمكان وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يباين غيره ولا يحايثه أمكن وجود موجود قائم بنفسه فوق عرشه لا يشار إليه وكان هذا أقرب إلى العقل من ذلك
فإذا كان إبطال قول هؤلاء مستلزما لبطلان قول المدعي لم يبطل قولهم إلا ببطلان قوله وإذا بطل قوله كانت الحجة على صحته باطلة
فتبين أن هذه الحجة يلزم من صحة مقدمتيها بطلان قول المدعي المحتج بها فلا يمكن الاستدلال بها عليه وهو المطلوب فإنها إن صحت استلزمت بطلان دعواه وإن لم تصح لم يمكن الاستدلال بها على دعواه فبطلت الدلالة على التقديرين وهو المطلوب

الوجه الرابع
أن يقال : كثير من النظار يقولون : صحة الحركة ليست من خصائص كونه مشارا إليه فإن كثيرا من هؤلاء يجوز أن يقوم به ما هو متجدد أو حادث وإن قال : إنه غير مشار إليه وقد تقدم قول الرازي : ( إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك ) مع أن نفاة العلو من هؤلاء يمنعون جواز الإشارة إليه كما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم بل المتفلسفة يجوزون حلول الحوادث بما ليس بجسم غير الواجب كما يقولون مثل ذلك في النفس الفلكية والإنسانية ثم أكثر أهل الكلام من هؤلاء يقولون : إن ذلك الحادث القائم بالواجب تجدد بعد أن لم يكن فهؤلاء يصفونه بقيام الحوادث به في وقت دون وقت ومع هذا فلا يجعلونه في حال انتفاء ذلك كالزمن المقعد فيقول هؤلاء : يمكن أن تقوم به الحوادث وهو نوع من الحركة ولا يكون مشارا إليه ولا يكون عند انتفاء ذلك كالزمن فإن سلم أولئك لهم إمكان ذلك بطلت الحجة وإن لم يسلموا ذلك لهم : قالوا : هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه وإن كان هذا من حكم الوهم فكذلك الأول وإلا لزم امتناع موجود قائم بنفسه لا يشار إليه وهو المطلوب
ومما يوضح هذا أن لفظ الحركة قد يعني به الانتقال من حيز إلى حيز وقد يعني به ما هو أعم من ذلك كالحركة في الكيف والكم والوضع مثل مصير النفس عالمة وقادرة ومريدة ومصير الجسم أسود وأحمر وحلوا وحامضا ومثل الاغتذاء والنمو الحاصل في الحيوان والنبات ومثل حركة الفلك في حيز واحد فهذه قد تسمى حركات وإن لم يكن قد خرج الجسم فيها من حيز إلى حيز آخر
وإذا كان لفظ الحركة من جنس لفظ الحدوث كان البحث عن قيام أحدهما به كالبحث عن قيام الآخر به ومعلوم أن كثيرا من النظار يصفونه بذلك ولا يقولون : هو جسم

الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي : ( الوجه الرابع : المكان الذي يزعم الخصم حصوله فيه : إن كان موجودا وهو منقسم كان جسما ولزم قدم الأجسام لذواته وأيضا المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقا والباري تعالى عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز فكان مفتقرا إلى الحيز وكان المكان بالوجوب والإلهية أولى وإن كان معدوما استحال حصول الوجود فيه ولا يلزم علينا كون الجسم في المكان لأنه المعنى منه كونه يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به وهذا المعنى في الباري يوجب التركيب وتعالى عنه )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : لا نسلم الحصر بل قد يكون الحيز تارة موجودا وتارة معدوما فإنه إذا كان في الأزل وحده لم يكن معه شيء موجود فضلا عن أن يكون في شيء موجود ثم لما خلق العالم : فإما أن يكون مداخلا للعالم وإما أن يكون مباينا له وإذا امتنع أن يكون هو نفسه داخل العالم أو دخل العالم فيه وجب أن يكون مباينا له وإذا كان مباينا للعالم أمكن أن يكون فوق العالم ويكون ما يسمى حينئذ مكانا أمرا وجوديا ولا يلزم أن يكون ملازما له فلا يلزم قدم المخلوقات ولا افتقاره إلى شيء منها بل كان مستغنيا عنها وما زال مستغنيا عنها وإن كان عاليا عليها فعلوه على العرش وعلى غيره من المخلوقات لا يوجب افتقاره إليه فإن السماء عالية على الأرض وليست مفتقرة إليها والهواء عال على الأرض وليس مفتقرا إليها وكذلك الملائكة عالون على الأرض وليسوا مفتقرين إليها فإذا كان المخلوق العالي لا يجب أن يكون مفتقرا إلى السافل فالعلي الأعلى الخالق لكل شيء والغني عن كل شيء أولى أن لا يكون مفتقرا إلى المخلوقات مع علوه عليها

الوجه الثاني
أن قول القائل : ( إنه في كل مكان ) لفظ فيه إجمال وتلبيس والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان بل منهم كثير لا يطلقون ذلك بل يمنعون منه لما فيه من الإجمال
فإذا قال قائل : إنه لو كان في مكان لم يخل : إما أن يكون المكان موجودا أو معدوما
قيل له : إذا قيل : إن الشيء في مكان وفسر المكان بأنه معدوم كان حقيقته أنه وحده ليس معه غيره إذ لا يقول عاقل : إنه في مكان معدوم وإنه مع هذا في شيء موجود قد أحاط به أو كان هو فوقه أو غير ذلك إذ هذا كله من صفات الموجودات
وإذا كان كذلك فقول القائل وإن كان المكان معدوما استحال حصول الموجود فيه إنما يلزم لو قدر أن هناك أمرا يكون الواجب فيه فأما إذا فسر ذلك بأنه وحده ليس معه غيره امتنع أن يقال : إنه في غيره

الوجه الثالث
أن يقال : إذا كنت أنت - وعامة العقلاء - تقولون : إن الجسم في مكان ولا يلزم من هذا أن يكون في شيء موجود لأنه يستلزم أبعادا لا تتناهى ولا في معدوم لأن العدم لا يكون فيه شيء - فقولهم أولى بالقبول والجواز
وأما قوله : ( إن المعنى من كون الجسم في المكان كونه بحيث يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به )
فيقال له : وبهذا المعنى فسرت قولهم بأنك قلت : المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك
وأما قولهم : هذا المعنى يوجب التركيب في الباري فهذا هو الحجة الأولى وقد تقدم جوابها فإذن هذه الحجة لا تتم إلا بالأولى فلا تجعل حجة أخرى وحجة التركيب قد تقدم بيان فسادها

الوجه الرابع
أن يقال لفظ الحيز والمكان قد يعني به أمر وجودي وأمر عدمي وقد يعني بالمكان أمر وجودي وبالحيز أمر عدمي ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون : إنه فوق سماواته وعلى عرشه بائن من خلقه وإذا قالوا : إنه بائن من جميع المخلوقات فكل ما يقدر موجودا من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات فإذا كان بائنا عنها لم يكن داخلا فيها فلا يكون داخلا في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير
وإذا قالوا : إنه فوق العرش لم يقولوا : إن العرش كان موجودا معه في الأزل بل العرش خلق بعد أن لم يكن وليس هو داخلا في العرش ولا هو مفتقر إلى العرش بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل ؟ بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلا في العرش أو مفتقرا إليه وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه وهذا ليس قول من يقول : إنه بائن عن جميع المخلوقات

الوجه الخامس
أن يقال : قوله ( الباري عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز ) لفظ مجمل فإن قال : إنه مفتقر عنده إلى حيز وجودي فهذا لم يقله الخصم ولا يعرف أحدا قاله وإن قاله من لا يعرف لم يلتفت إليه ولا ريب عند المسلمين أن الله تعالى غني عن كل ما سواه فكيف يقال : إنه مفتقر إلى حيز عدمي فالعدم ليس بشيء حتى يقال : إن الرب مفتقر إليه أو ليس بمفتقر إليه
وإذا فسر الحيز بأمر عدمي لم يجز أن يقال : إن العدم الذي ليس بشيء أحق بالإلهية من الموجود القائم بنفسه فعلم أن هذه الحجة مغلطة محضة وأن لفظ الحيز لفظ مجمل
وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود ويريدون به تارة ما هو معدوم وكذلك لفظ المكان لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم وبالمكان ما هو موجود ولهذا يقولون : العالم في حيز وليس في مكان
وإذا كان كذلك فمن أثبت متحيزا في حيز عدمي لم يجعل هناك موجودا غيره سواء كان ذلك واجبا أو ممكنا وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون هناك ما يجب أن يكون موجودا معه فضلا عن أن يكون مفتقرا إليه

الوجه السادس
أن يقال : هذه الحجة مبنية على أن كل مشار إليه مركب وإن ذلك ممتنع في الواجب فإن أردت بالتركيب أن غيره ركبه أو أنه يقبل التفريق ونحو ذلك لم تسلم الأولى
وإن عنيت بالتركيب إمكان الإشارة إلى بعضه دون بعض فللناس هنا جوابان :
أحدهما : قول من يقول : هو فوق العالم وليس بمشار إليه أو هو مشار إليه وهو لا يتبعض فيشار إلى بعضه دون البعض لأن الإشارة إلى البعض دون البعض إنما تعقل فيما له أبعاض فإذا قدر مشارا إليه لا يتبعض لم يمكن أن يقال هذا فيه
الثاني : قول من يقول : يمكن الإشارة إلى بعضه دون بعض ويقول : التبعيض المنفي عنه هو مفارقة بعضه بعض وأما كونه يرى بعضه دون البعض فليس هذا منفيا عنه بل هو من لوازم وجوده وإذا قال الثاني : هذا تركيب وهو ممتنع فقد عرف بطلان هذه الحجة

الوجه السابع
أن يقال : إذا كان فوق العرش فلا يخلو : إما أن يلزم أن يكون جسما أو لا يلزم فإن لم يلزم بطل مذهب النفي فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسما فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور وإن لزم أن يكون جسما فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسما وحينئذ فقول القائل : إن كان المكان موجودا كان جسما ولزم قدم الأجسام لدوامه - لا يكون محذورا على هذا التقدير ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار

الوجه الثامن
وأما الوجه الثامن : فقوله : ( المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقا والباري عند الخصم يمتنع كونه لا في الحيز فكان مفتقرا إلى الحيز ) يعترض عليه الخصم بأنا لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون كل مكان مستغنيا عن المتمكن فإنه لا يقول عاقل إن شيئا من الممكنات مستغنية عن الواجب الوجود فإذا جعل ما سمى مكانا من الممكنات المبدعات لله تعالى لم يجز أن يقال : هو مستغن عنه
وأيضا يقال : إن عنيت بكون المكان مستغنيا عن المتمكن أنه لا يفتقر إلى كون المتمكن عليه فهذا مسلم لكنه لا يفيدك إلا إذا قيل : إن المتمكن مفتقر إلى وجود المكان المستغنى عنه وهذا لم يذكره في التقسيم
وإن عنيت أنه يستلزم استغناءه عن فاعل مبدع فهذا ليس بلازم على هذا التقدير فإن الأمكنة كلها مفتقرة إلى فاعل مبدع وإن استغنيت عن متمكن وإذا كان وجوده مستلزما للحيز على هذا التقدير لم يكن مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه بل كان وجوده مستلزمة لأمور لازمة له مفتقرة إليه وذلك لا يوجب أن يكون غيره مستغنيا عنه ولا أن يكون مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه كما أن الذات إذا كانت مستلزمة للصفات لم يجب أن تكون الصفات أحق بالإلهية
هذا عند من يقول بالصفات وكذلك من يقول بالأحوال من المسلمين ومن نفى الجميع كالفلاسفة الدهرية فعندهم أن وجود الواجب مستلزم لوجود الممكنات مع أنها هي المفتقرة إليه وهو مستغن عنها
ونكتة الاعتراض أنه فرض افتقاره إلى مكان مستغن عنه فلا ريب أن هذا باطل بالاتفاق لأنه يلزم أن يكون الخالق فقيرا إلى ما هو مستغن عنه وهذا ينافي وجوب وجوده وأما إذا كان ما سمي مكانا مفتقرا إليه وهو المبدع الخالق له لم يكن فيما ذكره ما يبطل ذلك
أما إذا قدر أن وجوده لا يستلزم وجود ذلك ولا يشترط فيه ذلك لكن حصل بحكم الجواز لا بحكم الوجوب فهذا ظاهر
وإما إذا قدر أن ذلك لازم له فغايته أن وجوده مستلزم لما يكون الرب ملزوما له وهو مفتقر إلى الرب تعالى وقد عرف كلام الناس في مثل هذا ؟

الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي : ( الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية كان حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائزا فافتقر فيه إلى مرجح وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة وهي غير متناهية فقد وجد في الأزل مع الله أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية ولا يرتضيه مسلم

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : الأحياز أمور عدمية كما قد عرف فإنهم يقولون : العالم في حيز والحيز عندهم عدمي ولو قال قائل : إن الحيز قد يكون وجوديا فالمثبتون يقولون : نحن نقول : أنه فوق العالم وحده كما كان قبل المخلوقات وليس هو في حيز وجودي فإذا سميت ما هناك حيزا كان تسميته للعدم حيزا وهو اصطلاحهم
وحينئذ فالعدم المحض ليس هو أشياء موجودة حتى يقال : إنها متماثلة أو مختلفة
فإن قيل : من الناس من يقول : الحيز جوهر قائم بنفسه لا نهاية له
قيل : هذا القول إن كان صحيحا ثبت قدم الحيز الوجودي وحينئذ فتبطل الحجة التي مبناها على نفي ذلك وإن كان باطلا بطلت الحجة أيضا كما تقدم فهي باطلة على تقدير النقيضين فثبت بطلانها في نفس الأمر

الوجه الثاني
أن يقال : لم لا يجوز أن تكون الأحياز متساوية في الماهية
قوله : ( حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائز فيفتقر إلى مرجح )
يقال له : نعم وإذا افتقر إلى مرجح فإنه يرجح بعضها بقدرته ومشيئته كما ترجح سائر الأمور الجائزة بعضها على بعض وكما يرجح خلق العالم في بعض الأحياز على بعض مع إمكان أن يخلقه في حيز آخر وكما رجح ما خلقه بمقدار على مقدار وصفة على صفة مع إمكان أن يخلقه على قدر وصفة أخرى

الوجه الثالث
أن يقال : ترجح بعض الأحياز على بعض متفق عليه بين العقلاء سواء قالوا بالفاعل بالاختيار أو بالعلة الموجبة فغن القائلين بالعلة الموجبة يقولون : إنها اقتضت وجود العالم في هذا الحيز دون غيره وأما على القول بالفاعل المختار فالأمر ظاهر وإذا كان ترجيح بعض الأحياز على بعض متفقا عليه بين العقلاء لم يكن في ذلك محذور
وإذا قيل : هذا ترجيح لبعضها على بعض في الممكن
قيل : فإذا جاز ذلك في الممكن فهو في الواجب أولى بالجواز فإن المرجح إن كان موجبا بالذات فترجيحه لما يتعلق به أولى من ترجيحه لما يتعلق بغيره وإن كان فاعلا بالاختيار فاختياره لما يتعلق به أولى من اختياره لما يتعلق بظاهره
وإذا قيل : هذا يلزم منه قيام الأمور الاختيارية بذاته
قيل : قد عرف أنهم يعترفون بذلك وهو لازم لعامة العقلاء

الوجه الرابع
أن يقال : أهل الإثبات القائلون بأن الله سبحانه فوق العالم لهم في جواز الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته قولان مشهوران :
أحدهما : قول من يقول : لا يجوز ذلك كما يقول ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما من أصحاب أبي حنيفة و أحمد و مالك و الشافعي وغيرهم فهؤلاء يقولون : استواؤه مفعول له فعله في العرش ويقولون : إنه خلق العالم تحته من غير أن يحصل منه انتقال وتحول من حيز إلى حيز ويقولون : أنه خصص العالم بذلك الحيز بمشيئته وقدرته
والقول الثاني : قول من يقول : إنه يفعل أفعالا قائمة بنفسه باختياره ومشيئته كما وصف نفسه في القرآن بالاستواء إلى السماء وعلى العرش وبالإتيان والمجيء وطي السماوات بيمينه وغير ذلك مما هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد فهؤلاء يقولون : إن ما يحصل من الترجيح لبعض الأحياز على بعض بأفعاله القائمة بنفسه هو بمشيئته وقدرته فحصل الجواب عن هذا على قول الطائفتين جميعا

الوجه الخامس
أن يقال : الحيز إما أن يقال : إنه موجود وإما أن لا يقال : إنه معدوم
فإن قيل : هو معدوم لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود
وإن قيل : هو موجود فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا تعين القسم الأول وهو أن الأحياز متماثلة في تمام الماهية فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء وحينئذ في فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل : إما بقدرته ومشيئته على قول المسلمين وجمهور الخلق وإما بالذات عند من يجوز نظير ذلك وإن كان وجوده في الأزل ممكنا فلا محذور فيه فبطا انتفاء اللازم

الوجه السادس
أن يقال : التقسيم المذكور غير حاصر وذلك لأن الأحياز : إما أن تكون متماثلة وإما أن تكون مختلفة وعلى التقديرين : فإما أن تكون متناهية وإما أن تكون غير متناهية فإن كان وجود أحياز وجودية غير متناهية ممتنعا بطل هذا التقسيم ولم يلزم بطلان غيره وكذلك أي قسم بطل لم يلزم بطلان غيره وذلك لأن هؤلاء النفاة : منهم من يقول بثبوت أحياز قديمة : إما بنفسها وإما بغيرها كما تقول الطائفة منهم بأن القدماء خمسة : الواجب بنفسه والحيز الذي هو الخلاء والدهر والمادة والنفس ويقول آخرون منهم بثبوت أبعاد لا نهاية لها وإن لم يقولوا بغير ذلك
وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها - وإن قيل : أنه باطل - فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك فإذا خوطبوا على موجب أصولهم وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب كان هذا من تمام نصر الله لرسوله وإظهار لنوره

الوجه السابع
أن يقال : مقدمات هذه الحجة ليست برهانية فإنه على تقدير تماثل الأحياز إنما يلزم الافتقار إلى المرجح وهذا غير ممتنع وأما على التقدير الثاني فيلزم ثبوت أحياز مختلفة أما كونها غير متناهية فذلك غير لازم
وحينئذ فيقال : إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه ممكنة بنفسها واجبة به أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته كما عرف من مذاهب الطوائف ويقال على وجه التقسيم : إن امتنع أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته تعين القسم الأول وإلا جاز الثاني
والمقصود بيان فساد أمثال هذه الكلام بالحجج العقلية المحضة فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها المخالفة لدين المرسلين فإذا احتج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس كان ذلك خيرا من فعلهم

الوجه الثامن
أن يقال : الأحياز : إن كانت عدمية لم يكن في ذلك محذور سواء كانت متماثلة أو مختلفة فإن ثبوت أعدام غير متناهية في الأزل غير محذور والمثبت لا يقول : إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه فإن هذا ليس هو معروفا من أقوال المثبتين وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول : هذا من لوازم ذاته وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكنا وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدميا فعلم أنه لا حجة فيما ذكره

الوجه التاسع
أن من المسلمين من يقول : قد قامت به في الأزل معاني لا نهاية لها كعلوم لا نهاية لها وكلمات لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها ونحو ذلك ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها وحينئذ فإن كان علوه على العالم ممكنا بدون ثبوت أحياز قديمة مختلفة غير متناهية لم يضرهم بطلان هذا اللازم
وإن قيل : إن ذلك يستلزم هذا القول كان نفيه محتاجا إلى دليل وهو لم يذكر دليلا على نفيه وإنما قنع بحجة مسلمة وهي أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون من أهل الإثبات وغيرهم لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم فإذا قدر أنه من لوازم قولهم احتاج نفيه إلى دليل ولا يجوز أن يحتج على ذلك بالسمع لأن السمع الدال على علو الله على خلقه أظهر وأكثر وأبين مما يدل على مثل هذا فإن المحتج إذا احتج بمثل قوله تعالى : { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] و : { رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ونحو ذلك لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله وهو ربها وهذا لا ينازع فيه مسلم لكن الاستدلال بالسمع على قدم شيء من ذلك أضعف من الاستدلال على أن الله تعالى ليس فوق العالمين فلا يمكن دفع أقوى الدلالتين بأضعفهما

الوجه العاشر
أن يقال : هذا الرازي وأمثاله يدعون أنه ليس في السمع ما يصرح بأن الله كان وحده ثم ابتدأ إحداث الأشياء من العدم بل يقولون بما هو أبلغ من ذلك كما يذكر مثل ذلك في كتاب المطالب العالية وغير ذلك من كتبه
وأما النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على خلقه فلا ينازعون في كثرتها وظهور دلالتها ولا يدعون أنه عارضها نصوص سمعية تدفع موجبها وإنما يدعون أنه عارض العقل
وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يدفع موجب النصوص الكثيرة الدالة على أن الله فوق بأدلة سمعية ليست في الظهور والكثرة بمنزلتها بل إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب فعلم أنه لا يجوز دفع موجب نصوص العلو بالمقدمة التي أثبتها بالسمع
والمقدمة السمعية : إما نص أو إجماع ولا نص في المسألة وأما الإجماع فهو يقول : أنه لا يمكن العلم بإجماع من بعد الصحابة ومعلوم أنه ليس عن الصحابة بل ولا التابعين ولا الأئمة المشهورين ما يقرر ما يقرر مطلوبه بل النقول المتواترة عنهم توافق إثبات العلو لا نفيه
وأيضا فالإجماع عنده دليل ظني :
ومعلوم أن النصوص الدالة على العلو أكثر وأقوى دلالة من النصوص الدالة على كون الإجماع حجة فكيف يجوز أن تدفع النصوص الكثيرة البينة الدلالة بنصوص دونها في الظهور والكثرة
وبالجملة من بنى كونه تعالى ليس على العرش على مقدمة سمعية فقوله في غاية الضعف كيفما احتج سواء ادعاها نصية أو إجماعية مع أن قوله أيضا في غاية الفساد في العقل عند من خبر حقائق الأدلة العقلية فقوله فاسد في صحيح المنقول وصريح المعقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي : ( الوجه السادس في العالم كرة فإن الكسوف القمري يرى في البلاد الشرقية في أول الليل في البلاد الغريبة في آخره فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر وأنه باطل )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أحدها : أن يقال : القائلون بأن العالم كرة يقولون : إن المحيط هو الأعلى وإن المركز الذي هو جوف الأرض هو الأسفل ويقولون : إن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات والأرض تحتها من جميع الجهات ويقولون : إن الجهات قسمان : حقيقية وإضافية فالحقيقية جهتان : وهما العلو والسفل فالأفلاك وما فوقها هو العالي مطلقا وما في جوفها هو السافل مطلقا
وأما الإضافية فهي بالنسبة إلى الحيوان فما حاذى رأسه كان فوقه وما حاذى رجليه كان تحته وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه وما حاذى اليسرى كان عن يساره وما كان قدامه كان أمامه وما كان خلفه كان وراءه
وقالوا هذه الجهات تتبدل فإن ما كان علوا له قد يصير سفلا له كالسقف مثلا : يكون تارة فوقه وتارة تحته وعلي هذا التقدير فإذا علق رجل جعلت رجلاه إلى السماء ورأسه إلى الأرض أو مشت نملة تحت سقف : رجلاها إلى السقف وظهرها إلى الأرض كان هذا الحيوان باعتبار الجهة الحقيقية السماء فوقه والأرض تحته لم يتغير الحكم وأما باعتبار الإضافة إلى رأسه ورجليه فيقال : إن السماء والأرض فوقه
وإذا كان كذلك فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب - هم باعتبار الحقيقة كلهم فوق الأرض وليس بعضهم تحت بعض ولا هم تحت شيء من الأرض أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب وإن كان بعض جوانب السماء تلي رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى وإن كان فلك الشمس فوق القمر وكذلك السحاب وطير الهواء هو من جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء ليس شيء منه تحت الأرض ولا من في هذا الجانب تحت من في هذا الجانب وكذلك ما على ظهر الأرض من الجبال والنبات والحيوان والأناسي وغيرهم هم من جميع جوانب الأرض فوقها وهم تحت السماء وليس أهل هذه الناحية تحت أهل هذه الناحية ولا أحد منهم تحت الأرض ولا فوق السماء البتة فكيف تكون السماء تحت الأرض أو يكون من هو فوق السماء تحت الأرض ؟ ولو كان شيء منهم تحت الأرض للزم أن يكون كل منهم تحت الأرض وفوقها ولزم أن تكون كل من الملائكة وطير الهواء وحيتان الماء ودواب الأرض فوق الأرض وتحت الأرض ويلزم أن يكون كل شيء فوق ما يقابله وتحته ولزم أن يكون كل من جانبي السماء فوق الآخر وتحت الأرض وأن يكون العرش - إذا كان محيطا بالعالم - تحت السماء وتحت الأرض مع أنه فوق السماء وفوق الأرض ولزم أن تكون الجنة تحت الأرض وتحت جهنم مع أنها فوق السماوات وفوق الأرض وفوق جهنم ولزم أن يكون أهل عليين تحت أهل سجين مع أنهم فوقهم
فإذا كانت هذه اللوازم وأمثالها باطلة باتفاق أهل العقل والإيمان علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السماوات أن يكون تحت شيء من المخلوقات وكان من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له مع دعواه أنه من البراهين العقلية فإن كان يتصور حقيقة الأمر فهو معاند جاحد محتج بما يعلم أنه باطل وإن كان لم يتصور حقيقة الأمر فهو من اجهل الناس بهذه الأمور العقلية التي هي موافقة لما أخبرت به الرسل وهو يزعم أنها تناقض الأدلة السمعية فهو كما قيل :
( فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم )

الوجه الثاني
أن يقال : هب أنا لا نأخذ بما يقوله هؤلاء أليس من المعلوم عند جميع الناس أن السماوات فوق الأرض والهواء فوق الأرض والسحاب والطير فوق الأرض والحيتان والدواب والشجر فوق الأرض والملائكة الذين في السماوات فوق الأرض وأهل عليين فوق أهل سجين والعرش أعلى المخلوقات
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم لأنه قال : [ إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن ]
وهذه الأمور بعضها متفق عليه عند جميع العقلاء وما لم يعرفه جميع العقلاء فهو معلوم عند من يقول به ومن يقل أحد من العقلاء : أن هذه الأمور تحت الأرض وسكانها وعلم العقلاء بذلك أظهر من علمكم بكرية الأفلاك لو قدر أن ذلك معارض لهذا فكيف إذا لم يعارضه
وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم فالعلي الأعلى - سبحانه - أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه

الوجه الثالث
أن يقال : هذه الحجة : إما أن تكون سمعية وإما أن تكون عقلية ومن المعلوم أنها ليست سمعية ولو كانت سمعية لكانت السمعيات التي تدل على علو الله تعالى أنص وأكثر وأظهر على ما لا يخفى على مسلم وإن كانت عقلية فلا بد من بيان مقدماتها بالعقل وهو لم يذكر إلا قوله : ( فإن كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر من الأرض وأنه باطل ) فذكر مقدمتين لم يدل عليهما : لزوم كونه أسفل بالنسبة إلى بعض المخلوقات وبطلان هذا اللازم والمنازع ينازع في كل من المقدمتين فلا يسلم لزوم السفول وإن سلم لزومه فلا بد من دليل عقلي ينفي به ذلك وهو لم يذكر على ذلك دليلا
ولا يجوز أن يقال : هذا يوجب النقص وهو منزه عنه لوجهين :
أحدهما : أن المثبت لا يسلم أن هذا نقص ألا ترى أن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر وليس ذلك نقصا فيها ؟ وكذلك كل ما يوصف بالعلو على ما تحته مثل الهواء والسحاب والطير والحيوان والنبات والجبال والمعدن ومثل الملائكة والجنة والعرش وغير ذلك فإذا كانت المخلوقات العالية أشرف في النفوس من المخلوقات السافلة ولم يكن ما ذكره من هذا السفول الإضافي مانعا من هذا الشرف والرتبة ولا يوجب ذلك نقصا - علم أن هذا ليس بنقص
فإن قيل : الناحية الأخرى ليس فيها حيوان ونبات ومعادن وجبال وإنما فيها ماء وكذلك السحاب والمطر قد يمنع كونه فيها
قيل : هذا لا يضرنا فإنا نعلم أن الكواكب والشمس والقمر فوق الأرض مطلقا وعلوها على الأرض ليس بنقص فيها وإن قدر ما تخيلوه في السفول وكذلك إذا قدر هناك مثل ما في هذا الوجه ولو كان ما هناك سافلا للزم أن تكون الشمس والقمر والسماوات إذا ظهرت علينا تحت ذلك الجانب من الأرض وتحت ما هناك ولزم أنه لا تزال الأفلاك تحت الكواكب والشمس والقمر تحت الأرض وهذا في غاية الفساد
ومن العجائب أن هؤلاء النفاة يعتمدون في إبطال كتاب الله وسنة أنبيائه ورسله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وما فطر الله عليه عباده وجعلهم مضطرين إليه عند قصده ودعائه ونصب عليه البراهين العقلية الضرورية على مثل هذه الحجة التي لا يعتمدون فيها إلا على مجرد خيال ووهم باطل مع دعواهم أنهم هم الذين يقولون بموجب العقل ويدفعون موجب الوهم والخيال
وكل من له معرفة يعلم أن قول القائل : أن الشمس والقمر والكواكب الدائرة في الفلك هي بالليل تحت الأرض هو من حكم الوهم الفاسد والخيال الباطل ليس له حقيقة في الخارج فيريدون بهذا الوهم والخيال الفاسد أن يبطلوا صريح العقل وصحيح المنقول في أعظم الأصول ويحولوا بين القلوب وقصد خالقها وعبادته بمثل هذا الوهم والخيال الفاسد الملتبس على من لا يفهم حقيقة قولهم
الوجه الثاني : أن يقال : أنتم تقولون : لم يقم دليل عقلي على نفي النقص عن الله تعالى كما ذكر ذلك الرازي متلقيا له عن أبي المعالي وأمثاله وإنما ينفون النقص بالأدلة السمعية وعمدتهم فيه على الإجماع وهو ظني عنده والنصوص الدالة عليه دون النصوص الدالة على العلو في الكثرة والقوة
وإذا كان كذلك وكان علو الله تعالى على خلقه ثابتا بالسمع كان السمع مثبتا لما نفيتموه لا نافيا له ولم يكن في السمع ما ينفي هذا المعنى وإن سميتموه ناقصا فإنه إذا كان عمدتهم الإجماع فلا إجماع في موارد النزاع ولا يجوز الاحتجاج بإجماع في معارضة النصوص الخبرية بلا ريب فإن هذا يستلزم انعقاد الإجماع على مخالفة النصوص وذلك ممتنع في الخبريات وإنما يدعيه من يدعيه في الشرعيات ويقولون : نحن نستدل بالإجماع على أن النص منسوخ

الوجه الرابع
أن يقال : إذا قدرنا موجودين أحدهما عظيم كبير أعظم من السماوات والأرض بحيث يمكنه أن يحيط بذلك كله ويحتوي عليه وآخر لا يشار إليه وليس هو داخل العالم ولا خارجه كان من المعلوم بالضرورة أن الأول أكمل وأعظم
فإذا قال قائل : هذه العظمة تقتضي إذا كان محيطا بالعالم أن يكون تحت شيء منه كان من المعلوم أن وصف ذاك له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يحيط بشيء ولا يوصف بأنه عظيم كبير في نفسه ولا أنه ليس بعظيم كبير في نفسه - أعظم نقصا من وصفه بإحاطة ما يستلزم إحاطته بجميع الموجودات

الوجه الخامس
أن يقال : هب أن العالم كري فلم قلت : إنه إذا كان فوق العالم يلزم أن يكون تحت بعضه فإن هذا إنما يلزم إذا قدر أنه محيط بالعالم كله من جميع الجهات فأما إذا قدر أنه فوق العالم من هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن لم يلزم أن يكون تحت العالم من تلك الجهة فلو فرضنا مخلوقين أحدهما مدور والآخر فوق المدور ليس محيطا به كما يجعل الإنسان تحت قدمه حمصة أو بندقة لك يلزم أن يكون الذي فوق المدور تحت المدور بوجه من الوجوه
وإذا قيل : المحيط بالمدور كالفلك التاسع المحيط بالأرض وهو العالي من كل جانب
قيل : هو العالي بالنسبة إلى ما في جوف المدور وأما بالنسبة إلى ما فوق المدور فلا بل المحيط وما في جوفه تحت ذلك الفوقاني مطلقا كما أن الحمصة والبندقة تحت الرجل الموضوعة عليها
ومما يوضح ذلك أن مركز الفلك هو السفل المطلق للفلك والفلك من كل جانب عال عليه فإذا قدر فوق الفلك من الجانب الذي يلي الجانب الذي عليه الأنام ما هو أعلى من الفلك من هذا الجانب وليس محيطا به ولا مركز العال مركزا له - امتنع أن يكون هذا تحت شيء من العالم بل هو قطعا فوق الأفلاك من هذا الجانب وليس تحتها من ذلك الجانب فيلزم أن يكون هو فوقها لا تحتها
وإذا قال القائل : هذا كما لا يوصف بالسفول فهو لا يوصف أيضا بالعلو فإن العالي المطلق هو المحيط إذا ليس إلا المحيط والمركز وهذا إذا لم يكن محيطا لم يكن عاليا
قيل : عن هذا جوابان : أحدهما : أنه على هذا التقدير إذا كان محيطا لم يكن سافلا البتة بل يكون عاليا وعلى هذا فإذا كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه - كان محيطا بالعالم عاليا عليه مطلقا ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكا ولا مشابها للفلك فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها وليس شكلها شكل يده بل ولا شكل يده شكلها
وذكر أن بعض الشيوخ سئل عن كون الرب عاليا محيطا بالعالم ممسكا له فقال : بعض مخلوقاته كالباشق مثلا يقبض بيده حمصة فيكون فوقها محيطا بها ممسكا لها فإذا كان هذا لا يمتنع في بعض مخلوقاته فكيف يكون ممتنعا في حقه
الثاني : أنه إذا قدر أنه عال وليس بمحيط لم يلزم أن يكون له مركز ولا أن يكون مركز العالم مركزا له وأن يكون المركز هو السفل بالنسبة إليه وأن يكون العالي هو المحيط بالنسبة إليه بل ذلك إنما يلزم في المحيط والمحاط به فالمركز من المحيط كالنقطة من الدائرة فإذا قدر ما ليس بدائرة ولا هو كرة لم يكن له مركز كنقطة الدائرة
ولهذا لو قدر أن السماوات ليست محيطة بالأرض لم يكن لها مركز مع تقدير الكرة المستديرة فلا بد لها من نقطة في وسطها هو المركز وأما ما ليس بمستدير ولا هو كرة فليس مركز الكرة - وهو النقطة التي وسطها - مركزا له سواء جعل فوق المستدير أو تحته فلا يمتنع أن يكون شيء فوق المستدير وتحته إذا لم يكن مستديرا ولا يكون مع هذا مشاركا للمستدير في أن النقطة التي هي المحيطة مركزا له بل المركز نسبته إلى جميع جهات المحيط واحدة وليست نسبته إلى ما فوق المحيط أو تحته - إذا قدر أن فوقه شيء أو تحته شيء ليس مستدير - نسبة واحدة بل يكون المركز مع المحيط تحت هذا الشيء المعين الذي ليس بمستدير كما قد يمكن أن يكون فوق شيء آخر فالمركز بالنسبة إلى المحيط تحته والمحيط فوقه
وأما ما يقدر فوق المحيط فهو عال على الجميع قطعا ويمتنع أن يقال : إنه ليس فوق المحيط فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض والسماء فوق الأرض وهذا معلوم قبل أن يعلم كون السماء محيطة بالأرض بل الإحاطة قد يظن أنها مناقضة للعلو لا يقول أحد : إن العلم بالعلو موقوف على العلم بها ولا إن العلو مشروط بها فإن الطير فوق الأرض وليست محيطا بها والسحاب فوق الأرض وليس محيطا بها وكل جزء من أجزاء الفلك هو فوق الأرض وليس محيطا بها فتبين أن العلو معنى معقول مع أنه لا يشترط فيه الإحاطة وإن كانت الإحاطة لا تناقضه
وهؤلاء النفاة حائرون : تارة يجعلون الإحاطة مناقضة للعلو وتارة يجعلونها شرطا في العلو لازمة له ونحن قد بينا خطأهم في هذا وهذا فلا هي مناقضة له ولا هي منافية له
ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض والسحاب فوق الأرض قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض
وكذلك يعلمون أن الله فوق العالم وإن لم يعلموا أنه محيط به وإذا علموا أنه محيط لم يمنع ذلك علمهم بأنه فوق
فتبين أنه ليس من شرط العلم بكون الشيء عاليا أن يعلم أنه محيط ولو كانت الإحاطة شرطا في العلم امتنع العلم بالمشروط دون شرطه ولكن لما كان في نفس الأمر الأفلاك عالية محيطة كانت الإحاطة والعلو متلازمين في هذا - محال فإن قدر أن كل عال فهو محيط كان العلو والإحاطة متلازمين وإن قدر وجود موجود عال ليس بمحيط لم تكن الإحاطة لازمة للعلو
فقد تبين أنه بتقدير أن يكون الرب عاليا ليس بمحيط فهو عال وبتقدير أن يكون عاليا محيطا فهو عال فثبت علوه على التقديرين وهو المطلوب وإذا كان هذا معقولا في مخلوقين ففي الخالق بطريق الأولى
وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال : فإن قيل : المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقا وسفلا فلا يمكن إذا قدر شيء خارجا عنه أن يقال : هو فوقه إلا كما يقال : هو سفله وحينئذ ففرض شيء خارج عن المدور المحيط مع كونه فوقه جمع بين الضدين
قيل : الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن هذا الكلام إن كان صحيحا لزم بطلان حجتكم وإن لم يكن صحيحا لزم بطلانها فثبت بطلانها على تقدير النقيضين فيلزم بطلانها في نفس الأمر لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين
بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال : إن بعضه عال وبعضه سافل وإما أن لا يصح فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم بل إذا قدر أنه يحيط به ولو بقبضته له لزم أن يكون عاليا عليه مطلقا ولم يكن سافلا تحت شيء من العالم وإن صح أن يكون بعضه عاليا وبعضه سافلا أمكن أن يكون مباينا للعالم من الجهة العالية فيكون عاليا عليه
وإن قيل : بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عاليا وإذا حاذى أرجلنا كان سافلا فلا يزال بعضه عاليا وبعضه سافلا
قيل : فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا وحينئذ فإذا كان مباينا للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا لم يزل عاليا علينا دائما وهو المطلوب
الوجه الثاني : أن يقال : هب أنه محيط بالعالم وفوقه من جميع الجهات فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك كان تحت بعض العالم من بعض الجهات
ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطا به أن يكون مثل فلك فإنه العظيم الذي لا أعظم منه
وقد قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [ الزمر : 67 ]
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه ما يوافق ذلك مثل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ] وفي رواية : [ أنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان ] وروي ما هو أقل من ذلك
والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره أو تدركه أبصارهم أو يحيطون به علما وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم أو تحت شيء منه فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل وأحاط بها بغير ذلك لم يجز أن يقال : إن أحد جانبيها فوقه لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال
وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات كإحاطة الإنسان بما في جوفه وإحاطة البيت بما فيه وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال : إنها تحت المحاط وأن ذلك نقص مع كون المحيط يحيط به غيره فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء الذي تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به ويكون ذلك نقصا ممتنعا
وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل فقال للسائل : إذا كان باشق كبير وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكا لها في حال طيرانه وهو فوقها ومحيط بها فإذا كان مثل هذا ممكنا في المخلوق فكيف يتعذر في الخالق

بقية كلام الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي : ( واحتج الخصم بالعلم الضروري بأن كل موجودين فإن أحدهما سار في الآخر أو مباين عنه في الجهة )
قال : ( والجواب أن دعوى الضرورة قد سبق بطلانها وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها )

الرد على كلام الرازي
والاعتراض على هذا : أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان خطئه والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يعلم أنها لم يتواطأوا على الكذب فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة فلا يجوز أن يقال : إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري
وأيضا فالمنازع يسلم أن مثل هذا مستقر في فطر جميع الناس وبدائههم وأنهم مضطرون إليه لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم إلا كما يمكن دفع أمثاله مما هم مضطرون إليه وإنما يقولون : إن هذه الضرورة خطأ وهي من حكم الوهم
وقد تقدم بيان فساد ذلك وأن هذه قضية كلية عقلية لا خبرية معينة ولو كانت خبرية معينة فالجزم بها كالجزم بسائر الحسيات الباطنة والظاهرة فهي لا تخرج عن العقليات الكلية والحسيات المعينة وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل ذلك يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك ولو جاز الخطأ في مثل ذلك لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس ولطائفة حصل بينها مواطأة وتلقي بعضها عن بعض كالمذاهب الموروثة وكقول التابعين لكون هذا معلوما بالضرورة فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض
وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم كسائر العلوم الضرورية فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين
وأما قوله : ( وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها )
فليس الأمر كذلك لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها كسائر المعارف الضرورية بل نعلم بالضرورة أن ما عارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية
وإذا قال قائل : لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفي المعارض المبطل لها ونفسي ذلك لا يكون إلا بثبوتها
كان قوله ممنوعا غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك بل هم يقولون : إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئا لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له فكيف يحتاج إلى العلوم الضرورية إلى نفي المعارض
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هذه القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم ومنهم من لا يصدق أن عاقلا يقول ذلك لظهور هذه القضية عندهم واستقرارها في أنفسهم فينسبون من خالفها إلى الجنون حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم
ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة ولا يلتفت إلى ما اعتقدوه من المعارض لها فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم وهو يطلب مني حاجة وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره فرفع طرفه ورأسه إلى السماء وقال : يا الله فقلت له : أنت محق لمن ترفع طرفك ورأسك ؟ وهل فوق عندك أحد ؟ فقال : أستغفر الله ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته ثم بينت له فساد هذا القول : فتاب من ذلك ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم

كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين
قال الرازي : ( واحتج الخصم أيضا بأن اختصاص الجسم بالحيز والجهة إنما كان لكون قائما بالنفس ) يعني : وهذا ثابت لكل قائم بنفسه ( وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء ) قال :
( والجواب أن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة فإنه لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى )

الرد عليه
والاعتراض على ذلك أن يقال : إن عنيت بذاته المخصوصة هو ما يمتاز به جسم عن جسم كما يقال : اختصاص الفلك بالحيز لكونه فلكا واختصاص الماء بالحيز لكونه ماء واختصاص الهواء بالحيز لكونه هواء فهذا باطل لا يقوله عاقل فإن جميع الأجسام مشتركة في الاختصاص بالحيز والجهة والحكم العام المشترك بينها لا يكون إلا لما امتاز به بعضها عن بعض فإنه لو كان لما امتاز به بعضها عن بعض وجب أن يختص ببعضها كسائر ما كان من ملزومات المخصصات المميزات
وإذا قيل : إن المختلفات يجوز أن تشترك في لازم عام كاشتراك أنواع الحيوانات المختلفة في الحيوانية فهذا صحيح لكن لا يجوز أن يكون الحكم العام المشترك فيه لأجل ما يخص به كل حيوان
وإذا قيل : إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب لكنه نظير مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب فليس الملك الثابت بالإرث مساويا للملك الثابت بالبيع من كل وجه بل له خصائص يمتاز بها عنه وكذلك حل الدم الثابت بالردة ليس مساويا لحل الدم الثابت بالقتل بل بينهما فروق معينة
وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد
وأما ما جزم العقل بثبوته للقدر المشترك فيجب أن يضاف إلى قدر مشترك والعقل يجزم بثبوت الحيز والجهة لكل جسم من غير أن يعلم كل جسم بل لا يعقل حقيقة الجسم عنده إلا مع كونه متحيزا ذا جهة فصار هذا من لوازم القدر المشترك فلا يجوز أن يضاف إلى المخصصات
وقوله : ( لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى )
إنما تكون حجة لو قيل : العلة في ثبوت هذه الصفة لصفة أخرى وليس هذا هو المدعي بل المدعي أن هذا من لوازم القدر المشترك سواء قيل : إنه معلول له أو غير لازم غير معلول له وحينئذ فلا يحتاج أن نقول : ثبت لصفة أخرى بل يمكن أن يكون لازما لنفس الذات لكن هو لازم لسائر ما يشابهها في الحيز والجهة فلم يكن لزومه لها من جهة ما يمتاز به عن غيرها بل من جهة القدر المشترك بينها وبين غيرها من الأجسام
فعلم أن اتصاف الجسم بكونه متحيزا وذا جهة لازم له لعموم كونه جسما لا لخصوص المعينات بمعنى أن المشترك مستلزم لهذا الحكم
وإن عنيت بذاته المخصوصة القدر المشترك بين الأجسام فلفظ ( الجسم ) مجمل إن عنيت به كل ما يشار إليه فتسمية مثل هذا جسما مما ينازعك فيه من ينازعك من أهل الإثبات والكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات العقلية
وصاحب هذا القول قد يمنع أن كل ما يشار إليه مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة وحينئذ فالناس هنا طوائف : منهم من يقول لك : هو فوق العرش وليس بجسم ومنهم من يقول لك : هو فوق العالم وهو جسم بمعنى أنه يشار إليه لا بمعنى أنه مركب ومنهم من يسلم لك أنه يلزم أن يكون مركبا ومنهم من لا يطلق الألفاظ البدعية في النفي ولا الإثبات بل يراعي المعاني العقلية والألفاظ الشرعية فيقولون لك : القدر مشترك بينهما هو القيام بالنفس فإنها كلها مشتركة في القيام بالنفس وفي التحيز وفي الجهة فهذه أمور متلازمة
ويقول لك كثير منهم أو أكثرهم : لا يعقل قائم بنفسه غير متحيز كما لا يعقل قائم بغيره إلا وهو صفة سواء سمي عرضا أو لم يسم فإثبات المثبت قائما بنفسه لا يشار إليه أمر لا يعقل عند عامة العقلاء كإثباته قائما بغيره ليس صفة له
يوضح ذلك أن الأجسام مختلفة على أصح قولي الناس وإنما اشتركت في مسمى القيام بالنفس والمقدار مع القيام بالنفس فكما أن التحيز والجهة هما من لوازم المقدار العام لا من لوازم ما يختص ببعضها فكذلك هما من لوازم القيام بالنفس العام لا من لوازم ما يختص ببعضها وإن عنيت بلفظ الجسم ما هو مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة كما هو قول طوائف من أهل الكلام والفلسفة فهنا المنازعون لك صنفان : منهم من يقول : هو جسم مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة وهؤلاء - وإن كان قولهم باطلا - فليس لك حجة تبطل بها قولهم بل هم على إبطال قولك أقدر منك على إبطال قولهم فإن كل قول يكون أبعد عن الحق تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه
وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم ولما كان مرض التعطيل أعظم كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل مع تنزيهه عن أن يكون له فيها مثيل بل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات ويأتون بإثبات مفصل ونفي مجمل فيثبتون أن الله حي عليم قدير سميع بصير غفور رحيم ودود إلى غير ذلك من الصفات ويثبتون مع ذلك أنه لا ند له ولا مثل له ولا كفو له ولا سمي له
ويقول تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى : 11 ] ففي قوله : { ليس كمثله شيء } رد على أهل التمثيل وفي قوله : { وهو السميع البصير } رد على أهل التعطيل
ولهذا قيل : الممثل يعبد صنما والمعطل يعبد عدما
والمقصود هنا أن هؤلاء النفاة لا يمكنهم إقامة حجة على غلاة المجسمة الذين يصفونه بالنقائص حتى الذين يقولون ما يحكى عن بعض اليهود أنه بكى على الطوفان حتى رمد وأنه عض يده حتى جرى منه الدم ندما ونحو ذلك من المقالات التي هي من أفسد المقالات وأعظمها كفرا ليس مع هؤلاء النفاة القائلين بأنه بداخل العالم ولا خارجه حجة عقلية يبطلون بها مثل هؤلاء الأقوال الباطلة فكيف بما هو دونها من الباطل فكيف بالأقوال الصحيحة
وذلك أن عمدتهم على أن هذه الصفات تستلزم التجسيم وهو باطل وعمدتهم في نفي التجسيم على امتناع اتصافه بالصفات ويمسونه التركيب أو على حدوث الجسم الذي مبناه على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وعلى أن ما اختص بشيء فلا بد له من مخصص من غير فرق بين الواجب بذاته القديم الأزلي وبين غيره مع العلم بأنه لا بد للموجود الواجب من حقيقة يختص بها يتميز بها عما سواه وأن ما اختصت به حقيقته يمتنع أن يكون لها مخصص كما يمتنع أن يكون لوجوده الواجب موجب أو لعلمه معلم أو لقدرته مقدور ونحو ذلك
وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لك : الاختصاص بالحيز والجهة إنما كان لكون المختص بها قائما بالنفس فيكون كل قائم بنفسه مختصا بالحيز والجهة لذاته المخصوصة فقد ظهر بطلان ذلك
وإن قلت : إنما اختص بالجهة المخصوصة والحيز المخصوص لذاته المخصوصة لم ينازعوك في ذاك بل يقولون : الاختصاص بجنس الجهة والحيز كان لجنس القيام بالنفس فجنس الاختصاص لازم لجنس القيام بالنفس فكل قائم بنفسه مختص بحيز وجهة فقد تبين أن كونه متحيزا ذا جهة لازم لعموم كونه جسما لا لخصوص جسم معين
وحينئذ فإن قلت : كما أن الاختصاص بالجهة والحيز من لوازم القيام بالنفس فهو مستلزم لكونه جسما
قالوا لك : ونحن نقول بذلك
وكذلك إذا قلت لهم : كما لا تعقلون قائما بنفسه إلا مختصا بجهة وحيز فلا تعقلون قائما بنفسه إلا جسما
قالوا لك : ونحن نقوم بذلك
فإذا شرعت معهم في نفي الجسم كان لهم طريقان : أحدهما : أن يقولوا : هذا قدح في الضروريات بالنظريات : فلا نقبله كما تقدم
والثاني : أن يبينوا بطلان أدلة النافية للتجسيم وأن تعترف ببطلانها
فأنت في غير موضع من كتبك ومن تقدمك كالغزالي وغيره تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله كما فعلت في المباحث المشرقية و المطالب العالية بل كما فعل من بعدك الآمدي والآرموي وغيرهما وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب وكل مركب فهو مفتقر بذاته وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب كما فعل ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما
وهذه الحجة - وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مشارا إليه وأنه فوق العالم - لما كانت حجة عقلية لا يمكن مدافعتها وكانت مما ناظر به الكرامية لأبي إسحاق الإسفراييني فر أبو إسحاق وغيره إلى إنكار كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول وقال : لا أسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا وهذا لازم لسائرهم
ومعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره فإذا كان العرض القائم بغيره يمتنع أن يكون عدميا فقيام الجسم بنفسه أبلغ في الامتناع وإذا كان المخلوق قائما بنفسه فمعلوم أن هذه صفة كمال تميز بها الجسم عن العرض فخالق الجميع كيف لا يتصف إلا بهذه الصفة الكمالية
بل لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره إلا بمعنى عدمي فيكون المخلوق مختصا بصفة موجودة كمالية والخالق لا يتصف إلا بالأمر العدمي فيكون المخلوق متصفا بصفة كمال وجودية والخالق مختصا بالأمر العدمي والعدم لا يكون قط صفة كمال إلا إذا تضمن أمرا وجوديا فما ليس بوجود ولا كمال في الوجود فليس بكمال فإن لم يكن القيام بالنفس متضمنا لأمر وجودي بل لا معنى له إلا العدم المحض لم يكن صفة كمال وعدم افتقاره إلى الغير أمر عدمي والعدمي إن لم يتضمن صفة ثبوتية لم يكن صفة كمال والعدم المحض لا يفتقر إلى محل وكل صفة لا يشاركه فيها المعدوم لم تكن صفة كمال
وأما الصنف الثاني فهم يوافقونك على أن صانع العالم ليس بمركب من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة فليس هو بجسم
وحينئذ فقولك : إن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة إن عنيت بذاته المخصوصة هذا التركيب فهذا المعنى ممنوع عنده فضلا عن أن يكون علة لهذا الحكم
وإن عنيت بذاته المخصوصة ما هو مشترك بين الأجسام من كونها مشارا إليها فلا يسلم لك أن في الوجود قائما بنفسه غير مشار إليه

بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة
قال الرازي : في حجة خصمه : ( وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب )
قال : ( والجواب : قوله : جهة فوق أشرف الجهات خطابي لا يثبت به العقليات )
قال : ( ولأن العالم كرة فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة ولأنه إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية فكل نقطة فوقها نقطة أخرى فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل وإن كان له نهاية كان فوق طرفه الأعلى خلاء أعلى منه فلم يكن علوا مطلقا ولأن الشرف الحاصل بسبب الجهة للجهة بالذات وللحاصل فيها بالعرض فكان المكان في هذا الباب أشف منه تعالى الله عن ذلك )

الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق
قلت : ولقائل أن يقول : تقرير العلو بالأدلة العقلية ثبت من طرق :
الطريق الأول : أن يقال : إذا ثبت بالعقل أنه مباين للمخلوقات وثبت أن العالم كري وإن العلو المطلق فوق الكرة لزم أن يكون في العلو بالضرورة
وهذه المقدمات عقلية ليس فيها خطابي وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان : العلو والسفل فقط وإذا كان مباينا للعالم امتنع أن يكون في السفل داخلا فيه فوجب أن يكون في العلو مباينا له وقد تقدم أن النافي قال : ( إن العالم كرة ) واستدل على ذلك بالكسوف القمري إذا كان يتقدم في الناحية الشرقية على الغربية
والقول بأن الفلك مستدير هو قول جماهير علماء المسلمين والنقل بذلك ثابت عن الصحابة والتابعين بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادي وأبو محمد بن حزم وابن الجوزي وغيرهم : أنه ليس في ذلك خلاف بين الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين وقد نازع في ذلك طوائف من أهل الكلام والرأي من الجهمية والمعتزلة وغيرهم
وقال الله تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] وقال : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ]
قال ابن عباس وغيره : في فلكة مثل فلكة المغزل
وفي حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي رواه أبو داود و الترمذي وغيرهما [ أن أعرابيا قال : يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فسبح رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى عرف ذلك في وجوه الصحابة ثم قال : ( ويحك أتدري ما الله ؟ شأن الله أعظم من ذلك إن الله لا يستشفع به أحد من خلقه إن عرشه على سماواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه ] وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وإذا كان الخصم قد استدل بذلك كان ذلك حجة عليه فإذا كان العالم كريا - وقد ثبت بالضرورة أنه : إما مداخل له وإما مباين له وليس بمداخل له وجب أن يكون مباينا له وإذا كان مباينا له وجب أن يكون فوقه إذ لا فوق غلا المحيط وما كان وراءه
الطريق الثاني : أن يقال : علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارا بذلك وتصديقا من غير أن يتواطأوا على ذلك ويتشاعروا وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم
الطريق الثالث : أن يقال : هم عندنا يضطرون إلى قصد الله وإرادته مثل قصده عند الدعاء والمسألة يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو فكما أنهم مضطرون إلى دعائه وسؤاله وهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلوم إليه لا يجدون في قلوبهم توجها إلى جهة أخرى ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلوب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات
وهذا الوجه يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعاءه إلى العلو والأول يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك فهذا فطرة واضطرار إلى العلم والتصديق والإقرار وذلك اضطرار إلى القصد والإرادة والعمل متضمن للعلم والتصديق والإقرار
الطريق الرابع : أن يقال : قوله ( جهة فوق أشرف الجهات خطابي ) ليس كذلك وذلك لأنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص فلما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل ولما تقابل القدرة والعجز وصف بالقدرة دون العجز ولما تقابل الكلام والبكم وصف بالكلام دون البكم ولما تقابل السمع والبصر والصمم والعمى وصف بالسمع والبصر دون الصمم والعمى ولما تقابل الغنى والفقر وصف بالغنى دون الفقر ولما تقابل الوجود والعدم وصف بالوجود دون العدم ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عاليا على العالم أو مسامتا له وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة فضلا عن السفول
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم وعلوه القهر مضمونه أنه قادر على العالم فإذا كان مباينا للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم لا محاذيا له ولا سافلا عنه ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك كم لوازم ذاته فلا يكون مع وجود غيره إلا عاليا عليه لا يكون قط غير عال عليه
كما ثبت في الصحيح الذي في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول في دعائه [ أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ]
ولهذا كان مذهب السلف والأئمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش لا يكون تحت المخلوقات ولا تكون المخلوقات محيطة به قط بل هو العلي الأعلى : العلي في دنوه القريب في علوه
ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات ولكن طائفة من الناس قد يقولون : إنه ينزل ويكون العرش فوقه ويقولون : إنه في جوف السماء وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه
وهؤلاء ضلال جهال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول كما أن النفاة الذين يقولون : ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول فالحلولية والمعطلة متقابلان
الطريق الخامس : أن يقال : إذا كان مباينا للعالم : فإما أن يقدر محيطا به أو لا يقدر محيطا به سواء قدر أنه محيط به دائما أو محيط به في بعض الأوقات كما يقبض يوم القيامة ويطوي السماوات فإن قدر محيط به كان عاليا علو المحيط على المحاط به
وقد تقدم قولهم : ( إن الفلك كري ) فيلزم أن تكون الأفلاك محيطة بالأرض فهي فوقها باتفاق العلماء فما كان محيطا بالجميع أولى بالعلو والارتفاع سبحانه وتعالى وإن لم يكن مماثلا لشيء من المخلوقات ولا مجانسا لأفلاك ولا غيرها
وإن لم يقدر محيطا به فإن كان العالم كريا وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو فإذا كان مباينا له لزم أن يكون عاليا كيفما كان الأمر
وإن قدر أن العالم ليس بكري أو هو كري ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو مثل أن تقول : إن الله وضع الأرض وبسطها للأنام فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى فحينئذ إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط فلا بد من اختصاصه بجهة العلو أو غيرها
ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض وجهة الرأس أشرف من جهة الرجل فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع
وأما قول النافي : ( ولأن العالم كرة فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة )
فيقال له : هذا خطأ لما تقدم من أن المحيط باتفاق العقلاء عال على المركز وأن العقلاء متفقون على أن الشمس والقمر والكواكب إذا كانت في السماء فلا تكون إلا فوق الأرض وكذلك السحاب والطير في الهواء
وأيضا فإن هذا التحت أمر خيالي وهمي لا حقيقة له وليس فيه نقص كالمعلق برجليه لا تكون السماء تحته إلا في الوهم الفاسد والخيال الباطل وكذلك النملة الماشية تحت السقف فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها لا تكون بالليل تحتنا إلا في الوهم والخيال الفاسد
وأيضا فإنه مع كونه كريا لا يمتنع أن نختص إحدى جهتيه بوصف اختصاص ألا ترى أن الأرض مع قولهم إنها كرية فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن أشرف من الجهة التي غمرها الماء ؟ وإذا كانت هذه الجهة أشرف جهتي الأرض لم يمتنع أن يكون ما يحاذيها أشرف مما يحاذي الجهة الأخرى فما كان فوق الأفلاك من هذه الجهة أشرف مما يكون من تلك الجهة الأخرى
ومما يوضح ذلك أن مقتضى طبيعة الماء والتراب عند من يعتبر ذلك أن يكون الماء قد غمر الأرض كلها من هذه الناحية كما غمرها من تلك الناحية لأن الماء بالطبع يعلو على التراب ومع هذا اختص هذا الوجه بأن الماء ممنوع عنه
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه ]
وأهل الطبع والحساب قد حاروا في سبب جفاف هذا الوجه حتى قالوا : هذا سببه عناية الرب مع أن هذا عندهم إذا قالوه ينقص مذاهبهم
وإذا كان هذا فيما شوهد فما المانع أن يكون فوق الأفلاك من هذا الجانب ما هو مختص بأمر يقتضي اختصاص الرب بالعلو عليه من هذا الوجه ؟

تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين
وأما قوله : ( إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية فكل نقطة فوقها أخرى فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سافل وإن كان له نهاية كان فوق طرف العلو خلاء أعلى منه فلم يكن علوا مطلقا )

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : العلي الأعلى هو الذي ليس فوقه شيء أصلا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ]
وحينئذ فهذا الخلق المذكور : إما أن يكون شيئا موجودا وإما أن يكون شيئا موجودا فإن كان الأول فهو من العالم والله فوقه إذ هو العلي الأعلى الظاهر الذي ليس فوقه شيء وإن لم يكن شيئا موجودا فهذا لا يوصف بأنه فوق غيره ولا تحته ولا يقال : إن تحته شيء ولا فوقه شيء إذ هو عدم محض ونفي صرف فلا يجوز أن يقال : إن فوق الله شيء والعدم ليس بشيء لا سيما العدم الممتنع فإنه ليس بشيء باتفاق العقلاء ويمتنع أن يكون فوق الله شيء فهو عدم ممتنع

الوجه الثاني
أن يقال غاية الكمال في العلو أن لا يكون فوق العالي شيء موجود والله موصوف وما ذكرته من الخلاء إذا قدر أنه لا بد منه لم يقدح ذلك في علوه الذي يستحقه كما أنه سبحانه موصوف على كل شيء قدير والممتنع بنفسه الذي ليس بشيء ولا يدخل في العموم لا يكون عدم دخوله نقص في قدرته الشاملة
وكذلك هو سبحانه بكل شيء عليم فيعلم الأشياء على ما هي عليه فما لم يكن موجودا لا يعلمه موجودا كما قال تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] ولا يكون نفي هذا العلم نقصا بل هو من تمام كماله لأنه يقتضي أن يعلم الأشياء على ما هو عليه ونظائر هذا كثيرة

الوجه الثالث
أن يقول له إخوانه الذين يقولون : أنه لا نهاية له في ذاته : قوله : ( إن ما لا يتناهى فكل نقطة منها فوقها نقطة فكل شيء منه سفل ) - لا يقدح في مطلوبنا فإن مقصودنا أن لا يكون غيره أعلى منه بل هو عال على كل موجود ثم بعد ذلك إذا قدرت أنه ما منه شيء إلا وغيره منه أعلى منه لم يقدح هذا في مقصوده ولا في كماله فإنه لم يعل على شيء منه إلا ما هو لا من غيره
وأيضا فإن مثل هذا لا بد منه والواجب إثبات صفات الكمال بحسب الإمكان
وأيضا فإن مثل هذا كمال في العلو ولا يقدح في العالي أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن بعضه عاليا عليه
وأيضا فإن الناس متنازعون في صفاته : هل بعضها أفضل من بعض مع أنها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ؟ وهل بعض كلامه أفضل من بعض مع كمال الجميع ؟
والسلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض وبعض صفاته أفضل من بعض مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } [ البقرة : 106 ]
[ وكقوله صلى الله عليه و سلم حاكيا عن ربه : إن رحمتي تغلب غضبي ] وفي لفظ : [ سبقت غضبي ]
وقوله : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] تعدل ثلث القرآن
وقوله في فاتحة الكتاب : لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها
فنفى أن يكون لها مثل
وقوله عن آية الكرسي أنها أعظم آية في القرآن
وقوله صلى الله عليه و سلم : [ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ]
وقوله : [ يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع ] فأخبر أن الفضل بيده اليمنى والقسط بيده الأخرى مع أن كلا يديه يمين
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ]
فإذا كانت صفاته كلها كاملة لا نقص فيها وبعضها أفضل من بعض لم يمتنع أن هو العالي علوا مطلقا وإن كان منه ما هو أعلى من غيره

كلام آخر للرازي في لباب الأربعين
وأما قوله : ( إن الشرف الحاصل بسبب الجهة لها بالذات وللحاصل فيها بالعرض )

الرد عليه من وجوه
فجوابه من وجوه :
إن هذا إنما يمكن أن يقال إذا كانت الجهة أمرا وجوديا فأما إذا كانت أمرا عدميا - والمراد بذلك أنه فوق العالم مباين له ليس معه هناك موجود غيره - لم يكن هناك شيء موجود غيره يستحق العلو لا جهة ولا غيرها فضلا عن أن يستحق غيره العلو والشرف والذات
وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ويعنون بها تارة أمرا معدوما وتارة أمرا موجودا ولهذا كان أهل الإثبات من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف فمنهم من يطلق لفظ ( الجهة ) ومنهم من لا يطلقه وهما قولان لأصحاب أحمد و الشافعي و مالك و أبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي
وكذلك لفظ ( المكان ) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه
وأما لفظ ( المتحيز ) فمنهم من ينفيه وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا
وإذا كان كذلك فيقال : قول القائل ( إن الله في جهة أو حيز أو مكان ) إن أراد به شيئا موجودا غير الله فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته فإذا قالوا : إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه امتنع أن يكون محصورا أو محاطا بشيء موجود غيره سواء سمى مكانا أو جهة أو حيزا أو غير ذلك ويمتنع أيضا أن يكون محتاجا إلى شيء من مخلوقاته : لا عرش ولا غيره بل هو بقدرته الحامل للعرش ولحملته فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها
إذا قيل : إنه في السماء كان المعنى إنه في العلو وهو مع ذلك فوق كل شيء ليس في جوف السماوات فإن السماء هو العلو وكل ما علا فهو سماء
يقال : سما يسمو سموا أي علا يعلو علوا وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة
فإذا قيل : فليمدد بسبب إلى السماء فقد يراد به السقف وإذا قيل : نزل المطر من السماء كان نزوله من السحاب وإذا قيل : العرش في السماء فالمراد به ما فوق الأفلاك وإذا قيل : الله في السماء فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها أو يراد : أنه فوق السماء وعليها فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات أهل العلم والسنة ومن قال بذلك فهو جاهل كمن يقول : إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه أو يقول : إنه يحصره شيء من مخلوقاته فهؤلاء ضلال كما أن أهل النفي ضلال
وإن أراد بمسمي الجهة والحيز والمكان أمرا معدوما فالمعدوم ليس شيئا فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزا وجهة ومكانا كان المعنى : أن الله وحده هناك ليس هناك غيره من الموجودات : لا جهة ولا حيز ولا مكان بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها سبحانه وتعالى

الوجه الثاني
إن يقال : لو عارضكم معارض وقال : الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة وهي مفتقرة إليه وهو مستغن عنها فإن العرش مثلا إذا سمي جهة ومكانا وحيزا فالله تعالى هو ربه وخالقه والعرش مفتقر إلى الله افتقار المخلوق إلى خالقه والله غني عنه من كل وجه فليس في كونه فوق العرش وفوق ما يقال له جهة ومكان وحيز - وإن كان موجودا - إثبات شرف لذلك المخلوق أعظم من شرف الله تعالى
وهذا قد يجيب به من يثبت الخلاء ويجعله مبدعا لله تعالى

الوجه الثالث
إنه إذ كان عاليا على ما يسمى جهة ومكانا كان هو أعلى منه فأي شرف وعلو كان لذلك الموجود بالذات أو بالعرض فعلو فعلو الله أكمل منه

الوجه الرابع
أن يقال : لا نسلم أن العلو الحاصل بسبب الجهة هو لها بالذات ولغيرها بالعرض إذ الجهة تابعة لغيرها سواء كانت موجودة أو معدومة وعلوها تبع لعلو العالي بها فكيف يكون العلو للتابع بالذات وللمتبوع بالعرض ؟ !
وقولنا : ( عال بالجهة ) مثل قولنا : عال بالعلو وعالم بالعلم وقادر بالقدرة أو عال علو المكانة أو عال القهر فليس في ذلك ما يوجب أن تكون المكانة والقهر والعلو والعلم أكمل من القاهر العالم العالي ذي المكانة العالية ومهما قدر أنه يسمى جهة فإما أن يكون عدما فلا شرف له أصلا وإما أن يقدر موجودا : إما صفة لله وإما مخلوقا لله وعلى التقديرين فالموصوف أكمل من الصفة والخالق أكمل من المخلوق فكيف تكون الصفات والمخلوقات أكمل من الموصوف الخالق سبحانه وتعالى ؟ !

الوجه الخامس
أن الجهة قد نعني بها نسبة وإضافة كاليمين واليسار والأمام والوراء فالعلو إذا سمي جهة بهذا الاعتبار كان العالي بالجهة معناه : أن بينه وبين ما هو عال عليه نسبة وإضافة أوجبت أن يكون هذا فوق هذا فهل يقال : إن هذه النسبة والإضافة التي بها وصف العالي بأنه عال أكمل من ذاته العالية الموصوفة بهذا العلو والنسبة

الوجه السادس
أن يقال : هذا الذي قاله إنما يتوجه في المخلوق إذا علا على سقف أو منبر أو عرش أو كرسي أو نحو ذلك فإن ذلك المكان كان عاليا بنفسه وهذا صار عاليا لما صار فوقه بسبب علو ذلك فالعلو لذلك السقف والسرير والمنبر بالذات ولهذا الذي صعد عليه بالعرض
فكلامهم يتوجه في مثل هذا وهذا في حق الله وهم وخيال فاسد وتمثيل لله بخلقه وتشبيه له بهم من صفات النقص التي يتعالى عنها
وهؤلاء النفاة كثيرا ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة ويصفون الله بالنقائص والآفات ويمثلونه بالمخلوقات بل بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات الذين يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص والعيوب وأن يكون له في شيء من صفاته كفوا أو سمي فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم والخيال الفاسد أو أنهم يصفون الله بالنقائص والعيوب أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات هو بهم أخلق وهو بهم أعلق وهم به أحق فإنك لا تجد أحدا سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال إلا وقواه يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات وتجده قد توهم وتخيل أوهاما وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش كان محتاجا إلى العرش كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجا إلى كرسيه
وهذا عين التشبيه الباطل والقياس الفاسد ووصف الله بالعجز والفقر إلى الخلق وتوهم أن استواءه مثل استواء المخلوق أو لا يعلمون أن الله يجب أن نثبت له صفات الكمال وننفي عنه مماثلة المخلوقات ؟ وأنه : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله ؟ فلا بد من تنزيهه عن النقائص والآفات ومماثلة شيء من المخلوقات وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال والتمام التي ليس فيها كفو لذي الجلال والإكرام
وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه وهو خالق كل مخلوق ولم يصر عاليا على الخلق بشيء من المخلوقات بل هو سبحانه خلق المخلوقات وهو بنفسه عال عليها لا يفتقر إلى علوه عليها إلى شيء منها كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش
وفي الأثر : أن الله لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله قالوا : ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك ؟ فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله
فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته وغيرها فهو بقوته وقدرته الحامل للحامل والمحمول فكيف يكون مفتقرا إلى شيء ؟ وأيضا فالمحمول من العباد بشيء عال لو سقط ذلك العالي سقط هو والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك
وأيضا فهو سبحانه خلق ذلك المكان العالي والجهة العالية والحيز العالي إذا قدر شيئا موجودا كما لو جعل ذلك اسما للعرش وجعل العرش هو المكان العالي كما في شعر حسان :
( تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما )
فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه وبقوته صار عاليا والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه ومن فعله وقدرته ومشيئته فإذا كان هو عاليا على ذلك وهو الخالق له وذلك مفتقر إليه من كل وجه وهو مستغن عنه من كل وجه فكيف يكون قد استفاد العلو منه ويكون ذلك المكان أشرف منه
وإنما صار له الشرف به والله مستحق للعلو والشرف بنفسه لا بسبب سواه فهل هذا وأمثاله إلا من الخيالات والأوهام الباطلة التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها والعلوم الضرورية والقصود الضرورية والعلوم البرهانية القياسية والكتب الإلهية والسنن النبوية وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية ؟

تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو
قال الرازي في حجة خصمه : ( ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء )
وأجاب عن ذلك بأن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض

الرد عليه من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له لا طلب وقصد ممن هو في السفل بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو
والاستدلال هو بقصدهم القائم بقلوبهم وما يتبعه من حركات أبدانهم والداعي يجد من قلبه معنى يطلب العلو والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل بل الساجد أيضا يقصد في دعائه العلو فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد

الوجه الثاني
أن وضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل من تواضعوا له من أهل الأرض والسماء ولهذا يسجد المشركون للأصنام والشمس والقمر سجود عبادة وقد سجد ليوسف أبواه وإخوته سجود تحية لا عبادة لكون ذلك كان جائزا في شرعهم وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم والسجود لا يختص بمن هو في الأرض بل لا يكاد يفعل لمن هو في بطنها بل لمن هو على ظهرها عال عليها وأما توجيه القلوب والأبصار والأيدي عند الدعاء إلى السماء فيفعلونه إذا كان المدعو في العلو فإذا دعوا الله فعلوا ذلك وإن قدر منهم من يدعوا الكواكب ويسألها أو يدعوا الملائكة فإنه يفعل ذلك
فعلم أن قصدهم بذلك التوجه إلى جهة المدعو المسؤول الذي يسألونه ويدعونه حتى لو قدر أن أحدهم يدعو صنما أو غيره مما يكون على الأرض لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه كما يفعل النصارى في كنائسهم فإنهم يوجهون قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصور المصورة في الحيطان وإن كان قصدهم صاحب الصورة وكذلك من قصد الموتى في قبورهم فإنه يوجه قصده وعينه إلى من في القبر فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل وكذلك عابد الصنم إذا كان فوق المكان الذي فيه الصنم فإنه يوجه قلبه وطرفه إلى أسفل لكون معبوده هناك
فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو فلما كانوا يوجهون ذلك إلى جهة السماء عند الله علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء

الوجه الثالث
أن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه بقصد العلو مع أن وجهه يلي الأرض بل كلما ازداد وجهه ذلا وتواضعا ازداد قلبه قصدا للعلو كما قال تعالى : { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ]
وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ]
فعلم أنهم يفرقون بين توجه وجوههم في حال السجود إلى الأرض وتوجيه القلوب في حال الدعاء إلى من في السماء والقلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها تارة تكون في حال السجود إلى جهة الأرض لكون ذلك غاية الخضوع وتارة تكون حال القيام مطرقة لكون ذلك أقرب إلى الخشوع وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب
وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى السماء وقال لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم ]
وأما رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة ففيه نزاع بين العلماء وإنما نهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة
قال تعالى : { فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر * خشعا أبصارهم } [ القمر : 6 - 7 ]
وقال : { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم } [ المعارج : 43 - 44 ]
وقال : { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } [ الشورى : 45 ]
ورأى عمر رضي الله عنه رجلا يصلي وهو يلتفت فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه
فخشوع القلب يستلزم خشوع البصر وذله وذلك ينافي رفعه وفي اعتبار هذا في الدعاء نزاع ولهذا يوجد من يخاطب المعظم عنده لا يرفع بصره إليه ومعلوم أنه كانت الجهات بالنسبة إلى الله سواء لم نؤمر بهذا

الوجه الرابع
أن السجود من باب العبادة والخضوع للمسجود له كالركوع والطواف بالبيت وأما السؤل والدعاء ففيه قصد المسؤول المدعو وتوجيه القلب نحوه لا سيما عند الضرورة فإن السائل الداعي يقصد بقلبه جهة المدعو المسؤول بحسب ضرورته واحتياجه إليه
وإذا كان كذلك كان رفع رأسه وطرفه ويديه إلى جهة متضمن لقصده إياه في تلك الجهة بخلاف الساجد فإنه عابد ذليل خاشع وذلك يقتضي الذل والخضوع ليس فيه ما يقتضي توجيه الوجه واليد ونحوه لكن إن كان داعيا وجه قلبه إليه وهذا حجة من فرق بين رفع البصر في حال الصلاة وحال الدعاء

الوجه الخامس
أن يقال : قصد القلوب للمدعو في العلو أمر فطري عقلي اتفقت عليه الأمم من غير مواطأة وأما السجود فأمر شرعي يفعل طاعة للآمر كما تستقبل الكعبة حال العبادة طاعة للآمر
وحينئذ فالاحتجاج بما في فطر العباد من قصد من في العلو وهذا لا معارض له

تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو
قال ( واحتج الخصم أيضا بالآيات الواردة الموهمة للجهة كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وقوله : { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] وقوله : { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 61 ]
قال : ( والجواب أن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأن العقل أصل النقل فتكذيبه لتصديقه يوجب تكذيبهما فتعين تصديق العقل وتفويض علم النقل إلى الله أو الاشتغال بتأويل الظاهر )

الرد عليه
وجواب هذا أن يقال : القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب والعلم بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما يتلقاه عامة الأمة بالقبول
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس : إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد إن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري
ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمدا رسول الله وأنه صادق ويقولون : إنه لم يرسل إليهم بل إلى الأميين لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة التي تبين أنه كان يقول : إن الله أرسله إلى أهل الكتاب بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية مع أن هذا من أعظم الأمور تواترا لإعراضهم
وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي صلى الله عليه و سلم وفي الغالية من يقول : إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي وإنما ولدهما سلمان الفارسي وكثير من الرافضة لا تعلم أن عليا زوج بنته لعمر ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر
وأما دعوى التقية والإكراه فهذا شعار المذهب عندهم
وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة
بل كثير من الناس بل من المنسوبين إلى العلم لا يعلمون مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم المواترة المشهورة وترتيبها وما كان فيه قتال أو لم يكن فلا يعلمون أيما قبل : بدر أو أحد ؟ وأيما قبل : الخندق أو خيبر ؟ وأيما قبل : فتح مكة أو حصار الطائف ؟ ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن ؟ ولا يعلمون عدد أولاد النبي صلى الله عليه و سلم : الذكور والإناث ولا يعلمون كم صام رمضان وكم حج واعتمر ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته ؟ ولا أي سنة فرض رمضان ؟ ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر ؟ ولا يعلمون هل كان يداوم على قصر الصلاة في السفر أم لا ؟ ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين وهل كان يفعل ذلك كثيرا أم قليلا ؟
إلى أمثال هذه الأمور التي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم بأحواله وغيرهم ليس عنده فيها ظن فضلا عن علم بل ربما أنكر ما تواتر عنه ؟
ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعا مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعا وليس بإجماع وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات وهي جهليات لا سيما مثل الرازي وأمثاله الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة
واعتبر ذلك بما تجده في كتب أئمة النفاة مثل أبي الحسين البصيري وأمثاله ومثل أبي حامد والرازي وأمثالهما
فأبو الحسين البصيري وأمثاله من المعتزلة يعتمدون في أصول دينهم على أحاديث قد يجمعها عبد الوهاب بن أبي حية البغدادي فيها الكذب والضعف وأضعافها من الأخبار المتواترة لا يعرفونها البتة حتى يعتقدون أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ] ويقولون : هذا لم يروه إلا قيس بن أبي حازم وكان يبغض عليا فيظنون أنه ليس في الرؤية إلا هذا الحديث
وأهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية متواترة أعظم من تواتر كثير مما يظنونه متواترا وقد احتج أصحاب الصحيح منها أكثر مما خرجوه في الشفعة والطلاق والفرائض وسجود السهو ومناقب عثمان وعلي وتحريم المرأة على عمتها وخالتها والمسح على الخفين والإجماع وخبر الواحد والقياس وغير ذلك من الأبواب الذين يقولون إن أحاديثها متواترة
فأحاديث الرؤية أعظم من حديث كل نوع من هذه الأنواع وفي الصحاح منها أكثر مما فيها من هذه الأنواع
مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة ومرورهم على الصراط وهو في الصحيح أيضا من حديث أبي سعيد ومن حديث جابر
وفي الصحيحين حديث أبي موسى في رؤيته في الجنة
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة رؤيته لربه
وفي الصحيح حديث صهيب في رؤية أهل الجنة
وأما أحاديث العلو وما يتضمن هذا المعنى فأضعاف أضعاف أحاديث الرؤية
فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية هم من أقل الناس علما بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين وفي معاني القرآن وفيما بلغوه من الحديث حتى أن كثيرا منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب
ومن كان له علم بهذا الباب علم أن كلام السلف في هذه المسائل الأصولية كمسائل العلو وإثبات الصفات الخبرية وغير ذلك أضعاف أضعاف كلامهم في مسائل الجد والإخوة والطلاق والظهار والإيلاء وتيمم الجنب ومس المحدث للمصحف وسجود السهو ومسائل الإيمان والنذور والفرائض وغير ذلك مما تواتر به النقل عنهم
وهذا الأصل قد بسطناه في مواضع مثل كلامنا في تواتر معجزات الرسول صلى الله عليه و سلم وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفة هذا الأصل وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم
وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإليهم المرجع في هذا الباب لا إلى من هو أجنبي عن معرفته ليس له معرفة بذلك ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة
فإن قيل : قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك
قيل : هؤلاء أنواع : نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال السلف أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي و القاضي عياض وأبي الفرج بن الجوزي وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي وأمثالهم
والثاني : من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما
وهذه حال أبي محمد بن حزم وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها ولا من جهة الفهم لمعانيها وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينهما من التعارض
وهذا حال أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار
وتارة يفوضون معانيها ويقولون : تجري على ظواهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك
وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع وما له لفظ يدفع الإشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث : أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأمثالهما ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ويقول : إنه يقول بكل ما قالوه وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفصيلها
وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم ومعرفة فساد أقولهم وأما في معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم بذلك قاصرة وإلا فمن كان عالما بالآثار وما جاء عن الرسول وعن الصحابة والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء : إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال كأكثر أهل الحديث أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك و عبد العزيز الماجشون و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و سفيان بن عيينة و ابن المبارك و وكيع بن الجراح و عبد الله بن إدريس و عبد الرحمن بن مهدي و معاذ بن معاذ و يزيد بن هارون الواسطي و يحيى بن سعيد القطان و سعيد بن عامر و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق بن إبراهيم و أبي عبد الرحمن القاسم بن سلام و محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن حجاج النيسابوري و الدارميين : أبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن و عثمان بن سعيد و أبي حاتم و أبي زرعة الرازيين و أبي داود السجستاني و أبي بكر الأثرم و حرب الكرماني ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل
فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة كما تواترت الآثار عنهم وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك من غير خلاف بينهم في ذلك==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فوائد من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جمع فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

فوائد من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جمع  فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ حقوق الطبع والنشر لكل مسلم بسم الله الرحمن الرحيم المقد...