تحميل مصاحف

 حمل المصحف

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الأربعاء، 15 فبراير 2023

ج5وج6.درء تعارض العقل والنقل أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

ج5.درء تعارض العقل والنقل أحمد بن

 عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

الوجه الثاني
أن يقال نصوص ذلك صريحة لا تحتمل التأول بالتأويلات المذكورة في ذلك من جنس تأويلات القرامطة الباطنية وهي باطلة كما قد بين في موضعه بل معلومة الفساد بالضرورة كما بين بطلان تأويل كل من تأول ( استوى ) على غير ما يتضمن علوه على العرش مثل تأويله بالقدرة والمكانة أو غير ذلك

الوجه الثالث
أن يقال : لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلا بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلدا لغيره أو ظانا في نفسه وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها لم يجد فيما يعارض السمعيات برهانا مؤلفا من مقدمات يقينية تأليفا صحيحا وجمهور من تجده يعارض بها أو يعتمد عليها إذا بينت له فسادها وما فيه من الاشتباه والالتباس قال : هذه قالها فلان وفلان وكانوا فضلاء فكيف خفي عليهم مثل هذا ؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وإجماع سلف الذين لا يجتمعون على ضلالة ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها إلى تقليد رجال يقولون : إن هذه القضايا عقلية برهانية وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم مثلهم وأكثر منهم وعامة من تجده من طلبة العلم المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي ودليل عقلي وقياس مستقيم وذوق صحيح ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع أو إلى ما افتراه هو - أو توهمه - إن كان من المتبوعين وللطائفتين نصيب مما ذكره الله في أشباههم
قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } [ البقرة : 165 - 167 ]
وقال تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } [ الفرقان : 27 - 29 ]
وقال تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } [ الأحزاب : 66 - 68 ]
وقال تعالى : { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد } [ غافر : 47 - 48 ]

الوجه الرابع
أن يقال : لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما بل يمكن ذلك فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته لم يثبته السمع الصحيح وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح
وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح وإنما يظن تعارضهما من غلط مدلولهما أو مدلول أحدهما كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة
وكثيرا ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك كالأحول الذي يرى الواحد اثنين والممرور الذي يجد الحلو مرا وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمدا ولا خطأ والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا بحسب إدراك شخص معين وما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق
كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم ما يبين لهم أن القرآن حق
وقال تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } [ سبأ : 6 ] فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق وأما من كان عنده ما يظنه علما - وهو جهل - فذلك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه وكان في قلبه مرض فزاده الله مرضا وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ومن الصم البكم العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى أو لم يكونوا يعقلون بحال
وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } [ الأنعام : 39 ]
وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضوع من القرآن كسورة النور وغيرها

الوجه الخامس
أن يقال : لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولا يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله : ( لأن العقل أصل للنقل فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما )
قلنا : لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولا ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه فتلك الأمور التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها ليست أصلا للسمع ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع فلا يجوز أن يرد شيئا منه فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع وإن قدر أنها عقليات صحيحة مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها فإنها مع كونها عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها في السمع فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم
بل كل من كان عن الشرائع أبعد كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى وكلامهم في الإلهيات قليل وعلمهم بها ضعيف ومسائلها عندهم يسيرة وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل
وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى وألا خلق وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية
وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات فضلا عن أن يعارض به ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله للزم من الجميع بين النقيضين ما شاء الله
فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه كل منهم يقول : إن ذلك معلوم بالعقل والقائلون ببقاء بعض الأعراض مع القائلين بفنائها والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها والقائلون بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها وأضعاف ذلك
بل العقليات الصحيحة : ما كان معقولا للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها وهذا القدر لا يزال موجودا في بني آدم وإن فسد رأي القوم لم يلزم فساد رأي آخرين
لكن إذا تنازع الناس وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته : إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه
والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل : إن كل ما يسمى معقولا يجوز قبوله فضلا عن أن يجب فضلا عن أن يعارض به معقول آخر فضلا عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله
وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولا رد لسائرها فإذا رد مما يسمى معقولا ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه ومقدمات ذلك مستلزمه له لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك فإن نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه التابعين لهم بإحسان أن الذين أمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمون أعلم الأمة بصدقه والصدق ما أخبر به وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك ولو مناظرين به أحدا ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلا عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله
ومما يوضح ذلك أن نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو وأن الله ليس مباينا للعالم ولا هو فوق السماوات ولا يمكن الإشارة إليه ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد إليه نفسه ولا نزل من عنده نفسه شيء : لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم كما حصلت على أنفس غيرهم ولا سيما مع كثرة الخلق وانتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها فضلا عن أن يتكلموا بنقيضها ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع لكانوا يسألونه ويقولون : ما دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة وبين الإخبار بهذه الأمور بل تصديقك في دعوى الرسالة التي يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار فكيف نصنع ؟ هل لها تأويل يوافق ما به علما أنك صادق ؟ : أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه ؟
وهذا فيه عذاب عظيم للعقول وفساد عظيم في القلوب إذا كان الرجل مأمورا أن يقرأ في الليل والنهار كلاما يقرأ به في صلاته وغير صلاته ويجزم بأنه صدق لا كذب وأن من كفر بحرف منه فهو كافر وذلك الكلام مشتمل على أن أخبارها ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم وصدق ذلك الكلام بل هو باطل وضلال وكفر فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب ويمرض قلبه أعظم مرض ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبر أنه حق وصدق فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره أبطل شاهد صدقه
ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولا لهم غير ما به علموا صدقه لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه ؟
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم ويسأل بعضهم بعضا عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه و سلم مشركي مكة على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة وهم السابقون الأولون وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمنا مهاجرا ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتدا وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأن يكتبوا : هذا ما قضى عليه محمد رسول الله وأمثال ذلك
والمقصود أن كثيرا من الصحابة اشتد عليهم ذلك وأجلهم عمر فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم : ( فقال : يا رسول الله ألسنا على حق وعدونا على باطل ؟ قال : بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه فقال : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ فقال بلى أقلت لك إنك تأتيه هذا العام ؟ قال : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به ) ثم ذهب عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه و سلم وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه و سلم من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه و سلم
والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء
فهذا عمر وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ] أخرجاه في الصحيحين
وقال : [ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ]
وقال : [ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ] رواه الترمذي
إلى غير ذلك من فضائله وقد اشتبه عليه معنى نص وليس ظاهره ينافي الواقع فإن الله تعالى قال : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } [ الفتح : 27 ]
وكان النبي صلى الله عليه و سلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبرا مطلقا من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال : والله لأفعلن كذا وكذا ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به
ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر أن ظاهره يقتضي التعجيل أورده على النبي صلى الله عليه و سلم ثم على صديقه وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه فالغلط منه لا لنقص في دلالة الخطاب
وأيضا ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه و سلم : [ من نوقش الحساب عذب قالت عائشة : فقلت يا رسول الله أليس الله يقول في كتابه : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق : 8 ] فقلت : ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب ]
ومعلوم أن قوله : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق : 8 ] لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة ومع هذا فلما قال : من نوقش عذب فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه وأبوها احب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت
وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال : [ والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة : فقلت يا رسول الله : أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] فقال : ألم تسمعيه قال : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 72 ] ]
وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار لم يكن قوله لهم : فلان لا يدخل النار منافيا لهذا العبور ولهذا قال لها : ألم تسمعيه قال : { ثم ننجي الذين اتقوا } فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار
ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار : أنه دخلها ووردها وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها : إنه لم يدخلها فإن قيل : فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه وقيل فلان : لم يدخله الله إياه كان كلا الخبرين صدقا لا منافاة بينهما
وقوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 71 - 72 ] بيان فيه نعمة الله على المتقين : أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله بل تستلزم انعقاد سببه فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال : نجاه الله منهم
ولهذا قال تعالى : { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } [ الأنبياء : 76 ]
ومعلوم أن نوحا لم يغرق ثم خلص بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره
كما قال : { فأنجيناه وأصحاب السفينة } [ العنكبوت : 15 ]
وكذلك قوله عن لوط : { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } [ الأنبياء : 74 ]
ومعلوم أن لوطا لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار
وكذلك قوله : { ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ } [ هود : 58 ] وقوله : { فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } [ هود : 66 ]
وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم وكانوا معرضين له لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك
فلفظ ( النجاة من الشر ) يقتضي انعقاد سبب الشر لا نفس حصوله في المنجى
فقوله تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا } [ مريم : 72 ] لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه وهذا هو الورود
فقوله صلى الله عليه و سلم : [ لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ] لا ينافي هذا الورود فإن مجرد الورود ليس بعذاب بل هو تعريض للعذاب وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب لم ينف التقريب من العذاب ولا انعقاد سببه ولا الدخول على سطح مكان العذاب
ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته سألته عن ذلك وذكرت ما يعارض خبره في فهمها ولم تسكت وقد كان يفعل الأمر فيسألونه : هل هو بوحي فيجب طاعته ؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه ؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر فيقبل منهم ويوافقهم كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته : أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتعداه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال : ( بل هو الرأي والحرب والكيدة ) فقال : ليس هذا بمنزل قتال
ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب : من قريش وحلفائها وأهل نجد وجموعهم وبني قريظة اليهود جيران المدينة وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة وفيها أنزل الله سورة الأحزاب فلما صالحهم على نصف ثمرها قال له سعد ما مضمونه : إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا وإن كان رأيا منك أردت به مصلحتنا فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرى أو قرى فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا ؟ أو كما قال : فبين له النبي صلى الله عليه و سلم : ( [ إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر فإذا كنتم ثابتين صابرين فلا حاجة إلى هذا ) ]
وفي الصحيح [ أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعوا فيها بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم ففعل ذلك ]
وكذلك في الصحيح [ أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة فلقيه عمر فرده وقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا فترك ذلك ) ]
بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة فيجيبهم ( فإن في الصحيح [ أنه نهاهم عن الوصال فقالوا : إنك تواصل فقال : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ويطعمني ويسقيني ) ]
ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة لو أوردها بعض طلبة الفقهاء أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه وإن كان بعض الناس ينازع في الأمر المطلق : هل يفيد الإيجاب أم لا ؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته ولا أنه إذا صرح ابتداء بالإيجاب تجب طاعته
ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق : هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب ؟ فهذا نزاع في العلم بمراده لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به
والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة وأما فعله فقد يكون مختصا به باتفاق الأمة بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره على ما هو معروف فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمرا ونهيا علموا به مراده لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل إذا لم يعلموا مراده بالقول كما تكلموا في [ نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول ] [ مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى ]
فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاما بل خاص إذا لم يكن حائل ويوفق بين القول والفعل ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض ويظن بعضهم أن الفعل خاص له فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله : إنك تواصل كانت معارضته خطأ باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق وقال : [ إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ]
[ بل لما غير عادته يوم الفتح فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال : إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال : عمدا فعلته ]
هذا وأمثاله كثير هذا من المؤمنين به المحبين له فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } [ الأنبياء : 98 ] فقام ابن الزبعري وغيره فقالوا : قد عبد المسيح فآلهتنا خير أم هو ؟
فأنزل الله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } [ الزخرف : 57 ] : إي يضجون
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [ الزخرف : 58 - 59 ]
وأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } [ الأنبياء : 101 - 102 ] وقد ظن طائفة من الناس أن قوله { وما تعبدون } [ الأنبياء : 98 ] لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة فيتناول المسيح وغيره وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصوفة مثل ( من ) و ( ما ) و ( الذي ) واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
قالوا : لأن اللفظ عام وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ]
وهذا خطأ ولو كان قول هؤلاء صحيحا لكانت معارضته المشركين صحيحة فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص فأورد على المتكلم كان إراده مستقيما
وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن المشركين ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردودا بآرائهم كما رده المشركون بالمسيح فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار كلام صحيح أصح مما يعرض به المعارضون لكلام الله ورسوله
فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة فمعارضة هؤلاء أبطل وهي باطلة قبل نزول القرآن وقبل رد الله عليهم وما نزل من القرآن كان مبينا لبطلانها الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل فإن الله إنما خاطب بقوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ] المشركين الذين يعبدون الأوثان لم يخاطب بذلك أهل الكتاب
بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقا وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين ففي السور المدنية
والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع كقوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ]
وقوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ]
وقوله لهم : { إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ]

الوجه الخامس
بمنزلة قوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } [ الأنعام : 156 ]
وبمنزلة قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا } [ فاطر : 42 ]
وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب وهو متناول لأولئك المشركين لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين
فلما قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } [ الأنبياء : 98 - 99 ] دليل على انتفاء الإلهية فإن الإله لا يدخل النار والدليل لا ينعكس فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلها فمن ورد النار لم يكن إلها وليس كل من لا يردها إله
لكن كانت معرضة الزبعري وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار أي إذا كانت آ لهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين وجب أن يكون كل معبود يدخل النار والمسيح معبود فيجب أن يدخلها فعارضوه بالقياس والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله لا يصلح أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان فإنها حجارة فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة وانتقاما ممن عبدها كان ذلك مصلحة ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب
ولهذا قال تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلا } [ الزخرف : 57 ] أي جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوها به فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة فيقولون : لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستويا على عرشه للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستويا على العرش ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه
فهذا من جنس معارضة ابن الزبعري حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله بل بينهما فرق والفرق بين الله وبين مخلوقاته أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان فإن كلاهما مخلوق لله تعالى
وأما قياس الخالق بالمخلوق وقول القائل : لو كان متصفا بالصفات والأفعال القائمة به لكان مماثلا للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوما وهذا كان معدوما وهذا محدث ممكن وهذا محدث ممكن وهذا مفتقر إلى غيره وهذا مفتقر إلى غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا يمكن إفساده واستحالته وهذا يمكن إفساده واستحالته وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزع الرب عنها لم يصح قياس أحدهما بالآخر ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور
فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك وهذا كله خطأ فاحش وبعضه أفحش من بعض فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فأما ما ليس من لوازمه فلا يجب اشتراكهما فيه
فكون المعبود من حصب جهنم ليس من لوازم كونه معبودا بل من لوازم كونه معبودا يصلح دخوله النار والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار
وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق ليس من لوازمها الإمكان والحدوث والآفات والنقائص فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجبا بنفسه والحدوث من لوازم المعدوم وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك
وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات بل قد تكون منافية للآفات والنقائص والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه بل هو مناقض للوازمه فكيف يجعل المنافي كالملازم ؟
والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضا لقوله وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض : لا معقولا ولا منقولا فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به ؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده كان معارضته بذلك أولى الأشياء
وكذلك أيضا لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم وزعموا أن العقل ينافي ذلك وأنزل الله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } [ الإسراء : 60 ]
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : [ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به ]
قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } [ الإسراء : 1 ]
وقال : { أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى } [ النجم : 12 - 16 ]
وقال تعالى : { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم } [ التكوير : 22 - 25 ]
فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها واستبعدوا ذلك بعقولهم مع أن ذلك ليس ممتنعا في العقل فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل
وكذلك أيضا أنكروا أن يبعث الله بشرا رسولا وجعلوا ذلك منكرا ممتنعا في عقولهم
كما قال تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } [ الإسراء : 24 ]
وقال : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [ يونس : 2 ]
وقال تعالى : { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } [ الفرقان : 41 ]
وقال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 9 ]
وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ]
وقد حكى نحو ذلك عمن تقدم من الكفار كقول قوم فرعون : { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين } [ المؤمنون : 47 - 48 ]
وقول قوم نوح : { ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ]
وقالت أصناف الأمم لرسلهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } [ إبراهيم : 10 ]
حتى قالت الرسل : { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] وأمثال هذا
فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر ودفعوا ذلك بعقولهم
وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل
ولهذا قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } [ يوسف : 109 ]
وقال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ]
وقال : { قل ما كنت بدعا من الرسل } [ الأحقاف : 9 ] وأمثال ذلك
وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن
كقوله تعالى : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } [ يس : 78 - 81 ]
وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعا في قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ } [ ق : 1 - 4 ]
ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ]
وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بها في المجامع العظام فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح وكل ذلك ثابت في الصحيح
قال تعالى : { وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } [ الإسراء : 49 - 52 ]
وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل كقولهم عن رسولهم : { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين } [ المؤمنون : 35 - 38 ]
وقال تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } [ الجاثية : 24 ]
وأمثال هذا في القرآن كثير
وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له كقولهم : { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور } [ الفرقان : 7 - 8 ]
قال تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } [ الفرقان : 9 ]
وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون : { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } [ الزخرف : 52 - 53 ]
وقالوا لشعيب : { إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز } [ هود : 91 ]
والمقصود هنا أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يعارضه من المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه ولم تكن إلا من جهل المعارض ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله من أسمائه وصفاته ونحو ذلك ما يخالف ظاهره صريح المعقول لكان هذا أحق بالمعارضة وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد : لا معارضة دافع طاعن ولا معارضة مستشكل مسترشد فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته وأنه رسول الله إليهم ؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين
أما الكفار فيقولون له : نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أمورا تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به فالمصدق لك يكون متناقضا متلاعبا لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائما بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى أو يصيب تارة ويخطئ أخرى
وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب مثل أبي عام الفاسق الذي كان يقال له أبو عامر الراهب الذي أتخذ له المنافقون مسجد الضرار
وأيضا فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة ويخاطبون بذلك من أسلم كما قالوا للمغيرة بن شعبة : أنتم تقرأون في كتابكم : { يا أخت هارون } [ مريم : 28 ] وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى وهذا من فرط جهلهم فإن عاقلا لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون ولا هو المسيح ابن أخت موسى وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه فكيف بمن هو أعظم الناس عقلا وعلما ومعرفة غلبت عقول بنى آدم ومعارفهم وعلومهم حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقا لخبره مطيعا لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجيب له وظهر به من العلم والبيان والهدى والإيمان ما قد ملأ الآفاق وأشرق به الوجود غاية الإشراق
فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران ولا يتكلم بمثل ذلك ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون فكان يقال لها : يا أخت موسى لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران وذانك موسى وهارون ابنا عمران فكان لفظ عمران فيه اشترك والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة حتى سأل المغيرة النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم ؟ إن هارون هذا كان رجلا في بنى إسرائيل سموه باسم هارون النبي ]
فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفا لصريح العقل بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله ؟ وهلا كان أهل الكتاب يقولون له : ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرته به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء ؟
واعلم أنه من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه حصل لهم أمور جليلة :
بطلان قول من يقول : العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله
بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضا لأخباره
بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه - مما هي معروفة بصريح العقل سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له
وذلك من وجوه :
أحدها : أن إيمان المؤمنين به العالمين بصدقه حصل بدون هذه القضايا
الثاني : أن أحدا منهم لم يورد هذه المعارضة ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في وعم هؤلاء
الثالث : أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا
الرابع : أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا
الخامس : أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا
السادس : أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها ولا بتفويضها وقولهم : لا نعلم معناها
السابع : أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك
الثامن : أن التابعين لم يوردوا على الصحابة ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض ولا سئل بعضهم بعضا : كيف نصنع ؟ هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة وتناول النصوص ؟ أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها ونقول : لا ندري ما معناها ؟
فإن قيل : فهذا الذي ذكرته ظاهرا لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت وكيف ظهر الإسلام ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة وقد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء ؟ ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف إذا وقع في هذه من وقع ؟
قيل : المقصود هنا فساد قول من يقول : إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية : إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حوادث العالم بحدوث الأجسام وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقا أو الحركات وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره بل نفي صفاته وأن يكون القرآن مخلوقا وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يكون فوق العالم
فمن قال : إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا قال الأشعري وغيره : إن هذه الطرق مبتدعة في دين الأنبياء بل محرمة غير مشروعة لا ريب أن عقل من آمن بالله ورسوله كان خيرا من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام
وأما عقول الكفار فلا ريب وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيرا من عقولهم لكان قد يكون عند الكفار من عقل التمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر من العقلاء من الكفار ؟ فذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان
يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه مقرة بالقدر وكانت عقولهم من هذا الوجه خيرا من عقل من جعل كثيرا من المحادثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده وكانت العرب أيضا تقر بان الله فاعل مختار ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكانت عقولهم خيرا من عقول الدهرية والفلاسفة الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له كما يقول الدهرية والإلهيون
ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بان العالم واجب بذاته فعقله أفسد من عقل هؤلاء والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد وتقوله ولكن لم يكن هذا القول ظاهرا فيهم بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته
وهذه الشبه - شبه الجهمية - هي في الأصل نشأت من ملاحدة الأمم المنكرين للصانع وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلا فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة كالذي حاج إبراهيم في ربه
ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين والعرب وإن كانوا مشركين لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو من المرتابين في الصانع أو الجاحدين له كما في تضاعيف كل أمة حتى في المصلين من هو من هؤلاء إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولم يزالوا على اختلاف أصنافهم
وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية المناقضة لإثبات ما اخبر من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود
وأما من قال : إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث من غير أن يقول : إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها كما يقول من يعتقد صحة هذه الطريق : طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها كما يقول الأشعري نفسه وكثير من أصحابه والرازي وأمثاله وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية يوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي وأبي حاتم البستي والخطابي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغير هؤلاء - فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون : إنه يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام
لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق وإن قالوا : إن تصديق الرسل لا يتوقف عليها
ثم منهم من يقول : إنها لا تعارض النصوص بل يمكن الجمع بينهما

الوجه الخامس
وهذه طريق الأشعري وأئمة الصحابة : يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام
وهذه طريق أبي حاتم بن حبان البستي و أبي سليمان الخطابي والتميميين : كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته وأبي علي بن أبي موسى و القاضي أبي يعلى و أبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية
ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه
فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث سواء قالوا : إن تصديق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يقوله من المعتزلة وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك كما يقوله من يوافق الأشعري والرزي وجمهور المسلمين على أن تصديق الرسول ليس موقوفا عليها
وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين معلوم بالاضطرار من العادة وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه لم يكن علمهم موقوفا على هذه القضايا
ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال : أهل العقول الذين سمعوا القرآن والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة لم يكن منهم من طعن فيه أو رد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتا في عقول بني آدم لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك : لا على وجه الطعن ولا على وجه الاستشكال مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب والعلم به الذي تتوفر الهمم على طاب معرفة صفاته نفيا وإثباتا
فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقا صحيحة تعلم بالعقل لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها فإنه مع كمال القدرة والداعي يجب وجود المقدور فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلا ودينا
فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها كما يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية والرافضة الغالية وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح العقل
ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل وأن يردوه فإن هذه لا نهاية له بخلاف ما هو حق بصريح العقل في حق الله تعالى لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة مع كثرة أهلها وفضلهم عقلا ودينا لم يعلموها ولم يقولوها
فعلم بذاك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيبا بالحق وتصديقا بالباطل من القرامطة الباطنية والحلولية والاتحادية وأمثالهم
ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب ففيها داع إلى الإظهار والبيان فكذلك ها هنا كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو حس لم تتفق على الكذب ولا الخطأ فكذلك أيضا العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل وبطلانه وفساده لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه
ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيه من يعرف بطلان ذلك فيتكلم بذلك مع من يثق به وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض
ولهذا تجد خلقا من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم ويتكلمون بذلك مع من يثقون به
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى وكذلك بين اليهود
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر وهم طوائف متباينة فما يمكن أحدا أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات أو بعض الصفات لا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ولا من سائر الكافرين
ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقرا في صريح المعقول فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به وإذا تكلم به فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن ينقل إلا ترى أنه لما تكلم به واحد وهو الجعد بن درهم نقل الناس ذلك ؟ ثم الجهم بعده كذلك ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد فإن هذا لا يمكن نفيه ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء لم يناج به بعض الناس فإن هذا لا يمكن نفيه بل قلنا : إنه لم يظهر وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه : إن كان حقا يوجب أنه ليس حقا فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا أعظم المطالب
ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له فإذا كان الحق هو قول النفاة وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق وإذا تفطن له مع قوة دينهم ورغبتهم في الحيز كانوا يظهرونه ويبينونه وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقا
وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره لو كان حقا لما كان فيه من معارضة الرسول ومناقضته ولما فيه من معرفة الحق
واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا فإنه يقال في بني إسرائيل فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيها وتجسيما ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل لكان ذلك من أعظم ما كان ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى فقد ذكر عنهم ومن تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل قد آذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون ودس عليه قارون بغيا لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب : 69 ] ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل فلو كان ما اخبرهم به مما يناقض صريح العقل لكان آذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له
وقد قال تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ]
وقال : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } [ المائدة : 20 ]
وقال : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } [ الجاثية : 16 ]
وقد كان القوم مجاورين الروم والقبط والنبط والفرس وهم أئمة الفلاسفة والصابئين والمشركين من جميع الأصناف وقد ذكروا أن أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان فكيف بكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضا لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه لا يظهر ذلك إلا في أوليائها ولا أعدائها ؟
بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة خاضعين له فهل يكون كتابا مملوءا مما ظاهره كذب وفرية على الله ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته ؟
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتابا في طب وحساب أو نحو أو فقه أو ينشأ خطبة أو رسالة أو ينظم قصيدة أو أرجوزة فيلحن فيه لحنة أو يغلط في المعنى غلطة فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون إلى الحق من زيادة الباطل وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه ويذم من يخالفه - فضلا عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه - فإذا كان الذي جاء بالقرآن ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء : دق ولا جل ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه ويعظم مطيعيه ويعدهم بكل خير ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوة لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها وهم الرسل الصادقون أو أكذب الناس وأبعدهم عنها كالمتنبئين الكاذبين
ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة تعاديه النفوس وتحسده [ كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه و سلم لما أخبره بما جاءه فقال : ( إن قومك سيخرجوك قال : أو مخرجيهم ؟ قال : نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مأزورا ) ]
ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا إذا كان المفهوم من كلامه والظاهر من خطابه هو كذب على الله ووصفه بذلك كان قائلا من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل بل يكون صاحبه كافرا كذابا مفتريا على الله - كان هذا من أعظم مما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به والطعن في ذلك والقدح في نبوته به
وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل كان بمقتضى العادة المطردة إنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح في ما جاء به موسى وأن يكون المأذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه
فإن قيل : أنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم بمثل هذا
قلنا : نعم وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية والذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة وركبوا منهم قولا ثالثا شرا منهما ونحن لم نقل : إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد وعارضوهم بعقولهم ولم يعارضوهم معارضة صحيحة بل كان ما عارضوا به فاسدا في العقل
فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوا حالا من أولئك المعارضين فغن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب وشر من اليهود والنصارى فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق
ولكن قلنا : إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفا لصريح العقل امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان وتفرق الأمة فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره - بل نصه - للحق المعلوم بصريح العقل ؟
فقلنا : عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها - لو كانت حقا - دليل على أنها باطل كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله - لو كان موجودا - دليل على انه كذب بخلاف وجود الطعن والمعارضة فانه ليس دليلا على صحة ما عارض به وطعن كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلا على صحة ما نقل
فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلا وأعظمهم جهلا وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد أو لسان كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما
ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كان أكمل عقلا وسمعا وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كما أنقص عقلا وسمعا
ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضا وأكثر من الأمور أدلة على نقيضها من الأدلة العقلية والسمعية لكان اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن ومعاضد لا مناقض معارض وإن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية إذ كانت أدلة الحق شهودا صادقين وحكما لا يثبت عندهم إلا الحق المبين
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد لا تناقض ولا تعارض وإن قدر أن أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحيانا فلا بد أن يظهر خطأه وكذبه وهذا ما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية لا يعرف أن أحدا منهم غلط أو كذب إلا وظهر لأهله صناعته كذبه أو خطأه
وكذلك الناظرون - أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية - ما يكاد يغلط غالط منهم إلا ويعر فالناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم
والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة البرهانية العقلية والسمعية ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل
قال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } [ الأنعام : 112 - 115 ] فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما اخبر به الرسول لا يناقض العقول بل يوافقها وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان لمدلول القرآن قول باطل فلا تعجب من كثرة أدلة الحق وخفاء ذلك على كثيرين فإن دلائل الحق كثيرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول في مثل هذه الأصول : كادها باريها واتل قوله تعالى : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأحقاف : 26 ]
ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال : من المعلوم أن موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلا باتفاق من آمن بهم ومن كفر فإن الكافر بهم يقول : كانوا من أدهى الناس واخبرهم بالأمور وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد والأسباب التي تطلب بها المرادات فسعوا فيما يصدقهم به الناس ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء
وأما المؤمن بهم فيقول : إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين بما لم يشركهم أحد من العالمين
وقال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد صلى الله عليه و سلم بعقل أهل الأرض لرجح
وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه ومعصيته والقدح فيما جاء به ومعارضته فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضا لصريح العقل وهم لو لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده بما أجمع الناس على فساده وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل وأظهروه ولم يبينوه ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح العقل فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب ويرتاب المصدق ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم فيكون أوليائهم في الريب والاضطراب وأعدائهم قد فوقوا إليهم النشاب وحزبوا عليه الأحزاب وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه ومنع الناس من استماعه ولا يفعله إلا من هو من أقل الناس عقلا
وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة بل أكمل الناس عقلا ومعرفة تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوا وأخبروا به ووصفوه لم يكن عنهم مناقضا لصريح المعقول ولا منافيا لحق مقبول بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول
ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما اظهر من عيوبهم وذنوبهم تنزيه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } [ آل عمران : 181 ]
وقوله تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } [ المائدة : 64 - 65 ] وقوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ]
ونزه نفسه عما يصفوه به من الفقر والبخل والإعياء فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان وكمال القدرة والرحمة
والغنى من الغير مستلزم سائر صفات الكمال فإن الفاعل إذا كان عاجزا لم يفعل وإذا كان قادرا ولم يرد فعل الخير لم يفعله فإذا كان قادرا مريدا له فعل الخير ثم إن كان محتاجا إلى غيره كان معاوضا لا محسنا متفضلا وكان فيه نقص من وجه آخر فإذا كان مع هذا غني عن الغير لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة وهذا غاية الكمال
وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد الشريك فقال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه } [ النساء : 171 ]
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } [ المائدة : 17 ]
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } [ المائدة : 73 - 74 ]
ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة : 30 ]
ومن المعلوم لمن له عناية بالقران أن جمهور اليهود لا تقول : إن عزير ابن الله وإنما قالت طائفة منهم كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن عازورا أو هو وغيره
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل ولكن الخبر عن الجنس كما قال : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به فلولا كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيها وتجسيما بل فيه إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور
فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي صلى الله عليه و سلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة ؟ فإنك تجد عامة كما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقا مطابقا لما ذكر في التوراة وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة
وموسى لم يواطئ محمدا ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب فدل ذلك على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين
وقلنا : إن هذا لو كان مخالفا لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين اللذان هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلا من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب ويقولان : إن إقرار محمد صلى الله عليه و سلم لأهل الكتاب على ذلك من غير أن يبين كذبهم فيه دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروا على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة فإن هذا في التوراة كثير جدا وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها غرض في أن تكذب على من تعظمه غاية التعظيم بما يقدح فيه وتبين فساد أقواله ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذبا يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئا منها كما لهم غرض في الطعن على عيسى بن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم فإذا قالوا ما هو من جنس القدح فيه عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكن فإما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة مع علمهم بأنه يقدح في موسى كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون انه قدح في المسيح
وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ لكن يعلم بمطرد العادات انه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أن قدح في نبوته فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على ضرب موسى وتكذيبه ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه فضلا عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه مثل غالية الإسماعيلية والخزمية الباطنية وأمثالهم لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به وقد انكشف - ولله الحمد - أمرهم وانهتك سترهم
وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمنا للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة وأمثالهم من جهال الطوائف الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقا وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي فصدقوا ذلك الناقل لا لثبوت صدقه عندهم لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه
وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة : إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور
فثبت أن لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح
فإن قيل : إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها أو كان غرضه إضلالهم كما أن كثيرا من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه و سلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام وبعض المتفقهة والمتزهدة مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الرتغيب والترهيب وقالوا : نحن كذبنا له ما كذبنا عليه ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك وغير ذلك لظنهم أن موجب ذلك حق أو لغرض آخر
وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور كذبه وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس كما يقولون : إنه وضعه بعض أهل الأهواء ليقول : أن أهل الحديث يروون مثل هذا ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه
ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وحديث رؤيته لربه في الطواف أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عيانا فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة بأحاديث لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقا وأنهم إذا وضعوه قووا الحق كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة : أبي بكر وعمر وعثمان لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب فإنه لا يكاد يحصى مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغنى عن الباطل ومثل ما وضعوه في مثالبهم لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله
والمقصود أن المعترض يقول : يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في التوراة من الصفات على موسى كانوا يعتقدونها فكذبوها أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم
قيل : هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود مع معرفتهم واختلافهم فلا بد إذا كان معلوما فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله ويقول : إن مثل هذا يقدح في موسى فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات وإنما حدث فيهم بعد ذلك لما صار فيهم جهمية : إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى ولهذا أمرنا الله تعالى أن تقول في صلاتنا : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [ الفاتحة : 6 - 7 ]
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من اعظم الأسباب وكان فعل النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب ولكان النبي صلى الله عليه و سلم ينكر ذلك من جنس إنكار النفاة
فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف والله منزه عن ذلك فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم
ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد فلو كان هذا وتجسيما وتجسيدا يجب إنكاره لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام فلما لم ينطق النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه ولا التابعون بحرف من ذلك بل كان ما نطق به موافقا مصدقا لذلك وكان اليهود إذا ذكروا بين يدي أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها
كما في الصحيحين عن [ عبد الله بن مسعود أن يهوديا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرا قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } [ الزمر : 67 ] ]
وأخبر هو صلى الله عليه و سلم بما يوافق ذلك غيره مرة كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال : يقول الله : أنا الجبار أنا المتكبر أنا المتعال ينجد نفسه قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يرددها حتى رجف به المنبر حتى ظننا انه سيخر به ]
فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال : أنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول فاعلم بطلان قول القائل : إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله حيث تبين أن ذلك ليس قدحا في أصله
وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية والمعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة الصحابة وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة الذين لم يكونوا بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة ادلة عقلية عقلية توافق السمع
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع واثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع بل ما جعله معاضدا له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة الصحابة في هذا وهذا فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات وعارضوا مدلوله بما ادعوا من العقليات
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب الأشعري بقايا من التجهم والاعتزال مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة كالحارث المحاسبي وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق الصبغي مع أنه قد قيل : إن الحارث رجع عن ذلك وذكر عن غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا
وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه ومنهم من اشتبه عليه ذلك كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة بحب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك
والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة فضلا عن أن يقال : إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة وإذ هذا كلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد وإن لم يطرد قول ظهر منه من التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد
وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع وقصد بعض الناس إدخال الأشعري فيهم وقد ذكر الرسالة أبو قاسم بن عساكر في تبين كذب المفتري

رسالة البيهقي في فضائل الأشعري
قال البيهقي في أثناء الرسالة : ( فليعلم الشيخ العميد أن أبا الحسن من أولاد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه )
ثم ذكر من فضائل أبي موسى الأشعريين وذرية أبي موسى أمورا معروفة إلى قال : ( إلى أن بلغت النوبة إلى أن شيخنا أبي حسن الأشعري فلم يحدث في دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فبصرنا بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوه وجاء به الشرع في الأصول صحيح في المعقول خلاف ما زعمه أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء فكان في بيانه تقوية ما لم يزل عليه أهل السنة والجماعة ونصرت أقاويل من مضى من الأئمة كأبي حنيفة و سفيان الثوري من أهل الكوفة والأوزاعي وغيره من أهل الشام ومالك و الشافعي من أهل الحرمين ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز وغيرها من سائر البلاد كأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث والليث بن سعد وغيره ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار وذلك من دأب من تصدر من الأئمة في هذه الأمة وصار رأسا في العلم أهل السنة في قديم الدهر وحديثه
إلى أن قال : ( وحين كثرت المبتدعة في هذه الأمة وتركوا ظاهر الكتاب والسنة وأنكروا ما ورد أنه من صفات الله تعالى نحوه : الحياة والقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والكلام وجحدوا ما دل عليه من المعراج وعذاب القبر والميزان وأن الجنة والنار مخلوقتان وأن أهل الإيمان يخرجون من النيران وما لنبينا صلى الله عليه و سلم من الحوض والشفاعة وأن الخلفاء الأربعة كانوا محقين فيما قاموا به من الولاية وزعموا أن شيئا من ذلك لا يستقيم على العقل ولا يصح في الرأي - أخرج الله من نسل أبي موسى الأشعري إماما قام بنصرة دين الله وجاهد بلسانه وبنانه من صد عن سبيل الله وزاد في التبيين لأهل اليقين أن ما جاء به الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة مستقيم على العقول الصحيحة والآراء
ومضمون الرسالة إزالة ما وقع من الفتنة وإطابة قلوب أهل السنة
قال أبو القاسم بن عساكر : ( وإنما كان انتشار ما ذكر أبو بكر البيهقي من المحنة واستعار ما أشار بإطفائه - في رسالته - من الفتنة ما تقدم به من سب حزب الشيخ أبي الحسن الأشعري في دولة السلطان طغرلبك ووزارة أبي نصر الكندري وكان السلطان حنيفا سنيا وكان وزيره معتزليا رافضيا فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع قرن الكندري - للتسلي والتشفي - اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع وامتحن الأئمة الأفاضل وعزل أبا عثمان النيسابوري عن خطبة نيسابور وفوضها إلى بعض الحنيفة فأم الجمهور وخرج الأستاذ أبو القاسم وأبو المعالي عند البلد )
ثم ذكره زوال تلك المحنة في دولة ابن ذلك السلطان ووزارة النظام
وهذا الذي ذكره عنه البيهقي هو المعروف في كتبه وعند أئمة الصحابة وذكر ابن عساكر عن جماعة ما يوافق كلام البيهقي فذكر أن أبا الحسن القابسي - وهو من كبار أئمة المالكية بالمغرب - سأل عنه فكان في جوابه : ( واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من هذا الأمر - يعني الكلام - إلا ما أراد به إيضاح السنن - والتثبيت عليها - ودفع الشبه عنها )
وقال أبو بكر بن فورك : ( انتقل الشيخ أبو الحسن الأشعري من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية وصنف في ذلك الكتب )
وذكر ابن عساكر كلامه في مصنفاته

كلام الأشعري في الإبانة
وقوله : ( فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم الني بها تدينون قيل له : قولنا الذي به تقول : وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثبوبته - قائلون : ولمن خالف قوله مجانبون لأن الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولد وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وأن له وجه كما قال : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ طه : 27 ] وان له يدين كما قال : { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] كما قال { لما خلقت بيدي } [ ص 75 ] وأن له عينين بلا كيف كما قال : { تجري بأعيننا } [ القمر : 15 ] إلى أن قال
( ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم إجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] وكما قال : { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 8 - 9 ]

تعليق ابن تيمية
فهذا الكلام وأمثاله في كتبه وكتب أئمة أصحابه : يبينون أنهم يعتصمون في مسائل الأصول التي تنازع فيها الناس بالكتب والسنة والإجماع وأن دينهم التمسك بالكتاب والسنة وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ثم خصوا الإمام أحمد بالاتباع والموافقة لما أظهر من السنة بسبب ما وقع له من المحنة
فأين هذا من قول من لا يجعل الكتاب والسنة والإجماع طريقا إلى معرفة صفات الله وأمثال ذلك من مسائل الأصول ؟ فضلا عمن يدعي تقديم عقله ورأيه على مدلول الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأئمة ومن يقول : إذا تعارض القرآن وعقولنا قدمنا عقولنا على القرآن
ولهذا كان الأشعري وأئمة الصحابة من المثبتين لعلو الله بذاته على العالم كما كان ذلك مذهب ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي بكر الصبغي وأبي علي الثقفي وأمثالهم
لكن للبقايا التي بقيت على ابن كلاب وأتباعه من بقايا التهجم والاعتزال كطريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام احتاج من سلك طريقهم إلى طرد تلك الأقوال فاحتاج أن يلتزم قول الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات الخبرية ويقدم عقله على النصوص الإلهية ويخالف سلفه والأئمة الأشعرية وصار ما مدح به الأشعري وأئمة الصحابة من السنة والمتابعة النبوية عنده من أقوال المجسمة الحشوية كما أن المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار بحجج عقلية لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول ورد أخباره ونصوصه لكن احتجوا بحجج عقلية : إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام فاحتجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها وتسلم عن النقص والفساد فوقعوا في أنواع من رد المعاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية
وأصل ما أوقعهم في نفي الصفات والكلام والأفعال والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والعلو لله على خلقه - هي طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام وعنها لومهم ما خالفوا به الكتاب والسنة والإجماع في هذا المقام مع مخالفتهم للمعقولات الصريحة التي لا تحتمل النقيض فناقضوا العقل والسمع من هذا الوجه وصاروا يعادون من قال بموجب العقل الصريح أو بموجب النقل الصحيح وهم وإن كان لهم من نصر بعض الإسلام أقوال صحيحة فهم فيما خالفوا به السنة سلطوا عليهم وعلى المسلمين أعداء الإسلام فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا

اعتراض يذكر نفاة الصفات
فإن قيل : إنما لم يعارض سلف المؤمنين والكفار المتقدمون لهذه النصوص لأنهم كانوا قوما عربا فصحاء يفهمون ما أريد بها ولم يكونا يفهمون منها إثبات أن ذاته نفسه فوق العرش ولا ما يشبه ذلك من الأمر المستلزمة للتجسيم فلما لم يفهموا منها ما فهمه المتأخرون من هذا الإثبات لم يكن المفهوم منها عندهم معارضا لشيء من الأدلة العقلية وأما المتأخرون فلما صاروا يستدلون بها على الإثبات المستلزم للتجسيم صار من يريد أن يرد عليهم يعارضهم بالأدلة العقلية النافية
فهذا خلاصة ما يمكن أن يقوله من يعظم الرسول والسلف من النفاة

بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة : الوجه الأول
فيقال : هذا باطل من وجوه متعددة : الوجه الأول
أن يقال : فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات ولا يجوز أن يقال : ظواهر هذه النصوص غير مراد ولا أن قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات : لا دلالة قطعية ولا ظاهرة بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه إثبات
ومن المعلوم أن هذا خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات
ولكن هؤلاء المتفلسفة يقولون : إن الرسول لم يرد بيان العلم والإخبار بالأمر على وجهه وإنما أراد التخييل وإن تضمن ذلك التدليس وإظهار خلاف ما يبطن والكذب للمصلحة وهذا قول الملاحدة الباطنية
وفساد هذا المعلوم من وجوه اكثر مما يعلم به فساد قول الجهمية والمعتزلة ولهذا كان هؤلاء عند المسلمين ملاحدة زنادقة

الوجه الثاني
أن يقال : التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين بل المصنفة في السنة من : كتاب السنة والرد على الجهمية للأثرم ولعبد الله بن أحمد و عثمان بن سعيد الدارمي و محمد بن إسماعيل البخاري و أبي داود السجستاني و عبد الله بن محمد الجعفي و الحكم بن معبد الخزاعي و حشيش بن أصرم النسائي و حرب بن قاسم الكرماني و أبي بكر الخلال و محمد بن إسحاق بن خزيمة و أبي القاسم الطبراني و أبي الشيخ الأصبهاني و أبي أحمد العسال و أبي نعيم الأصبهاني و أبي الحسن الدارقطني و أبي حفص بن شاهين و محمد بن إسحاق بن منده و أبي عبد الله بن بطه و أبي عمر الطلمنكي و أبي ذر الهروي و أبي محمد الخلال و البيهقي و أبي عثمان الصابوني و أبي نصر السجزي و أبي عمر بن عبد البر و أبي القاسم اللالكائي و أبي إسماعيل الأنصاري و أبي القاسم التيمي وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين ما يعلم منه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه المثبتين لرؤيته القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه
وهذا يصير دليلا من وجهين : أحدهما من جهة إجماع السلف فإنهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على الخطأ فكيف في الأصول
الثاني : من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها لا يفهمون منها ما يناقض ذلك
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولا بالإثبات وإنكارا لقول النفاة كما قال يزيد بن هارون الواسطي من قال : إن الله على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي وقال الأوزاعي كنا - والتابعون متوافرون - نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته

الوجه الثالث
أن من له عناية بآثار السلف بعلم علما أن قول النفاة إنما حدث فيهم في أثناء المائة الثانية وأن أول من ظهر ذلك عنه الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وقد قتلهما المسلمون وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة
وقال يوسف بن أسباط و عبد الله ابن المبارك : أصولي الثنتين وسبعين فرقة أربع : الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية فقيل لابن المبارك : فالجهمية : فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه و سلم
ولأصحاب أحمد في الجهمية : هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم هم خارجون عنها كالملاحدة والزنادقة ؟ - قولان والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم ولا يرى ولا تقوم به صفة ولا فعل وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفة ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فكيف يمكن مع هذا أن يقال : إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات
وإذا كانوا من المثبتة امتنع أن يقال : إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه

الوجه الرابع
أن يقال : القرآن : إما أن يقال : إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات وإما أن يقال : أنه ينفي ذلك وإما أن يقال : إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات
فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو الإثبات وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضا لذلك وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار فإن ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 4 ] ونحو ذلك وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين لا تنفي ثبوت الصفات ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات فهذا من أعظم البهتان الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل
ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن بل هو على نقيض مقصودهم أدل فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال لا مماثل له في ذلك وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة بعد أن افتروا على العقل فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة فيقول أحدهم : لو كان موصوفا بالعلو لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام والله قد نفى عنه المثل فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع
وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة منها أن يقال : هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس : أحدها : كون كل عال جسما والثاني : كون الأجسام متماثلة والثالث : كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن
ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ ( الجسم ) ولفظ ( المثل )
فيقال : الجسم في لغة العرب هو البدن وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسما في لغة العرب وهو في اصطلاحكم جسم
وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة ولا الخبز مثل التراب ولا الدم كالذهب فما يسمى في لغة العرب ( جسدا ) و ( جسما ) ونحو ذلك هو مما يعلم أنه ليس متماثلا بصريح العقل والحس فكيف بما هو أعم من ذلك مثل كونه يشار إليه أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة : الطول والعرض والعمق ؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة كالعدسة والسمسمة بل الذرة التي قال الله فيها : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان : هذا طويل وهذا قصير وكذلك أعضاء الإنسان كيده ورجله وعنقه يقولون : هذا طويل وهذا قصير ويقولون : هذا عريض وهذا دقيق ورقيق لعنقه ويده
وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها لا يقولون لفم الإنسان : إنه عميق ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة
فإذا قالوا عن الشيء : إنه طويل عريض عميق لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق ثم يقولون مع هذا : إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة فإنه يجب أن يكون مماثلا مستويا في الحد والحقيقة لا يختلف إلا باختلاف أعراضه
فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم ثم بتقدير أن يكون كذلك فلا يتمارى عاقلان أن لفظ ( المثل ) في لفة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا وأنه إذا قيل له : إن كذا مثل كذا أو ليس مثله وهذا ليس له مثل فإنه ليس المفهوم من ( المثل ) كون هذا بحيث يشار إليه وكون هذا بحيث يشار إليه أو كون كل منهما له قدر أو له طول وعرض وعمق لا بالمعنى اللغوي ولا بما هو أقرب إليه فضلا عن اصطلاحهم
ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب انهم لا يقولون : الجبل مثل النار ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على مطلق المقدار بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسما بل حيوانا بل إنسانا
كما يف قوله : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ]
وقال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } [ الواقعة : 58 - 61 ]
وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم :
( ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل )
وقال الآخر :
( ما إن كمثلهم في الناس واحد )
فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله : { ليس كمثله شيء } أو قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } على أنه لا صفة له أو لا يرى في الآخرة أو ليس فوق العرش - بناء على تلك المقدمات وهو أنه لو كان كذلك لكان جسما والأجسام متماثلة والله قد نفى المثل ؟
ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون : لو كان متصفا بذلك لكان جسما ولو كان جسما لكان منقسما والمنقسم ليس بواحد والله قد أخبر أنه واحد مع أنه لا يوجد في لغة العرب بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسما ومنقسما كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ المدثر : 11 ]
وقوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } [ النساء : 11 ]
وقوله : { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } إلى قوله : { قال له صاحبه وهو يحاوره } [ 32 - 37 ]
وقوله : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة : 266 ]
وقوله تعالى : { ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف : 49 ]
وقوله : { ولا يشرك في حكمه أحدا } [ الكهف : 26 ]
وقوله : { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف : 110 ]
وقوله : { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } [ الكهف : 23 ]
وقوله : { قل إني لن يجيرني من الله أحد } [ الجن : 22 ]
وقوله : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } [ الجن : 18 ]
وقوله : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة : 6 ]
وقوله : { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ]
إلى قوله : { أما أحدكما فيسقي ربه خمرا } [ يوسف : 41 ]
وقوله : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } [ القصص : 26 ]
إلى قوله : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } [ القصص : 27 ]
وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 4 ]
والعرب وغيرهم من الأمم يقولون : رجل ورجلان اثنان وثلاثة رجال وفرس واحد وجمل واحد ودرهم واحد وثوب واحد ورأس واحد وذكر واحد وأمير واحد وملك واحد ومسكن واحد وسيد واحد وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى
فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه فلو قدر وجود هذا في الخارج أو إمكان وجوده لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ ( الواحد ) في لغة العرب يعبرون بها عنه إذ ليس كل ما وجد أو أمكن وجوده يجب أن يتصوره أهل اللغة ويكون داخلا فيما عبروا عنه من لغتهم
وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ ( الواحد ) و ( الأحد ) في لغتهم عن هذا لم يجز أن يقال : إن لفظ ( الواحد ) في لغتهم لا يقع إلا عليه لما ذكرناه أن لفظ ( الواحد ) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسما منقسما وذلك ليس بواحد عندهم فسمي الواحد عندهم منتف في اللغة وإن قدر وجوده لكان نادرا في اللغة
والغالب المشهور في اللغة أن اسم ( الواحد ) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] وقوله : { قل هو الله أحد } ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب واخبرنا فيه انه أحد وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب بل إذا قال القائل : دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق فإن القرآن نزل بلغة العرب وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه متصفا بالصفات مباينا لغيره مشارا إليه
وما لم يكن مشارا إليه أصلا ولا مباينا لغيره ولا مداخلا له فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا بل ولا تعرفه فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه لا على مطلوبهم
يؤيد هذا أنهم يقولون : اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها وقالوا : المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة فضلا عن أن يعلموا أن لفظ ( الحركة ) موضوع له
ولفظ ( الحركة ) لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة فلا يحوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المخاطبون به وهذا بعينه ما يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيدا فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه وهو أنه لا يشار إليه ولا يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك - أمر لا يتصوره إلا بعض الناس بل قليل منهم والذين تصوروه تناعوا في إمكان وجوده في الخارج فمنهم من قال : وجود هذا في الخارج ممتنع وإن كان كذلك ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ ( الحركة ) فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ ( الواحد ) و ( الأحد ) لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا
ولو قيل : إنه يجوز استعمال لفظ ( الواحد ) في لغتهم في هذا المعنى : إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ
قيل : هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى وبتقدير أن يكون مستعملا في هذا وهذا فإنه يكون دالا على ما به الاشتراك فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر فلا يدل على محل النزاع ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما : مجاز في الآخر لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى إفهام الناس عند الإطلاق وهو المعروف ولو قدر أنه مشتركا اشتراكا لفظيا لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم لا على عين قولهم فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه فضلا عن أن يكون الله موصوفا به
وهذا ( الواحد ) الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول : المعدوم شيء ومن جنس الكليات والمجردات كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج لكن مثبتة الأحوال اعقل ولهذا كان فيهم من هو من أهل الإثبات فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث قالوا : لا موجودة ولا معدومة فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة الذين يقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ومن قال : المعدوم شيء وهو ثابت وليس بموجود - يشبه المتفلسفة الذين جعلوا الكليات المجردات أمورا موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت
والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج وهي لا يتصورها إلا طائفة قليلة من الناس فضلا عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة ثم في مدلول الألفاظ المسموعة
فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا : إن الشرع دال على قولهم بوجه من الوجوه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز
فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد كان هنا طرق :
أحدها : أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه
الثاني : أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج وحينئذ فلا يكون كلام دالا على وجود ما ليس بموجود
الثالث : أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس : لا العرب ولا غيرهم فلا يكون اللفظ موضوعا له ودالا عليه وإن كان له وجود ولا يقال : هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة
الطريق الرابع : أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه فلا ريب أن شموله لما نفوه أظهر إذ لم يعرف استعماله في ذلك فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه
الخامس : أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئا إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه
السادس : أنه بتقدير كون أحدهما مجازا فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه لأن المعنى الذي يسبق إلى إفهام المخاطبين
السابع : أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه غلا بقرينة ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما
الثامن : أن من يستدل به على ما نفوه لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة وأفعالا متعددة وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه
التاسع : أن يقال : أسم ( الأحد ) لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة أو في غير الموجب كقوله : { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ] وقال : { ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف : 49 ] وقال : { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وأمثاله لا يعرف استعمال ( الأحد ) فيما ادعوه لا في النفي والإثبات فكيف اسم الواحد ؟
العاشر : أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهة بقوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 62 ] وقوله : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } [ النحل : 51 ] وقوله حكاية عن المشركين : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] وأمثال ذلك
وأما كون القديم واحدا أو الواجب واحدا فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة فإنهم قالوا : القديم واحد وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد وهذا حق ويراد به أن مسمى القديم واحد ثم قالوا : لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد
وقالت جهمية الفلاسفة : الواجب واحد وهو مجمل : يراد به الإله الواجب بذاته وهذا حق ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا : لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب
ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة واتفق عليه الأئمة فتبين أن لفظ ( التوحيد ) و ( الواحد ) و ( الأحد ) في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ] بل لفظ ( التوحيد ) و ( الأحد ) و ( الواحد ) الموجود كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم وأنه موصوف بالصفات الثبوتية كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع فلو قدر أن لفظ ( الواحد ) فيه اشتراك وإجمال لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعا للإجمال والاشتراك موافقا لقول أهل الإثبات دون النفاة
وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعا أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول هم في جانب والرسل في جانب كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء
ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق بل أصدق الكلام كلام الله والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه بخلاف الكلام الذي هو كذب سواء كان صاحبه يعلم أنه كذب أو كان مخطأ يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج فيمتنع أن يكون كلام الله مخبرا عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة : كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلا فيجعلون الذات القائم بنفسها هي الصفة القائمة بها كما يجعلون العالم عين العلم والقادر عين القدرة
ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم ويجعلون كل صفة هي الأخرى كما يجعلون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحد بالعين بحيث تكون هذه العين هي تلك العين كما يقولون : الوجود واحد والموجود الواجب وهو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي لا يختص بوجه من الوجوه أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه فلا يختص بكونه واجبا أو عالما أو قادرا أو حيا أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود
وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيرا إليه
ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو خبر وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام وعين الكلام الذي هو خبر عن الله هو العين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب فيجمعون ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين
كما لم يفرق بين هذا وهذا وحدة الوجود الذين قالوا الوجود واحد وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات الذين قالوا : الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة
فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا مثل جعل الذرات هي الصفات أو جعل كل صفة هي الأخرى أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمرا موجودا في الخارج يجب وجوده في الخارج وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج فلا يكون إلا في الذهن
ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين : أحدهما : الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام مع أن جمهور العقلاء ينكرونه مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى
الثاني : الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعين مثل الكليات المطلقة التي توصف بها العيان
وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - الذي يسمونها الأنواع كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة فتوهموها أنها تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة وإنما هي أمور متصورة في الأذهان لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان ثم يدعون تركيب الأنواع منها كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر وبين أن هذا الواحد الذي يثبتون في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الأذهان ومن تصور أن هذا حق التصور تبين لهم من غلط هؤلاء وضلالهم ما يطور وصفه وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ]
وكان من أصول الإلحاد والتعطيل - الذي سموه توحيدا - هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق وتعدد أسمائه وكلامه مع ذلك لا محذور فيه بل هو الحق الذي لا يمكن جحده
ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة : أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول وأن ذلك الفرض الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد هو واحد يقدر في الأذهان لا حقيقة له في الخارج

الرد على قولهم : أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه
وإن قيل : إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات كان هذا أيضا باطلا ومعلوم الباطلان من وجوه :

الوجه الأول
أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح في ما دل عليه القرن من خلق السماوات والأرض ومن نعيم الجنة والنار ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير وأعظم من دلالته على أن محمد خاتم النبيين وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص
وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك

الوجه الثاني
أن يقال : جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات
ولهذا كان المخلوقون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره وإما بالتفويض مع قولهم : ظاهر ذلك غير مراد فلو كان ظاهرها دالا على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك

الوجه الثالث
أن يقال : نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو الصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه من السؤالان عما يظنوه مشكلا من القرآن كما تقدم تمثيلا وإذا كان كذلك ولم يسألوا عن ذلك علم قطعا أنه لم يكن منافيا لما يعلمونه بعقولهم

الوجه الرابع
أن يقال : فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل وهذا هو كان صلب الكلام وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل لنهم يذكرون ذلك فيها فيقال : ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب

الوجه الخامس
أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل وهي من أجل علوم الدين ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بالنفي ولا إثبات

الوجه السادس
أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين وإما أن لا يكون فإن قيل : ليس ذلك من الدين بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله والثناء عليه وتعظيمه وتقديسه وتسبيحه وتكبيره - ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله سواء قيل : إن ذلك واجب أو مستحب فمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله فيكون ذلك من الدين
وقد قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة : 3 ]
وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [ المائدة : 16 ]
وقال تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ]
وقال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول ونزل به هذا الكتاب وعلمته هذه الأمة وتضمنه هذا الدين فلا يمكن أن يقال : إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه فلم يكن لهم به علم ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات

الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم
وفيه الرد على كلام الرازي المتقدم : عن أصل الحجة أن يقال : لا نسلم أن العقل ينافي موجب هذه النصوص بل هذه المعقولات النافية لذلك فاسدة كما تقدم التنبيه على فسادها فضلا عن أن يكون المعقول المنافي لها هو الأصل في العلم بالسمع فإن غاية هذه المعقولات أن يقال : لو كان فوق العالم لكان جسما وذلك منتف قد علم جواب أهل الإثبات عن هذه الحجة فإن منهم من منع المقدمة الأولى مثل كثير من أهل الكلام والفلسفة وغيرهما من أصحاب كلاب والأشعري وأهل الفقه والحديث والتصوف من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد و أبي حنيفة وغيرهم والفلاسفة كما ذكر ابن رشد ونحوه ومنهم من منع الثانية كالهشامية والكرامية وغيرهما ومنهم من فصل عن المعنى الجسم
فإن قيل : إن معناه ما ليس بلازم للعلو مثل كونه مماثلا للمخلوقات - منع الأولى
فإن قيل : إن معناه لزم للعلو مثل كونه مستشارا إليه - منع الثانية
فهو يقول : أنه فوق العالم قطعا كما علم ذلك بالعقل والسمع
فإذا قيل : لو كان فوقه لكان جسما فالمراد بمعنى الجسم : إما أن يكون لازما للعلو وإما أن لا يكون لازما فإذا كان لازما لا محال منعت المقدمة الثانية وهي انتفاء اللازم وإن لم يكن لازما منعت المقدمة الأولى وهي التلازم
وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المتجملة مثل لفظ ( المتحيز ) و ( المركب ) ونحو ذلك يستفصل عن معناه كما يستفصل عن معنى لفظ ( الجسم ) فإذا تخلص محل النزاع في معنى معقول مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات أو ما يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك من المعاني - لم يسلم انتفاء ذلك بل نقول : هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح كما دل عليه النقل الصحيح

الوجه السابع
أن يقال : بل العقل الصريح الموافق للسمع لا منازع له والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات كما هو طريق السلف والأئمة : يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه كأبي عباس القلانسي والحارث المحاسبي وأشباههما من أئمة الأشعرية وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله
ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك وانهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك من نصوص الوجه واليد
ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي قال : أنها نافية لهذه الصفة كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليدين ويبين أنه لا محذور في إثباتها كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد ونحو ذلك من الصفات الخبرية
وهؤلاء كلامهم امتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلا وعقلا وإذا قيل : إن في كلامهم تناقضا أو أنهم يقولون ما لا يعقل ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم فهم بالنسبة إلى النفاة اكمل علما بالمعقول والمنقول وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل وما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم وتنسب به معارضة النفاة لهم ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله
ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق : منها : أنهم يقولون : العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم
ومنها : أنهم يقولون : قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو - هو أيضا ضروري وقصدهم لهم بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضا ضروري فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو وعلى انهم محتاجون غليه يسألونه عن الضرورات وعلى انهم يقصدونه في العلو ولا في السفل وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة يغلب مع فطرته ويظل عنه ما كان يفتريه
ومنها أنهم يقولون : إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير موطأة من بعضهم البعض ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة ويمتنع أيضا غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة وأن يثق الإنسان بشيء من علومه ومتى قدح في مثل هذا كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير فإن المعارضين لا بد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم
ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية : كقولهم : كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر وإما أن يكون مداخلا له ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم فمعهم من العلم الضروري والقصد الضروري واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملا فإنها مخالفة للمعارف الضرورية ولما أجمعت عليه فطر البرية مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن ولسنة النبي صلى الله عليه و سلم ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها ولما اجتمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف

الوجه الثامن
أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص : إذا احتججت على من ينفي ما تثبته بالنصوص : كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك إن كنت من المثبتين له وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع إن كنت من المثبتين له - إذا قال لك منازعك : هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك
فإن قلت : ما أثبته معلوم معلوم بالاضطرار من الدين قال لك أهل الإثبات للعلو : وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين
فإن قلت : أنا لا أسلم هذا لكم قالوا لك : ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة
فإن قلت : لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري قالوا لك : لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا
فإن قلت : أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه
قيل لك : وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك كما تقوله لمنازعك أيضا لكن أنت لا توفي بهذا بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم بل قد تعاديهم أو تكفرهم فإن كان ما فعلته سائغا لك ساع لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك كما فعلت هذا بأهل الإثبات وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته
وإن قلت : أنا لا أثق بصدقهم : أنهم يعلمون ذلك اضطرارا أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري
قيل لك : ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضا
فإن قلت : هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي
قيل لك : وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم
وإن قلت : أنا بين فساد العقليات التي يعارض به النفاة لما أثبته
قيل لك : والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها
وإن قلت : أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء
قيل لك : والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته
وأعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئا من السمعيات بوجه من الوجوه إذ لا يمكن أحدا من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية
وإذا قال : أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضا وأمكن أن يجاب بجواب آخر وهو : أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم ولو أنه من الأمور العلمية السياسية فإن هؤلاء كلهم لا بد لهم من العمل بالشرائع : إما في الظاهر وإما للجمهور وإما أوائل سلوكهم
وإن كان ممكن لا يثبت النبوات بوجه فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء كالملوك والفلاسفة ونحوهم
بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه إذ الإنسان مدني بالطبع لا يستقل بتحصيل مصالحه فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره
وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك - كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضا له من عقلياته فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب فما كان جوابا له كان نظير جوابا لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول صلى الله عليه و سلم وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

الجواب التاسع
أن يقال : نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلا وسمعا فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها كما تفعلونه في مسالة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك إذ أنتم كثيرا ما تثبتون الشيء بدون لوازمه أو مع وجود منافيه
ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم من النفاة وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر يظهر قصوره لمن كان خبيرا بالعقليات وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم
ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه بما به ناظرهم أولئك ويتسلطون على العاجز من مناظرتهم مع المثبتين كما تسلط عليهم أولئك فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموهم فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين كما قاتلهم أولئك الكفار حتى ظهر الباطل والكفر والضلال بتفريطهم أولا في جهاد من يليهم من الكفار وعداوتهم ثانيا على من يليهم من المسلمين
وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين كما نعت النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج حيث قال : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ]
وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج فإن الخوارج كانوا يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم معادين للمؤمنين أعزاء عليهم كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبرا وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 51 - 52 ]
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته كما أن هؤلاء يلحقهم أيضا الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه حرماته
وقد قال تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } [ الزخرف : 39 ]
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات : نحن لا نرضى أن نجيبكم بنا تجيبون به أنتم نفاة الصفات وغيرها مما أثبته الرسول صلى الله عليه و سلم بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص : لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة المموهة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول كما علم فسادها بصحيح المنقول وتبين أيضا أن حجة الرسول صلى الله عليه و سلم قائمة على من بلغه ما جاء به ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ النساء : 65 ]
ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام ونمنعهم المقدمات التي جعلوا علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع خير الأنام

الوجه الرابع والأربعون
أن يقال : العقليات التي يقال إنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلا له بل هي أيضا باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة فإن جماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة :
طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون
وطريقة التركيب والاستدلال بها أن الموصوف بها ممكن أو محدث فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب
والثالثة : الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه قد يقال : إنها طريقة أخرى وقد تدخل في الأولى
والاستدلال باجتماع الجواهر وافتراقها - على رأي من يقول : إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة - يدخل في الأولى والثانية
أما دخولها في الأولى فبناء على أن الجواهر لا تخلو من الاجتماع والافتراق كما لا يخلو الجسم - بل الجوهر - من الحركة والسكون
وأما دخولها في الثانية فبناء على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وحينئذ فيكون : إما ممكنا عند من يستدل بذلك على الإمكان وإما محدثا عند من يستدل بذلك على الحدوث
ولكن الاستدلال بهذه الطريق مبني على أن الجسم مركب من الجواهر المحسوسة التي لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة أو من الجواهر العقلية وهي المادة والصورة وهذا مما ينازعهم فيه جمهور العقلاء بخلاف كون الجسم لا يخلو عن نوع من الأعراض فلا يخالف فيه إلا شذوذ
ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود ما لا يتناهي من الحوادث والثانية مبنية على أن ما اجتمعت فيه معان لزم أن يكون ممكنا أو حادثا والثالثة مبنية على أن المختص لا بد له من مخصص منفصل عنه
وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال ويسلكه أيضا نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات
وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم نفاة الصفات فأصل كلامهم مبني على طريقة التركيب بناء على أن الموصوف مركب وإذا استدلوا بطريقة الأعراض فإنما يستدلون بها على أن الموصوف بها ممكن ويسندون ذلك إلى التركيب فإنما استدلالهم بالأعراض على حدوث الموصوف فلا يمكنهم بل هذا نقيض قولهم
وكل من الطائفتين تطعن في طريقة الأخرى وتبين فسادها ومعلوم أن المتكلمين القائلين بإثبات الصفات لله تعالى أقرب إلى الإسلام والسنة من نفاة الصفات وأن نفاة الصفات القائلين بحدوث السماوات والأرض أقرب إلى الإسلام والسنة من القائلين بقدم ذلك ومن كان إلى الإسلام والسنة أقرب كانت عقلياته التي يعارض بها النصوص الإلهية أقل بعدا عن دين المسلمين
فإذا كان أئمة العلم قد أنكروا هذه التي هي أقرب من غيرها إلى العقل والنقل وبينوا أنها فاسدة في العقل محرمة في الشرع - كان ما هو أبعد منها وأضعف أعظم فسادا في العقل وتحريما في الشرع
وما زال أئمة العلم على ذلك حتى أئمة النظر من أهل الكلام والفلسفة فالاستدلال بالحكة والسكون على حدوث المتحرك الساكن بل الاستدلال بالأعراض مطبقا على حدوث ما قامت به من الجواهر والأجسام والاستدلال بحدوث الصفات على حدوث ما قامت به من الموصوفات والاستدلال بتركيب الأجسام من الجواهر ونحو ذلك وجعل ذلك طريقا إلى العلم بحدوث العالم وإلى العلم بإثبات الصانع تعالى هو طريق الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المذموم - عند السلف المحدث في الإسلام وهم الذين ابتدعوا هذه الطريقة والاستدلال بها - والتزام لوازمها والتفريع عليها وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين أو سبقوهم إلى ذلك سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم
والمقصود أن ظهور هذه في الإسلام كان ابتداؤه من جهة هؤلاء المتكلمين المبتدعين وهذه هي من أعظم أصول هؤلاء المتكلمين وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه وتجهيل أصحابه وتضليلهم حيث سلكوا في الاستدلال طرقا ليست مستقيمة واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم
وكلام السلف والأئمة في ذم ذلك كثير مشهور في عامة كتب الإسلام وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من ذلك بعضه لكن كثير من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة في ذلك وبمعانيها وقد جمع الناس من كلام السلف والأئمة في ذلك مصنفات مفردة مثل ما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ومثل المصنف الكبير الذي جمعه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام الذي سماه ذم الكلام وأهله ومن ذلك في كتب الآثار والسنة ما شاء الله

كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام
وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك الغزالي في أجل كتبه الذي سماه إحياء علوم الدين قال : ( فإن قلت : فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف فمن قائل : إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب - سوى الشرك - خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل : إنه واجب فرض : إما على كفاية أو على الأعيان وإنه أجل الأعمال وأعلى القربات وإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال على دين الله )
قال : ( وإلى التحريم ذهب الشافعي و مالك و أحمد بن حنبل و سفيان وجميع أهل الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظر حفصا الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة - يقول : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وإني سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال أيضا : قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام )
( وقال أيضا : لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد )
( وقال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام )
وقال ( وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل )
قال : ( وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم ؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث )

تعليق ابن تيمية
قلت : هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق عال على العالم موصوف بالصفات ويقررون ذلك بالعقل وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن
وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور - كتاب في قصص من هجره أحمد سال فيه لأبي بكر المروذي عن ذلك فأجابه عن قصصهم واحدا واحدا
وقد ذكر ذلك أيضا أبو بكر الخلال في كتاب السنة وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور وكذلك السري السقطي كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق الحارث ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك كما ذكره معمر بن زياد في أخبار شيوخ أهل المعرفة والتصوف وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول : إن الله يتكلم بصوت وهذا يناقض قول ابن كلاب
وأبو حامد ليس له من الخبرة والآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك الذين يتميزون بين صحيحه وسقيمه ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها
وأحمد رضي الله عنه قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل
وقد نقل أبو حامد في كتابه ما ذكر أنه سمعه من بعض الحنابلة وهو أن أحمد لم يتأول إلا ثلاث أحاديث وهذا غلط على أحمد وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين ما في هذا الكلام وتوابعه من الصواب والخطأ نقلا وتوجيها ولو اقتصر أبو حامد على ما نقله من كتاب ابن عبد البر عن الأئمة لم يكن فيه شيء من هذا الخطأ فإن ابن عبد البر وأمثاله أعلم بالآثار من هؤلاء ولكن لعله نقل ذلك من كلام أب طالب أو غيره
ونظير هذا ما ذكره أبو المعالي في كتابه أصول الفقه المسمى بالبرهان لما ذكر مذهب الناس في القياس العقلي والشرعي فقال : ( القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى شرعي وعقلي ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب فذهب بعضهم إلى رد القياسين وقال القائلون : هذا مذهب منكري النظر وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي وهذا مذهب الأصوليين والقياسيين من الفقهاء وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي وجحد القياس الشرعي وهذا مذهب النظام وطوائف من الرافضة والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات وصار صائرون إلى النهي عن القياس النظري والأمر بالقياس الشرعي
وقال ( وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه وليس ينكرون إفضاء النظر العقلي إلى العلم ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به )

كلام الجويني في البرهان
قال : ( وذهب الغلاة من الحشوية وأهل الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي ) قال أبو المعالي : أطلق النقلة القياس العقلي فإن عنوا به النظر العقلي فهو من نوعه إذا استجمع شرائط الصحة مفض إلى العلم مأمور به شرعا والقياس الشرعي متقبل معمول به إذا صح على السبر اللائق به وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى في شاهد فهذا باطل عندي لا أصل له فليس في المعقولات قياس وقد فهم عنا ذلك طلبة المعقولات

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتأخرين كأبي حامد الرازي وأبي محمد المقدسي قال : قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن فإن مما يجعل في قياس الشمول حدا أوسط يجعل في قياس التمثل مناط الحكم ويسمى العلة والوصف والمشترك
فإذا قيل : النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر وكل مسكر حرام - فهذا قياس شمول ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة : كل مسكر حرام فإذا استدل بقياس التمثيل : قال : إنه مسكر فكان حراما قياسا على عصير العنب المسكر ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر فالدليل الدال على علة الوصف في الأصل هو الدال على صحة المقدمة الكبرى والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم وهو مناطه وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم والسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المقرر في قياس الشمول الذي هو محمول في المقدمة الصغرى موضوع في الكبرى
وأما ما ذكره عن أحمد فقد أنكره أصحاب أحمد حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب البرهان : ( هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد )
وهو كما قال فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه
ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة والكلام في الله ودينه بغيره علم
واستدل أحمد بقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 33 ]
وأحمد أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية : نقلها وعقلها من سائر الأئمة لأنه ابتلي بمخالفي السنة فاحتاج إلى ذلك والموجود في كلامه من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد لم يسلك فيه إلا قياس الأولى وهو الذي جاء به الكتاب والسنة فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس بل هو سبحانه أحق بكل حمد وأبعد عن كل ذم فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه فهو أحق به من كل ما سواه وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه
والقرآن لما بين قدرته في إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك كان هذا من باب قياس الأولى وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك وكذلك أحمد سلك هذا المسلك - كما ذكره في موضعه - مثل بيانه لإمكان كونه عالما بجميع المخلوقات مع كونه بائنا عن العالم فوق العرش بقياسين عقليين : أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قد صاف فيرى ما فيه مع مباينته له فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له أعظم من قدرة هذا على ما في يده فلا تمتنع رؤيته لما فيه وأحاطته به مع مباينته له
والقياس الثاني من بنى دارا وخرج منها فهو يعلم ما فيها لكونه فعلها وإن لم يكن فيها فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه هو أحق بأن يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير وإن لم يكن حالا في المخلوقات
والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة أو الكلام بلا علم والكلام المبتدع في الدين كقوله في رسالته إلى المتوكل : ( لا احب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم أو الصحابة أو التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود )
وهو لا يكره - إذا عرف معاني الكتاب والسنة - أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك بل هو قد فعل ذلك بل يكره المعاني المبتدعة في هذا أي فيما خاض الناس فيه - من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات - غلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين
ولهذا كره الكلام في ( الجسم ) وفي ( الحيز ) وفي اللفظ بالقرآن نفيا وإثباتا لما في كل من النفي والإثبات من باطل وكلامه في هذه الأمور مبسوطة في موضع آخر كما هو معروف في كتابه وخطابه
والمذموم شرعا ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعد ما تبين
فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام وأمر بها مثل قوله تعالى : { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } [ هود : 32 ]
وقوله : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ] وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } [ البقرة : 258 ] وقوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ]
وأمثال ذلك فقد يكون واجبا أو مستحبا وما كان كذلك لم يكن مذموما في الشرع
وما ذكره أبو حامد الغزالي من كلام السلف في ذم أهل الكلام لو أنه معروف عنهم في كتب يعتمد عليها لم يذكره هنا وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب أبي عمر بن عبد البر الذي سماه فضل العلم وأهله وما يلزمهم في تأديته وحمله و أبو عمر من اعلم الناس بالآثار والتميز بين صحيحيها وسقيمها

كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه
ومن ذلك ما نقله أبو حامد أيضا عن أحمد أنه قال ( علماء الكلام زنادقة ) قال : ( وقال مالك : أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم بدين جديد ؟ ) قال : ( يعني أن أقوال المتجادلين تتقاوم )
وقال : ( وقال مالك : لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع فقال بعض أصحابه في تأويله : انه أراد بأهل الأهواء : أهل الكلام على أي مذهب كانوا )
قلت : هذا الذي كنى عنه أبو حامد هو محمد بن خويز منداد البصري الإمام المالكي وقد قال : ( إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام )
قال : ( فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء : أشعري كان أو غير أشعري ) هكذا ذكره عنه ابن عبد البر ومنه نقل ذلك أبو حامد لكان كنى عن التصريح بذلك
قال أبو حامد : ( وقال أبو يوسف : من طلب العلم بالكلام تزندق ) وقال : ( وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما ينقل عنهم من التجديدات فيه وقالوا : ما سكت عن الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه ولذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هلك المتنطعون هلك المتنطعون ] أي المتعمقون في البحث والاستقصاء )
قال : واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه و سلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلا حفظ الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وعلى هذا استر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة )
قال : ( وأما الفرقة الأخرى فاحتجوا بان المحذور من الكلام : إن كان هو من أجل لفظ ( الجوهر ) و ( العرض ) وهذه الاصطلاحات الغريبة لأجل التفهم كالحديث والتفسير والفقه ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسب والتعدية والتركيب وفساد الوضع لما كانوا يفهمونه وإحداث عبارة للدلالة على مقصود صحيح كإحداث آنية على هيئة جديدة لاستعمالها في مباح وإذا كان المحذور هو المعنى فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم ووحدانية الخالق تعالى وصفاته كما جاء به الشرع فمن أين تحرم معرفة الله بالدليل ؟ وإن كان المحذور هو الشغب والتعصب والعداوة والبغض وما يفضي إليه الكلام فذلك يحرم ويجب الاحتراز منه كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه على الحديث والتفسير والفقه وهو محرم يجب الاحتراز منه ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه أليه
وكيف يكون ذلك الحجة المطالبة والبحث عن محظورا وقد قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم } [ النمل : 64 ] وقال تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } [ الأنفال : 42 ]
وقال تعالى : { إن عندكم من سلطان } [ يونس : 68 ] أي من حجة وبرهان
وقال تعالى { قل فلله الحجة البالغة } [ الأنعام : 149 ]
وقال تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } إلى قوله { فبهت الذي كفر } [ البقرة : 158 ] وذكر إبراهيم مجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ]
وذكر كلاما طويلا ذكرناه وتكلمنا على ما فيه من مقبول ومردود كلاما مبسوطا في غير هذا الموضع إلى أن قال : ( فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين )
ثم ذكر تفصيلا اختاره مضمونه : أن فيه مضرة من آثار الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ومضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل )
قلت : المضرة التي ذكرها : نوعان : أحدهما : يتعلق بالعلم وهو التنبيه على شبه الباطل التي تضعف اعتقاد الحق وتفضي إلى الباطل والثاني : يتعلق بالقصد وهو إثارة الهوى والحمية والعصبية التي تدعو إلى الإصرار ولو على الباطل لئلا يغلب الشيطان
قال : ( وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود )
قال ( ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور وفي أمور جلية تكاد تنال قبل التعمق في صناعة الكلام )
قال : ( بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم اجتماع السلف عليها والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الغصاب والظلمة )
قال : ( وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة )
قلت فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر خلاف من نازعهم ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه و سلم لأمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة وما كان من ذلك مناقضا للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين : لا من السلف والأئمة ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة وما يقبل من ذلك وما يرد وما يحمد وما يذم وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء
هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا وإن قصد به نصر الكتاب والسنة فيذمون من قابل بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد فكيف من قابل السنة بالبدعة وعارض الحق بالباطل وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق
ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه وما ذكره من أنه هو وطريق الفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها مع خبرته بذلك وهو تكلم بحسب ما بلغه عن السلف وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة بل معلومة
فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك : والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك وأعرفهم بأدلة ذلك ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع ولا مناظرة في ذلك نافعة : إما لهدى مسترشد وإما لإعانة مستنجد وإما لقطع مبطل متلدد بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها فإن الناظر الطالب للعلم : إما أن يكون نظره في كلام معلم يبين له ويخاطبه بما يعرفه الحق وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة التي يخبر عنها المتكلم ويريد أن يعلم أمرها المتعلم كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك : إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن وإما أن ينظر فيما من شأنه أنه يخبر عنه كالأبدان واللغات
والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه وأدله على الحق وهو كلام الله تعالى وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم فيرون في ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ]
والمناظرة المحمودة نوعان : والمذمومة نوعان وذلك لأن المناظر : إما أن يكون عالما بالحق وإما أن يكون طالبا له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب وأما الأولان : فمن كان عالما بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق إذا تبين له أو يقطعه ويكف عداوته إن كان معاندا غير متبع للحق إذا تبين له ويوقفه ويسلكه ويبعثه على الناظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق
وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة : إما أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله فهذا إذا بين له الحق فهمه وقبله وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه أو ليس له غرض في فهمه بل قصده مجرد الرد له فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شره عن الناس وعداوته وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه وأصل قصده الحق لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم أو لا يفهمه إلا بعد عسر أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك : إما معرفة الحق وإما شكا وتوقفا في اعتقاد الباطل أو في اعتقاد صحة الدليل الذي استدل به عليه وبعث همته على النظر في الحق وطلبه إن كان له رغبة في ذلك فإن صار من أهل العصبية الذين يتبعون الظن وما تهوى النفس الحق بقسم المعاندين كما تقدم
وأما المناظرة المذمومة من العالم بالحق فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض فإذا أراد علوا في الأرض أو فسادا كان مذموما على إرادته ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] فكما قد يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم فيجره إلى أمور أخرى
وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء
وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق بأن لا يعرف الحق في نفس المسألة أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج أو الجواب عن بعض المعارضات أو الجمع بين دليلين متعارضين وأمثال ذلك - فهذا إذا ناظر : طالبا لمعرفة الحق وأدلته والجواب عما يعارضها والجمع بين الأدلة الصحيحة - كان محمودا وإن ناظر بلا علم فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات - كان مذموما
والسلف رضوان الله عليهم كانت مناظرتهم مع الكفار وأهل البدع - كالخوارج وغيرهم - من القسم الأول وكانت مناظرة بعضهم لبعض في مسائل الأحكام والتفسير : تارة من القسم الأول وتارة من القسم الثاني وهي المشاورة التي مدحهم الله عليها بقوله عز و جل { وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى : 38 ]
وما ذكره الله تعالى عن الأنبياء والمؤمنين من المجادلة يتناول هذا وهذا وقد ذم الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة : ذم أصحاب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق وذم المجادلة في الحق بعد ما تبين وذم المحاجة فيما لا يعلم المحاج
فقال تعالى : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ غافر : 5 ]
وقال تعالى : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } [ الأنفال : 6 ]
وقال : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ]
والذي ذمه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب فإن أصل ذمهم الكلام المخالف للكتاب والسنة وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلا فمن جادل به جادل بالباطل وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد لا يكون قولا ومذهبا لطائفة تذب عنه وإنما يكون باطلا مشوبا بحق كما قال تعالى : { لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } [ آل عمران : 71 ]
أو تكون فيه شبهة لأهل الباطل وإن كانت باطلة وبطلانها يتبين عند النظر الصحيح كالذين قالوا : إن محمدا صلى الله عليه و سلم شاعر وكاهن ومجنون قالوا : إنه شاعر لأن الشعر كلام موزون مقفى فشبهوا القرآن به من هذا الوجه والكاهن يخبر أحيانا بواحدة تصدق فشبهوا الرسول به من هذا الوجه والمجنون يقول ويفعل خلاف ما في عقول ذوي العقول فلما زعموا أن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه و سلم يخالف ما يأتي به العقلاء نسبوه إلى ذلك
لكن ما ينصبه الله من الأدلة ويهدي إليه عباده من المعرفة يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به ولكن ليس كل من عرف الحق - إما بضرورة أو بنظر - أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع وما به يعرفه به غيره نوع وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لهم علوم ضرورية بأقوال الرسول ومقاصده لا يشركهم فيها إلا من شركهم في أسبابها
والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته والجواب عما يعارضه وإن كانوا في ذلك درجات وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك بل هذا يقوم بالبعض وهذا يقوم بالبعض كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وغير ذلك من أمور الدين
والكلام الذي ذموه نوعان : أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذبا وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل كذب فإن أصدق الكلام كلام الله
والثاني أن يكون فيه مفسدة مثلما يوجد في كلام كثير منهم : من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم فإن الحق إذا كان ظاهرا قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما - كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعيا وهو لا يقبل الحق : إما لهواه وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه
وكذلك علي - رضي الله عنه - بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة
قال الله تعالى : { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } [ الشورى : 16 ]
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة وقد ينهى عنها إذا كان المناظر معاندا يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائيا ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك بل إن كان فاسد العقل داووه وإن كان عاجزا عن معرفة الحق - ولا مضرة فيه - تركوه وإن كان مستحقا للعقاب عاقبوه مع القدرة : إما بالتعزير وإما بالقتل وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة أو فيها مفسدة راجحة فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال
وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة تارة أخرى وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها : محمود ومذموم ومفسدة ومصلحة وحق وباطل
ومنشأ الباطل من نقص العلم أو سوء القصد كما قال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } [ النجم : 23 ]
ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له والله هو الحق المبين ومحبته أصل كل عبادة فلهذا كان أفضل الأمور على الإطلاق معرفة الله ومحبته وهذا هو ملة إبراهيم خليل الله تعالى الذي جعله الناس إماما وجعله أمة يأتم به الخلق وهو الذي ناظر المعطلين والمشركين
ثم ذكر الله تعالى محاجته لمن حاجه في ربه : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } [ البقرة : 258 ] ومحاجته لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب
والجهمية نفاة الصفات الذين هم رؤوس أهل الكلام المذموم قولهم مأخوذ من قول خصمائه كما هو مأخوذ من قول فرعون خصم موسى عليه السلام فإن فرعون أظهر جحد الصانع وعلوه على خلقه وجحد تكليمه لموسى وقوم إبراهيم كانوا مشركين كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك وكان فيهم من هو معطل كما ذكر الله تعالى ذلك
والفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب : فيهم المشرك وفيهم المعطل ونفي الصفات من أقوالهم فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهود ربا أبدعه كما هو قول الدهرية الطبيعية منهم ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته ومنهم من يثبت له مبدعا واجبا بنفسه أبدعه كما هو قول الدهرية الإلهية منهم ويقولون : إن الواجب ليس له صفة ثبوتية بل صفاته : إما سلب وإما إضافة وإما مركبة منهما
وكان الجعد بن درهم من أهل حران وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة - خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم موافقة لفرعون والنمرود بناء على أصل هؤلاء النفاة وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام ولا يقوم به محبة لغيره فقتله المسلمون ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه
والمحبة متضمنة للإرادة ومسألة الكلام والإرادة ضل فيها طوائف كما ضلوا في إنكار العلو الذي أنكره فرعون على موسى كما قد بسط هذا في موضعه
ومما يبين هذا أن السلف لم يذموا التكلم بأسماء مفردة : كالجوهر والجسم والعرض فإن الاسم المفرد ليس بكلام ولا يتكلم به أحد وإنما ذموا الكلام المؤلف الدال على معان والذين كانوا يتكلمون بهذه الأسماء كان كلامهم متضمنا لأمور فيها افتراء على الله ورسوله : إما إثبات ما نفاة الله وإما نفي ما أثبته الله ومتضمنة لمعان باطلة هي كذب وباطل في نفس الأمر
والمقصود هنا التنبيه على جنس ما مدحه السلف وذموه وأنهم كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته وبطلان ما يعارضه وإنما يظن بهم التقصير في هذا من كان جاهلا بحقيقة الحق وبما جاء الرسول صلى الله عليه و سلم من العلم والإيمان وبما وصل إليه السلف والأئمة فجهله بالأول يوجب أن لا يعلم الحق بل يعتقد نقيضه وجهله بالثاني يوجب ظنه أن ليس فيما جاء به الرسول بيان الحق بأدلته والمناظرة عنه وجهله بالثالث يوجب ظنه أن السلف ذموا الكلام بالأدلة الصحيحة المفضية إلى العلم بالله وصفاته خوفا من الشبهات والأهواء بل الأصل في ذم السلف لكلام هو اشتماله على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة المتضمنة للافتراء على الله تعالى وكتابه ورسوله ودينه
فهذا هو الكلام المذموم بالذات وهو الكلام الكاذب الباطل وأما الكلام الذي هو حق وصدق فهذا لا يذم بالذات وإنما يذم المتكلم به أحيانا لاشتمال ذلك على مضرة عارضة مثل ما يحرم القذف وإن كان القاذف صادقا إذا لم يكن له أربعة شهداء ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير
وأما الكلام في الدين فنوعان : أحدهما أمر والثاني خبر والكلام في أصول الدين هو من النوع الثاني ولا ريب أن الله تعالى أخبر بإثبات أمور ونفي أمور وأصدق الكلام كلام الله فما ناقض ذلك كان كذبا وقولا على الله غير الحق
كما قال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } [ النساء : 171 ]
وقال تعالى : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } [ الأعراف : 169 ]
وقال تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف : 152 ]
وقال تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] وأمثال ذلك
وعامة الكلام الذي ذمه السلف تشتمل مسائله على كذب وفرية ودلائل مسائله على كذب وفرية كأقوال الجهمية النفاة لما أثبته الله تعالى له من الأسماء والصفات وكلام القدرية النافية لما أثبته الله من قدرته ومشيئته
ودلائل الجهمية والنفاة : هو استدلالهم بدليل الجواهر والأعراض فإنهم زعموا أن الأعيان المشاهدة كالسماوات والأرض مركبة من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وأن المركب مسبوق بجزئه ومفتقر إلى مركب يركبه فيكون محدثا وممكنا وما قام بها من الصفات والحركات أعراض والأعراض - أو بعضها - حادثة وما كان شخصه حادثا وجب أن يكون نوعه حادثا فيمتنع وجود حوادث لا تتناهى قالوا : بهذا عرفنا أن السماوات مخلوقة وبذلك عرفنا أن الله موجود فلزمهم على ذلك أن ينفوا صفات الله وأفعاله وذلك باطل شرعا وعقلا ولم يكن ما أقاموه دليلا صحيحا فلا هم عرفوا الحق بدليل صحيح قويم ولا هم نصروا بميزان مستقيم ولكنهم قد يقابلون الفاسد بالفاسد فإن أعداد الملة قد يقيمون شبهة على نقيض ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم كشبهة الدهرية على قدم السماوات فيقابلون ذلك بفاسد آخر كاستدلالهم على حدوث ذلك بدليل الأعراض والصفات
وحفظ مثل هذا الكلام لاعتقاد العوام كدفع المظلمة عنهم بعقوبات فيها عدوان ومن ظن أن الخلف أعلم بالحق وأدلته أو المناظرة فيه من السلف فهو بمنزلة من زعم أنهم أقوم بالعلم والجهاد وفتح البلاد منهم وكلا الظنين طريق من لم يعرف حقيقة الدين ولا حال السلف السابقين
وهذا مثل كلام الرافضة وأمثالهم من أهل الفرية الذي يتضمن قولهم التكذيب بالحق والتصديق بالباطل فهؤلاء فيما يحدثون به من الكذب ويكذبون به من الصدق في المقولات بمنزلة أهل الكلام الباطل في البحث والنظر كالجهمية الذين يكذبون بالحق ويصدقون بالباطل في العقليات
ولهذا كان غير واحد من السلف يقرن بين الجهمية والرافضة وهما شر أهل الأهواء وكان الكلام المذموم عند السلف أعظم من الشهادة بالزور وظلم الحق
وذلك لأن الكاذب الظالم إذا علم أنه كاذب ظالم كان معترفا بذنبه معتقدا لتحريم ذلك فترجى له التوبة ويكون اعتقاده التحريم وخوفه من الله تعالى من الحسنات التي يرجى أن يمحوا الله بها سيئاته
وأما إذا كذب في الدين معتقدا أن كذبه صدق وافترى على الله ظانا أن فريته حق فهذا أعظم ضررا وفسادا
ولهذا كان السلف يقولون : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم ونهى عن الخروج على أئمة الظلم وأمر بالصبر عليهم
[ وكان يجلد رجلا يشرب الخمر فلعنه رجل فقال : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ]
[ وجاءه ذو الخويصرة التميمي وبين عينيه أثر السجود فقال : يا محمد اعدل فإنك لم تعدل فقال : ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ثم قال : يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ]
فهذا المبتدع الجاهل لما ظن أن ما فعله الرسول ليس بعدل كان ظنه كاذبا وكان في إنكاره ظالما وهذا حال كل مبتدع نفى ما أثبته الله تعالى أو أثبت ما نفاه الله أو اعتقد حسن ما لم يحسنه الله أو قبح ما لم يكرهه الله فاعتقادهم خطأ وكلامهم كذب وإرادتهم هوى فهم أهل شبهات في آرائهم وأهواء في إرادتهم
فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه ولكن قد يورث شبهة وهوى
وقد اعترف أبو حامد بأن ما ذكره هو من الكلام والفلسفة ليس فيه كشف الحقائق ومعرفتها
وأما حراسة عقيدة العوام
فيقال : أولا : لا بد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه أخبر به لأمته فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه و سلم فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به ويكذبوا بنقيضه ويعتقدوا موجبه قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك والرد على من يخالفه فإذا كان المتكلم الذي يقول إنه يذب عن السنة قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم واعتقد نقيضه - كان مبتدعا مبطلا متكلما بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول صلى الله عليه و سلم كما أن ما وافق فيه خبر الرسول فهو فيه متبع للسنة محق يتكلم بالحق
وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم على مخالفة السنة ورد بعض ما أخبر به الرسول كالجهمية والمشبهة والخوارج والروافض والقدرية والمرجئة
ويقال بأنها لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل كما تحرس بكذب ولا ظلم فإذا رد الإنسان باطل بباطل وقابل بدعة ببدعة كان هذا مما ذمه السلف والأئمة
وهؤلاء - كما ذكره أبو حامد - يدخلون في هذا وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام الباطل والكلام بغير علم
والأول كثير وأما الثاني فقد قال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 33 ]
وقال تعالى : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ]
وقال : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } [ الإسراء : 36 ]
وهذا النوعان مذمومان في القضاء والفتيا والتفسير
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاث : قاض في الجنة وقاضيان في النار رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وحكم بخلافه فهو في النار ]
وفي السنن : [ من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار ]
فهذان النوعان من الكلام مذمومان مطلقا لا سيما ما كان في نفسه كذبا باطلا وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه السلف عنه مطلقا بل هذا - إذا كان حقا - يكون مأمورا به تارة ومنهيا عنه أخرى كغيره من أنواع الكلام الصدق فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر المستمع وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علما ولا دينا
ومن هذا الباب أنه خرج صلى الله عليه و سلم على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ وأن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا
فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنه لذلك وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من هذا الباب كالقائلين بأن الله جسم متحيز في جهة والنافين لذلك والقائلين : إن الله يجبر العباد والنافين لذلك وأمثال ذلك من الكلام المجمل المتشابه الذي يتضمن حقا وباطلا في جانبي النفي والإثبات
والكلام بلفظ ( الجسم ) و ( الجوهر ) و ( العرض ) في مسائل الصفات هو من هذا الباب قال : أبو عبد الرحمن السلمي - وقد ذكر شيخ الإسلام في ذم الكلام من طريقة : سمعت أبا نصر أحمد بن محمد السجزي يقول : سمعت أبي يقول : قلت لأبي العباس بن سريج : ما التوحيد ؟ قال : توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه و سلم بإنكاره ذلك
والمقصود هنا بيان فساد الطرق المعارضة للكتاب والسنة وأما بيان اشتمال الكتاب والسنة على الطرق التي بها تحصل معرفة الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر فهذا مذكور في موضع آخر

تابع كلام الغزالي في الإحياء
قد قال أبو حامد أيضا لما ذكر أقسام العلوم : ( فإن قلت : لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة وتبين أنهما محمودان أو مذمومان ؟ فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام في الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنه فهو : إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماء وبعضها خوض في ما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منها مألوفا في العصر الأول فكان الخوض فيه بالكلية من البدع

كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب : ( ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عول سلفنا رحمة الله عليهم عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها وما ذكرتم من شدة الحاجة إلى ذلك فبادرت - أيدكم الله - بإجاباتكم إلى ما التمسوه وذكرت لهم جملا من الأصول مقرونة بأطراف من الحجاج تدلكم على صوابكم في ذلك وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم ومفارقتكم بذلك الأدلة الشرعية وما أتى به الرسول منها ونبه عليها وموافقتكم بذلك لطرد الفلاسفة الصادين عنها والجاحدين لما أتت به الرسل صلوات الله عليهم منها : اعلموا - أرشدكم الله - أن الذي مضى عليه سلفنا وأتباعهم من صالح خلفنا : أن الله تعالى بعث محمد صلى الله عليه و سلم إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون وفرق متباينون : منهم كتابي يدعو إلى الله بما في كتابه وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول وبرهمي يمكن أن يكون لله رسول ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشواء الضلال وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة وصاحب صنع يعكف عليه ويزعم أن له ربا يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه لينبههم جميعا على حدثهم ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم ويبين لهم طرق معرفته بما فيهم من آثار صنعتهم ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة ويوضح لهم سائر ما تعبدهم الله به من شريعته وأنه عليه السلام دعا جماعتهم إلى ذلك ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات وغير ذلك من اختلاف اللغات وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم مما يقتضي وجوده ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] فنبههم عز و جل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك
وشرح لهم ذلك بقوله سبحانه : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12 - 14 ]
وهذا مما أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره وكونه قديما ينفي تلك الحال فإذا حصل متغيرا بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها وذلك أن القديم لا يجوز عدمه وإذا كان هذا على ما قلنا وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهيا إلى هيئات محدثة ولم تكن الأجسام قبلها موجودة بل كانت معها محادثة ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق فيتم من غير مرتب له ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئات المخالفة لها وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها لأن سلالة الطين والماء المهين بنفسه لا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق لاحتمالها لغيره فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام وما فيه الآلات المعدة لمصالحه : كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنع من غذائه وتحول بينه وبين مرضعته فإذا نقل من ذلك وخرج إلى غذاء لا ينتفع به ولا يصل منه إلا غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجاز لطاف قد هيئات لذلك بمقدار ما يقيمها والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد باجتذاب المناخر وما فيها من الآلات المعدة كخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة في مجاز ينفذ ذلك منها وغير لك مما يطول شرحه مما لا يصح وقوعه بالاتفاق ولا يستغني في ما هو عليه عن مقوم له يرتبه إذا كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع لها مدبر عند كل عاقل متأمل كما لا يصح أن تترتب الدار على ما تحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر ينقسم ذلك فيها ويقصد إلى ترتيبها
ثم زادهم الله تعالى في ذلك بيانا بقوله عز و جل : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } [ آل عمران : 190 ] فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم التي لا تخفى مواقع انتفاعهم بها كالليل الذي جعل لسكونهم ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم على القدر الذي يحتملونه في ذلك
ولو كان دهرهم كله ليلا لأضر بهم ما فيه من الظلمة التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم وكذلك لو كان دهرهم كله نهارا لأضر بهم ذلك ودعاهم إلى ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك إلى ما لا يطيقونه فأداهم قلة الراحة إلى عطبهم فجعل لهم من النهار قسطا لتصرفهم لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه وجعل لهم من الليل قسطا لسكونهم لا يقتصر عن درك حاجتهم لتعتدل في ذلك أحوالهم وتكمل مصالحهم وجعل لهم من الحر والبرد فيهما بمقدار ما لهم من ثمارهم ولمواشيهم من الصلاح رفقا لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوما لأبصارهم ولو كان لونها على اختلاف ذلك من الأولون لأفسدها ودلهم على حدثها بما ذكرناه من حركتها واختلاف هيئاتها كما ذكرنا أنفا ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض وما فيهما من الحكم ومع عظمها وثقل أجرامها إلى إمساكه عز و جل لهما بقوله تعالى : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } [ فاطر : 41 ]
فعرفنا تعالى أن وقوفهما لا يصح أن يكون من غيره وأن وقوفهما لا يجوز ان يكون بغير موقف لهما ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في الأشجار وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز و جل : { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ثم قال عز و جل { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [ الرعد : 4 ]
ثم نبه تعالى خلقه على انه واحد باتساق أفعاله وترتيبها وأنه تعالى لا شريك له فيها بقوله عز و جل : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ]
ووجه الفساد بذلك : لو كان إلهين ما اتسق أمرهما على نظام ولا يتم إحكام وكان لا بد أن يلحقهما العجز أو يحلقهما عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادرا ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل لآخر أو لا يكون كل واحد منهما قادرا على ذلك فإن كان كل واحد منهما قادرا على فعل ما يقدر الأخر بدلا منه لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر وإلا بترك الآخر له وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك
ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له فهو مذموم عاجز وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على فعل مقدور الآخر بدلا منه وجب عجزهما وحدوث قدرتيهما والعاجز لا يكون إلها ولا ربا
ثم نبه المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء على جواز إعادته تعالى لهم حيث قال لهم لما استنكروها وقالوا : من يحي العظام وهي رميم ؟ { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } ثم أوضح لهم ذلك بقوله : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } [ يس : 79 - 80 ] فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت أحدهما الأخرى بتحريك الريح لها اشتعل النار فيهما على جواز إعادته الحياة في العظام والنخرة والجلود المتمزقة
ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها بقوله تعالى : { أتعبدون ما تنحتون } ثم قال : { والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 95 - 96 ] فبين لهم فساد عبادتها ووجوب عبادته دونها بأنها إذا كانت لا تصير أصناما إلا بنحتكم لها فأنتم أيضا لن تكونوا على ما أنتم عليه من الصور والهيئات إلا بفعلي وإني - مع خلقي لكم وما تنحتونه - خالق لنحتكم إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه
ثم رد على المنكرين لرسله بقوله عز و جل : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } [ الأنعام : 191 ]
وقال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [ النساء : 165 ]
ثم احتج النبي صلى الله عليه و سلم على أهل الكتب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته وتحدي النصارى - لما كتموا ما في كتبهم من ذلك وجحدوه - بالمباهلة عند أمر الله عز و جل له بذلك بقوله : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } آل عمران : 61 ]
وقال لليهود لما بهتوه : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [ البقرة : 94 ] فلم يجسر أحد منهم على ذلك مع اجتماعهم على تكذيبه وتناهيهم في عداوته واجتهادهم في التنفير عنه لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم وصدقه فيما يخبرهم لأقدموا على إجابته ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره
ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه ونبههم عليه بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث إليهم لما قالوا : إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات أو سورة من مثله وقد خاطبهم فيه بلغتهم فعجزوا عن ذلك مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن وقطع عليه السلام عذرهم به عذر غيرهم كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم وبان بما كان منها - لهم ولغيرهم - أن ذلك من فعل الله تعالى وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم ولا تطمع فيه خواطرهم وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء الذين قد برعوا في معرفة العقاقير وقوى ما في الحشائش وقدر ما ينتهي إليه علاجهم وتبلغه حيلهم بإحياء الموتى بغير علاج وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك مما بهرهم به وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم وما يصلون إليه بحيلهم
وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه و سلم بالقرآن - وما فيه من العجائب - علل الفصحاء من أهله وقطع به عذرهم لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم ونظموه في شعرهم وبسطوه في خطبهم وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه ولا احتيج مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم ولا كانت طاعته لازمة لهم مع خصامهم وشدة عنادهم ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك ودفعوه عما يوجب طاعتهم له وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه مع طول تحديه لهم وكثرة تبكيتهم وطول مقامه فيهم ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا مع حرصهم عليه
وإذا كان هذا على ما ذكرناه علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه الصلاة و السلام إلى التوحيد وإقامة الحجة على ذلك وإيضاحه لطرق إليها وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها عاداتهم كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير وهو ينبع من بين أصابعه حتى رووا ورويت مواشيهم وكلام الذئب وإخبار الذراع المشوية أنها مشوية وانشقاق القمر ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها وإخباره لهم عليه السلام بما تجنه صدورهم وما يغيبون به عنه من أخبارهم
ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز و جل وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم بقوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [ التغابن : 12 ] وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك وما ضمنه له من عصمته منهم بقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] فعصمه الله منهم مع كثرتهم وشدة بأسهم وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له حتى بلغ رسالة ربه إليهم مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه ومعاداة عشيرته وقصد الجميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما كانوا عليه من تعظيم أصنامهم وعبادة النيران وتعظيم الكواكب وإنكار الربوبية وغير ذلك مملا كانوا عليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته وأنه عليه السلام - لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم وأنه جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عن كافتهم
ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه و سلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حديثهم ومعرفة المحدث لهم وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى وما هو عليه من صفات نفسه وصفات فعله وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصلح أن يؤخر عنهم البيان فيه لأنه - عليه السلام - لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله والزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه وهذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته
ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء ما وقف عليه جماعتهم ولا شك في شيء منه ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج بل مضوا جميعا على ذلك وهم متفقون : لا يختلفون في حدثهم ولا في توحيد المحدث لهم وأسمائه وصفاته وتسليم جميع المقادير إليه والرضى فيها بأقسامه لما قد ثلجت به صدورهم وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم - عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها وعرفوا به صدقه في جميع ما أخبرهم به وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها ونبههم بالإشارة على ما فيها فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها والطرق التي اختلفوا فيها ولم يقلد بعضهم بعضا في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك لما كلفوا من الاجتهاد وأمروا به فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم والمعرفة بمحدثهم ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدله وحكمته - فقد تبين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتى ثلجت صدورهم به واستغنوا على استئناف الأدلة فيه وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما نبههم عليه النبي صلى الله عليه و سلم من الأدلة على ذلك وما شاهدوا من آياته الدالة على صدقه وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم ومن غير أن تحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه و سلم عليها ودعا سائر أمته إلى تأملها إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد بأهدى مما أتى به أو يصل من ذلك إلى ما بعد عنهم عليه السلام
وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول المشهورة في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلى الاحتياط فيه والاجتهاد في طلب الطرق الصحية إليه : من المحدثين والفقهاء يعلم أكابرهم أصاغرهم ويدرسون صبيانهم في كتاتيبهم لتقر ذلك عندهم وشهرته فيهم واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته
واعلموا - أرشدكم الله - أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه و سلم من المعجزات - بعد تنبيهه لسائر المتكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم - قد أوجب صحة أخباره ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز و جل وإذا ثبت بالآيات صدقه فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم عنه وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله وصار خبره - عليه السلام - عن ذلك سبيلا إلى إدراكه وطريقا إلى العلم بحقيقته وكان ما يستدل به من أخباره - عليه السلام - على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها والعرفة بفساد شبه المنكرين لها والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها ولا يجوز ذلك على شيء منها والمعرفة بأنها لا تبقى والمعرفة باختلاف أجناسها وأنه لا يصح انتقالها من محالها والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفا
وفي كل رتبة من ما ذكرنا فوق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها وليست يحتاج - أرشدك الله - في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه و سلم على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة على صدق محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعوا إليه وتأمل ما استشهد به على صدقه والمعرفة بأن آياته من قبل الله تعالى تدرك بيسير الفكر فيها وأنها لا يصح أن تكون من البشر بوضوح الطرق إلى ذلك ولا سيما مع إزعاج الله قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم على النظر في آياته بخرق عوائدهم له وحلول من يعدهم به من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له على ما ذكرنا مما كان من ذلك موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم
وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم - أرشدكم الله - أن طرق الاستدلال بإخبارهم - عليهم السلام - على سائر ما دعينا إلى معرفته وما لا يدرك بالحواس - أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كان أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها لبعدهم عن الشبهة كما ذكرناه وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه وكذلك ما منع الله رسله من الاعتماد عليه لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم وكلفوا - عليهم السلام - إلزامهم فرضه فأخلدنا سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه و سلم في ما دعاهم إليه من العلم بحذفهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما ادعوا إلى معرفته منهم والعدول عن كل ما خالفها لثبوت نبوته عليه السلام عندهم وثقتهم بصدقه في ما أخبرهم به عن ربهم لما وثقته الأدلة لهم فيه وكشفته لهم العبرة وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة - ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع - من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدث العلم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز مجيئهم في العقول وغلط من دفع لك وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم - لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طريقتهم إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم فلما كان هذا واجبا لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي صلى الله عليه و سلم والاحتياط في عدالة الرواة لها - واجبا عندهم ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين
لذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرصا على معرفة الحق من وجهه وطلبا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى من يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمه في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك ولما كلفهم الله عز و جل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه و سلم طريقا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله تعالى ستره وأظهر في الأمة أمره حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام والمبلغين عنه كما حفظ كتابه حتى لا يطيق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن فيه أو تسكين حرف متحرك إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله عز و جل من صحة الأداء عنه ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان لانقطاع الرسل بعده واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم حتى قد ظهر ذلك بينهم وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه حجة على من تعبد بعده عليه السلام بشريعته ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار وأكمل الله لجميعهم طرق الدين وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين
ودل على ذلك بقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة : 3 ]
وليس يجوز أن يخبر الله عز و جل عن إكماله الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم به الدين وبين النبي صلى الله عليه و سلم معنى ذلك في حجة الوداع لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته عند اقتراب أجله ومفارقته لهم صلى الله عليه و سلم بقوله : اللهم هل بلغت ؟
فلو كنا نحتاج مع ما كان منه - عليه السلام - في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغا إذ كنا نحتاج إلى المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها ولو كان هذا كما قالوا لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة الملغز ولو كان كذلك لعارضه المنافقون وسائر المرصدين لعداوته في ذلك ولم يمنعهم مانع كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات ومجادلته في سائر الأوقات ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى الطعن لأنه عليه السلام لم يدع شيئا مما بهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده أو مثل فعله كذا إلا وقد بينه لهم
ويزيد هذا وضوحا قوله عليه السلام [ إني قد تركتكم على مثل الواضحة : ليلها كنهارها ] وإذا كان هذا على ما وصفنا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ ولا طعن لمبتدع إذ كان - عليه السلام - قد أقام الدين بعد أن أرسى أوتاده وأحكم أطنابه ولم يدع النبي صلى الله عليه و سلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعنا عليه ثم مضى - صلى الله عليه و سلم - محمودا بعد إقامة الحجة وتبليغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة حتى لم يحوج أحدا من أمته إلى البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته
بل قد قال - عليه والسلام - في المقام الذي لم ينكتم قوله فيه لاستحالة كتمانه على من حضره أو طي شيء منه على من شهده : إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي ولعمر إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل والبرء من كل داء معضل وإن في حراستهما من الباطل - على ما تقدم ذكرنا له - آية لمن نصح نفسه ودلالة لمن كان الحق قصده )
قال : ( وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال به وقوة ما عرفوا الحق منه فإذا كان ذلك ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد وسوء اختيارهم لهم في المفارقة لهم والعدول عما كانوا عليه معهم وبالله التوفيق وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة لطرق استدلالهم وصحة معارفهم فلنذكر الآن ما اجتمعوا عليه من الأصول

تعليق ابن تيمية
قلت : الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له ووجوب تناهي الحوادث
والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } [ الطور : 35 ] فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة بل مشهود لا يحتاج إلى دليل وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لبا يحتاج إلى دليل وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة : إما بإخبار يفيد العلم الضروري أو غير ذلك من العلوم الضرورية
وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار وحدوث النبات من الأرض وأمثال ذلك ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان وغيره كما قال تعالى : { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } [ مريم : 67 ] { قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } [ مريم : 9 ]
ومعلوم أن هذه المخلوقات خلقت من غيرها كما خلق الإنسان من نطفة والطائر من بيضة والثمر من شجرة والشجرة من نواة والسنبلة من حبة ومعلوم أن ما منه خلق هذا استحال وزال فالحبة التي أنبتت سبع سنابل لم تبق حبة ولم يبق منها شيء بل استحال
وقد تنازع الناس في هذا الموضع فقال طائفة من أهل الكلام : هنا أجسام وجواهر منتقلة من حال إلى حال كالاجتماع بعد الافتراق والافتراق بعد الاجتماع وأت تلك الجوهر باقية ولكن تغيرت صفاتها وأعراضها وأنكر هؤلاء أن تكون نفس الأعيان القائمة بنفسها انقلبت حقيقتها فاستحالت ذاتها ولكن تغيرت صفاتها وهذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
وهؤلاء يقولون : إنما يعلم بالحس والضرورة حدوث ما يحدث من الأعراض والصفات وأما حدوث شيء من الأجسام القائمة بأنفسها فلا نعلمه إلا بالاستدلال
والذي ذكر الأشعري أولا مبني على هذا الأصل وهو في ذلك موافق لمن قال به من المعتزلة وغيرهم وهذا من بقايا التي بقيت عليه من أصولهم العقلية بعد رجوعه عن مذهبهم وبيانه لبطلان أقوالهم التي أظهروا بها خلاف أهل السنة والجماعة
وجمهور العقلاء من أصناف الناس - أهل النظر والفلسفة وغيرهم - يقولون : إن هذا باطل وإن الأجسام يستحيل بعضها إلى بعض كما يقول ذلك الفقهاء والأطباء وغيرهم وكما يشهد ذلك وإن الحادث هو نفس أعيان الحيوان والنبات لا مجرد صفاتها وينكرون أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
والمنكرون للجوهر المفرد أكثر طوائف الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وطائفة من الكرامية مع جمهور الفلاسفة وقالت طائفة من الفلاسفة وغيرهم : بل الأجسام التي يستحيل بعضها إلى بعض بينها مادة : وهي هيولى مشتركة بينها هي بعينها باقية لم تتبدل وإنما تبدلت الصورة وتلك الهيولى جوهر عقلي
وجمهور العقلاء أيضا ينكرون ذلك وذلك أن المني إذا صار حيوانا والماء هواء والهواء ماء ونحو ذلك فالجسم الثاني له عين وصفات وليس عين الأول ولا صفاته وإنما يشتركان في النوع وهو : أن هذا له قدر وهذا له قدر وكل منهما يقبل الاتصال والانفصال ولكن ليس عين القدر هذا هو عين قدر هذا ولا نفس ما يقوم به الاتصال والانفصال من أحدهما هو عين الآخر الذي يقوم به الاتصال والانفصال وأحدهما إذا قبل الاتصال والانفصال فهو اجتماعه وافتراقه وذلك عرض له والقابل للاجتماع - الذي هو القائم به هو هو ولكن تفرق بعد اجتماعه كالثوب والحجر ونحوهما مما يقطع ويكسر وهو كالشمع التي تختلف صورها وهي هي بعينها وكالفضة التي تختلف صورها مع بقاء عينها فنفس العين - التي هي الجوهر والجسم - باقية وإنما تغير شكلها وصفتها وذلك هو الصورة العرضية التي تغيرت لم تتغير الحقيقة
ولفظ ( الصورة ) لفظ مشترك : يراد بالصورة الشكل والهيئة كصورة الخاتم والشمعة والمادة الحامية لهذه الصورة هي الجسم بعينه
ويراد بالصورة نفس الجسم المتصور وهذا الجسم المتصور ليس له مادة تحمله فإن الجسم القائم بنفسه لا يكون شائعا في الجسم قائما بنفسه لكن خلق من مادة كما خلق الإنسان من المني وهذه المادة لا تبقى مع وجود ما خلق منها بل تفنى وتعدم شيئا فشيئا وهذا هو العدم المشهود في الأعيان فإن الله تعالى كما ينشئ ما يخلقه شيئا فشيئا فينفي ما يعدمه شيئا فشيئا وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
وإذ كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان بل يستدل بذلك على وجود المحدث لله تعالى
وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال : ( بإثبات الأعراض أولا وإثبات حدوثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا ) وقد وافقهم عليها اكثر الأشعرية وغيرهم وهذه هي التي ذمها الأشعري وبين أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم وإنما سلكها من يخالفهم من الفلاسفة وأتباعهم المبتدعة كما تقدم وقد تقدم نقل كلامه في ذلك وهو المقصود وكلامه يقتضي أنها محرمة في الدين مبتدعة لا حاجة إليها لطول مقدماتها وغموضها وما فيها من النزاع
وهذا هو الذي قصدناه وهو أنه نقل اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة وأما بطلانها فذاك مقام آخر ليس في كلامه تعرض لذلك ولهذا كان ما سلكه هو من جنس هذه الطريق

كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام
قال الشهرستاني في مسألة حدوث العالم : ( وللمتكلمين طريقان في المسألة : أحدهما : إثبات حدوثه والثاني إبطال القول بالقدم أما الأول فقد سلك عامتهم طريق الإثبات بإثبات الأعراض ) - كما تقدم ذكره - قال : ( وأما الثاني فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال فقال : لو قدرنا قدم الجوهر لم يخل من أمور : إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمعا وبعضها مفترقا وبالجملة ليس يخلو من اجتماع وافتراق وجواز طريان الاجتماع والافتراق عليها أو تبدل بعضها ببعض وهي بذاتها لا تجتمع ولا تفترق لأن حكم الذات ل يتبدل فلا بد إذا من جامع فارق )
قال : ( وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني هذه الطريقة فكساها عبارة أخرى )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الطريقة : إنما أراد بها امتناع قدم جميع الجواهر فهي مبنية على إثبات الجوهر الفرد حتى يمكن أن يفرض إمكان اجتماع الجواهر وافتراقها وإلا فإذا قيل : إن من الأجسام ما هو واحد في نفسه أو كل جسم متشابه فهو واحد في نفسه أو قيل : إنه مركب من المادة والصورة - لم يلزم الافتراق فيما هو واحد في نفسه ولا يسلم المنازع إمكان افتراق كل جسم فيمنع قوله : ( لا يخلو من اجتماع وافتراق وجواز طريان الاجتماع والافتراق ) بل ويمكن مع هذا أن يقال : هي مركبة من الجواهر ويمنع قبول كل منهما للافتراق لكن يبنيه على أن الجواهر متماثلة فما جاز على أحدهما جاز على الآخر
ولا ريب أن تماثل الجواهر والأجسام : إن سلمه المنازع كان القول بحدوث الأجسام كلها ظاهرا فإن منها ما هو حادث قطعا فيكون جميعها قابلا للحدوث وما قبل الحدوث لم يكن بنفسه موجودا فلا بد له من صانع وهو الذي سماه جامعا فارقا
لكن هم يقولون : إن الحادث المعلوم حدوثه هو الأعراض وحينئذ فلا يكون في الجواهر ما يعلم حدوثه إلا بالدليل وإن أراد به امتناع قدم بعض الجواهر فهذا لا ينازعه فيه من يقول : إن الأعيان المحدثة جواهر وهم اكثر العقلاء فإنه من المعلوم بالاضطرار حدوث ما يشهد حدوثه من الحيوان والنبات والمعدن لكن من يقول بأن الأجسام مركبة من جواهر قد يقول : إن المحدث تأليف وتركيب وهي أعراض وأما جمهور العقلاء فيقولون : إن المحدث المشهود جواهر قائمة بأنفسها
فالمقصود أن من قال : الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة فهذه الحجة توجب أنه لا بد لذلك التركيب من مركب
وكلام الأشعري - الذي ذكره الشهرستاني - مبني على هذه الأصل ومن نازع في ذلك لم يفده شيئا
وإذا دلت هذه الحجة فإنما تدل على حدوث التركيب الذي هو عرض لا تدل على حدوث الجواهر إلا بالطريقة الأولى وهي إثبات حدوث التركيب وامتناع حوادث غير متناهية وهذه الطريقة تسلكها الكرامية ونحوهم ممن يقول : إن الله جسم قديم أزلي وإنه لم يزل ساكنا ثم تحرك لما خلق العالم ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة فهي تقبل الاجتماع والافتراق ولا تخلو من اجتماع وافتراق وهي أعراض حادثة لا تخلو منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق ولكنه لم يزل ساكنا والسكون عندهم أمر عدمي وهو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة وهؤلاء يقولون : إن الباري لم يزل خاليا من الحوادث حتى قامت به بخلاف الأجسام المركبة من الجواهر المفردة فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق

بقية كلام الشهرستاني
قال الشهرستاني : ( وربما سلك أبو الحسن طريقا في حدوث الإنسان بكونه من نطفة أمشاج وتقلبه في أطوار الخلقة وأكوار الفطرة وليس يشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل صفاته : لا الأبوان ولا الطبيعة فتعين احتياجه إلى صانع مدبر قال : وما ثبت من الأحكام لشخص واحد أو لجسم واحد ثبت في الكل لاشتراك الكل في الجسمية )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الطريقة هي المتقدمة التي ذكرها الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وهي مبنية على أنه أثبت حدوث الإنسان بما فيه من اختلاف الصور والهيئات ولهذا قال : إنه سلك طريقا في إثبات حدوث الإنسان فجعل حدوثه هو المدلول وجعل الدليل اختلاف الصور عليه وقد جعل الصورة الحادثة دليلا على حدوث المتصور ولا بد في هذه الطريقة من بيان امتناع حوادث لا أول لها فهذه الطريقة من جنس طريقة الأعراض لكنها أخص دليلا ومدلولا فإن الهيئات أخص ومدلولها إنما هو حدوث ما حدثت هيئته ودليل أولئك يعم ولكن الأشعري عدل عن طريقة غامضة إلى طريقة واضحة وهذه الطريقة هي التي يسميها الرازي وأمثاله : الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض القائمة بالأجسام فإنهم يقولون في الاستدلال على وجود الصانع ما قاله الرازي في ( نهاية العقول ) وغيره

كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما ذكره من ذلك في ( الأربعين )
وقال في النهاية : ( اعلم أن الاستدلال على ما يعلم بالضرورة إنما يكون بما يعلم بالضرورة والمعلوم بالضرورة : الأجسام والأعراض القائمة بها وكل منهما إما أن يعتبر إمكانه أو حدوثه فلا جرم كانت الأدلة الدالة على الصانع تعالى هذه المسالك الأربعة )
وذكر أن الأول هو الاستدلال بحدوث الأجسام لقيام الأعراض بها أو بعضها بها فهذه هي الطريقة المشهورة عند الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية ومن دخل في ذلك من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم
وهذه هي التي ذكر الأشعري أنها طريقة الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وذكر أنها مبتدعة مذمومة في الدين لم يسلكها السلف الصالح وذكر أنها خطرة مبتدعة وأنه لا حاجة إليها
قال الرازي : والثاني : ( الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع تعالى )
قال : ( وهذه عمدة الفلاسفة )
قلت : هذه طريقة ابن سينا ومن وافقه ليست طريقة قدماء الفلاسفة وهي مبنية على أصلهم الفاسد في التوحيد ونفي الصفات الذين بين الناس فساده وتناقضهم فيه وهو طريقة التركيب الذي يقولون : إن المتصف بالصفات مركب والمركب مفتقر إلى أجزائه قد تكلمنا عليها في مواضع
قال الرازي : ( والمسلك الثالث : الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو ممكنة قديمة أو حادثة )
قلت : وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام وقد بين الناس فساد هذه الحجة وبين الرازي نفسه فسادها بل وجمهور العقلاء على فسادها وقد بين ذلك في موضع آخر على وجه لا يبقي في القلب شبهة
قال الرازي : ( والمسلك الرابع : الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها بشر مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء أنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليها فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة ههنا ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات فكذلك يقول في حدوث الصفات )
قال : ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي ان لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك )
قلت : قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح لكن الرازي قصر فيه من وجهين : أحدهما : أنه لا يستدل بنفس الحدوث بل يجعل الحدوث دليلا على إمكان الحادث ثم يقول : والممكن لا بد له من مرجح وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث فجعل القديم الأزلي ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا
وابن سينا وأتباعه يوافقن الناس على ذلك لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول المطالب العالية وأول الأربعين وبينا فساد ذلك وأنه على هذا التقدير لا ينفي لهم دليل على إثبات واجب الوجود
الوجه الثاني : إنه جعل ذلك استدلالا بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها وحركتها وسكونها وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم أو حدوث غير ذلك من الأعراض فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض
وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله فجعلوا الصور كلها جواهر كما جعل أولئك الصور كلها أعراضا وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات : كالخاتم والدرهم والسيف والسرير والبيت والثور ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه فوجدوها مركبة من مادة كالفضة ويسمونها أيضا الهيولى والهيولى في لغتهم معناه المحل وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل ومن صورة وهي الشكل الخاص وهذا نظر صحيح
ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك وأن النار والهواء والتراب لها أيضا مادة هي هيولاها ومنهم من قال : جميع الأجسام لها مادة مشتركة هي هيولاها وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب صناعية وطباعية وكلية وتنازعوا : هل تنفرد المادة الكلية عن الصور فتكون الهيولى مجردة عن الصور ؟ على قولين :
وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطون وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو
والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل
والذين قالوا : إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة - أخطأوا والذين قالوا : إن جميع الصور جواهر أخطأوا بل الصورة قد تكون عرضا كالشكل والصور الصناعية من هذا الباب
وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه ليس قائما بجوهر آخر
والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضا والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن
ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين : أحدهما : أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان كما جعله الرازي وغيره
لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع فكان دليلا صحيحا في نفسه وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان
الثاني : ما ذكره الأشعري حيث أنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام
وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء بل يبينون فسادها بصريح المعقول فهي من جنس طريقة المعتزلة
لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة الكثيرة المقدمات الغامضة التي يقع فيه نزاع فإذا كانت الطريقتان مشتركتان في البناء على امتناع حوادث لا أول لها وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك فكانت هذه أقرب وأيسر فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة من جنس بحوثه معهم في غير ذلك من أصولهم فإنه يبين تناقضهم ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم ولكن سلم لهم أصولا وافقهم عليها مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم ومن المعتزلة والفلاسفة وغيرهم : أن هذا مناقضة مخالفة لصريح المعقول
ولهذا قال من قال : بقيت عليه بقية من الاعتزال وقالوا : إنه وافقهم على بعض أصولهم التي بنوا عليها قولهم كهذا الأصل

كلام أبي نصر السجزي في الإبانة
وهذا ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال : حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذ خلف المعلم كان من فقهاء المالكيين قال : أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول )
قال أبو نصر : ( وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره )

تعليق ابن تيمية
قلت : ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة كمسألة الرؤية والقرآن والصفات ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع فإن هذا أصل أصولهم كما قد بينا كلام أبي الحسين البصيري وغيره في ذلك وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامهم في أصول الدين هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه وجاء كثير من أتباع المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة - حقها من اللوازم فوافقوا المعتزلة على موجبها وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه فنفوا الصفات الخبرية ونفوا العلو وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة وقالوا : ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى وإنما خلافهم مع المجسمة وكذلك قالوا في القرآن : إن القرآن الذي قالت به المعتزلة : إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم
والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية وصارت المعتزلة والفلاسفة - مع جمهور العقلاء يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل ومكابرتهم للضروريات
وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأقوال التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صحيح المعقول من قول المعتزلة كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك فإنه كما إن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية
ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل الكتاب وهؤلاء أهل أوثان فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب على من كان عنه أبعد وأيضا فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقا
مثال ذلك : أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية وقالت لهم المعتزلة : رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل أمكن الأشعرية - ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة كطائفة من أصحاب أحمد وغير هم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم - الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة بل المتواترة عن النبي صلى الله عليه و سلم وبإجماع السلف من أهل العصر الأول ويمكن تقريرها أيضا بالعقل كما بيناه في غير هذا الموضع فلا يخلو من ذلك : إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة وإما أن لا يمكن فإن أمكن ذلك انقطعت المعتزلة وإن لم يمكن كانوا بين أمرين : إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو المتضمن معنى المقابلة والمواجهة
وهذا أولى بأتباع الأشعري لأنه قول أئمة مذهبهم كابن كلاب وغيره بل وقول الأشعري أيضا وغيره من قدماء الأصحاب
فإن قال له المعتزلي : إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزا وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك - أمكن الأشعري أن يقول له : إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان مكنا انقطع المعتزلي وإن لم يكن ممكنا قال له : أنا وافقتك على نفي التحيز لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز هو محدث لما اتفقنا عليه من التحيز لا بد أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة فيصح عليه الاجتماع والافتراق ويصح عليه الحركة والسكون وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء وما كان مستلزما لما له انتهاء كان له ابتداء فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع
فيقول الأشعري : هذا الدليل إن كان صحيحا ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضا صحيح أمكن أن أقول بموجب ذلك وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة مع موافقتي للكتاب والسنة أولى من موافقتك على هذه المقدمة وهي امتناع وجود ما لا يتناهى فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان فللفلاسفة فيها قولان وللمعتزلة فيها قولان وللأشعرية فيها قولان ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان
وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة ولكن منهم من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي
والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها
ويقول له : وقد علمت بالاضطرار أن تصديق السلف للرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن مبنيا عليها فلا يكون العلم بصدق الرسول موقوفا عليها ولا علمي أيضا بصدق الرسول موقوفا عليها ولا معرفتي للصانع تعالى موقوفة عليها
وليست هذه الطرق وأمثالها هي الطرق العقلية التي دل القرآن عليها وأرشد عليها فإن تلك الطرق صحيحة عقلية لا يمكن عاقلا أن ينازع فيها فإن حدوث المحدثات مشهود معلوم الحس وافتقار المحدث إلى محدث معلوم بضرورة العقل بل العقل الصريح يعلم العقل افتقار كل ما يعلم حدوثه إلى محدث كما يعلم افتقار جنس المحدثات إلى محدث فتعلم الأعيان الجزئية الموجودة في الخارج كما تعلم القضية الكلية الشاملة لها إلى سائر نافي هذا الباب من الآيات الدالة على معرفة الصانع سبحانه كما قد بسط في موضعه
وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه و سلم ليس موقوفا على شيء من المقدمات المناقضة لإثبات الصفات الخبرية والرؤية والعلو على العرش ونحو ذلك مما دل عليه السمع وهو المطلوب

فصل
ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع التي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم قد طعن فيها جمهور العقلاء فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وذموا أهل الكلام بها كذلك طعن في حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها وإن كان أولئك المعتزلة و الأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر

كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام
فأما ذم السلف والأئمة لهذا الكلام فمشهور كثير وقد قال أبو القاسم بن عساكر في كتابه المعروف ب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الأشعري : فإن قيل : ( غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه متكلم وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى وأنتم تنتسبون إلى مذاهبه فهلا اقتديتم في ذلك به )
ثم روى ابن عساكر بإسناده عن الفريابي حدثني بشر ابن الوليد سمعت أبا يوسف يقول : من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غريب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس قال البيهقي وروي هذا أيضا عن مالك بن أنس وقال : قال البيهقي : وإنما يريد - والله أعلم - بالكلام كلام أهل البدع فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد )
قال ابن عساكر : ( وأما قول الشافعي : فأخبرنا فلان - وذكر من كتاب مناقب الشافعي لـ عبد الرحمن بن أبي حاتم : ثنا يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : لأن يبتلي المرء بكل ما نهى الله عنه - سوى الشرك - خير له من الكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك قال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن أصرم المزني قال : قال أبو ثور : سمعت الشافعي يقول : ما تردى أحد بالكلام فأفلح
وقال ابن أبي حاتم : ثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال : إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا )
وروي أيضا ( عن ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد )
قال ابن عساكر : ( فإنما عنى الشافعي الكلام البدعي المخالف عند اعتباره للدليل الشرعي )
قال : ( وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع أنه أراد بالنهي عن الكلام قوما تكلموا في القدر ولذلك حكم بالتبديع ويدل عليه ما أخبرنا فلان ) وروى بإسناده ( عن محمد بن إسحاق بن خزيمة : سمعت يونس بن عبد الأعلى : يقول : جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد فقال : غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام )
قال : ( فالشافعي إنما عنى بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله )

تعليق ابن تيمية
قلت : حفص الفرد لم يكن من القدرية وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو الكوفي وهو من المثبتين للقدر لكنه من نفاة الصفات وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية

كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية
وقد ذكر الأشعري في ( المقالات ) فقال : ( ذكر الضرارية - أصحاب ضرار بن عمرو - : والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله : إن أعمال العباد مخلوقة وإن فعلا واحدا لفاعلين أحدهما خلقه وهو الله والآخر اكتسبه وهو العبد وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة وهم فاعلون لها في الحقيقة وكان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وأنها بعض المستطيع وأن الإنسان أعراض مجتمعة وكذلك الجسم أعراض مجتمعة وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما وكان يزعم أن كل ما تولد عن فعله كالألم الحادث عن الضربة وذهاب الحجر الحادث عن الدفعة فعل لله - سبحانه - وللإنسان وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر : أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه )
وقال : ( وكان يزعم أن الله يخلق حاسة سادسة يوم القيامة للمؤمنين يرون بها ماهيته - أي ماهو - )
قال : ( وقد تابع على ذلك حفص الفرد وغيره )
فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائر أهل السنة
وأعدل من قول الأشعري حيث جعل العبد فاعلا حقيقة وأثبت استطاعتين ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث كما هو مذكور في موضعه

عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن عساكر : ( فأما الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء )
وروي عن ابن خزيمة : ( سمعت الربيع يقول : لم كلم الشافعي حفصا الفرد فقال حفص : القرآن مخلوق قال له الشافعي : كفرت بالله العظيم )
وعن الربيع : ( قال : حضرت الشافعي - أو حدثني أبو شعيب - ألا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال : ما تقول في القرآن ؟ فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه فكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي واحتج عليه فطالت فيه المناظرة فقال الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصا الفرد قال الربيع : فلقيت حفصا في المسجد بعد فقال : أراد الشافعي قتلى )
وروي عن الشافعي : ( قال : ماناظرت أحدا أحببت أن يخطىء إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمره للناس )
( قال البيهقي إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده )
( وروى البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود قال : دخل حفص الفرد على الشافعي فقال لنا : لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل و أصحابه وكان يقول بخلق القرآن )
قلت : حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم فإن القرآن كلام والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال لا يقوم إلا بجسم والجسم محدث فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا لم تكن مناظرته له في القدر ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن : هل هو مخلوق أم لا ؟
وأهل المقالات متفقون على أن حفصا لم يكن من نفاة القدر بل من مثبته وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية فقال : ( وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية ألا تراه قال : بشيء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : [ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ] - الحديث أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا : نترك القول بالأخبار أصلا وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم فقال جماعة من أئمتنا بهذا العلم وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما في ترك أنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة وكانوا لا يتسمون بتسميتهم )
قال : ( وإنما يعني - والله أعلم - بقوله : من ارتدى بالكلام لم يفلح كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب عليها وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها )
قال : ( فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل )
إلى أن قال البيهقي : ( وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة ويبين بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم )
قال : ( وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس استاذ الشافعي بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء )
وروي من تاريخ يعقوب بن سفيان عن ابن وهب : ( قال : قال مالك : كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به وكان قليل الكلام قليل الفتيا شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه يغير ما أفتاه
قال : وكان بصيرا بالكلام وكان يرد على أهل الأهواء وكان من علم الناس بما اختلفت فيه الناس من هذه الأهواء
وروى ابن عساكر من طريق البيهقي عن الحاكم : سمعت أبا بكر بن عبدالله يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ سمعت الحسين بن الفضيل البجلي يقول : دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه فأجاب إلى ما سأله وكان أول ما قال لي علي تكتب عن المرتدين ؟ فقلت : معاذ الله ما أنت بمرتد وقد قال الله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها فقال : أشدها علينا : أن قال لنا : ما تقولون في عيسى صلى الله عليه و سلم ؟ قلنا : من عيسى يا أمير المؤمنين ؟ قال : عيسى بن مريم قلنا : رسول الله قال : وكلمته ؟ قلنا : نعم قال : فما تقولون فيمن قال : ليس عيسى كلمة الله ؟ قلنا : كافر يا أمير المؤمنين قال : فقال لنا : أليس عيسى كلمة الله ؟ قلنا : بلى قال : أفمخلوق أم غير مخلوق ؟ قلنا : مخلوق قال فمن زعم أنه غير مخلوق ؟ قلنا : كافر يا أمير المؤمنين قال : فما تقولون في القرآن ؟ قلنا : كلام الله عز و جل قال : مخلوق أو غير مخلوق ؟ قلنا : غير مخلوق قال : فمن زعم أنه مخلوق ؟ قلنا : كافر قال فمن زعم ؟ أن عيسى غير مخلوق وهو كلمة الله ؟ قلنا : كافر قال : يا سبحان الله : عيسى كلمة الله ومن نفى الخلق عنه كافر ! والقرآن كلمة الله ومن يثبت الخلق عليه كافر ! قال الحسين : فأعلمته ما يجب من القول وقلت له : قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم : إني أعلم من هذا الباب مالا تعلمون فتعلموا ذلك مني فتحملكم الرياسة على ترك ذلك ويقول لكم : يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة فتأبون ذلك والحجة في هذا الباب كيت وكيت
فقال : والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون وأن ثلث روايتي ساقطة عني ثم نظر إلى يحيى بن معين وهو معه فقال له : وأنا أقول كما تقول فقال لي زهير : فعلم ابني فإنه حدث فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك ثم انصرفت قال الحاكم : الحسين بن الفضل البجلي صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام ه )
قلت : هذه الحكاية وقع فيها تغيير أن كان أصلها صحيحا فإن زهير بن حرب و يحيى بن معين ونحوهما ممن امتحن في زمن المحنة لم يجتمعوا بالمأمون ولا ناظرهم بل ذهب إلى الثغر بطرسوس وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن أبراهيم ين مصعب أن يمتحن الناس فامتنعوا من الإجابة فكتب إليه كتابا ثانيا يغلظ فيه ويأمر بقتل القاضيين : بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء فامتنع من الإجابة سبعة منهم : زهير بن حرب وبقي أحمد بن حنبل و محمد بن نوح لم يجيبا فحملا إليه مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه
وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك لم يختلفوا في ذلك فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب فلعل ذلك كان من غير المأمون ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل وكان ذلك في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها : من الجهمية والمعتزلة والنجارية : مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع
وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها في كتبه فيما الرد على الجهمية وهو في الحبس قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة ك أحمد بن حنبل وأمثاله

كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن
قال أحمد فيما كتبه : ( ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر فقال : أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق فقلنا : أي آية ؟ قال : قول الله عز و جل : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } وعيسى مخلوق فقلنا : إن الله منعك الفهم في القرآن : إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأنه يسمى مولودا رضيعا وطفلا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له ( كن ) فكان عيسى صلى الله عليه و سلم بكن فعيسى ليس هو الكن ولكن بالكن كان فالكن من الله قول وليس الكن مخلوقا
وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا : عيسى روح الله وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة وقالت النصارى : عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال : إن هذه الخرقة من هذا الثوب قلنا نحن : إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة وأما قول الله تعالى : { روح منه } يقول : من أمره كان الروح فيه كقوله : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } يقول : من أمره وتفسيره روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله كما يقال : عبد الله وسماء الله وأرض الله )
فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة والنصارى الحلولية ضلوا في هذا الموضع فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا : هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب ونحو ذلك من نفيهم والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق فيصفونه لصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله كما فعلت النصارى في المسيح ومن جمع بين النفي والحلول كحلولية الجهمية : مثل صاحب الفصوص وغيره قالوا : ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له كما أن صفات المخلوق حق الله )
فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق ويصفون الخالق بكل ما يوصف به المخلوق فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك
ولفظ ( الكلام ) مثل لفظ : الرحمة والأمر والقدرة ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيرا كما يقولون : درهم ضرب الأمير
ومنه قوله تعالى : { هذا خلق الله } : أي مخلوقه ؟ فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر كقوله : { أفعصيت أمري } { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } { ذلك أمر الله أنزله إليكم }
ويراد به المأمور به كقوله تعالى : { وكان أمر الله قدرا مقدورا } { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } فالأول هو كلام الله وصفاته والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه
وكذلك لفظ ( الرحمة ) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه : الرحمن الرحيم كقوله تعالى : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } ويراد بها ما يرحم به عباده من المخلوقات كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ]
وقوله [ عن الله تعالى : يقول للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ]
وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة كقوله تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وقوله : { يريدون أن يبدلوا كلام الله }
ويراد به ما فعل بالكلمة كالمسيح الذي قال له ( كن ) فكان فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في الآدميين فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين كما خلق آدم وحواء أيضا على غير الوجه المعتاد فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين
وفي هذا الباب باب المضافات إلى الله تعالى ضلت طائفتان : طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك كإضافة البيت والناقة إليه وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم حتى ابن عقيل و ابن الجوزي وأمثالهما إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك وقالوا : هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى ب نفي التشبيه وإثبات التنزيه وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة
وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة ويقولون بقدم الروح فمنهم من يقول بقدم روح العبد لقوله : { ونفخت فيه من روحي } وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى
ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كطائفة من أهل طبرستان وجيلان وأتباع الشيخ عدي وغيره
وطائفة ثالثة تقف في روح العبد : هل هي مخلوقة أم لا ؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية كالوجه واليد والروح وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين وهؤلاء الطائفتان أيضا يضلون في المضاف بمن فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف كقوله تعالى : { ولكن حق القول مني } وقوله تعالى : { وروح منه } فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه ثم يقةل النفاة : والروح مخلوقة بائنة عنه فالقول مخلوق بائن عنه ويقول الحلولية : القول صفة له ليس لمخلوق فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة
والفرق بين البابين : أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره
فقوله تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } وقوله في عيسى : { وروح منه } وقوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين : أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم : سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله
والوجه الثاني : أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به كما خص البيت العتيق بعباجة فيه لا تكون في غيره وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات وأن تصان عن المباحات التي لم متشرع فيها فضلا عن المكروهات وكما يقال عن مال الفيء والخمس : هو مال الله ورسوله
ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته
وكذلك كلماته نوعان : كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات وهي الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يستعيذ بها في قوله : [ أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ] فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها كما عصاها إبليس ومن اتبعه
والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئا إضافة تخصيص إلا لإختصاصه بأمر ويوجب الإضافة وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يجب أن يخص بالإضافة
ويهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به كقولهم : بقدرته أو بنعمته أو أن المعنى : خلقته أنا أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه مالا يثبت لهؤلاء
وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك لوجهين : أحدهما : أنه صفة والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق الثاني : أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلام فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاما له ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه كما فعل ذلك حلولية الجهمية كابن عربي وغيره حيث قالوا :
( وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه )
ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لا ختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه كما أضاف إليه البيت والناقة بقوله تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والقائمين } وقوله : { ناقة الله وسقياها } لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فإنما حدث بكلام الله تعالى
والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] هل المراد بها : الكلمة التي شرعها الله وهي عقد النكاح ؟ أو المراد كلمة التي تكلم بها وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك ؟
والصواب أن المراد بقوله : كلمة الله كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه لا العقد الذي هو كلام العباد ومن قال إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجون متعددة قد بسطناها في غير هذا الموضع وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به وقدر أنه حصل نزاع في قوله : { وكلمة الله هي العليا } هل المراد : الكلمة التي يحبها ويأمر بها ؟ أو الكلمة التي تكلم بها وهي نفس أمره وخبره ؟
وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم : [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ] فمن قال : المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم له أطردت الإضافة على قوله ولو قدر أن قائلا قال : أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب ولا يكون لله عز و جل في نفسه كلام إلاما تكلم به الخلق وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده
ثم قول القائل : الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وامرا غير المأمور به وكلاما هو نهي غير المنهي عنه وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه
وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذا المواضع وإلا فالصواب في قوله صلى الله عليه و سلم : [ واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] أنها كلمته التي تكلم بها
وكذلك قوله تعالى : { وكلمة الله هي العليا }
هي كلمته التي تكلم بها وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل وقد تمت كلماته صدقا وعدلا
فالكلام له نسبة إلى المتكلم به وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه وهو المأمور به والمخبر عنه فكلام الله الذي تكلم به يشبرك كله في كونه تكلم به
ثم ما أخبر به عن نفسه مثل قوله تعالى : { قل هو الله أحد } وآية الكرسي وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه وذكر فيه أحوالهم كقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم
وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون : إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه بناء على أنه قديم والقديم لا يتفاضل
ويتأولون قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } أي خير لكم وأنفع والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة : إن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل على ذلك الشرع والعقل
ففي الحديث الثابت [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلى : لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ] ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه ليس في القرآن لها مثل فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله
وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب : أتدري أي آية في كتاب الله أعظم : فقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب بيده في صدري وقال : ليهنك العلم أبا المنذر فبين أنه هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات
وقد ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن : { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن
وذلك أن القرآن : إما خبر وإما إنشاء والخبر : إما خبر عن الخالق وإما عن المخلوق فثلثه قصص وثلثه أمر وثلثه توحيد فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار
وأيضا فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه فإن كلامه الذي وصف به نفسه وأمر فيه بالتوحيد أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه وأمر فيه بما هو دون التوحيد
وأيضا فإذا كان بعض الكلام خيرا للعباد وأنفع لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه لا يكون ثواب أحدهما أكثر ولا نفعه أعظم
والمقصود هنا شيئان : أحدهما : أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي و ابن عساكر وغيرهما - وقد عرفعوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع وقالوا : إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم قام جماعة من أئمتنا وبينا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يسمون تسميتهم وإنما يعني بقوله ( من ارتدى بالكلام لم يفلح ) كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل
قلت : وهذا اتفاق من علماء الأشعرية مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف على أن الكلام المذموم عند السلف : كلام من يترك الكتاب والسنة ويعول في الأصول على عقله فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله ؟ ! وهذا هو الذي قصدنا إبطاله وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك
وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة فإن المعتزلة لا تقول : إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون : إنها تفيد اليقين ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء
الثاني : أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به فإن المعتزلة يقولون : الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال وهي حادثة فكان يكون محلا للحوادث وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم
وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر فإن حفصا لا ينكره وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال المبني على دليل الأعراض
وهكذا كلام الإمام أحمد - وغيره من الأئمة - في ذم الكلام كان متناولا لكلام الجهمية وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم فإن مناظرته للجهمية ورده عليهم أشهر وأكثر من أن يذكر هنا وكان من المناظرين له أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وهو على قول حسين النجار - والنجار من المثبتة للقدر - وكذلك كانوا يذمون المريسي وغيره من المثبتين للقدر فتبين أن كلامهم في ذم أهل الكلام لم يكن لأجل إنكار القدر بل كان ذمهم للجهمية أعظم من ذمهم للقدرية

كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية
قال الأشعري في المقالات : ( ذكر قول الحسين بن محمد النجار : كان هو وأصحابه يقولون : إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وهم فاعلون لها وإنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريده وأن الله لم يزل مريدا أن يكون في وقته ماعلم أنه يكون في وقته مريدا أن لا يكون ما علم أنه لا يكون وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم الفعل وأن العون من الله يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة فإن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث وإن الاستطاعة لا تبقى وأن في وجودها وجود الفعل وفي عدمها عدم الفعل )
وذكر سائر قوله في القدر من جنس قول الأشعري وأصحابه ( وأن الإنسان لا يفعل في غيره وأنه لا يفعل الأفعال إلا في نفسه كنحو الحركات والسكون والإرادات والعلوم والكفر والإيمان وإن الإنسان لا يفعل ألما ولا إدراكا ولا رؤية ولا يفعل شيئا على طريق التولد )
قال : ( وكان برغوث يميل إلى قوله )
قال : ( وكان يزعم أن الله لم يزل جوادا بنفي البخل عنه ولم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام وأنه كلام الله محدث مخلوق وكان يقول في التوحيد يقول المعتزلة إلا في باب الإرادة والجود وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء وكان يزعم أن جائز أن يحول الله العين إلى القلب ويجعل في العين قوة القلب فيرى الله الإنسان بعينه : أي يعلمه بها وكان ينكر الرؤية لله بالأبصار على غير هذا الوجه )
قلت : فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي و أحمد وغيرهما من الأئمة ليس فيه إنكار للقدر بل فيه إثبات له وإنما ذمومهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه مع أن قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلو ويثبت الرؤية من الأشعرية ونحوهم وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها وهي دليل الأعراض والتركيب والأختصاص

كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله
ومما يبين ذلك ما ذكره الشيخ أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في الغنية عن الكلام وأهله قال فيها : ( وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويزداد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك : أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد المقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها فرأيت إسعافك لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين فإن الدين النصيحة )
[ واستشهد بقول النبي صلى الله عليه و سلم : الدين النصحية الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ]
قال : ( واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ]
قال : ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة وأنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوا بيقين علم )
قال : ( ولما رأوا كتاب الله ينطق يخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولسنته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالتزيد ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سكلوا سبيل القصد ووقفوا عند ما أنتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )

تعليق ابن تيمية
فهذا الذي وصفه الشيخ أبو سليمان الخطابي هو حال أهل الكلام الذين يعارضون الكتاب والسنة بعقلهم فيتأولون الكتاب على غير تأويله ويردون الحديث بما يمكنهم مثل زعمهم أنه خبر واحد وأن كان من المستفيضات المتلقاة بالقبول ومثل غير ذلك من وجوه الرد لأن الأصول التي بنوا عليها دينهم تناقض منصوص الكتاب والسنة كطريقة الأعرض والتركيب والاختصاص ونحو ذلك مما تقدم
وهم فيها خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص في حيرة وشبهة وشك من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات أقدامهم كان في حيرة وشك ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء فهو يدع تقليد النبي المعصوم وإجماع المؤمنين المعصوم ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة الذين هم في شك وحيرة ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو : إما حائر شاك وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة وعقائد غير مطابقة وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية وأدلة يقينية فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها ويبينون أنها شبهات فاسدة وحجج عن الحق حائدة
وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء بخلاف أتباع الرسول صلى الله عليه و سلم المتبعين له فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول هو الموافق لصريح المعقول وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض
قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
فهؤلاء مثل نور الله في قلوبهم : { كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } : نور الإيمان ونور القرآن نور صريح المعقول ونور صحيح المنقول
كما قال بعض السلف : يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نورا على نور
وقال لغير واحد من الصحابة - كجندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر : - تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا
قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }
وأما أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فهم : إما في الجهل البسيط وإما في الجهل المركب كالكفار فالأولون : { كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
والآخرون : { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }
فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعلموا والذي معهم ليس لعلم بل جهل

عود لكلام الخطابي في الغنية
قال أبو سليمان الخطابي : ( واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هاهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم - حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا بهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان )

تعليق ابن تيمية
قلت : هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولا وأكثر فهموما وأحد أذهانا وألطف إدراكا كما قال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن : [ خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]
وأعظم الفضائل فضيلة العلم والأيمان فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزا عنها بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز : على كشف الأمور أقوى وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى
وقول الخطابي : ( تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها ) فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة فأضربوا عنها كما يضرب عن الكذب والقول الباطل وإن كان مزخرفا مزينا ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد ويردوا البدعة بالبدعة وأما الكلام الذي لا يدري أصدق هو أم كذب فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه فهذا قد يعرض عنه خوفا أن يكون باطلا وكذبا فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال
ولا ريب أن كثيرا من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل فينهى عن القول بما لا يعلم وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل خوفا من أن يزل ذهنه فيضل ولا يمكن هداه فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله أو لا يعلم حال سالكه وإن كان حقا وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك
وقوله : ( وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته )
فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين لا أهل جهل وتقليد وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية بهدى الله لهم وشرح صدورهم كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النطر الذي أحدثه أهل الكلام فضلا عن الكلام المخالف للنصوص
وقوله : ( ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنى ومندوحة عما سواهما )
فهذا لأن الكتاب - والسنة - قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة التي هي مقاييس برهانية ما هو أكمل في تحصيل العلم واليقين مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة
وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبرا كما يظنه بعضهم بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل من الأدلة والبراهين وأسباب العلم واليقين كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع
وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين بالكلام المبتدع المستلزم مخالفة النصوص - فهو كما قال وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور والعلم - والإيمان - يتضمن التصديق بالتنزيل وما دل عليه من التأويل وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله
فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم فيما خالفوا فيه المسلمين رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل لا قطعوا بها عدوا الدين ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص
وكذلك من ناطرهم من الكلابية وغيرهم فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك بنوا كثيرا من الرد عليهم على أصول فاسدة : إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد ومسائل الأسماء والأحكام فإن أولئك كذبوا بالقدر وأوجبوا إنفاذ الوعيد وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح وهؤلاء ابطلوا حكمة الله تعالى وحقيقة رحمته وعدله وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه ووعده ووعيده وتوقفوا في بعض أمره ونهيه ووعده ووعيده فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته وببعض أمره ونهيه ووعده ووعيده كما قد بسط في موضعه
فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان بل الحق أنهم لا يوافقون على باطل ولا يقابل باطلهم بباطل
وهذا كما أصاب كثيرا من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر أعرضوا عن السماع الشرعي والزهد الشرعي والسلوك الشرعي فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي وزهد بدعي وسلوك بدعي يوافق فيه بعضهم بعضا في باطل أو يقابل باطلهم بباطل آخر وكما أصاب كثيرا من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم فيعاونونهم على الإثم والعدوان وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر فيخرجون عليهم ويقاتلونهم بالسيف وهو قتال الفتنة فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم مثل ما كان بعض أهل الشام ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم وتارة يدفع الظلم بالظلم مثل حال كثير من أهل العراق
وكثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة : إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلا ولا يدفع بباطل أصلا فيلزم المؤمن الحق وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه و سلم ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه : لا موافقة لمن قاله ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلا وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك وإن كان لا يظهر ذلك في بادي الرأي

بقية كلام الخطابي في الغنية
قال أبو سليمان : ( فإن قال هؤلاء القوم : فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها ؟ )
قال أبو سليمان : ( قلنا : إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز و جل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها )

تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة
و الخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك وهذا كما ذكره الأشعري وغيره ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة وإنما ذموها لكونها بدعة أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها قد يقول ببعض موجباتها كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله ما يوافق موجبها وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم كما هو مذكور في غير هذا الموضع وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم
وأما قوله : ( إنهم أخذوا هذه الطريقة من الفلاسفة ) كما ذكر ذلك الأشعري
فيقال : كثير من الفلاسفة يبطل هذه الطريقة كأرسطو وأتباعه فلم يوجد عنهم ومن الفلاسفة من يقول بها والذين قالوا بها من أهل الكلام ليس كلهم أخذها عن الفلاسفة بل قد تتشابه القلوب
كما قال تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم }
وقال تعالى : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون }
وأكثر المتكلمين السالكين لها مناقضون للقول المشهور عن الفلاسفة لا موافقون لهم بل يردون على أرسطو وأصحابه في المنطق والطبيعيات والألهيات

تابع كلام الخطابي في الغنية
قال الخطابي : ( وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمد صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وقال له : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }
وقال صلى الله عليه و سلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه : [ ألا هل بلغت ]
وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمور الدين : قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله - إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة : أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل )
قال الخطابي : ( وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه :
أحدهما : ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه : إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرهم طبعا وتركيبا ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجود تصديقه وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهودة عنه الخارجة عن سوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصا في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها هي مشهورة ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن )
قال الخطابي : ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز و جل وأمر صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } : إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على جود الصانع الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن
وكقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت }
وكقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل الذي بان حقه وعن قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي قد ظهر صدقه ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيها العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه بها الحجة فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالتها )

تعليق ابن تيمية
قلت : ذكر الخطابي طريقين إلى معرفة الله وصفاته : طريقا سمعية وطريقا عقلية وكلاهما طريق شرعية معروفة بالقرآن أما الأولى : فهو أن تعلم نبوة النبي صلى الله عليه و سلم بما أظهره الله على يديه من المعجزات وبغير ذلك ثم يعرفون بذلك ما أخبرهم به ودعاهم إليه من التوحيد وإثبات الصفات وهذا لأن نفس الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري أو معلوم بأدنى نظر وتأمل يحصل لعموم الخلق
ثم معرفة صدق الرسول صلى الله عليه و سلم تعلم بما أظهره من المعجزات الدالة على صدق الرسول وقد نبه الخطابي أن فيما جاء به الرسول من بيان الطرق العقلية التي يعرف بها ثبوت الخالق وتوحيده وصفاته فإن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن تعريفه للناس ما عرفهم إياه بمجرد خبره وإن كان ذلك بعد ثبوت صدقه كما يظنه كثير من أهل الكلام بل عرفهم ما به يعرف ثبوت الخالق ووحدانيته وصفاته وما به يعرف صدقه فبين ما جاء به من أصول الدين وأدلته العقلية التي يعلم بها ما يمكن معرفته بالعقل وأخبرهم عن الغيب الذي لا يمكنهم معرفته بمجرد عقلهم
ولهذا قال الخطابي : ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أنه لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة )
قال : ( وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
إلى قوله : ( وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يذكرها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الأمور ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب إلى آخر كلامه )

كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة
وهذا مما اعترف به النظار من جميع الطوائف : من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم كما قال القاضي عبد الجبار في أول كتابه المصنف في تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم قال : ( الحمد لله الذي من على عباده بإرسال رسله وختمم بسيدهم محمد صلى الله عليه و سلم فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإنما يعرف الرسول من عرف المرسل وقد حصل لك العلم به تبارك وتعالى بما في كتاب المصباح وغيره وأجلها وأعظمها وأوضحها وأبينها ما في القرآن مما نبه الله عليه وجعله في عقول العقلاء فينبغي أن يراعيه ويديم النظر فيه ويواصل الفكر في آيات الله ويعتبر بالنقل والاعتبار تنال المعرفة )
وكذلك قال الأشعري في كتابه المشهور المعروف باللمع لما ذكر خلق الإنسان واستدل به على الخالق تعالى كما قد حكينا كلامه وذكرنا كلامه وكلام القاضي أبي بكر عليه وأن كلامه أجود مع أنه جعل الإنسان مما يستدل على خلق جواهره بأنها لا تخلو من الحوادث بناء على أن الحدوث المشهود إنما هو حدوث الأعراض كالتأليف والتركيب وهو المراد بالخلق بناء على ثبوت الجوهر الفرد
وهذا وإن كان ضعيفا وأكثر علماء المسلمين ينازعون في هذا

كلام الباقلاني شرح اللمع
فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق قال القاضي أبو بكر : ( ثم قال أبو الحسن مؤيدا لما ذكره من حدوث الإنسان وحدوث تصويره وتعلقه بخالق خلقه ومدبر دبره : وقد قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له يكون قال : وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم )
قال القاضي أبو بكر : ( واعملوا أن الغرض بذكر الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه وأن يجمع لأهل التوحيد المقربن بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقا إلى العلم بصانعها المدبر بها والخالق لأعيانها )
قال : ( وأما وجه التنبيه من قوله : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فهو أن من سبيل الخالق المنشىء أن يكون ماخلقه واقعا بقصده وإرادته وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إجاد عينه إن كان مخترعا له أو على تصويره وتخطيطه إن كان الخلق تصويرا وتقديرا )
قال : ( وإذا ثبتت هذه الجملة وعلمنا أن وجود الولد بنيته وهيئته وليس بمقصور على إرادة الوالد ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه - ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة ولا على جهة التولد عن حركاته )
قال : ( وأما وجه التنبيه من قوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم وتنقلهم من حال إلى حال ومن تركيب إلى تركيب وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف وخلق الحواس ومواضعها وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه : من اليد للبطش والرجل للمشي وغير ذلك من جوارحهم ومايتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن ويزول عنهم من الأمور الني يؤثرون استدامتها مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله ومغير غيره وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب وحال إلى حال : أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه وأجدر أن يتحقق علم ما فيه وإن كان لو أفرد بعقله وأحيل على صحيح نظره لقال بما نبه السمع على مواضعه وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق )
قال : ( فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل )
وذكر في التوحيد والمعاد نحوا من ذلك بخلاف نفي التشبيه فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر
وأما ما ذكره هو وغيره : من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمحجزات ابتداء فهذا يكون على وجهين :
أحدهما : أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات
الثاني : أن يقال : نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله كما كان إظهار موسى للآيات : مثل العصا واليد دليلا على الصانع وعلى صدق الرسول
ولهذا لما قال له فرعون : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } قال له موسى : { قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات العلم بالصانع ولصدق الرسول والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية
فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار وقالوا : إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية مع أن الخطابي أردا - والله أعلم - بعلم التوحيد : علم صفات الرب سبحانه وأسمائه فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد وذلك مما يمكن معرفته بالشرع فإنه يعلم بالفطرة وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع
وأيضا فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودة عند الأنبياء عليهم السلام فإنهم الصادقون المصدقون فيما يخبرون به من ذلك وأن الواجب تلقي ذلك عنهم - كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما به يعلم أنه رسول وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا المطلوب كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين فإذا عرف أن هذا طبيب أو مفت أو مقوم رجع إليه في ذلك
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق النبي صلى الله عليه و سلم له طرق متعددة فمن ادعى من المتكلمين : المعتزلة والجهمية وموافقيهم - أنه لا يمكن العلم بصدقة إلا بعد العلم بحدوث الأجسام وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض فقوله خطأ مبتدع وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق
وأما الطريق العقلية التي ذكرها فهي طريق دل عليها القرآن وأرشد إليها ونبه عليها وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكما عالما خبيرا إلى قوله : ( فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها )
وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين ولا يكون إلا عن عالم قادر كما بين في غير هذا الموضع

عود لكلام الخطابي في الغنية
فهذه الصفات ونحوها مما يعلم بالعقل قال : ( ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل ) وهذا كالصفات الخبرية : مثل الوجه واليدين والاستواء على العرش ونحو ذلك
قال الخطابي : ( فأما الأعراض فإن التعلق بها إما أن يكون عذرا وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسرا متعذرا وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها فمن قائل : لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلا وقائل : إنما هي قائمة بأنفسها لا تخالف الجواهر في هذه الصفة إلى غير ذلك من الاختلاف فيها وأوردوا في نفيها شبها قوية فالاستدلال بها والتعلق بأدلتها لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه والانفكاك عنها والطريقة التي سلكناها سليمة من هذه الآفات برية من هذه العيوب فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله تعالى وتوحيده من الوجه الذي يصححونه من الاستدلال فإنه غير موحد في الحقيقة لكنه مستسلم مقلد وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعا للآباء في الإسلام وثبت أن قائل هذا القول مخطىء وبين يدي الله ورسوله متقدم وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر وعن طريق السنة عادل وعن نهجها ناكب )

تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي ذكره الخطابي بين ظاهر بتقدير أن تكون تلك الطريق صحيحة في نفسها موصلة إلى العلم فإن سلوكها - والحال هذه - إما غرر وخطر وإما مشق صعب بل معجوز عنه فإنها تحتاج إلى تصحيح مقدمات كثيرة دقيقة متنازع فيها وقد لا تثبت للإنسان فيضل عنها فكانت بمنزلة من يريد الحج من طريق بعيدة مخوفة يمكن سالكها أن يصل بعد جهد ومشقة ويمكن أن ينقطع فمثل هذه الطريق قد يعجز صاحبها وقد يضل بعد جهد ومشقة عظيمة إذا لم يكن فيها مخوف وإذا كان فيها مخوف فقد يهلك قبل الوصول
ومعلوم أن من عدل إلى هذه الطريق وترك الطريق المستقيمة الواضحة الآمنة الميسرة كان ظلوما جهولا
وأما بتقدير أن تكون طريقا فاسدة كما يعرفه من عرف حقيقتها فإنها : إما أن لا توصل إلى مطلوب لأن النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة بل قد لا يحصل معه لا علم ولا جهل وهذا حال كثير من حذاق النظار الذين سلكوها وإما أن توصل إلى نقيض الحق إذا اعتقد سالكها صدق بعض مقدماتها الكاذبة وهذه حال كثير ممن اعتقد صحتها وعارض بموجبها صحيح المنقول وصريح المعقول
وهي حال أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على مقتضاها فإنها منشأ ضلال ما شاء الله تعالى من طوائف أهل الكلام كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع فالأولون يبقون في الجهل البسيط وهؤلاء يصيرون في الجهل المركب

تابع كلام الخطابي في الغنية
قال الخطابي : ( فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازنه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقه في صنعة الجدل والكلام وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بقودها وطردها فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعا وجعلوه مبطلا وحكموا بالفلج لخصمه عليه والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثلاثة غيرهما فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن كان مفسدا له قول خصمه لأنهما مجتمعان معا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم :
( حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور )
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالتها التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هي أوضاع تتكافأ وتتقابل فيكثر المقال ويدوم الاختلاف ويقل الصواب
قال الله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فأخبر سبحانه ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه
ثم قال سبحانه في الحق : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }
قال الخطابي : ( فإن قيل : دلائل النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه و سلم - ما عدا القرآن - إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها قيل : هذه الأخبار وإن كانت شروط التواتر في آحادها معدومة فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر ومتعلقة به جنسا لأن بعضها يوافق بعضا ويجانسه إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات )
قال : ( ومثال ذلك أن يروي قوم ان حاتم طي وهب لرجل مائة من الأبل ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفا من الغنم ويروي آخرون أنه وهب آخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق إلى ما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى عنه فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعا نوعا فقد ثبت التواتر في جنسها وحصل من جملتها العلم بأن حاتما سخي كذلك هذه الأمور وأن لم يثبت لأفراد أعيانها تواتر فقد ثبت برواية الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم أنه قد جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرهم فصح بذلك أمر نبوته )

كلام الخطابي في كتاب شعار الدين
وقال الخطابي أيضا فيما ألحقه بكتاب شعار الدين وبراهين المسلمين ( الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه هو التجرد في مذهب الكلام والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب المتكلمون وذلك أنهم أدعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول وزعموا أن شيئا من المعلومات لا يذهب عليهم علمه ولا يعجزهم إدراكه على سبيل التحديد والتحقيق )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائع
ولهذا قول الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار : ( ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ) فبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال له ولا يدركه كل أحد بقياس ولا يحتاج أن يثبته بقياس بل هو ثابت بنفسه وليس كل ما ثبت يكون له نظير وما لا نظير له لا قياس فيه فلا يحتاج المنصوص خبرا وأمرا إلى قياس بخلاف من أردا أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله ويتلقاه من طريق القياس كالقياس العقلي المنطقي وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك فإن كلا من هذا وهذ يسمى قياسا
وقد تنازع الناس في اسم القياس : هل هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول ؟ كما يقوله أبو حامد الغزالي و أبو محمد المقدسي وغيرها أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل ؟ كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره أو القياس حقيقة فيهما ؟ كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال
وأيضا فهم متنازعون في الجنسين : أيهما هو الذي يوصل إلى العلم ؟ كثير من الناس من أهل النطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل ويقول : إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها
وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول فأن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك فإذا قال : النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر فكان حراما كخمر العنب فقد علق التحريم بالسكر ولا بد له من دليل بدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك : إما بنص أو إجماع أوغير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع وهو الذي يسمى جواب المطالبة فإن القايس إذا قاس توحه عليه منوع أحدها : منع الحكم في الأصل والثاني : منع ثبوت الوصف الذي علق به الحكم في الأصل والثالث : منع وجوده في الفرع وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها والرابع : منع علة الوصف وهو منع كون الحكم متعلقا به وهذا أعظم الأسولة
وذلك الوصف الذي علق به الحكم يسمونه : علة وسببا وداعيا وموجبا ومناطا وباعثا وأمارة وعلامة ومشتركا وأمثال ذلك ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول قال : النبيذ مسكر كل مسكر حرام ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى وهو قوله : كل مسكر حرام كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم والذي جعله الأول مناط الحكم جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك وكل من القياسين يتضمن حكما عاما كليا ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لا بد فيه من قضية كلية واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من مشترك بين الأصل والفرع والمشترك هو الكلي لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعنية بل يقول الرجل : السواد والبياص لا يجتمعان وإن لم يعين سوادا أو بياضا معينين ويقول : الكل أعظم من الجزء ولا يعين شيئا
وأما قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به فيقال : هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان فكذلك سائر السواد والبياض وهذا الكل أعظم من هذا الجزء وهلم جرا ويقول أهل التمثيل : هذا أنفع لأن الكليات لاوجود لها في الأعيان إنما وجودها في الأذهان فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج
ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة بل عديمها وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط وإما أن يجتمع فيه الأمران ويقولون أيضا : إن العلم بكل واحد واحد من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين الآخر فإنا إذا قلنا : الكل أعظم من الجزء كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء كعلمنا بذلك في الكل الآخر فلم نستفد بالقضية الكلية علما بمعين إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية ففيه تطويل بلا فائدة
ويقول أهل قياس الشمول : بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك وهو الحد الأوسط فلا بد فيه من قضية كلية أيضا لكن قد يدعي القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل ولا يقيم دليلا على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم كالاستقراء الناقص الذي هو من نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك ففي كل من القياسين قضية كلية لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها
قال أصحاب التمثيل : بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول : هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإذا قيل : بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاء عاما قيل : إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات فيعود إلى التمثيل
ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة لأنهم يدعون فيها العموم بناء على ما عرفوه من التجارب والعادات وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع فإن من قال : كل نار فإنها تحرق ما لاقته إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي وقد انتفض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك وبسط الكلام في هذا له موضع آخر والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمرا كليا مطلقا بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنيا عن ذينك القياسين والمعين الذي لا نظير به لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس وقد تكون الكلية منتقضة فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات وقد لا يحصل العلم به مطلقا وقد يكون كثير الانتقاض بخلاف النصوص النبوية فإنها لا تكون إلا حقا وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه
وأعظم المطالب العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل فإن الله تعالى لامثل له فيقاس به ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والائمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى فإن الله له المثل الأعلى فإذا أدخل هو - سبحانه - وغيره تحت قضية كلية مثل أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلا أو قيل : كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك - كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه وهو أحق بانتقاء المشارك له في خصائصه من كل موجود وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده فالوجود الواجب أحق بتنزيه عنه وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه و ملزوماته عنه من كل موجود
وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلا لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم لأن العدم لا يكون سببا للوجود وكان كل ما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى كان الباري سبحانه بأن يرى أحق من كل موجود وإذا كان تعذر الرؤية أحيانا قد يكون لضعف الأبصار وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحيانا رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى
وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل ولكن المقصود بيان مسمى القياس وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة فإنه لا يحصل به كل مطلوب ولا يطرد في كل شيء فطرق العلم ثلاث : أحدها : الحس الباطن والظاهر وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها
والثاني : الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس فما إفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما والمعين مطلقا فإن الكليات إنما تعلم بالعقل كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس
والثالث : الخبر والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب فهو أعم وأشمل لكن الحس والعيان أتم أكمل
وقد تنازع الناس في السمع والبصر إيهما أكمل ؟ فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل لعموم ما يعلم به وشموله وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل فليس المخبر كالمعاين وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان وإن كان الخبر لا ريب في صدقه لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عن العيان
والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل والسماع أعم وأشمل فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر ثم يصير المغيب شهادة والمخبر عنه معاينا وعلم اليقين عين اليقين
والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل فإن المخبر عنه إن كان قد شوهد كان قد علم بالحس وإن لم يكن شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه وإلا لم يعلم بالخبر شيء فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس فالإخبار يتضمن هذا و هذا وكما أنه ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس إما لعدم النظير له من كل وجه وإما لغير ذلك ثم إذا كان الخبر صادقا لا كذب فيه أمن معه من الانتفاض والفساد بخلاف القياس فإن كثيرا مما يبني فيه على قضايا كلية تكون منتقضة وإن كان فيه ما ليس منتقضا
والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس فلهذا قال الأئمة : ليس في المنصوصات النبوية قياس وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة فهذا الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح
أما قولهم : لا تدرك بالعقول فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور لا سيما الغائبات فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلا لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية
وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة ومن يشبههم من أهل الكلام وهؤلاء هم الذين يذكر أبوحامد الغزالي وغيره تهافتهم و تناقضهم وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور قيل أنه رجع عنها ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه فهم يخبرنهم بمحارات العقول لا بمحالاتها فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله كان شبيها بمن قال الله تعالى فيه : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال : { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة }

كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية
قال الخطابي : ( وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي وجعلوا المعلومات قسمين : قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب وقوله سبحانه : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } يجعلون الوقف عند قوله : { إلا الله } ويستأنفون الكلام فيما بعده وهو مذهب الصحابة وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعائشة وابن عباس قالوا : وقد حجب عنا أنواع من العلم كعلم قيام الساعة وكعلم الروح حين يقول : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقال تعالى : { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وقال : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }
قلت : قد ذكرنا معنى لفظ ( التأويل ) في غير هذا الموضع وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به : حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله كما قال مالك : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول )
ويراد به التفسير وهو كقوله : ( الاستواء معلوم ) فإنه تفسيره ومعناه معلوم ) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه كتأويلات الجهمية مثل تأويل من تأول : استوى بمعنى استولى وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه ومثل هذا لا يقال فيه : لا يعلمه إلا الله بل يقال : إنه باطل وتحريف وكذب ولكن في القسم الأول يقال : لا يعلمه إلا الله وأما القسم الثاني فيعلمه الله وقد يعلمه الراسخون في العلم
قال الخطابي : ( فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر والتعديل والتجويز وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم شيئا كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها ولا فائدة فيها فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور وخافوا فتنتها والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه : من الأقوال الشنعة والمذاهب الفاسدة ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين وتوقيف الشريعة )
قلت : فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يد ركه الإنسان بعقله وما لا فائدة فيه وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده ومن باب العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ النبي صلى الله عليه و سلم من علم لا ينفع
ولهذا يقال : العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية فيقول : ( هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم فالأول كالعلم بدقائق الهيئة وحركات الكواكب وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان وتعذيب الحيوان والثاني كالعلم بأحكام النجوم التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئا والخطأ فيها أكثر من الصواب والكذب فيها أكثر من الصدق )
وهذان النوعان غير ما ذكر أولا ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه فما كان كذبا غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه بخلاف ما فيه عسر وهو حق فإن هذا وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر بخلاف ما لا يدركه الإنسان أو ما لا فائدة فيه فإن هذا قد يقال : إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع أو من جنس البطالة وتضييع الزمان لكن متى أفضى بصاحبة إلى اعتقاد الباطل حقا والكذب صدقا كان من القسم المذموم بنفسه وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه وهو باطل قطعا
وأما قوله : ( وتكلموا في الروح والقدر والتعديل والتجوير والعقل والنفس ) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقا وليس كذلك بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم وإنما يذم الكلام الباطل والكلام بلا علم والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته كما قال ابن مسعود : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم
قال الخطابي : ( ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصا وتسمية فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص من طريق المعاني والمعقول من النصوص فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين )
قال : ( وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام وعابه من مذاهب المتكلمين وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال فعلمنا أن زجر عنه ليس هو الذي أمر به وتبينا أن له في الأصول مذهبا ثالثا ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام والخائضين في أوديته وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول الدين التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها )
قال : ( ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له وهو مذهب الغلو والأفراط وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد ولا يقول بحجج العقول فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والأفراط والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال وهو ما نختاره ونذهب إليه )
قال : ( وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع فلا يكون ذلك منا مناقضة وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع وكراهته في موضع آخر والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات : القول بالحس حسب وهو مذهب الدهرية فإنهم قالوا بما يدركه الحس لم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب ولم يقولوا بالخبر وهو مذهب الفلاسفة لأنهم لا يثبتون النبوة وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر وهو جماعة المسلمين وهو قول عمائنا وبه نقول )
قلت : تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوسا وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل والفلاسفة أيضا لا تنكر جنس الخبر بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم ويأمرون بقتل من يخرج عنها لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء
وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقا إلى العلم وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد من المنتسبين إلى المسلمين ما تبين به هذا الأصل وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه
وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية قائمة في الذهن لا حقيقة لها في الخارج وما يثبتونه من المجردات العقليات بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك يعود إلى هذا ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه والفريقان جميعا كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا فأولئك هم سعداء في الآخرة
كما قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
وأما الصابئة المشركون الذين يعبدون الكواكب والأوثان ونحوهم من الفلاسفة المشركين فهؤلاء كفار كسائر المشركين
والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان وفي مقالاتهم حق وباطل كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين وهذا مبسوط في موضعه
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا فهذا كلام في القياس العلمي الشرعي وهو مبسوط في موضعه
والناس في هذا بين إفراط وتفريط كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري
فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص بل إنما تعلم بالقياس وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب والعلة المنصوصة ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما وقصرت في معرفتهما وفهمهما واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي تغنى من شيئا أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله
وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك من غير دليل يدله على ذلك بل بمجرد اشتباه قام في نفسه أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد التي متى حوقق عليها سقط بناؤه وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم وقد يتمسكون بما يظهر له من ألفاظ المعصوم ولا تكون داله على ما فهموه
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتى به عاقل فضلا عن نبي معصوم وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطائها في فهم النص ومراد قائله وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل والرجل العاقل
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة التي نطق بها الكتاب والسنة وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه والاجتهاد في عدل الشخص المعين والنفقه بالمعروف للمرأة المعينة والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين المثل الواجب في إتلاف المال المعين وصلة الرحم الواجبة ودخول أنواع من المسكرات في اسم الخمر وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء وهو ضروري في كل شريعة فإن الشارع غاية ما يمكنه بان الأحكام بالأسماء العامة الكلية ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان
وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة وجزاء الصيد وعدل الشخص ونحو ذلك وهذا لا حجة فيه فإن مثل هذا لا نزاع فيه وهو ضروري لا بد منه ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا
ونفاة القياس لا يسمونه قياسا وإن سماه المسمي قياسا كان نزاعا لفظيا والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب هو من قياس الشمول وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض هو من قياس التمثيل لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم وإن سماه الممي قياسا كليا بل هو عمدتهم وعصمتهم هو واستصحاب الحال فهذا نوع ومن نازع في القياس والعموم جميعا - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط وهي داخلة فيه وليس كذلك فإن هذه فيها نزاع
وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها بل يتناولها وغيرها فيحتاج أن ينقح مناط الحكم أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه
وهذا كأمره صلى الله عليه و سلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة ثم لما أتى العرق قال : أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بخلوق أن ينزع عنه الجبة ويغسل الخلوق ويصنع في عمرته ما كان صانعا في حجته وأمره لمن ابتاع صاعا جيدا من التمر بصاعين من الرديء أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيدا ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار ومثل رجمه لماعز والغامدية وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما وأمثال ذلك
فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه و سلم ليس مخصوصا بتلك الأعيان بل يتناول ما كان مثلها لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم
وهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا فالظاهر : مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن وسبب القطع هو السرقة والخفي : مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع أو لعموم الإفطار وهل وجبت لنوع من الإفطار أو لجنسه ؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان أو لوقاع في صوم واجب في رمضان ؟ سواء كان صحيحا أو فاسدا ؟ كما يجب في الإحرام الواجب سواء كان صحيحا أو فاسدا فهذه مما تنازع فيه الفقهاء
وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة والسمن ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان فلا بد من إثبات حكم عام وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس أو أكثرهم وكثير من الفقهاء لا يسميه قياسا بل يثبتون به الكفارات والحدود وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس فإنه هنا قد علم يقينا أن الحكم ليس مخصوصا بمورد النص فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها إلا بدليل يدل على ذلك ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات ظهر خطاؤهم يقينا فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأره وقعت في سمن ولكن السائل سأله عن ذلك والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة أو نوع باسمه لم يجب أن يكون الحكم معلقا مختصا بما سأل عنه السائل بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلا في حكم عام كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصا بتلك العين ولا فرق بين أن يسأل عن عين أونوع فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال فهذا من أعظم الغلط
وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه و سلم مثل أن يقول القائل : الحكم هنا ليس متعلقا بمجرد الميتة بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فإن الميتة وإن شاركت الخنزير والدم في التحريم فقد شمل الجميع اسم الخبيث فالتحريم متناول للوصف العام ليس مخصوصا بنوع من الأنواع وكلام الرسول صلى الله عليه و سلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة سواء كان دما أو ميتة متجسدة ونحو ذلك ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك ثم يبقى النظر : هل يفرق بين الماء وسائر المائعات ؟ أو يسوي بينهما ؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما ؟ وهل يفرق بين القليل والكثير أو يسوى بينهما ؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء
والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس وكذلك العلة المنصوصة وكذلك القياس في معنى الأصل وقياس الأولى وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة فهذا محل اجتهاد ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة ومنهم من يقول بالمؤثر وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتا لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر وأما إذا لم يكن مؤثرا فهو الذي يسمونه المناسب الغريب وفيه قولان مشهوران فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة
ومن تدبر الأدلة الشرعية : منصوصها ومستنبطها تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلا فإن الرسول صلى الله عليه و سلم بعث بالعدل فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقضي تلك التسوية ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح كما لا يتناقض معقول صريح ومننقول صحيح بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس كان أحد الأمرين لازما : إما أن القياس فاسد وإما أن النص لا دلالة له
ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب لإدخال كل معين تحت نوع وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه و سلم
وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع وتناولها الاعتبار الصحيح وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط وهو في معنى قياس الشمول البرهاني والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو أدلة أحدهما
وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الأحاطة وبين له أن دلائل الله تعالى لا تتناقض وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم هو الحق الموافق لصرائح المعقول وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد وإن فهم - مع ذلك - مسألة التحسين والتقبيح العقلي وارتباطها بمسألة المناسبات ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه - هو المعروف والمنكر - كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم وإن هذا يرجع إلى الحق النافع وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع وهذا يرجع إلى الحق الموجود وفي مقابلته المعدوم - تبين به أيضا تناسب جميع العلوم الصحيحة والموجودات المعتدلة والشرائع الإلهية وأعطى كل ذي حق حقه : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وإذا أحسن الاعتبار تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان لت سيما في مواد القياس والبرهان وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين والتسوية بين المختلفين مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية وليس الأمر كذلك وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية كما قد ذكر في غير هذا الموضع فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
وأما كلام الفلاسفة في هذا الباب فقال القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد في كتابه المعروف بالأصول في العقائد : ( قد رأيت أن أفصح في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه : إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم وسببه ما عرض لهم من الضلال عن مقصد فهم الشريعة
وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة : الطائفة التي تسمى بالأشعرية والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذا الطوئف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها في تلك الاعتقادات وزعم كل منهم أن اعتقاده هو الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو : إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة
وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع الذي لا يتم الإيمان إلا به وأتحرى في ذلك مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز
ونبتدي من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرق المشهورة فنقول : أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا : إن طريق معرفة وجود الله سبحانه هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه )
قال : ( وهذه الفرقة الظاهر منها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالى )

تعليق ابن تيمية
قلت : ليس المقصود هنا الكلام علىكل ما يقوله هذا الرجل فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربعة تقصير منه إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين والأشعرية جاءوا بعدهم وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث كأقوال المعتزلة وغيرهم
وأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء
وأما الذي سماهم بالحشوية فهذا الذي ذكره عنهم إن يريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول فضلا عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول أو قول سلف الأمة وأئمتها ولكن غاية ما قد يقال : إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الأيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك
وقد تنازع الناس في الجزم : هل يمكن أن يكون يغير علم أم لا ؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا ؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل بعد ذلك طلب العلم به أم لا ؟
وتنازعوا في العلم به : هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسبا ؟ ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها
وكذلك العلم بصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم أو غيره من المخبرين له طرق متنوعة ليس هذا موضعها فغير الرسول صلى الله عليه و سلم إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة فالرسول صلى الله عليه و سلم أولى أن يعلم صدقه كذلك وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم
فهؤلاء قد يقولون : العلم بوجود الرب هو فطري ضروري لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه و سلم مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضا بالضرورة
وإذ حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول
ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه و سلم كان عامتهم مقرين بالصانع وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل
وأيضا فقد يقال : إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول صلى الله عليه و سلم وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم الإلهية والمعارف الدينية ثم يعرف من الرسول صلى الله عليه و سلم هذه العلموم كما قد يسلكه أبو حامد وهذا الرجل وغير واحد في العلم بالنبوة - فيقولون نعلم أن هذا نبي كما نعلم أن هذا الطبيب وأن هذا شاهد عدل وأن هذا أمين وسائر الصناعات فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة فهذا طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية
وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولا ثم يعلمون بخبره ما أخبر به
ولعلم بصدق النبي ليس موقوفا على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام كالمعتزلة ومن تبعهم لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام بما ادعوه من التركيب وبما اتصفت به من الاختصاص وبما قام بها من الأعراض والحوادث وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه - أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق أو قال ما يناقض مقدماتها وقد عرف بطلان طريقهم شرعا وعقلا ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة
وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في الغنية عن الكلام وأهله وبيان طريق المعرفة بهذا الموضع ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسملين فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام كالمعتزلة ونحوهم ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم ويسمونهم حشوية فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المتعتزلة ونحوهم رووا عن عمر بن عبيد أنه قال : عبد الله بن عمر حشويا وهم يسمون العامة الحشو كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو فما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا بطريق الإلزام فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع لها في هذا الباب
وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون : لا تعرف إلا بالعقل بل الذين يقولون بأن وجوب المعرفة والنظر ثابت في العقل كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك فإن الكتاب - والرسول - وإن كان يخبر أحيانا بخبر مجرد كما يأمر أحيانا بأمر مجرد فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد ما يبين الطرق التي يعلم لها ثبوت ذلك وما يهدي القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه فضلا عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه
ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد - طريقا عقليا يعرف به وجود الصانع أو شيء من أحواله - من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء

تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل
مما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد تنازع الناس في أصل المعرفة بالله : هل تحصل ضرورة في قلب العبد ؟ أو لا تحصل إلا بالنظر ؟ أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة ؟

القائلون بأنها لا تحصل بالنظر
فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد : هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة ؟ وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم
والنزاع لفظي فإن النظر واجب وجوب الوسيلة من باب ما لا يتم الوجب إلا به والمعرفة واجبة وجوب المقاصد فإول واجب وجوب الوسائل هو النظر وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة ومن هؤلاء من يقول : أول واجب هو القصد إلى النظر وهو أيضا نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة وحكى عن أبي هاشم أنه قال : أول الواجبات الشك وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم : إن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم وغير نظر وبحث وأنها تقع ضرورة ويذكر ذلك عن صالح قبة و فضل الرقاشي وغيرهما وعن الجاحظ أنه قال : معرفة الله ضرورية وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال وأن العبد غير مأمون بها ويذكر نحو ذلم عن ثمامة بن أشر
وذكروا عن الجهم أنه قال : معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد لأن العبد لا يفعل شيئا
وقال جمهور طوائف المسلمين : يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر بل قال كثير من هؤلاء : إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة أهل السنة وسائر المثبتين للقدر كالأشعري وغيره
وتنازع نظارهم : هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد ؟ على قولين ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد و الرازي و الآمدي وغيرهم
ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر : أن المعرفة قد تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس وأنها طريق الصوفية وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر فإنه قد لا يحصل لهم هذا الجزم
وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى تحصيل معرفة الله فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى

كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية
فقال الرازي في كتابه الكبير نهاية العقول في الجواب : العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لا تكون فإن كانت ضرورية فلا كلام لنا فيها فإنا قد نسلم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو يلزم فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية فلا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد توجد لأصحاب الرياضة من المبطلين من اليهود والنصارى والدهرية )

كلام الآمدي في الأبكار
وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع : ( إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال بل أمكن حصولها بطريق آخر إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه كالمؤيد بالمعجزات الصادقة وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى تعليم وتعلم )
وقال في الجواب : ( قولهم : لا نسلم توقف المعرفة على النظر قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله بغير النظر وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب )
وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون : بإيمان العامة : إما لحصول المعرفة لهم ضرورة وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم

كلام أبي الحسن الطبري الكيا
وممن ذكر ذلك أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه في الكلام أو بعض نظرائه من أصحاب الأستاذ أبي المعالي قال : ( فإن قيل : إذا قلتم : إن النظر واجب والمعرفة واجبة فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون ؟ أهم مؤمنون أم كافرون ؟ قلنا : اختلف في هذا علماء الأصول أما أبو هاشم رأس القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا وقال : من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن وقال : المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة والنكرة كفر وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون : إنهم مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين ؟ فإن قلتم : إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر والتجسيم والتشبيه وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد وإن قلتم : لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل وذلك هو العلم والنظر )
قال : ( وأما علمائنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون وأنهم حشو الجنة إلا أنهم اختلفوا في ذلك فقال قائلون : إنهم عالمون بالله تعالى عارفون بالأدلة إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول : سبحان الله وما هذا نظر منه وقالوا : لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه وهذا موجود في حق العامة ثم أنهم قالوا في العلوم النظرية : ما قولكم فيها ؟ أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجوزوا ذلك فقد أبعدتم وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله ههنا ؟ ويكون التكليف الوارد في حقهم قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله وتكون المعارف ضرورية )
قال : ( وقال قائلون من علمائنا : هم مؤمنون غير عالمين لأن العلم حقيقة فإن وجدت حكمنا بإنهم عالمون وإلا فلا والعلم معرفة المعلوم على ما هو به على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه وإذا طرأت علية شبهة لا يرتاع لها ولا يتشكك
وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة أذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه وهذا لا يحصل به العلم وإذا قال : إن العم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد فهذا عالم حقيقة كسادات الصوفية فإن المعارف في حقهم ضرورة )
قال : ( وأما قوله بأن العامة ينظرون قلنا : لعمري ذاك كله مبادىء النظر وما وصلوا إلى غاية النظر وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء لأنهم يقولون : العالم حادث ويجوز أن يكون حادثا ويجوز أن يكون قديما مثلا فيعتقد حدوثه لا ينظر إلى الجانب الآخر والعالم يستعرض المسالك ويشرحها بالمدارك وينهي النظر إلى الغاية القصوى )
قال : ( فإن قيل : كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين ؟ قلنا : لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر ولم يوجب عليهم العلم وهذا معلوم بضرورة العقل مستندا إلى السمع فإن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة بل يجب عليهم نفي الشك عنهم فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم وعقائدهم مستقرة فهم مؤمنون ولا نقول : يجب العلم بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهرا أو قول بعض المشايخ أو منام هائل في حق الخصوم ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم صح ذلك فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم فعند ذلك لا بد منه )
قال : ( وفي القرآن حجاج وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج غير أن العامي يكتفي له كقوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول } وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء وكذلك قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } { ألكم الذكر وله الأنثى } وليس هذا يدل على نفي الولد قطعا فمبادىء النظر كافية لهم فإن قيل : فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس فهل يجب على الآحاد ؟ قلنا : أجل يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس وهو فرض من فروض الكفايات كالجهاد وتعلم القرآن وغير ذلك من فروض الكفايات فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم )

تعليق ابن تيمية
قلت : المقصود أن الطائفة الأولى الذين قالوا : إن العامة عليهم العلم قالوا : إنه قد يحصل لهم ضرورة وقد يحصل بالنظر والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة كسادات الصوفيه وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل وما بعث به الرسول حتى قد يقول بعضهم : إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية
وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول مع مخالفتهم لصحيح المنقول ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل وذلك أن الله تعالى ليس مماثلا لشيء من الموجودات فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع فإنه سبحانه لا مثل له وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى مثل أن يقال : كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه لأنه سبحانه واجب الوجود فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه ولأنه مبدع الممكنات وخالقها فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال كما يقولون : كل كمال في المعلول فهو من العلة
وكان المشركون يقولون : إن الملائكة بنات الله كما حكى الله ذلك عنهم بقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } وهم مع هذا يجعلون البنات نقصا وعيبا ويرون الذكر كمالا فقال لهم : كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم ؟ فهذا احتجاج عليه بطريق الأولى في بطلان قولهم : إن له البنات ولهم البنين لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقا كما يقول من يفتري على القرآن
قال تعالى : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون } { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } إلى قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون }
فبين سبحانه وتعالى أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم ويجعلون له ما يكرهون ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجه مسودا يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سىء
كما قال تعالى في الآية الأخرى : { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } أي قسمة جائرة وقال في الآية الأخرى : { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } فقال تعالى مقيما للحجة مخاطبا باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه وأن ذلك مستقر في الفطر : { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } فإنه لوقدر على سبيل الفرض أن يتخذ ولدا أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين ؟ ! أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص ؟ !
ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } وهن الإناث كما ذكر ذلك في سورة النحل أي بالذي جعله مثلا للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلا أي جعله له مثلا حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله فجعلهن يماثلن البنات اللاتي جعل الرحمن مثلهن فضرب للرحمن - أي جعل له - مثلا يماثل البنات اللاتي إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسودا وهو كظيم
ثم بين نقص النساء فقال : { أو من ينشأ في الحلية } وهن النساء تربين في الحلية : { وهو في الخصام غير مبين } وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها فبين أنهم من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال وهي لا تبين في الخصام
وعدم البيان صفة نقص فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان الذي فضله به على سائر الحيوان كما قال تعالى { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } وقال : { اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم }
وأهل المنطق يقولون : الإنسان هو الحيوان الناطق ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى : { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } وقد قال تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن الحجاز فإنه كانت اللات لأهل المدينة والعزى لأهل مكة ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف
وهذه كلها مؤنثة كما قال في الآية الأخرى : { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا }
وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه وسموها بأسمائه مع التأنيث كما قيل : إن اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من مني يمنى إذا قدر وكانوا يسمونها الربة وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان أي من كتاب وحجة فإن الله تعالى لم يأمر أحدا بإن يعبد أحدا غيره ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته
كما قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد كما ذكره في سورة النحل حيث قال : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } الآية وما بعدها
وقال : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا }
وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك }
وقال تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد }
وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون }
وقالت الجن : { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا }
وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقا لم يذكر هذه الحجة التي لن يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج وظن هو وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين
بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }
وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }
والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين والصابئين وأهل الكتاب وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب وما يقوله النصارى وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم الذين يقولون بتولد العقول أو العقول والنفوس عنه
ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة ويقول : العقل كالذكر والنفس كالأنثى فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم
ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض والإبداع خلق الشيء على غير مثال بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما
والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته مع استقلال الخالق له وعدم شريك له والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه

تعليق ابن تيمية
وقال تعالى : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله : { ولم تكن له صاحبة } فإن التولد لا يكون إلا من أصلين وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون : لا يصدر عن الواحد إلا واحد حتى قالوا : إن الواجب لم يصدر عنه أولا إلا العقل ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك
وهذا الكلام وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة كما قد بسط في موضعه فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات بل هذا الواحد لا حقيقة له
وأيضا فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين والماء لا يصدر عنه إلا التبريد والشمس يصدر عنها الشعاع ونحو ذلك كلها حجج عليهم فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين : أحدهما : النار أو الشعاع أو الحركة فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة والثاني : محل قابل لذلك كبدن الحيوان والنبات ونحو ذلك وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار
وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع
وهؤلاء الملاحدة يقولون : إن الأول الواجب الوجود الذي يسمونه العلة هو ذات بسيطة ليس له نعت من النعوت وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضا لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك كاشتراك الشمس والمطارح القابلة واشتراك النار والموارد القابلة
فقوله تعالى : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد
وهذا القدر لما كان مستقر في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولدا ونتاجا إنما يكون عن أصلين فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين : فعل العبد والأسباب الأخر المعاونة له
وكذلك النظار يقولون : النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من الحيوان لأن هذين أصلان في التوليد وهذين أصلان في التولد
ثم قال تعالى : { وخلق كل شيء } وذلك بيان لأنه إذا كان خالقا لجميع الأشياء فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه ؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد
كما قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا }
وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه فلا يكون عبده من هذه الآية لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد
وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى كما في الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعل صاحبها يلم بها ؟ قالوا : أجل قال : لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له ؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له ؟ ]
فبين صلى الله عليه و سلم أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين يصير شريكا له في التولد وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده ولا أن يجعله موروثا عنه كما يورث ماله فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره فكيف بالولد الذي انعقد منه ؟
وكذلك قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } كما قال في الآية الأخرى : { لقد أحصاهم وعدهم عدا } فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه لا ينفردون عنه بشيء كما ينفرد الولد عن والده والشريك عن شريكه
وقوله في الآية الأخرى : { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته وأنها منقادة له فإذا قال له : كن كانت وهذا مناف للتوليد بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة ( كن )
وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له : كن فيكون ؟
وأما ما ذكره من قوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول } وقول ذلك القائل : من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول فيقال له : مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن كان فيه الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان
وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق
فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان و بطريق الاعتبار والبرهان والأول أعظم الطريقين فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع
كما قال تعالى في سورة البقرة : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية
وقال في قصة البقرة : { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون }
وقال في الذين خرجوا من ديارهم : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس } الآية - وهي قصة معروفة
وقال تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام وموت حماره ومعه طعامه وشرابه ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات
وذكر بعد ذلك قول إبراهيم : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلا مضروبا لاختلاط الأخلاط الأربعة ثم أحيى الأطيار وميز بين هذا وهذا وجعلهن يأتين سعيا إجابة لدعوة الداعي فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل
فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين وقصة في إحياء البهائم وقصة في إبقاء الطعام والشراب وقصة في إحياء الطير وذلك في غير هذا موضع إحياء المسيح صلى الله عليه و سلم للموتى وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا
وقال في القصة : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها }
فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول وإخبارهم بها من أعلام نبوته كما قد بسط في موضع آخر
وأما الصنف الثاني وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارة بخلق النبات ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات وتارة يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى
وتارة يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }
وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان
وقال تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم
وقال تعالى : { ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج }
وقال تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور }
وقال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون }
وقال تعالى : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم }
وقال تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }
وقال تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }
وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه كما في قوله : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } إلى آخر الآيات وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه
فأما الآية التي ذكرها القائل التقدم وهي قوله : { أفعيينا بالخلق الأول } فإن العرب تقول : عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه ويقول الرجل : عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه وأعياني هو
وقال الشاعر :
( عيوا بأمرهم كما ... عييت ببيضتها الحمامة )
فالعيي بالأمر يكون عاجزا عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه وأن ذلك معلوم عند المخاطب : { أفعيينا بالخلق الأول } فلم نكن عالمين بما نصنع فيه ولا قادرين عليه ؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا وأتنيا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا ؟
وهذا نظير قوله : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }

تعليق ابن تيمية
ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل أفلا يكون ذلك دالا على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعي بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأخرى ؟
ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية فظن أن قوله : { ولم يعي بخلقهن } وهو من الإعياء : الذي هو النصب اللغوب وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول فكيف نتعب في الثاني ؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن ولا يفرقون بين عيي وأعياء فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع
وهؤلاء المبتدعين يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لتبينوا أنه الجامع لكل خير
وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب
وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم مع تناقضهم في ذلك
وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح كما قد بسط في موضعه ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات فكثير من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول : إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات
ومآل القولين واحد وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود فمن جعله هو الوجود الواجب أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك كان منكرا للصانع ثم إذا كان هذا الوجود الواجب كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه كما بينا ذلك في غير هذا الموضع
فمن جعله وجود كل موجود كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها ويوقعهم في شر مما منه فروا
والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال : { أفعيينا بالخلق الأول } لم يرد الإعياء الذي هو التعب وإيما أراد العي كما تقول العرب : عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه ومن كان خالقا لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى
والملاحدة المنكرون للعماد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته ونفي العي يثبت هذه الصفات فتنتفي أصول شبههم فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي و ابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات لا يختلف فعلها فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك
وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقا للمحدثات
وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة دل على الخالق العليم القدير الحكيم علم فساد قول هؤلاء فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها فلا يكون مفعولا لها ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها لأن القول في تلك العلة كالقول في هذه ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له لأن الممكن لا يكون موجودا بنفسه بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه لأن كون ذلك الممكن محدثا لها أمر ممكن محدث
فلا بد له من محدث فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل
ووجه الحصر أن يقال : محدث الحوادث : إما أن يكون هو الواجب بنفسه بوسط أو بغير وسط أو غير الواجب بنفسه وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن والممكن إما أن يكون له موجد وإما أن لا يكون والثاني ممتنع والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن فلا بد له من موجد
فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث يكون واجبا بنفيه ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها وهذا يبطل أصل قولهم
وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون : إنه صدر عن موجب بالذات ويحكى هذا القول عن برقلس وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئا ولا يفعل شيئا بل الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى : { ولم يعي بخلقهن } فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى وبسط ذلك يطول
ومما يبين خذلان الله لأهل البدع والمخالفين للكتاب والسنة أن هذين الأصلين : أمر الولادة وأمر المعاد هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم الذين يقولون : إن العقول تولدت عن الله وينكرون إحياء الله الموتى
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقول الله تعالى : شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ] وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وابن عباس
وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه وكذبوه بقولهم : لن يعيدنا كما بدأنا وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب
قال تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } إلى قوله : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } إلى قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }
فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد وعلى من قال : إنه اتخذ ولدا كما جمع النبي صلى الله عليه و سلم بينهما في الحديث
وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله
ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى لا على البرهان الذي تستوي أفراده أو يماثل فرعه أصله
قال تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } بعد قوله : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم }
وقال تعالى في الآية الأخرى : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن } أي بما ضربوه للرحمن مثلا والمثل الذي ضربوه له هو البنات وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب
فقال تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } ومن قال : إنه ولد الملائكة أو قال : إنه ولد العقول أو النفوس فإنه لا يؤمن بالآخرة فله مثل السوء
والله تعالى له المثل الأعلى فلا يضرب له المثل المساوي إذا لا كفو ولا ند فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص ولا يكتفي في حقه بالمثل العالي بل له المثل الأعلى إذ هو الأعلى سبحانه والعلم به أعلى العلوم وذكره أعلى الأذكار وحبه أعلى الحب
والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله كما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال تعالى : { وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى }
ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } يقول تعالى : إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله بحيث يخاف ذلك المملوك كما يخاف السادة بعضهم بعضا فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني ؟
ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضا ملك ناقص فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه لا يملك عينه وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته وملك المستأجر بعض منافع أجيره ولهذا يشبه النكاح بملك اليمين كما قال عمر رضي الله عنه : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته
وقال زيد بن ثابت : الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى : { وألفيا سيدها لدى الباب } فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكا للمالك فكيف بالملك الحق التام لكل شيء ؟ ملك المالك للأعيان والصفات والمنافع والأفعال الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه ولا لغيره ملك مفرد ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه كيف يسوغ في مثل هذا أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه ؟
والشرك نوعان : أحدهما : شرك في الربوبية والثاني شرك في الإلهية فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله كمن يجعل الحيوان مستقلا بإحداث فعله ويجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية أو العقول أو النفوس أو الملائكة أو غير ذلك مستقلا بشيء من الإحداث فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به وجوده وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره فلا يتم به حدوث حادث ولا وجود ممكن
وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما كان من النوع الثاني فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس
والثاني الشرك في الإلهية وضده هو التوحيد في الإلهية وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع ويستدفعون بها المضمار ويتخذونها وسائل تقربهم إليه وشفعاء يستشفعون بها إليه
وهؤلاء خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا إلا بإذنه فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل
بل قد قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }
وقال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }
وهذا المعنى كثير في القرآن : يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره ولا إذن في ذلك بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلا يمتنع أن يكون إلها معبودا
وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعا يوجب الفساد فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزم الفساد
وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله سبحانه كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف وكذلك الذي يرجوه إذا كان إنما يرجو نفعه وهو لا ينفعه إلا بإذن الله كان الله هو الذي يجب أن يرجى إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله بخلاف مملوك البشر فإنه - وإن كان لا يترف في المال إلا بإذن سيده ولا يمنع من أذن له سيده - فقد يمكنه معصية سيده وإن كان في معصيته نوع من الفساد
والخالق تعالى لا يمكن أحدا أن يفعل شيئا إلا بمشيئته وقدرته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده ومعصية المخلوق لأمره الذي أرسل به رسله أعظم فسادا من معصية المملوك لأمر سيده
قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه و سلم ومناظرته لقومه : { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون }
قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }
وقال تعالى : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم }
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل وهما متلازمان كان من سلك الطريق العقلي دله على الطرق السمعي وهو صدق الرسول ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية كما بين ذلك القرآن وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا
كما قال أهل النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }
وقال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }
ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } فطالبهم أولا بالطريق العقلي وثانيا بالطريق السمعي
ونظيره قوله : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك إذ كان هذا فصلا معترضا في هذا المقام
فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة كما هو قول الكلابية والأشعرية وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم وهو قول طوائف أهل السنة من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفه و مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم
وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم مع أنهم متنازعون في ذلك بل كثير من أهل الكلام بل وجمهور العلماء يقولون : إن الإقرار بالصانع حاصل لعامة الخلق بطريق الضرورة

ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى
كما ذكر الشهرستاني في كتابه المعروف بنهاية الإقدام في قاعدة التعطيل قال : ( قد قيل : إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى : منها : تعطيل الصنع عن الصانع ومنها : تعطيل الصانع عن الصنع ومنها : تعطيل الباري عن الصفات الأزلية الذاتية ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته ومنها : تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلا ومنها : تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها )
ثم قال أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية : أنهم قالوا : كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات )
قال : ( ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازا عن التعطيل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها - على صانع حكيم قادر عليم : أفي الله شك { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }
قال : وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء : { دعوا الله مخلصين له الدين } { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه }
ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا }
قال : ( وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان ويدعي كل واحد من جهة الاستدلال ضرورة وبديهة )
قال : ( وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه بعد تقديم المقدمات ودون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتجاج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج
{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه } { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } { ومن يرزقكم من السماء والأرض } { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده }
قال : ( وعن هذا المعنى قال صلى الله عليه و سلم : [ خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها ] فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها من تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان : { فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى } { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى }
ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث يرجع إلى نفسه أدنى رجوع فيعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه : { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لم يتعطل عن الصانع الحكيم العالم القدير تعالى وتقدس )
وقال أيضا في أول كتابه : ( قد أشار إلي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أجمع له مشكلات الأصول وأحل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات مسارح النظر وفزت بغايات مطارح الفكر ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم
( لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم )
( فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم )
فلكل عقل مسرى ومسرح هو سدرته المنتهى ولكل قدم محط ومجال هو غايته القصوى إذا وصل إليها ووقف دونها فيظن الناظر أولا أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر ويتيقن آخرا أن مطار الأفكار إنما يتعلق بذوات المقدار وجناب العزة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )
إلى أن قال : ( وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد كان اليقين أوفر وآكد : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } لا جرم : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه }
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخا في القلب من المعارف التي نتائج الأفكار في حال الاختيار )

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا كله كلام الشهرستاني وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر
وأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة فإنه وإن لم يكن مذهبا مشهورا عليه أمة من الأمم المعروفة لكنه مما يعرض لكثير من الناس ويقوله بعض الناس : إما ظاهرا دون الباطن - كحال فرعون ونحوه - وإما باطنا وظاهرا كما ذكر الله مناظرة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه ومحاجة موسى صلوات الله عليه وسلامه لفرعون
لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة ثابتةبالضرورة فإن هذا نوع من السفسطة حال يعرف لكثير من الناس : إما عمدا وإما خطأ وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية والمعارف الفطرية في الحسيات والحسابيات وكذلك في الإلهيات ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس في العلوم الطبيعية والحسابية رأى عجائب وغرائب وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات فإنهم جنس عظيم التفاوت ليس في المخلوقات أعظم تفاضلا منه خيارهم خير المخلوقات عند طائفة أو من خيرها عند طائفة وشرهم شر المخلوقات أو من شرها
قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } وقال تعالى : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال }
وقال تعالى : { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص }
ونظير هذا كثير وكما تنازع النظار في المعرفة : هل تحصل ضرورة أو نظرا أو تحصل بهذا وهذا على ثلاثة أقوال فكذلك تنازعوا في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال فقالت طائفة من الناس : إنه يجب على كل أحد وقالت طائفة : لا يجب على أحد وقال الجمهور : إنه يجب على بعض الناس دون بعض فمن حصلت له المعرفة او الإيمان عند من يقول : إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه

كلام ابن حزم في الفصل
وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف ب الفصل في الملل والنحل فقال في مسألة : ( هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مسلما إلا من استدل ؟ )
قال : ( وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا من استدل وإلا فليس مسلما )
قال : ( وقال الطبري : من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال : وقال إنه أذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك )
قال : ( وقالت الأشعرية : لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ ) قال : وقال سائر أهل الإسلام : كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبرىء من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه و سلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك

تعليق ابن تيمية
قلت : القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم ولهذا قال أبو جعفر السمناني : القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر لا سيما القدرية منهم فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم بل هم متنازعون في ذلك

كلام الأشعري
فقال الأشعري في بعض كتبه : ( قال بعض أصحابنا : أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام وقال أيضا : لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف ماذا يلزمه ؟ فقال : عنه جوابان : أحدهما : أن يلزمه النظر ليعرف الحق فيتبعه
والثاني : يلزمه اتباع الحق وقبول الإسلام ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه )
وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين : هل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات ؟ والذين لا يجعلونه فرضا على الأعيان منهم من يقول : الواجب هو الاعتقاد الجازم ومنهم من يقول : بل الواجب العلم وهو يحصل بدونه كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعرية وغيرهم ك الرازي و الآمدي وغيرهما
والذين يجعلونه فرضا على الأعيان متنازعون : هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم أم لا يصح ؟ على قولين والذين جعلوه شرطا في الإيمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام
ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدث كطريق الأعراض والأجسام لكن هل يقال : مجرد الاعتقاد الجازم كان كافيا لهم ؟ أم لا بد من علم يحصل بالنظر ؟ أم يحصل علم ضروري بغير الطريقة النظرية ؟ فهذا مما تنوزع فيه

رد ابن حزم
قال ابن حزم : ( فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد ) ( قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس لا يعلم إلا بالاستدلال ومن لم يحصل له العلم فهو شاك واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم فيما حكاه من المسؤول في قبره قال : [ فأما المؤمن - أو الموقن - فيقول : هو عبد الله ورسوله وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ]
وقال في الجواب : ( التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول صلى الله عليه و سلم ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله بل حرم علينا ذلك وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه و سلم الذي فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليدا بل إيمان وتصديق واتباع للحق و طاعة الله ورسوله )
قال : ( فموه هؤلاء الذين أطلقوا على الحق - الذي هو اتباع الحق - اسم التقليد الذي هو باطل والقرآن إنما هو ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه لم يذم من اتبعهم أصلا )
قال : ( وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدليل إلا أنه مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه فقد مات كافرا وهو مخلد في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي صلى الله عليه و سلم حتى رأى المعجزات فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر والقسم الثاني : من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله له وتيسيرا له لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكراه والعباد وأصحاب الحديث الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين )
قال : ( وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم }
وقال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء }
قال : ( فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم المعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداء وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله في ذلك استدلالا أصلا وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام )
قال : ( وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن - ولله الحمد - في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وفي غاية سكون النفس إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سئل عن ذلك فقيل له : إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه وسوسة الشيطان ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها - ولله الحمد والمنة - فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كما عرف وقد أيقن يكون - الفيل سماعا ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقينا بصحة إنيته أصلا لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط )
قال : وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون ليسوا مقلدين أصلا وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه و سلم لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم لم يتبعوا النبي صلى الله عليه و سلم الذي أمروه باتباعه )
قال : ( وإنما كلق الله الإتيان بالبرهان - إن كانوا صادقين - الكفار المخالفين لما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه و سلم فلا برهان له أصلا فكلف المجيء بالبرهان تبكيتا وتعجيزا وإن كانوا صادقين - وليسوا صادقين - فلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك - أي البرهان - أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به ولا برهان على سواه فهو محق مصيب )
قال : ( وأما قولهم : ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا : والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر قال : فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بتصحيحها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئا على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز و جل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض )
قال : وقول النبي صلى الله عليه و سلم في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما قال فيه : [ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ولم يقل : فأما المستدل فحسبنا نور المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه و [ قال صلى الله عليه و سلم : وأما المنافق أو المرتاب ] - ولم يقل : غير المستدل - فيقول : [ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ] فنعم هذا هو قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا مقلد للناس لا محقق فالخبر حجة عليهم كافية
وأما قولهم : إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم به لا يكون إلا عن استدلال فهذا أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم : وأمر به
فهذا لا يجدونه أبدا ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه مزيد من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه فهذا هو الباطل المحض
وأما قولهم : إن الله أوجب العلم به فنعم
وأما قولهم : والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول بطلانها أنه دعوى بلا برهان )
قال : ( فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراه لم يأت بها نص قط ولا إجماع ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم يقال لمن قال : لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا : متى يجب عليه فرض الاستدلال ؟ أقبل البلوغ أو بعده ؟ فأما الطبري فإنه أجاب بأن واجب قبل البلوغ قال ابن حزم : وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا )
قال : وأما لاأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الاسلام وتصطك منه المسامع ويقطع ما بين قائلها وبين الله وهو أنهم قالوا : لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين : لا يصح إسلام أحد بأن يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق قال : وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم : إنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز و جل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صلى الله عليه و سلم صادق أو كاذب ؟ ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء : إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضا الله عز و جل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقنا بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو وأن محمد رسول الله وأن دين الله الذي لا دين غيره - فإنه كافر مشرك نعوذ بالله من الخذلان فوالله لولا خذلان الله - الذين هو غالب على أمره - ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك وجعلوه أول الواجبات ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول قال إنه لابد من حصوله وإن لم يؤمر به
وهذا بناء على أصلين : أحدهما : أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم والثاني : أن النظر يضاد العلم فإن الناظر طالب للعلم فلا يكون في حال النظر عالما
وكلا الأصلين باطل أما الأول فقد عرف الكلام فيه وأما الثاني فإن النظر نوعان : أحدهما : النظر المتضمن طلب الدليل وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه كالنظر في مدعي النبوة : هل هو صادق أو كاذب ؟ والنطر في رؤية الله تعالى : هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية ؟ والنظر في النبيذ المسكر : أحلال هو أم حرام ؟
فهذا الناظر طالب وهو في حال طلبه شاك وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم وهو النظر في الدليل كالنظر في الآية والحديث أو القياس الذي يستدل به فهذا النظر مقتض للعلم مستلزم له وذلك النظر مضاد للعلم مناف له
ولما كان في لفظ ( النظر ) إجمال كثر اضطراب الناس في هذا المقام وتناقض من تناقض منهم فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم ثم يقولون : النظر يضاد العلم فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا له لا يجتمعان
فمن فرق بين النظر في الدليل وبين النظر الذي هو طلب الدليل تبين له الفرق والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول بل قد يكون في القلب ذاهلا عن الشيء ثم يعلم دليله فيعلم المدلول وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب وقد يكون عالما به ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير لكن هؤلاء لزمهم المحذور لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول فيكون الناظر طالبا للعلم فيلزم أن يكون شاكا فصاروا يوجبون على كل مسلم : أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه سواء أوجبوه أو قالوا : هو من لوازم الواجب
ومن غلطهم أيضا أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ بل النظر قبل ذلك ممكن بل واقع فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر وإن لم يكن واجبا كما لوتعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود ونظير ذلك : إن يتوضأ الصبي قبل البلوغ والبالغ قبل دخول وقت الصلاة فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت
والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل : منها : أن الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال : هل يمكن أم لا ؟ وإذا أمكن : فهل يسمى علما أم لا ؟
ومنها : أن لفظ ( الضرورة ) فيه إجمال فقد يراد به مايضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه وقد يراد به ما لا يقبل الشك وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوما لا يمكن الانفكاك عنه
ومنها : أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولا ضروريا مع توهمه أنه لم يحصل له كما يقع مثل ذلك في القصد والنية فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد والإرادة محلها القلب باتفاقهم فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه
ثم إن كثيرا من الناس اشتبه عليهم أمر النية حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين حتى قيل : الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل أو جهل بالشرع
وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها مع خروجهم عن الفطرة السليمة التي فطر الله عليها عباده ومن المعلوم أن كل من علم ما يريد أن يفعله فلا بد ان ينويه ويقصده فيمتنع أن يفعل العبد فعلا باختياره مع علمه به وهو لا يريده فالمصلي إذا خرج من بيته وهويعلم أنه يريد الصلاة امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها وكذلك الصائم إذا علم أن غدا من رمضان وهوممن يصومه أمتنع أن لا ينويه وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة أمتنع أن لا يريدها
وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج فيصوم ويصلي ظانا أن ذلك قضاء بعد الوقت فهذا نوى القضاء فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع
وكذلك من اغتسل بالماء لقصد لقصد إزالة الوسخ أو لتعليم الغير فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة وأمثال ذلك
ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقا بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيما أو مسافرا يريد الصيام وبين ما إذا كان مسافرا لا يريد الصيام
فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان وقد يشك في وجودها أولا يحسن أن يعبر عن وجودها أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره قد يكون حاصلا في نفس الإنسان وهو يشك في وجوده أو يطلب وجوده أو لا يحسن أن يعبر عنه لأن وجود الشيء في النفس شيء والعلم بوجوده في النفس شيء آخر فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر
فهكذا عامة المؤمنين : إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب التي توجب معرفته بالله وبرسوله ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه كما أن كثيرا من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه
والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه ومنه ما يحصل دفعة كالعلم بما أحسه ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها
وكذلك حصول الإرادة فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها كإرادة دفع الأمور الضارة له وكإرادة الجائع الشديد الجوع والعطشان الشديد العطش لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب
ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل فإن هذا قد تحصل إرادته شيئا بعد شيء
وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجا إليه أو كونه نافعا له فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم وقد تضعف بضعفه وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته
ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية وعلوم فطرية وأن كثيرا من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها فيسعون في حصولها وتحصيل الحاصل ممتنع فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود ثم يسعون في وجوده ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه
وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل مع نوع من الذهول والغفلة فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة أو توجهت نحو المطلوب فيحصل لها معرفته ومحبته
والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : قال : [ يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
وقد قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }
وقال صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] ؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس فلو كلف بقية الناس بمعرفته كلفوا ما لا يطيقون ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها وإن كان هذا فرضا على الكفاية
ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلا لا ينضبط لنا والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلا عظيما وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات كما قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسول ؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه و سلم أو ممن سمعها منه وعلم أنه قالها يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها
والقرآن مورد يرده الخلق كلهم وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له قال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك شبه الإيمان بالماء النازل والقلوب بالأودية فمنها كبار ومنهاصغار وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان وأخبر أن ذلك الزبد بجفأ جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك الشبهات تجفوها القلوب وما ينفع يمكث فيها
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ]
وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظيا وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه سواء كان ذلك التصور ضروريا أو لم يكن بل كثير من الناس يقول : إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري يضطر إليه الإنسان وهذا اختيار أبي المعالي وغيره
وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعا معنويا وليس كذلك كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري والكسبي هو النظري ومنهم من يفرق بينهما فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه لا في تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم وقد يختار اكتساب أسبابه وهذا في الحسيات وغيرها كمن يفجأه ما يراه ويسمعه من غير قصد إلى رؤيته وسمعه ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي
والثاني يدخل تحت الأمر والنهي
وأيضا فمن الناس من يقول : العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم ومنهم من يسمى كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضروريا وبديهيا وإن كان ذلك مختصا بنوع من الناس كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام
وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه وجعله له في قلب العبد بدون استدلال يسميه هؤلاء علما ضروريا وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضروريا فهذا نزاع لفظي
ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه جعل هذا كله ضروريا وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر : إن علمنا ضروري كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى قال : دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم فقالا : يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين فقالا لي : كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا وكلما أقام حجة أبطلتها وكلما أقمت بجة أبطلها ؟ فقلت : ما أدري ما تقولان ولكن أنا أعلم علم اليقين فقالا : فبين لنا ما هذا اليقين فقلت : واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يرددان هذا الكلام ويقولون : واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها
وتعجبا من هذا الجواب لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها قالا له : كيف الطريق إلى هذه الواردات ؟ فقال لهما : بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع وأما المعتزلي فقال : أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي فأمر الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك ففتح الله عليه بهذه الواردات
والمعتزلة ينفون العلو والصفات ويسمون من أثبت مجسما حشويا فلما فتح الله تعالى عليه بذلك قال : والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة أو كما قال فإن عهدي بالحكاية من زمان وكان هذا الشيخ الكبرى إذا قيل له : من قال : { الرحمن على العرش استوى } فهو مجسم يقول : فخذ إني حنيئذ مجسم وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده بلاد جرجان وخوارزم

تابع كلام ابن حزم
قال أبو محمد بن حزم : ( ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبه وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وإصغاره ويقبل من آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام ومنهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام : إني لا أقبل إسلامك ولايصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه قال : ولسنا نقول : إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعا كقطعنا على ما شاهدنا : أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام ويبينه هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع وخلاف لله ولرسوله ولجميع أهل الإسلام قاطبة )

تعليق ابن تيمية
قلت : قبول الإسلام الظاهر يجري على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة : مثل عصمة الدم والمال والمناكحة والموروثة ونحو ذلك وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان
كما قال صلى الله عليه و سلم : [ فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ]
وقال : [ إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم ]
ولهذا يقاتل الكافر حتى يسلم أو يعطي الجزية فيكون مكرها على أحد الأمرين ومن قال : لا تؤخذ الجزية من وثني قال : إنه يقاتل حتى يسلم وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقا وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم منافقون وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير هذا موضع وميز سبحانه بين المؤمنين والمنافقين في غير موضع
كما في قوله : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير }
وقال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }
وهؤلاء قد قالت طائفة : إنهم أسلموا ظاهرا مع كونهم منافقين وقال الأكثرون : بل كانوا مسلمين غير منافقين ولا واصلين إلا حقيقة الإيمان فإنه قد قال فيهم : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم }
والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ] وغير ذلك من الأحاديث التي تكلم عليها في غير هذا الموضع فإن مسألة الإيمان والكفر والنفاق متعلقة بمسألة أول الواجبات ووجوب النظر بالفاسق الملي وتكفير أهل البدع وغير ذلك من المسائل التي تكلم عليها الناس
وبهذا أجابوا عن هذه الحجة فإنه لما قيل لهم : أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين قالوا : إنما نجتزىء منه بذلك لإجراء الإسلام عليه فإن صاحب الشرع جعل ذلك أمارة لإجراء الأحكام
ولو كان ذلك إيمانا حقيقيا لما قال في حق النسوة المهاجرات : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } ثم يقول : من ترك ملة من الملل وعاد إلى ملتنا فلا بد له من حامل يحمله عليه فإن كان الذي يحمله عليه ما علمه من فساد ملته وعقيدته وصحة دين الإسلام فهذا القدر كاف من النظر والاستدلال على الجملة وإن كان الذي يحمله رهبة منا أو رغبة فيما أعطانا الله من المال وغيره فهجرته إلى ما هاجر إليه

تابع كلام ابن حزم
قال أبو محمد : ( فإن قالوا : فما كانت حاجة الناس إلى الآيات والمعجزات ؟ وإلى احتجاج الله عليهم بالقرآن وإعجازه ؟ وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر ؟ قلنا وبالله التوفيق قد قلنا : إن الناس قسمان : قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين : طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضا ولابد وقسم وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فهؤلاء آمنوا له عليه السلام بلا تكليف آية وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقا بلا معرفة باستدلال قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل وقد قال بعضهم : إنهم مستدلون قال : وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لايدري ما معنى الاستدلال فكيف يستعمله ؟ )

تعليق ابن تيمية
قلت : لفظ الاستدلال فيه إجمال فإن أريد العبارة عن نظم الأدلة والجواب عن الممانعات والمعارضات فهذا قد يقال : إنه لا يحسنه إلا من يحسن الجدل وأما الاصطلاح المعين والترتيب المعين أو اللفظ المعين فهذا بمنزلة اللغات لا يعرفه إلا من يعرف تلك اللغة وليس هذا واجبا بلا ريب
وإن أريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء فهذا مركوز في فطرة جميع الناس فإنه مامنهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال بل ومن الجدال بحسب ما هداه الله إليه من ذلك
وقد قال تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق من غير معرفة بقوانين الجدل فكيف لا يجادل بالحق ؟
وللناس من النظر والمناظرة في صناعتهم وأمور دنياهم ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم فكيف في أمور الدين ؟
والله سبحانه يقول : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } وقال تعالى : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }
وهذا الذي ذكره ابن حزم هو قول كثير من الأشعرية فإنهم متنازعون في النظر : هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية ؟ وفي الواجب : هل هو المعرفة أو الاعتقاد الجازم المصمم ؟ وهل يسمى ذلك علما أم لا ؟

كلام الجويني في نفي وجوب النظر
وكان أبو المعالي يقول : ( لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من أطلاقه )
قال : ( وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا : مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع )
قال : ( وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن )

كلام أبي إسحاق الإسفراييني
وقال أبو إسحاق الإسفراييني في آخر مصنفاته : ( من اعتقد ما يجب اعتقاده هل يكتفي به ؟ اختلف الأصحاب فيه : فمنهم من اكتفى به ومنهم من شرط إقرار هذه العقائد بالأدلة )

تعليق ابن تيمية
قلت : والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان : أحدهما : من يقول : إن أكثر العامة تاركوه وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون : إن إيمانهم لا يصح وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليدا مع كونهم عصاة بترك النظر وهذا قول جمهورهم
قد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا : قال أبو حنيفة و سفيان و مالك و الأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد ولكنه عاص بترك الاستدلال

كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة
وقال الشارح : ( هذا يفيد فائدتين : إحداهما : أن الإيمان بالتقليد صحيح وإن لم يهتد إلى الاستدلال خلافا للمعتزلة والأشعرية فإنهما لا يصححان إيمان المقلد والإيمان بالتقليد ويقولان بكفر العامة )
وقال : ( وهذا قبيح من أقبح القبائح لأنه يؤدي إلى تفويت حكمة الله تعالى في الرسالة والنبوة لأن من أعطي الرسالة والنبوة أمر بعرض الإسلام أولا على الكفرة فلو كان الإسلام لا يصح بالعرض والتقليد لفات الحكمة في الرسالة إلا أن درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر كان إيمانه أنور )
وذكر كلاما آخر

تعليق ابن تيمية
قلت : القول القبيح الباطل تكفير من حكم الشارع بإيمانه وهم المؤمنون من العامة وغيرهم الذين لم يسلكوا الطرق المبتدعة كطريق الأعراض ونحوها وأما كون إيمان العامة تقليدا أو ليس تقليدا ؟ وهل هم عصاة أو ليسوا عصاة ؟ فهذا كلام آخر
وأما المعتزلة والأشعرية فلهم في ذلك نزاع وتفصيل معروف
والنوع الثاني من موجبي النظر - وهم جمهورهم - يقولون : إنه متيسر على العامة كما يقوله القاضي أبو بكر و القاضي أبو يعلي وغيرهما ممن يقول ذلك

كلام أبي يعلى في وجوب النظر
قالوا : ( فإن قيل : فتقولون بوجوب معرفة الله ومعرفة نبوة رسله في حق كل مكلف من أهل النظر والعامة وجفاة الأعراب والأكراد وأهل القصبة والرستاق ومن يقصر فهمه عن معرفة الدقيق وأدلة التفصيل ؟ قيل : نعم لأنه ليس في جميع من ذكرت من يعرف فهمه ويقصر علمه عن معرفة الحدث والمحدث عند مشاهدة تغيير العالم وما يحدث ويتجدد في أجسامه من الزيادة والنقصان والنماء وتغير الحالات وما تجد عليه النطفة من التصور والانتقال من حال إلى حال وإن قصرت عبارته عن أن يقول : إن هذه أمور متجددة طارئة إنه لا بد للصنعة من صانع وللكتابة من كاتب وقد علم أن انتقال النطفة إلى أن تصير إنسانا أو بهيمة أعظم في الأعجوبة من تحول الفضة خاتما والخشبة سريرا وبابا والغزل ثوبا منسوجا وإن لم يعبر عن ذلك بعبارات المتكلمين وألفاظ الناظرين وكما يفرق بين خبر الوحد الذي لا يوجب العلم وبين خبر التواتر الموجب للعلم وكما تجد في أنفسها الفرق بين الظن والتقليد وبين المشاهدة وعلم اليقين وإن تعذر عليها الفصل بين ذلك أجمع من طريق العبارة وإذا كان كذلك وجب أن يكون لجميعهم سبيل إلى معرفة الحدوث والمحدث ) هذه عبارة القاضي أبي يعلي وغيره من هؤلاء الذين وافقوا القاضي أبا بكر على طريقته

كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
وكذلك قال ابن الزاغوني وهو من القائلين بوجوب النظر والاستدلال وحكى ذلك عن عامة العلماء كما ذكره القاضي أبو يعلي و ابن عقيل و أبو الخطاب وغيرهم
قال : ( والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين : أحدهما : ما لا يتم الإيمان إلا به وهو معرفة الله وتوحيده وأنه صانع الأشياء وأن الكل عبيده وأمثال ذلك فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي ونعني بقولنا : العالم الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة وانتصب دافعا بالحق شبه أهل الاعتراض على وجه يترجح به الثقة ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في أحراز العلم وكثرة التبحر وإنما سمي عاميا من جهة قلة العدد في خواص العلماء بالإضافة إلى من بقي فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم والناس غيرهم أعم وجودا وأكثر عددا فلهذا سمي من قل علمه عاميا ومن جملة العامة ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال فإذا ثبت هذا فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم غير مقلدين في شيء قدمناه ذكره )
قال : ( وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء فإما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله )
قال : ( والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول : حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس وسكون القلب إلى معرفة مايعتقد بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة وبيان ذلك : أنه لو قيل لأحد من العوام : بم عرفت ربك ؟ لقال : بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وإلى السماء كيف رفعت } ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببيسط البيان المليح والتشقيق والغامض الدقيق وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه ويقصر عن شرحها بلسانه فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة وأحدهما في الكشف أبسط باعا وأفصح شرحا وهذا يرجع إلى شيء وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به ولا يوصل إلى ذلك في حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه وهذا خلاف ما نص الله عليه
دليل آخر : وهو أنا إذا تأملنا أدلة التوحيد وما يجب على العامي ترك التقليد فيه وجدناه سهلا في مأخذه قريبا في تناوله تشتاق النفوس إليه بأنسها ويستند ذلك إلى شيئين : أحدهما : أن ذلك منوط بالعقل ولأجل هذا ادعى خصومنا أن المعرفة وجبت بالعقل والعوام عقلاء
ويظهر ذلك شرعا وعقلا : أما الشرع فلا يكلف إلا عاقلا وهو تسليم أموالهم إليهم لرشدهم ولا رشيد إلا عاقل وأما طريق العقل فيما يظهر من ذلك في تدبيرهم وتدقيق حيلهم وخفي مكرهم في تقاسيم أحوال الدنيا
وقد سطر الناس في ذلك كتبا وصنفوا فيها من فنون المكر والحيل وتدقيق الآراء في أنواع التدبير ما فيه غنية لمن تأمله
والثاني : أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف حتى تجد النفوس بها مستأنسة وذلك مثلما يستدل العامي على معرفة أن له خالقا فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته من وجوه
أيسرها : أن الصانع من شرطه أن يتقدم على المصنوعات فإذا ثبت ذلك في نفسه واستقر ذلك في أمثاله من جنسه واستوى العالم كله عنده في أنه يشاركه في صفات نفسه اقتضى ذلك إثبات صانع آخر يخالفهم في استحقاق الجمع لحقيقة الوحدة ويتحقق فيه شرط السبق إلى غير غاية
وهذا وأمثاله معروف عند العامة لا يخفى عليهم وإن عجزوا في بعضه عن الإفصاح بشرحه والمأخوذ على المكلف فهمه ومعرفته على وجه يزول عنه الشك ويبعد فيه الريب ويستضيء به العقل وتثق به النفس
وهذا سهل لا تقصر العامة عن معرفته فلهذا قضينا لهم بالإيمان والمعرفة وهذا جلي واضح ولكونه حقا في نفسه صحيحا في معناه سوى الله في أحكامه بين العالم والعامي في احكام ذلك العامة وهي الخطاب بالأمر والنهي وإقرارهم على حكم القبول في المعقود من الأنكحة والبيوع وأداء الفرائض واجتناب المحارم والغسل والتكفين والصلاة عليهم والدفن في مقابر المسلمين إلى قبلتهم والتوارث منهم وذلك يوجب لهم القضاء بالإيمان والمعرفة )
قال : ( واحتج المخالف بأن حقيقة المعرفة هو العلم بالشيء أو العلم بالمعلوم وإنما يكون ذلك إذا وصل صاحبه إلى اليقين فيه وإذا لم يكن قادرا على بصيرة دليل يكشفه ولا على دفع شبهة يحلها لم يكن على يقين فيما علمه لأنه قد يعترض عليه فيما عنده شك ما يوجب نقلته عما كان عليه أو يعرض له من الشكوك ما يزيل الثقة بما عنده
ومن هو على هذه الصفة فهو ناقص المعرفة وتجويز النقصان في هذا يوجب أنه لم يتعلق بما مثله يصلح أن يكون كافيا في مقصوده شافيا في مراده وإلا فحقيقة المعرفة لا تدخلها التجزئة فيثبت منها بعض دون بعض فبان بهذا أن كل من كان في عداد العامة فهو غير عارف على الحقيقة ومن ليس بعارف لم يثبت له تسمية ما يستحقه أهل المعرفة من ذلك )
قال : ( والجواب أن ما أسلفناه في أول المسألة هو جواب عما ذكروه وهو أنه إذا أضاف ما علمه إلى دليل مثله لا يفسد وقد استحكمت ثقة المعترف به في مدة حياته لا يعتريه فساد ولا يدخله نقص واتفق على ذلك من يساويه في معرفته ومن يزيد عليه في مقام العلم والاجتهاد فقد استحكمت ثقته به من وجهين : أحدهما : علمه وتجربته والثاني : اتفاق أهل الملة على صحته ومثل هذا لا يعارضه شك يخرج المتمسك به عن الثقة فإنه قد ثبت عند العامة عموما لا يختلف فيه أحد منهم أن كل جسم مبني مجموع محدث كان بعد أن لم يكن ويتوهم نقضه كما يتحقق بناؤه وإن كان كل واحد منهم ليس بفاعل نفسه ولا فعله مثله ويتحقق أن من شرط الفاعل أن يكون سابقا على المفعول فإذا تساوت الأجسام في هذا دل على أن الفاعل لها غيرها وهو من لا يشاركها فيما أوجب بها العجز وهذا جلي واضح لا يمكن دفعه ولا تقابله شبهة تؤثر فيما استقر عند العالم به وهذا كاف لا يقصر عنه عامي ولا يقدر على الزيادة فيه عالم إلا بتحسين العبارة فيه أو حذف مواد الشبهة عنه وهذا أمر زائد على مقدار فهمه والثقة بصحته ولهذا كان من فرائض الكفايات )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : إن جمهور العامة لا يعرف هذا الدليل بل ولا يعرف مسمى الجسم في اصطلاح المستدلين به ولا يعرف أن الهواء يسمى جسما بل أكثر الناظرين في العلم من أهل الفلسفة والكلام والفقه والحديث والتصوف لم يعرفوا صحة هذا الدليل بل قالوا : إن باطل والسلف والأئمة جعلوا هذا من الكلام المبتدع الباطل ولم يدع أحد من الأنبياء وأتباعهم أحدا إلى الاستدلال على معرفة الله بهذا الطريق وإنما ابتدعه في الإسلام من كان مبتدعا في الإسلام من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ولكن الذي يعرفه العامة والخاصة إن كل واحد من الآدميين محدث كان بعد أن لم يكن وأنه ليس بفاعل نفسه ولم يفعله مثله
ولهذا استدل سبحانه بذلك في قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وكذلك يعلمون حدوث ما يشهدون حدوثه ويعلمون أنواعا من الادلة غير هذا

تابع كلام ابن الزاغوني
قال أبو الحسن بن الزاغوني : ( وأما قولهم : إنه قد يعترض عليه من الشبهة ما يوجب تفلته ويرفع ثقته فليس كذلك من وجهين : أحدهما : أن خيالات الشبه لا تكافي فيما ذكرنا فما يقصر من الشبه فتقصيره يظهر سريعا والنثاني : أنه إذا طرأ على العامي شبهة فإنه لا يزال يسأل عنها ويبالغ في التفتيش والتنقير حتى يخبره العلماء الربانيون في ذلك بما تقوى به ثقته )
قال : ( وأما قولهم : إن المعرفة ناقصة في حقه فإن أردتم أنها ناقصة من حيث إنه لا يصل إلى مطلوب المسألة فهذا محال لا فهذا مما لا يدخله نقص وذلك لأن الإنسان : إما عارف بالمسألة أو غير عارف ولا واسطة بينهما وإن أردتم بالنقص من طريق العدد في المسائل أو في الدلائل فصحيح غير أنه يفصل به بين علم الأعيان وعلم الكفاية وذلك غير قادح في ثبوت المسألة بدليلها الذي لا غنى عنه ولا زيادة عليه )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه مجهولا من وجه وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وقول كثير منهم من أصحاب الأشعري أو أكثرهم وهو قول جهم بن صفوان وكثير من المرجئة
لكن جمهور الناس على خلاف هذا وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد في روايتين وهذا يشبه تنازع الناس في العقل : هل يتفاضل ؟ فمذهب الجمهور أنه يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء ك التميمي والقاضي و أبي الخطاب وغيرهم من العلماء
وقالت طائفة : لا يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب الأشعري و ابن عقيل وغيرهم
وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات : هل تكون أوجب من بعض ؟ ف ابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الذين يقولون بوجوب النظر والاستدلال على الأعيان أو يقولون : إن الإيمان لا يصح إلا به لأن المعرفة واجبة والمعرفة لا تتم إلا به فقول جمهورهم : إن المراد بذلك هو العلم الذي يقوم بالقلب لا العبارة عنه ولا يوجبون نظم الدليل بالعبارة ولا القدرة على جواب المعارض ويقولون : إن العلم بالدليل أمر متيسر على العامة وإن العامة المؤمنين قد حصل لهم في قلوبهم النظر والاستدلال المفضي إلى العلم وإن لم يكونوا قادرين على نظم الدليل وبيانه بالعبارة
وهذا موجود في عامة ما يقوم بالنفس من علم وحب وبغض ولذة وألم وغير ذلك يكون ذلك موجودا في النفس يعلم به الإنسان ولكن وصف ذلك وبيانه والتعبير عنه شيء آخر
وليس كل من علم شيئا أمكنه أن يصفه ولهذا يسمى مثل هذا متكلما ومعلوم أن العلم ليس هو الكلام ولهذا يقال : العلم علمان : علم في القلب وعلم على اللسان فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان هو حجة الله على عباده وقد روي ذلك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وقد قيل : إنه من كلام الحسن وهو أقرب
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه كثير معطوه قليل سائلوه وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه قليل معطوه كثير سائلوه
فالفقيه الذي تفقه قلبه غير الخطيب الذي يخطب بلسانه وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة ولا يكون صاحبه مخاطبا بذلك لغيره وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها وهو عار عن ذلك فارغ منه
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة : طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة : طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة : ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة : طعمها مر ولا ريح لها ]
فبين صلى الله عليه و سلم إن الإنسان قد يقرأ القرآن فيتكلم بكلام الله وهو منافق ليس في قلبه إيمان وآخر يكون مؤمنا قلبه فيه من معرفة الله تعالى وتوحيده ومحبته وخشيته ما هو من أعظم الأمور وهو لا يتكلم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى
ولهذا قال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان
وقد قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ]
فأخبر انه أنزل الإيمان في القلوب وقد تقدم قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } وهذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن وشبه القلوب بالأودية وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي يذهب جفاء يجفوه القلب ويدفعه وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع
وتقدم أيضا حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان : لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ]
فقسم صلى الله عليه و سلم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم الذي شبهه بالغيث إلى ثلاثة أقسام : فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علما وعملا وقسم حفظوه وأوده إلى غيرهم وقسم ثالث لا هذا ولا هذا
وقوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } نظير قوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
ففي هاتين الايتين بين سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل لا بمجرد العقل الذي كان حاصلا قبل الوحي
والناس متنازعون في المعرفة : هل حصلت بالشرع أو بالعقل ؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا ؟
والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف من اصحاب أحمد وغيره
فإن الناس لهم في العقل : هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها ؟ والوجوب والتحريم قولان مشهوران : أحدهما : أنه لا يعلم به ذلك وهو قول الأشعري وأصحابه و ابن حامد و القاضي أبي يعلى و القاضي يعقوب و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك و الشافعي وغيرهما
والثاني : أنه يعلم به ذلك وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم وهو قول أبي الحسن التميمي و أبي الخطاب وغيرهما من أصحاب أحمد وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم ك أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني و أبي نصر السجزي وقول كثير من أصحاب مالك و الشافعي وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة وذكروه عن أبي حنيفة نفسه
وقد بسط الكلام على هذه المسألة وما فيها من التفصيل في غير هذا الموضع وكذلك المعرفة : هل تحصل بالعقل أو بالشرع ؟ فيها نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء
وحقيقة المسألة : أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع فالإقرار الفطري : كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار قد يحصل بالعقل كقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }
وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فلا يحصل إلا بالوحي كما في قوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان كقوله تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي }
وقوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } وقوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }
وقوله : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } إلى قوله : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
وقوله : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم }
وقوله : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وقوله : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور الإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته
وهذا يتعلق بمسألة القدر ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد ويقولون : إن ما يحصل للعبد من الإيمان لم يحصل من الله تعالى بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن وليس له نعمة على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وأما من قال منهم بقول أبي الحسين : إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي وإن الله يخلق الداعي وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما فهذا موافق لأهل السنة في المعنى وإن أظهر نزاعهم
والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك وصاروا يقولون : إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد ولا بإلهام وهداية منه يختص بها من يشاء من عباده
ولهذا خالفهم المثبتون للقدر ك الأشعري وغيره وقالوا : يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر فإن هذا عندهم ليس أمرا لازما لكنه بحسب العادة
والمعتزلة يقولون : إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى لعبد وتفضلا منه عليه لم يستحق العبد الثواب
وأهل السنة يقولون : هو محسن إلى العبد متفضل عليه بأن أرسل إليه الرسول صلى الله عليه و سلم وأن جعل له السمع والبصر الفؤاد الذي يعقل به وأن هداه للإيمان وأن أماته عليه فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمن وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم فذاك حق أوجبه بنفسه بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات لا أن شيئا من المخلوقات أوجب عليه شيئا أو حرم عليه شيئا والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر
فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم ك الأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي يسلكون مسلكهم في مسألة إيجاب النظر وأن الإيمان لا يحصل إلا به قال أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأشعرية : ( هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الأعتزال لمن اعتقدها وذلك لكون الأشعري كان معتزلا تلميذا لأبي علي الجبائي ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة
وأصل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة المذموم عند السلف والأئمة كان أئمة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم والمعتزلة قدرية جهمية وجهم وأتباعه جهمية مجبرة ثم الأشعري كان منهم ولما فارقهم وكشف فضائحهم وبين تناقضهم وسلك مسالك أبي محمد بن كلاب وأمثاله ناقضهم غاية المناقضة في مسائل القدر والوعيد والأسماء والأحكام كما ناقضهم في ذلك الجهمية والضرارية والنجارية ونحوهم
وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية حتى مال إلى قول جهم في ذلك لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة ك الإمام أحمد وغيره ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء ما ليس عن أولئك الطوائف
ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث وكانوا هم خير هذه الطوائف وأقربها إلى الكتاب والسنة ولكن خبرته بالحديث والسنة كانت مجملة وخبرته بالكلام كانت مفصلة فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة ودخل معه في تلك البقايا وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة والحديث من أتباع الأئمة من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد
وعامة هؤلاء يقولون الأقوال المتناقضة ويقولون القول ولا يلتزمون لوازمه ومن أسباب ذلك أنهم يقولون القول المأثور عن الصحابة والسلف الموافق للكتاب والسنة ولصريح المعقول ويسلكون في الرد على بعض الكفار أو بعض أهل البدع مسلكا سلكته المعتزلة ونحوهم وذلك المسلك لا يوافق أصول أهل السنة فيحتاجون إلى التزام لوازم ذلك المسلك المعتزلي وإلى القول بموجب نصوص الكتاب والسنة والمعقول الموافق لذلك فيحصل التعارض والتناقض
وهكذا المعتزلة ردوا على كثير من الكفار ردا بطرق سلكوها متى التزموا لوازمها عارضت حقا آخر معلوما بالشرع أو العقل ومن تدبر هذه الأبواب رأى عجائب وما ثم ما يثبت على السبر والتقسيم ويسلم عن التناقض إلا ما جاء من عند الله
كما قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره ويرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع المعترض في عينه ويذكر من تناقض أقوال غيره ومخالفتها للنصوص والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها
والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }
وقال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا }
وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] رواه أهل السنن
ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم
وقد قال تعالى : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير }
وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألوانا لا يسعها هذا الموضع وكثير من نزاع الناس يكون نزاعا لفظيا أو نزاع تنوع لا نزاع تناقض
فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا هو معنى اللفظ الذي لا يقوله هذا وإن اختلف اللفظان فيتنازعان لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر وهذا كثير
والثاني أن يكون هذا يقول نوعا من العلم والدليل صحيحا ويقول الآخر نوعا صحيحا
وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب وكثير منه نزاع في المعنى والنزاع المعنوي : إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه
فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان أو توقف صحة الإيمان عليه ونحو ذلك
ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات : هل هو النظر أو القصد أو الشك أو المعرفة ؟ صار كثير من المنتسبين إلى السنة المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم ك مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه : ( قال أصحابنا ) و ( اختلف أصحابنا ) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس وقد يجتمع فيه الوصفان
وهذا موجود كثيرا في أتباع جميع الأئمة فتجد الواحد من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد يقول : اختلف أصحابنا في أول الواجبات ونحو ذلك ولا يصح كلامه إلا على هذا الوجه

كلام أبي الفرج المقدسي
كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبرصته فإنه قال : ( فصل ) : في أول ما أوجب الله على العبد المكلف وفي ذلك وجهان لأصحابنا : أحدهما : أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته والثاني : أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقال قوم : أول ما أو جب الله على العبد الطهارة و الصلاة وغير ذلك )
ثم قال : ( دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته لأنه لا يجوز للمكلف ان يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا وجب تقدم المعرفة على العبادة )
قال : ( وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى : { أولم يتفكروا في أنفسهم } وقال : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
قال : ( ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته )
قال : ( دليل ثان : أن النبي صلى الله عليه و سلم أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفى الإليهة عما سواه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض فدل على ما قلناه )

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول ولا هذا القول وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة والنبي صلى الله عليه و سلم لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء ولا إلى مجرد إثبات الصانع بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان وبذلك أمر أصحابه
كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن : [ إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فإعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ]
وكذلك سائر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم موافقه لهذا كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ]
وفي حديث ابن عمر : [ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ]
وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين وعلماء المسلمين فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلا أو مشركا أو كتابيا وبذلك يصير الكافر مسلما ولا يصير مسلما بدون ذلك
كما قال أبو بكر بن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذ قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنه مسلم فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد
لكن تنازعوا فيما إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله : هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن ؟ أو يفرق بين من يكون مقرا بالتوحيد ومن لا يكون مقرا على ثلاثة أقوال معروفة من مذهب أحمد وغيره من الفقهاء ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات كالشيخ عبد القادر وغيره : أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان
واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين
والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد وإنما في الأمر بالنظر لبعض الناس وهذا موافق لقول من يقول : إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجبا إلا به وهذا أصح الأقوال
فقوله تعالى : { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } وهذا بعد قوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون }
ثم قال تعالى : { أولم يتفكروا في أنفسهم } فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
وقوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون }
فهذا مذكور بعد قوله : { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين }
ثم قال : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } فالضمير عائد إلى المكذبين فإنه قال تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } ثم قال تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون } فقول هؤلاء كأبي المعالي وغيره : ( أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم ) هو في الأصل من كلام المعتزلة وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين ولما تواتر عن سيد المرسلين بل لما علم بالاضطرار من دينه
وإذا قدر أن أول الواجبات هو النظر أو المعرفة أو الشهادتان أو ماقيل فهذا لا يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ إلا إذا لم يكن قد فعله قبل البلوغ فأما من فعل ذلك قبل البلوغ فإنه لا يجب عليه فعله مرة ثانية لا سيما إذا كان النظر مستلزما للشك المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان فيكون التقدير : اكفر ثم آمن واجهل ثم أعرف وهذا كما أنه محرم في الشرع فهوممتنع في العقل فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف ما لا يقدر عليه فإن الجاهل يمكن أن يصير عالما فإذا أمر بتحصيل العلم كان ممكنا أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلا كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه فمن كان الله قد أنعم عليه وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه فحصل له الإيمان المتضمن للمعرفة لم يمكن أن يؤمر بما يناقض المعرفة من نظر ينافي المعرفة أو شك أو نحو ذلك بل الأمر لمن حصل له علم ومعرفة أن يقدم ذلك ثم يحصله مثل تكليف من حصل له قصد الصلاة ونيتها بأن يقدم ذلك ثم تحصل النية وهذا مع أنه من باب الجهل والسفه والضلال فهو من باب تكليف العباد ما يعجزون عنه ولهذا يقال : الوسوسة لا تكون إلا من خبل في العقل أو جهل بالشرع
وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ وكذلك لوكان عليه ديون فقضاها أو قضاها وليه لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة وهو قول في مذهب أحمد ومن الناس من يضعف هذا القول ولعله أقوى من غيره فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا من الصبيان بإعادة الصلاة مع العلم بأن كثيرا منهم يحتلم بالليل وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ
والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنا بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنا بذلك حتى يشهد أن محمدا رسول الله ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر أو يمكن حصوله بدونه ؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية ؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة ؟ والنظر المحصل لها : هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين ؟ هذه مسائل أخر
ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة : هل تحصل بالعقل أو بالشرع ؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي وبعضه معنوي فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم كان النزاع معه معنويا
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء وأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا بهذه الطرق ولا علق إيمانه ومعرفته بالله بهذه الطرق بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة
ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول : لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع لا وجوب على من لم يبلغ ذلك وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين وإن كان لم يتكلم بهما وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة
وهذا هو المعنى الذي قصده من قال : أول الواجبات الطهارة والصلاة فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا كما [ قال صلى الله عليه و سلم : مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ]
ولهذا قال الأئمة كالشافعي و أحمد وغيرهما : يجب على كافل الصبي أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين ولا نظر ولا استدلال ونحو ذلك ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوب ذلك يسبق وجوب الصلاة لكن هو قد أدى هذا الواجب قبل ذلك : إما بلفظه وإما بمعناه فإن نفس الإسلام والدخول فيه إلتزام لذلك
وهنا مسائل تكلم الفقهاء فيها فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما ؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام
فإن قال هؤلاء : يعني بكونه أول الواجبات : أنه أول العبد من الواجبات ؟ قيل : قد يؤدي قبل ذلك واجبات : من قضاء الديون وأداء الأمانة وصلة الأرحام والعدل وغير ذلك
فإن قيل : لكن هذا أول واجب يتعلق به الثواب في الآخرة بخلاف ما أدي بدونه فإنه لا ثواب فيه في الآخرة ؟
قيل : مع قولنا بأنه لا وجوب ولا ثواب في الآخرة إلا بالشرع فلا يثاب لا على هذا وعلى هذا قبل مجيء الشرع ولا يجب لا هذا ولا هذا إلا بالشرع وإذا خاطبه الشارع الناس فإنما يأمر العبد ابتداء لما لم يؤده من الواجبات دون ما أداه فلم يخاطب المشركين ابتداء بالمعرفة إذ كانوا مقرين بالصانع وإنما أمرهم بالشهادتين ولو لم يكونوا مقرين بالصانع فإنه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين بل أمرهم بالشهادتين ابتداء
والشهادتان تتضمن المعرفة فلو أقروا بالصانع وعرفوه من غير إقرار بالشهادتين لم يقبل ذلك منهم ولم يخرجوا بذلك من الكفر ولم يرتب خطابهم بذلك شيئا بعد شيء بل خاطبهم بالجميع ابتداء
وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة ومن تبعهم على هذه الطريقة كالقاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى في المعتمد وغيرهما
وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقا أما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية إن كانوا من أهلها فإذا أسر الرجل منهم فهذا لا يتعين قتله فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجى إسلامه أمهل وأما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث وأما من له عهد فذلك لا يكره على الإسلام فهو في مهلة النظر دائما
ولوطلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدة ورجا بذلك إسلامهم ولم يخف مفسدة راجحة أمهلهم
والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن وينظر في دلائل الإسلام أمناه كما قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }
وأما من قال بالوجوب العقلي كما هو قول المعتزلة والكرامية ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء : أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها لكن أخد كلامهم من أراد أن يبنية على أصوله من الأشعرية ونحوهم فتناقض كلامه
ومن قال بالوجوب العقلي إذا قال : أول الواجبات المعرفة كان ذلك أقرب ثم له أن يقول : الرسول صلى الله عليه و سلم إذا أوجب الشهادتين ابتداء فقد ضم إلى الواجب العقلي ما يجب بالشرع وجعل أحدهما شرطا في الآخر فلا يقبل لأحدهما دون الآخر ومن أدى هذا الواجب أو بعضه لم يخاطبه إلا بفعل ما لم يؤده وعلى هذا فيكون خطاب الشارع للناس بحسب أحوالهم
وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس فقد يجب على هذا ابتداء ما لا يجب على هذا ابتداء فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهرا وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها
وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدا بعد واحد ليس هو أمرا يستوي فيه جميع الناس بل هم متنوعون في ذلك فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا فكذلك قد يؤمر هذا ابتداء بما لا يؤمر به هذا فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداء من واجبات الصلاة فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداء ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا
وهكذا الواجبات العقلية : إذا قيل بالوجوب العقلي يتنوع الناس في ترتيبها فهذا يؤمر بقضاء ما عليه من الديون وهذا يؤمر برد ما عنده من الودائع وهذا يؤمر بالعدل في حكمه والصدق في شهادته وأمثال ذلك وكما أنهم متنوعون في ترتيب الوجوب فهم متنوعون في ترتيب الحصول علما وعملا

كلام أبي الحسين البصري عن العلم
وقد سلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم ترتيبا معينا في العلم الواجب على كل مكلف وزعموا أنه لايمكن حصول المعرفة لأحد إلا على ذلك الترتيب الخاص كما ذكرناه من كلام أبي الحسين البصري وأمثاله حيث قالوا : ( ليس يثق أحد بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن يصدق الكذابين وليس يعلم أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلم أنه يثبت ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا نعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله )
قال : ( فيجب أن يتكلم في هذه الأشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل )
ثم إنه تكلم في حدوث الأجسام وبنى الأمر في ذلك على أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وبنى ذلك على أنه إذا كان كل من الحوادث له أول استحال أن لا يكون له أول لأنها ليست سوى آحادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود ولا يكونوا كلهم سودا

تعليق ابن تيمية
فقد جعل الدين كله مبنيا على هذا الترتيب المبني على هذه المقدمة التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم وهذا هي أصول الدين عندهم وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين بل جمهور عقلاء العالمين بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفا عليها
وعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع فقوله : لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون بل أكثر الناس
وقوله : ( لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح ) ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وقوله : ( لا يعلم غناه إلا إذا علم أنه ليس بجسم ) ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وكذلك ما ذكره من قوله : ( ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ) ومراده نفي الصفات والقول : بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون
وقوله : ( إنما يعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معرفة باضطرار ) ينازعه فيه طوائف آخرون
فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء
ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها فهذا يذكر عددا من المنازل والمقامات وترتيبا وهذا يذكر عددا آخر وترتيبا ويقول هذا : إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا حتى يحصل له كذا وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا ويقول هذا : عدد المنازل مائة ويقول الآخر عددها أكثر وأقل ثم هذا يقسم المنازل أقساما يجعلها الآخر كلها قسما ويذكر هذا أسماء وأحوالا لا يذكرها الآخر
وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم فإذا كان ما قالوه حقا فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب وهذه الانتقالات فهذا باطل
وكذلك أيضا نظير هذا ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله وما يذكرونه من الحدود والأقيسة والانتقالات الذهنية فغاية كلامهم - إذ كان صحيحا - أن يكون ذلك وصفا لما تسلكه طائفة معينة أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة فهذا كلام باطل فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين كل هذا مع كونه في نفسه مشتملا على حق وباطل فالحق منه لا يوجب الحصر ولكن هو وصف قوم معينين وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق
ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما أقوى وأنفع وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى ومتبع هؤلاء ضال شقي إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك بل يظنه صدقا ما لا يحصيه إلا الله
وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملا لجميعهم وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه : يصف أحدهم طريق طائفة ثم يجعله عاما كليا ومن لم يسلكه كان ضالا عنده ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن يكون صوابا ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق فيجيء من سلك غير ذلك الطريق : يبطله بالكلية ويرد ما فيه من الصواب
وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع وفصلنا القول فيها وبينا منشأ الغلط فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به
وهذا الذي اتفقوا عليه حق لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك وليس الأمر كذلك بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك لكن الشارع عرف بالموجود وأثبت المفقود فتحسينه : إما كشف وبيان وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان
وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب والقبح ما حصل به الذم والعقاب ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان والذم والعقاب مناف للإنسان
وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة والمحبة والرضا بل جعلوا كل مراد محبوبا مرضيا ثم قال هؤلاء : الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوبا باتفاق المسلمين فلا يكون مرادا فيكون وقوع ذلك بدون إرادته فيكون في ملكه ما لا يريده فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون
وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والكفر والفسوق والعصيان مراد له فيكون محبوبا مرضيا فيكون محبا راضيا فيكون محبا راضيا بالكفر والفسوق والعصيان فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد وإن لم يلتزموه
وأولئك قالوا : يكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فلزمهم أن يكون عاجزا مغلوبا وإن كانوا لا يكرمون عجزه فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك وأولئك لم يجعلوا الحمد والله تعالى له الملك وله الحمد هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته وأنه معبود محمود حكيم عادل فقصروا في ذلك ونقصوه موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته ورحمته وحمده وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب وأما الحصول فكثير من الناس يقول : المعرفة لا تحصل إلا بالعقل وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا إلا بالعقل وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى لا إثباتا ولا نفيا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية ويجعلون أصول الدين هي : العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلا وشرعا كطريقة الأعراض وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة ويقابلهم آخرون فيقولون : المعرفة لا تحصل إلا بالسمع ولا تحصل بالعقل وربما قالوا : إنه لا يمكن حصولها بالعقل وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة كل منهم مستلزم صحة الآخر فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله وتوحيده وصفاته وصدق أنبيائه
ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي والعقليات لا تتضمن السمعي ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات وطعن في العقليات ومنهم من عكس
وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة : مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم

كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين
وكثير من النزاع في ذلك قد يكون لفظيا وقد رأيت من ذلك عجائب كطائفة من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد سلكوا الطريقة الأولى ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الجهل والغباوة حتى أن بعض متأخري أصحاب أحمد وهو أبو الفرج صدقة ابن الحسين البغدادي صنف مصنفا سماه محجة الساري في معرفة الباري سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم فذكر أنه سئل عن المعرفة بأي طريق تحصل ؟ ومن أي طريق تجب ؟ وأن يبين اختلاف الناس في ذلك وذكر أن الناس تنازعوا في أول واجب على الإنسان بعد سن البلوغ والعقل هل هو النظر أو المعرفة ؟ وأنهم اتفقوا على وجوب المعرفة واختلفوا في طريقه
قال : ( فذهب أهل الحق والسنة والجماعة إلى أن طريق الوجوب هو السمع والنقل وقالت المعتزلة : طريق الوجوب هو العقل )
ثم قال : ( وهنا مزلة أقدام لبعض أصحابنا الحنابلة لأنهم إذا سئلوا مطلقا عن معرفة الله وقيل لهم : بم يعرف الله ؟ قالوا : بالشرع من غير فصل بين الوجوب والحصول )
قال : ( وقد نبهتهم على هذا غير مرة فما هبوا من رقدتهم ولا انتبهوا من سنتهم )
ثم ذكر قول الإمامية والباطنية وأن المعرفة تحصل عندهم بقول الرسول والإمام المعصوم دون نظر العقل وتكلم في مسألة نفي الوجوب العقلي بما ليس هذا موضعه
وتكلم في طرق المعلومات بالكلام المعروف لأهل هذه الطريقة وأن منها ما لا يعلم إلا بالعقل ومنها ما لا يعلم بالسمع ومنها ما يعلم بهما فالذي لا يعلم إلا بالعقل : علمنا بأنه لا بد من موجود قديم لأن الكل لو كان حادثا لكان حادثا بلا سبب وهذه المعرفة تتقدم على ورود الرسول فلا حاجة فيها إلى الرسول بل مثاله علمنا بدلالة معجزة رسول الله صلى الله عليه و سلم على صدقه والذي يعلم بمجرد التعليم من النبي المعصوم مثل علمنا بمقادير العبادات الواجبة وما يتعلق بالآخرة من الجنة والنار وعذاب القبر والحساب والميزان وغير ذلك
قال : ( فالرسول صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليفصل الشرع وليشرح أمر الآخرة فأما معرفة افتقار هذا العالم إلى صانع قادر على إرسال الرسل فهو متقدم على قول الرسول فكيف يكون مستفادا من قول الرسول ؟ فمعرفة المرسل إذا تقدم على معرفة الرسول ومعرفة صدقه فكيف يعرف بقول الرسول ؟ قال : وأما مثال ما يدرك بالعقل والسمع جميعا فهو كرؤية الله تعالى وكونه خالقا لأعمال العباد فهذا مما يعلم بمجرد السمع وبمجرد العقل
ثم قال : ( وأما حجتنا في حصول المعرفة بمجرد العقل فقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقال في موضع آخر { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فهذا كله دعوة إلى الدلائل العقلية وهو التأمل في الآيات الدالة على حدوث العالم وقدم الصانع من غير شرط على ما نبنيه من بعد )
قال : ( ولأنه بالعقل يستدل بالشاهد على الغائب وبالبناء على الباني وبالكتابة على الكتاب من غير سماع خطاب )
قال : ( وآثار صنع الباري - عزت قدرته - في الموجودات أكثر وأظهر من كل دليل وكل من وقف على آثار صنعته بنور عقله يقع له العلم بوجود الصانع إذ لا يتصور مصنوع بلا صانع ولا مخلوق بلا خالق )
قال : ( والدليل على أن النظر أول الواجبات هو أن سائر الواجبات من الصلاة والصيام إنما يوجد بعد المعرفة لأن إنما يصح أن يتقرب إلى الله من يعرفه فصارت المعرفة متقدمة على سائر الواجبات والنظر متقدم على المعرفة لأنه طريق إليها وطريق الشيء متقدم عليه فصح أن النظر متقدم على كل شيء واجب وهنا التقدم في النظر إنما هو في وجوده لا في وجوبه وإلا فالواجب الأول هو المعرفة يعني : الواجب قصدا )
قال : ( والحاجة التي دعت إلى النظر هو أنه لا طريق إلى المعرفة إلا به والدليل على ذلك أن المعرفة إما تكون واقعة مبتدأة كمعرفة العاقل أن العشرة أكثر من الخمسة وإما أن تكون واقعة عن طريق كمعرفتنا بالمدركات إذا أدركناها بحواسنا الخمس وكمعرفتنا بما غاب عنا إذا أخبرنا به خلق عظيم شاهدوه نحو معرفتنا بمكة من جهة الخبر وإما أن تكون بالاستدلال كاستدلالنا بالبناء على الباني )
قال : ( ومعلوم أن معرفة الله تعالى لا تجري مجرى معرفتنا بأن العشرة أكثر من الخمسة لأنه لو جرت هذا المجرى لاستغنينا عن الاستدلال عليه كما نستغني عن الاستدلال على أن العشرة أكثر من الخمسة ومعلوم أن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال على الله تعالى ولا يجوز أن تكون معرفتنا بالله تعالى لإدراك الحواس لأنه لا يجوز أن يدرك بشيء منها في الدنيا ولا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة وليس أحد يخبرنا بالله عن مشاهدة ولا يجوز أن تكون معرفته بطريق الإلهام كما زعمت طائفة من الصوفية وبعض الشيعة لأن الإلهام هو تخايل يقع في القلب قد يكون ذلك من الله وقد يكون من وسوسة الشيطان وليس على أحدهما دليل يدل عليه ولأن من يدعي الإلهام يمكن خصمه أن يدعي خلافه فإنه إذا قال : ألهمت بكذا فيقول خصمه : وأنا ألهمت بكذا فكان العمل به عملا بلا دليل ألا ترى أن صاحب الشرع أمرنا بالاجتهاد عند فقد النصوص ؟ هو عمل بدلالة النصوص كما روي في حديث معاذ )
قال : ( ولا يلزم على هذا التحري في الأواني وغيرها في الشرع فإنه عمل بشهادة القلب لأنه هناك ليس ثم دليل سواه
وذلك ليس من قبل ما ذكرنا لأن الإلهام لا يصلح حجة لإلزام الحكم على الغير وكذلك التحري أيضا لا يصلح للإلزام على غيره وإنما اعتبر لجواز العمل في حق نفسه عند عدم سائر الأدلة أما المشروعات فلا يتصور أن تنفك عن نوع دليل : إما الكتاب أو السنة أو إجماع أو قياس فلا ضرورة في العمل بغير حجة ودليل فإذا بطلت هذه الأقسام كلها ثبت أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر )
قال : ( فإن قيل : بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلا ؟ قيل : بأن تبين في كل مسألة تبيينا عقليا يفضي النظر فيه إلى العلم فإن قيل لم قلتم إن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل ؟ قيل : الدلالة على ذلك : أن الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم أنه كلام الله الحكيم فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبأن هذا كلامه وإنما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا ثبت أنها كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم الحكيم فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وأن هذا الرسول رسوله وإنما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة فيجب تقدم العلم بالله فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل )
قال : ( فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى ؟ قيل : نفسك وسائر ما تشاهدوه من الأجسام فوجه دلالة الإنسان من نفسه على الله تعالى أنه قد كان نطفة ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره وإن كان غيره فلا يخلو إما أن يكون من جنسه أو من غير جنسه فإن كان من جنسه فإما أن يكون أبويه أو غيرهما فإن كان من غير جنسه فهو قولنا وسنبطل سائر الأقسام ونثبت هذا الأخير أما أنه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب كالكلام فيمن شكل الإنسان ولأن القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقى فيه فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها ؟ ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعية غير عالمة ولا مختارة لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج
وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان ألا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها ؟ ولا يجوز أن يكون الإنسان هو الذي غير نفسه من حال إلى حال لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله أقدر وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف أعجز ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما ألا ترى أنهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون ؟ ويريدانه ذكرا فيكون أنثى ويريدانه أنثى فيكون ذكرا ؟ فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به أجدر فصح أن للإنسان فاعلا مخالفا له وهو الله تعالى )
قال : ( فإن قيل : فكيف يدل غير على الله ؟ قيل : إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهذه حوادث فيجب أن يكون للجسم محدثا إذ لم يتقدم الحوادث والدليل على أن الأجسام محدثة هو أن الأجسام محدثة وكل محدث يحتاج إلى محدث )
قال : ( وهذا الكلام يشتمل على أصلين : أحدهما : أن الأجسام محدثة والثاني : أن كل محدث يحتاج إلى محدث أما الأصل الأول فالغرض به أن يدل على أن الجواهر والأجسام محدثة غير قديمة ولا يصح أن تثبت صفة لشيء وتنقى صفة عن شيء إلا وقد عرفنا ما تثبت له الصفة والصفة التي نثبتها والصفة التي ننفيها فيجب أن نذكر ما الجوهر و ما الجسم و ما القديم وما المحدث ولما كان الوصلة إلى حدوث الجسم هو العرض الذي هو الحركة والسكون والكون والاجتماع والافتراق ولم يصح أن يتوصل بما لا نعرفه وجب أن نبين ما العرض و ما الكون و ما الحركة و ما السكون و ما الاجتماع والافتراق فالجوهر هو الذي يشغل الحيز في وجوده و يصح أن تحله الأعراض ومعنى شغله الحيز أن يوجد في جهة ومكان فيحوزه ويمنع مثله من أن يوجد معه بحيث هو و الجسم هو المؤلف عند قوم : هو الطويل العميق والقديم هو : الموجود الذي لم يزل والذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي لوجوده أول والعرض هو ما يعرض في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر والأجسام وذلك أن ما قل لبثه بالإضافة إلى غيره سموه عارضا قال الله تعالى : { هذا عارض ممطرنا } وذلك نحو الحركة والسكون و الحركة زوال الجسم من مكان إلى مكان والسكون لبث الجوهر في المكان أكثر من وقت واحد والكون ما به كون الجوهر في مكان دون مكان والاجتماع كونا جوهرين متماسين والافتراق كونا جوهرين غير متماسين )
قال : ( وإذ قد ذكرنا حدود هذه الأشياء فلندل على حدوث الأجسام فنقول : إن الأجسام لم تسبق الحركة والسكون المحدثين وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث )
ثم إنه ساق هذه الحجة إلى آخرها كما ساقها من قبله مثل ابن عقيل ونحوه وقبلهم أبو الحسين البصري وأمثاله الذين هم أئمة هذه الحجة وقد ذكرنا سياق أبي الحسين لها فلا حاجة إلى تكريرها
وقال : ( فإن قيل : فما تقولون فيمن حصلت له هذه المعرفة بمجرد التقليد أو غيره ؟ أيكون عارفا بالله مؤمنا ؟ قيل : نعم إلا أنه يكون مأثوما بترك ما وجب عليه من النظر )

تعليق ابن تيمية
قلت : أما هذه الحجة : حجة الأعراض فقد عرف اعتراض الناس عليه وذمهم لها وأما الحجة المتقدمة وهي الاستدلال بحدوث الإنسان فإنها حجة صحيحة وهي من الحجج التي دل عليها القرآن وأرشد إليها
والمقصود هنا أن هذا وأمثاله ممن يقولون : إن المعرفة لا تحصل إلا بالعقل ويشنعون على من يقول : إنها تحصل بالسمع من أصحابهم وغير أصحابهم إذا تدبر كثير من كلام أصحابهم الذين ينازعهم هؤلاء تبين أن نزاعهم لهم ليس في نفس ما ثبت معرفته بمجرد العقل بل في أمر آخر
والمعنى الذي أراد أولئك أنه يحصل بالسمع ليس هو المعنى الذي اتفقوا على أنه لا يحصل إلا بالعقل كما ذكر ذلك الشريف أبو علي بن أبي موسى وغيره وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم فالنزاع بينهم وبين كثير من أصحابهم قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا فإن المقدمات التي حصروا بها المعرفة في طريقهم ينازعهم الناس في كل واحدة منها وإن تنوع المنازعون وهذا كله بناء على أن دلالة السمع هي مجرد خبر المخبر الصادق كما هو اصطلاح هؤلاء
وأما إذا عرف أن دلالة السمع تتناول الأخبار وتتناول الإرشاد والتنبيه والبيان للدلائل العقلية وأن الناس كما يستفيدون من كلام المصنفين والمعلمين الأدلة العقلية التي تبين لهم الحق فاستفادتهم ذلك من كلام الله أكمل وأفضل
فتلك الأدلة عقلية باعتبار أن العقل يعلم صحتها إذا نبه عليها وهي شرعية باعتبار أن الشرع دل عليها وهدى إليها فعلى هذا التقدير تكون الدلائل حينئذ شرعية عقلية
وعلى هذا فقد يقال : الأدلة الشرعية نوعان : عقلي وسمعي فالعقلي ما دل الشرع عليه من المعقولات والسمعي ما دل بمجرد الإخبار وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أئمة النظار معترفون باشتمال القرآن على الدلائل العقلية وأما على اصطلاح أولئك فكثيرا ما يعنون بالدليل الشرعي الدليل السمعي الخبري وهو مجرد خبر الشارع الصادق فعلى اصطلاحهم ينازعهم الناس في تلك المقدمات العقلية التي زعموا أن المعرفة لا تحصل إلا بها
فأما المقدمة الأولى وهي قولهم : إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس بل لا بد لها من طريق فهي من موارد النزاع فإذا قيل لهم : إنها قد تحصل في النفس مبتدأة لم يكن لها على نفي ذلك دليل إلا مجرد الاستقراء الذي هو : إما فاسد وإما ناقص
وقولهم : إن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال يقول لهم المنازعون : لا نسلم أن جميع العقلاء كذلك بل جمهور العقلاء مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى وهم مفطورون على ذلك ولهذا إذا ذكر لأحدهم اسمه تعالى وجد نفسه ذاكرة له مقبلة عليه كما إذا ذكر له ما هو عنده من المخلوقات
والمتجاهل الذي يقول : إنه لا يعرفه هو عند الناس أعظم تجاهلا ممن يقول : إنه لا يعرف ما تواتر خبره من الأنبياء والملوك والمدائن والوقائع وذلك عندهم أعظم سفسطة من غيره من أنواع السفسطة
ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده وحاجته معلقة به سبحانه وتعالى بل كل ما يخطر بقلب العبد ويريده فهو ملزوم له وخواطر العباد وإرادتهم لا نهاية لها وانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم لا ينحصر بل إقرار القلوب به قد لا يحتاج إلى وسط وطريق بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون وقد كان مستيقنا في الباطن كما قال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } وقال تعالى عنه وعن قومه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }
ولهذا قال : { وما رب العالمين } على وجه الإنكار له قال له موسى : { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } وقد زعم طائفة أن فرعون استفهم استفهام استعلام فسأله عن الماهية وأن المسؤول عنه لما لم يكن له ماهية عجز موسى عن الجواب
وهذا غلط وعلى هذا التقدير يكون استفهم استفهام إنكار وجحد كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدا لله نافيا له لم يكن مثبتا له طالبا للعلم بماهيته
فلهذا بين لهم موسى أنه معروف وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو فإن هذا إنما هو سؤال عما يجهل وهو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل بل معرفته مستقرة في الفطرة أعظم من معرفة كل معروف وهو سبحانه له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو في السماء إله وفي الأرض فأهل السماوات والأرض يعرفونه ويعبدونه وإن كان أكثر أهل الأرض كما قال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }
ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأمهم : { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } وهذا استفهام إنكار يتضمن النفي ويبين أنه ليس في الله شك
وقول القائل : ليس في هذا شك يراد به أنه قد بلغ في الظهور والوضوح ولزوم معرفته إلى حيث لا ينبغي أن يشك فيه وإلى حيث لا يشك فيه وعلى كلا التقديرين يتبين أن الإقرار بالصانع بهذه المثابة
وأما الطريق الثاني وهو إدراك الحواس فلا ريب أنهم لا يقولون إنهم يدركونه بالحس الظاهر بل يقولون : إن الحس نوعان : ظاهر وباطن والإنسان يحس بباطنه الأمور الباطنة كالجوع والعطش والشبع والري والفرح والحزن واللذة والألم ونحو ذلك من أحوال النفس فهكذا يحسون ما في بطونهم من محبته سبحانه وتعظيمه والذل له والافتقار إليه مما اضطروا إليه وفطروا عليه ويحسون أيضا ما يحصل في بواطنهم من المعرفة المتضمنة لمثله الأعلى في قلوبهم
والإحساس نوعان : نوع بلا واسطة كالإحساس بنفس الشمس والقمر والكواكب وإحساس بواسطة : كالإحساس بالشمس والقمر والكواكب في مرآه أو ماء أو نحو ذلك
والقلوب مفطورة على أن يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها فإذا تجلى فيها شيء أحست به إحساسا باطنا تجليه فيها
وأيضا فنفس مشاهدة القلوب لنفسه تبارك وتعالى أمر ممكن وإن كان ذلك قد يقال : إنه مختص ببعض الخلق كما قال أبو ذر و ابن عباس وغيرهما من السلف : [ إن نبينا صلى الله عليه و سلم رأى ربه بفؤاده ] و قال ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين
فهذا النوع إذا كان ممكنا وقد قيل : إنه واقع لم يمكن نفيه إلا بدليل وأما الرؤية بالعين في الدنيا وإن كانت ممكنة عند السلف والأئمة لكن لم تثبت لأحد ولم يدعها أحد من العلماء لأحد إلا لنبينا صلى الله عليه و سلم على قول بعضهم وقد ادعاها طائفة من الصوفية لغيره لكن هذا باطل لأنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن أحدا لا يراه في الدنيا بعينه
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت ]
وقد بسطنا الكلام على مسألة الرؤية في غير هذا الموضع وبينا أن النصوص عن الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة هو الثابت عن ابن عباس من أنه يقال : رآه بقلبه أو : رآه بفؤاده
وأما تقييد الرؤية العين فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد
والذي في الصحيح [ عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ] ! وقد روى أحمد بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده واعتمد أحمد على قول أبي ذر لأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن هذه المسألة وأجابه - وهو أعلم بمعنى ما أجابه به النبي صلى الله عليه و سلم فلما ثبت أنه رآه بفؤاده دل ذلك على مراده
وأما قولهم : لا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة وليس أحد يخبر بالله عن مشاهدة
فهذا مما ينازعهم فيه المنازعون ويقولون : ليس من شرط أهل التواتر أن يخبروا عن مشاهدة بل إذا أخبروا عن علم ضروري حصل العلم بمخبر أخبارهم وإن لم يكن المخبر مشاهدا
والمعرفة بالله قد تقع ضرورة وإذا كان كذلك أمكن المعرفة بتصديق أخبار المخبرين عن المعرفة الحاصلة ضرورة إلى ترى أن ما يخبر به الناس عن أنفسهم من لذة الجماع وكثير من المطاعم والمشارب بل ولذه العلم والعبادة والرئاسة وحال السكر والعشق وغير ذلك من الأمور الباطنة تحصل المعرفة بوجودها بالتواتر لمن لم يجدها من نفسه ولا عرفها بالضرورة في باطنه ؟ وليست أمرا مشاهدا بل إطباق الناس على وصف رجل بالعلم أو العدل أو الشجاعة أو الكرم أو المكر أو الدهاء أو غير ذلك من الأمور النفسانية التي لا تعلم بمجرد المشاهدة يوجب العلم بذلك لمن تواترت هذه الأخبار عنده وإن لم يكن المخبرون أخبروا عن مشاهدة وكذلك الإخبار عن ظلم الظالمين
ولهذا كانت العداله والفسق تثبت بالاستفاضة ويشهد بها بذلك كما يشهد المسلمون كلهم أن عمر بن عبد العزيز كان عادلا وأن الحجاج كان ظالما والعدل والظلم ليس أمرا مشاهدا بالظاهر فإن الإنسان أكثر ما يشاهد الأفعال كما يسمع الأقوال فإذا رأى رجلا يعطى ويقتل شاهد الفعل أما كونه قتل بحق أو بغير حق أو أعطى عدلا وإحسانا أو غير عدل و أحسان فهذا لا يعلم بمجرد المشاهدة بل لابد من دخول العقل في هذا العلم
وكذلك من لا يعرف الطب والنحو : إذا رأى ما تواتر عند أهل الطب والنحاة من علم أبقراط وجالينوس وأمثالهما و الخليل و سيبويه علم أن هؤلاء علماء بالطب والنحو وإن لم يعرف هو الطب والنحو وليست معرفة المخبرين بذلك عن المشاهدة
بل وكذلك إذا تواتر عنده كلام الناس بالإخبار عن علم مالك و الشافعي و أحمد و يحيى بن معين و البخاري و مسلم وأمثالهم بالفقه والحديث علم علمهم بذلك وإن كان المخبرون لم يخبروا عن مشاهدة لكن من رآى كلام هؤلاء من أهل الخبرة بالفقه والحديث علم بالضرورة أنهم علماء بذلك ثم هؤلاء يخبرون بذلك غيرهم فيتواتر ذلك عند هؤلاء
وكذلك القضايا الحسابية كالعلم بالمضروبات والمنسوبات والمجموعات ونحو ذلك هو ضروري لمن علمه فإذا أخبر أهل تواتر بذلك لواحد حصل له العلم بذلك وإن كانوا إنما أخبروا عن علم ضروري
وهكذا العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب يعلمه من باشره وجربه ضرورة ويعلمه من تواتر ذلك عنده بطريق الخبر ولهذا كان العلم بأن محمدا صلى الله عليه و سلم كان صادقا معروفا بالصدق لا يكذب متواترا عند من لم يباشره لأن الذين جربوه من أعدائه وغيرهم كانوا متفقين على أنه صادق أمين حتى أن هرقل لما سأل أبا سفيان - وكان حين سأله من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم - : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقال أبو سفيان : لا فأخبر أنه - هو وغيره من قريش - لم يكونوا يتهمونه بالكذب فضلا عن أن يخبروا عنه بالكذب وكانوا يسمونه الأمين
ولما كان أبو سفيان مخبرا بهذا بين جماعة من قومه يقرونه على ذلك مع قيام المقتضى للتكذيب لو كان قد كذب استفاد هرقل بهذا أنه لا يكذب فقال : قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله
وهذا وأمثاله باب واسع فالعلم بمخبر الأخبار يحصل إذا كان المخبر عالما بالضرورة سواء كان المخبر مشاهدا أو لم يكن
وأما طريقة الإلهام فالإلهام الذي يدعى في هذا الباب هو عند أهله علم ضروري لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض فلا يمكن أن يكون باطلا
وأما الاستدلال على الأحكام بالإلهام فتلك مسألة أخرى ليس هذا موضعها والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وأنواعهما وأن ما يعنيه هذا بالاستحسان قد يعنيه هذا بالإلهام وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع فإن هذا باطل بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها
وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهاما فدعوى المدعي امتناع ذلك يفتقر إلى دليل
فطرق المعارف متنوعة في نفسها والمعرفة بالله أعظم المعارف وطرفها أوسع وأعظم من غيرها فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفيا عاما لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه فإن النافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل
نعم من نفى تلك بحسب علمه لم ينازع في ذلك فإذ قال : لا أعلم طريقا آخر أو لم يحصل لي ولمن عرفته طريق آخر كان نافيا لعلمه ولما علم وجوده لا نافيا للأمور المحققة في نفس الأمر

كلام العلماء في ذم علم الكلام
فهذا الكلام وأمثاله يرد على النزاع المعنوي ولهذا كان كثير من الفضلاء الذين يوجبون هذه الطريقة ويصححونها قد رجعوا عن ذلك وتبين لهم ذم هذا الكلام بل بطلانه كما يوجد مثل ذلك في كلام غير واحد منهم مثل أبي المعالي و ابن عقيل و أبي حامد و الرازي وغيرهم من الذين يصححون هذه الطريق بل يوجبونها تارة ثم إنهم ذموها أو أبطلوها تارة
قال أبو المعالي في آخر عمره : ( خليت أهل الإسلام و علومهم وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهوا عنه والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق ببره فأموت على دين العجائز وإلا فالويل لابن الجويني )
وسأل رجل ابن عقيل فقال له : هل ترى لي أن أقرأ الكلام فإني أحسن من نفسي بذكاء ؟ فقال له : ( إن الدين النصيحة فأنت الآن على مابك مسلم سليم وإن لم تنظر في الجزء - يعني الجوهر الفرد - وتعرف الطفرة - يعني طفرة النظام - ولم تخطر ببالك الأحوال ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض وهل يبقى العرض زمانين وهل القدرة مع الفعل او قبله وهل الصفات زوائد على الذات وهل الاسم المسمى أو غيره وهل الروح جسم أو عرض فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة فبئس الاعتقاد والرأي )
قال : ( ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك وأخرج كثيرا منهم إلى الإلحاد بشم روائح الإلحاد من فلتات كلامهم وأصل ذلك كله أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ولا أخرج الباري من علمه ما علمه هو من حقائق الأمور وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعات ولما راموا ما وراءها ردوا إلى مقام غايته التحكيم والتسليم وهو الذي يزرى به طائفة المتكلمين على أهل النقل والسنة وتسميهم الحشوية وإليه ينتهي المتكلمون أيضا لكنهم يتحسنون بما ليس لهم وبما لم يتحصل عندهم فهم بمثابة من يدعي الصحة بتجلده وهو سقيم ويتغانى على الفقراء وهو عديم والعقل وإن كان للتعليل طالبا فإنه يذعن بأن فوقه حكمة إلهية توجب الاستكانة والتحكيم لمن هو بعض خلقه )
قال : ( وإنما دخلت الشبه من ثلاث طرق ترجع إلى طريق واحد وذلك أن قوما نظروا إلى أن العقل هو الأصل في النظر والاستدلال اللذين هما طريقة العلم فإذا قضى العقل بشيء عولوا عليه فلما قضى بوجود صانع لهذا العالم المحكم بالقواعد أثبتوه ثم نظروا في أفعاله فرأوا هدم الأبنية المحكمة وشاهدو جزيئات لم تأت على نظام الكليات ومضمار تعقب منافع فجحدوا الأول بالآخر ففسد اعتقادهم في الكل بما عرض لهم من اختلال الجزء وقالوا : إن دل الإحكام على حكيم فقد دل الاختلال على الإهمال فشكوا والقبيل الآخر أثبتوا صانعا للكليات وأضافوا الشرور إلى صانع آخر فثنوا بعد أن وحدوا والقبيل الآخر عللوا بما انحرم بعلل لم تشف غليل العقل فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا وقالوا : خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد فسلموا لمن استحق التسليم وهو الصانع وهذه طائفة أهل الحديث )
قال : ( وهذا الذي يقال له مذهب العجائز وإليه كل عالم محق )
قال : وقد ظن قوم أن مذهب العجائز ليس بشيء وليس كذلك وإنما معناه أن المدققين لما بالغوا في النظر فلم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات وقفوا مع هذه الجملة التي هي مراسم )

تعليق ابن تيمية
قلت : قول القائل : ( إن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا ذلك ) فيه تفصيل وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد وطفرة النظام وامتناع بقاء العرض زمانين ونحو ذلك فهذا قد لا يخطر ببال الانبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب فإن القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء ليس له ضابط وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان وكان بهذه البلاد من الكفار المشركين الصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهم
والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال ويسألونه عن أنواع من المسائل ويوردون عليه أنواعا من الأسولة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه
و الشافعي و أحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعا من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل ولكن من عرف طريق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها علم ما كانوا يقولونه كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسأئل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي أو القتل بالمثقل ونحو ذلك فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه فيعرف الفقيه الفاضل - مما نقل - ما لم ينقل
وأما الخوض في مسألة الروح : هل هي قائمة بنفسها أم هي عرض ؟ فكلام الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة في أن الروح : عين بنفسها تخرج من البدن وتصعد وتعرج وتنعم وتعذب وتتكلم وتسأل وتجيب وأمثال ذلك أكثر من أن يمكن سطره هنا فكيف يقال : إن الصحابة ماتوا وما عرفوا هل الروح عين قائمة بنفسها أو صفة من الصفات ؟ وإن كانوا هم كانوا لا يتخاطبون بلفظ الجسم والعرض
وكذلك قول القائل : إن الصحابة لم يعرفوا هل الصفات زوائد على الذات ليس بسديد فإن كلام الصحابة في إثبات الصفات لله تعالى أكثر وأعظم من أن يمكن سطره هنا بل كلام الصحابة في إثبات الصفات العينية الخبرية التي تسميها نفاة الصفات تجسيما أكثر من أن يمكن سطره هنا وكلامهم وكلام التابعين صريح في أنهم لم يكونوا يثبتون ذاتا مجردة عن الصفات
وأما اللفظ : هل الصفات زائدة على الذات أم لا ؟ فلفظ مجمل فإن أراد به المريد أن هناك ذاتا قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا لا يقوله أهل الإثبات ولا الصحابة وإن أراد به أن الصفات زائدة على الذات المجردة التي يعترف بها النفاة فهذا حق ولكن ليس في الخارج ذات مجردة فالسلف والأئمة لم يثبتوا ذاتا مجردة حتى يقولوا : الصفات زائدة عليها بل الذات التي أثبتوها هي الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها وهذا المعنى متواتر في كلام الصحابة
ففي الجملة : المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم وقد تخطر بباله فيدفعها أو يسمعها من غيره فيردها فإن ما يلقيه الشيطان من الوسواس والخطرات الباطلة ليس لها حد محدود وهو يختلف بحسب أحوال الناس
وأما ما ذكره ابن عقيل من قوله : ( ليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها إلى آخر كلامه ) فهذا كله في العلل الغائية وحكمة الأفعال وعواقبها ومسائل القدر والتعديل والتجوير فإن ابن عقيل كان - لكثرة نظره في كتب المعتزلة وما عارضها - عنده في هذا الأصل أمر عظيم وهو من أعظم الأصول التي تشعب فيها كلام الناس
وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري و القاضي أبي بكر ومن وافقهم في أصل قولهم وإن كان يختلف كلامه كالقاضي أبي يعلى و ابن الزاغوني وطوائف لا يحصيهم إلا الله ينكرون التعليل جملة ولا يثبتون إلا محض المشيئة ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر إلى غير ذلك من لوازم قولهم
والمعتزلة يثبتون تعليلا متناقضا في أصله وفرعه فيثبتون للفاعل تعليلا لا تعود إليه حكمة ثم يزعمون أن كل واحد من العباد قد أراد به الفاعل كل من هو صالح له أو أصلح وفعل معه ما يقدر عليه من ذلك ويتكلمون في الآلام والتعويضات والثواب والعقاب بكلام فيه من التناقض والفضائح ما لا يحصى
وفي ذلك الحكاية المشهورة لأبي الحسن الأشعري مع أبي علي الجبائي لما سأله عن إخوة ثلاثة : مات أحدهم قبل البلوغ والآخر بلغ فكفر والآخر بلغ فآمن وأصلح فرفع الله درجات هذا في الجنة والصغير جعله دونه في الجنة والكافر أدخله النار فقال له الصغير : يارب ارفعني إلى درجة أخي قال : إنك لا تستحق ذلك فإن أخاك عمل عملا صالحا استحق به ذلك فقال : يارب إنك أحييته حتى بلغ وأنا أمتني فلو أبقيتني لعملت مثل ما عمل فقال له : إنه كان في علمي إنك لو بقيت لكفرت فاخترتك إحسانا إليك
قال : فصرخ الكافر من النار : يارب فهلا أمتني قبل البلوغ ما فعلت بهذا ؟ قالوا : فما سأله عن ذلك انقطع
ولهم على الكلام أبي الحسن اجوبة لها موضع آخر
والمقصود هنا أن ابن عقيل نظر في تعليلات المعتزلة فرآها عليلة ورأى أنه لا بد من إثبات الحكمة والتعليل في الجملة خلافا لما كان ينصره شيخه القاضي أبو يعلى : فصار يثبت الحكمة والتعليل من حيث الجملة ويقر بالعجز عن التفصيل
و القاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المصنف في أصول الدين الذي رتبه ترتيب محمد بن الهيصم في كتابه المسمى بجمل المقالات يسلك مسلك من أثبت الحكمة والمصلحة العامة التي تجب مراعاتها وإن أفضى ذلك إلى مفسدة جزيئة كما يشخد ذلك في المخلوقات والمأمورات وهذا مذهب الفقهاء في تعليل الشرعيات وهو مذهب كثير من النظار أو أكثرهم في تعليل المخلوقات كما ذهب إلى ذلك الكرامية والفلاسفة وغيرهم من الطوائف وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
ولم يرد ابن عقيل بقوله : ( وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعيات ) والإقناعيات تكون في الأدلة الدالة على العلم بإثبات الصانع وإثبات الصفات له والمعاد ونحو ذلك فإن تلك عند ابن عقيل وامثاله برهانيات يقينيات فكيف يجعلها عند الأنبياء والسلف إقناعيات ؟ ولكن أراد بذلك الإقناعيات في تعليل أفعاله وسماها هو إقناعيات لأن هذا مبلغ أمثاله من العلم ومنتهاهم من المعرفة في ذلك
وأما الأنبياء عليهم السلام والسلف رضوان الله عليهم فإن الله تعالى أطلعهم من حكمته في خلقه وأمره على ما لم يطلع عليه هو وأمثاله ولكن هؤلاء ليس لهم بحقائق أحوال الأنبياء والصحابة من الخبرة ما يعرفون به منتهاهم في هذه المطالب العالية كما أنه ليس لهم من الخبرة بهذه المسائل الكبار ما انتهوا معه إلى غايتها لكنهم يعلمون أن الأنبياء أفضل الخلق والصحابة بعدهم أفضل الخلق فيعتقدون فيهم أنهم وصلوا إلى منتهى ما يصل إليه الخلق في هذه المسائل
ثم إنهم لما نظروا - مع فرط ذكائهم - ولم يصلوا إلا إلى هذا ظنوا أنه لا غاية وراءهم فقالوا ما قالوا وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء صاروا إذا رأوا شخصا ظهر عنه ما يدل على كمال عقله وعظم علمه وفضله ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة يجعلون قوله هو منه ورأينا من كلامه ما يناقض قول الفلاسفة يقول ذلك الفيلسوف الفاضل : هذا والله قد عرف حقيقة قولنا ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه ثم يبقى حائرا : هل فوق قولهم ما هو أكمل منه لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم مع حسن قصده وعدله قد عدل عنه إلى قول يناقضه ؟ أو ليس فوقه ما هو أكمل منه ؟ لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه
وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم وإن كان مظهرا للإنكار عليهم وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية يجعلون السلف والأئمة يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت مع عدم علمهم بمعانيها
وإن كانوا من نفاتها قالوا : إنهم كانوا يعتقدون نفيها في الباطن : ولا يعلمون مدلول النصوص ولما كان هذا عندهم هو الغاية التي انتهوا إليها والسلف عندهم أعظم الناس جعلوا هذا غاية السلف
وهؤلاء الطوائف وقع لهم الخطأ من جهتين : أحداهما : أنهم لم يعرفوا الحق في نفسه على ما هو عليه لا بدليل عقلي ولا سمعي الثانية : أنهم لم يعرفوا حقيقة أقوال السلف وما كان عندهم من العلم والبيان فكان عندهم قصور في معرفة الحق في نفسه وفي معرفة الأنبياء والسلف به وظنوا أن ما وصلوا إليه هو الغاية الممكنة فجعلوا ذلك منتهى غيرهم فصاروا يحكون كلام المعظمين عندهم على هذا الوجه
وقد رأينا من ذلك أمورا حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار فإذا قيل له : أهذا نقله أحد عن الشافعي أو فلان أو فلان ؟ قال : لا ولكن هذا قاله العقلاء و الشافعي لا يخالف العقلاء أو نحو هذا الكلام
فالطوائف المقصرة الضالة تجد حكايتهم للمنقولات مثل نظرهم في المعقولات فلا نقل صحيح ولا عقل صريح وكل من كان أبعد عن متابعة الأنبياء كان أبلغ في هذين الأمرين حتى ينتهي الأمر إلى القرامطة الباطنية الذي مبنى أمرهم على السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
ثم الشيعة أقرب منهم فكان عندهم من السفسطة والقرمطة بحسبهم والمعتزلة خير منهم فهم أقل سفسطة وقرمطة ولكن دخل من ذلك عندهم بحسب ما فيهم من مخالفة الكتاب والسنة أمور كثيره

كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام
و ابن عقيل لما خبر كلام المعتزلة لم يرض طريقهم فلهذا ذكر أن الناس ثلاث طوائف : طائفة شكت لما رأت وجود الشر والضرر في العالم وطائفة قالت بالأصلين وهم الثنوية والطائفة الثالثة عللوا ما انخرم بعلل لم تشف غليل العقل - كما فعلت المعتزلة - فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا وقالوا : خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد فسلموا لمن استحق التسليم وهو الصانع
قال : ( وهذه طائفة أهل الحديث ) وهذا بناء على إثبات الحكمة والغاية والتعليل من حيث الجملة والاعتراف بجهلة من جهة التفصيل وذكر أن هذا منتهى كل عالم محق وهذا مبلغ علم من انتهى إلى هنا
و لابن عقيل أنواع من الكلام فإنه كان من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية وينكر على من يسميها صفات ويقول : إنما هي إضافات موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه كف التشبيه بكف التنزيه ) في كتابه منهاج الوصول وتارة يثبت الصفات الخبرية ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهي عنه كم فعله في كتاب الأنتصار لأصحاب الحديث فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور
وكذلك يوجد هذا وهذا في كلام كثير من المشهورين بالعلم مثل أبي محمد بن حزم و مثل أبي حامد الغزالي ومثل أبي عبد الله الرازي وغيرهم
و لابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف كما قال في الفنون ومن خطه نقلت قال : ( فصل : المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول فتفلسفوا واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم والكهان اعتمدوا على ما يقلى إليهم من الاطلاع وجميعا خوارج على الشرائع هذا يتجاسر إن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل وهذا يقول : قال لي قلبي عن ربي فلا على هؤلاء أصبحت ولا على هؤلاء أمسيت لا كان مذهب جاء على طريق السفراء والرسل يريد تعلم بيان الشرايع وبطلان المذاهب والتوهمات والطرايق المخترعات : هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرج أوتحريم معاملة أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة ؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق ؟ أو تصيب للمتوهمة فتاوي وأحكام ؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء : هؤلاء يروون أحاديث الشرع وينفون الكذب عن النقل ويحمون النقل عن الاختلاف وهؤلاء المفتون يفنون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين هم الذي سماهم النبي صلى الله عليه و سلم : الحملة العدول فقال : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين فالخارج - وإن خفقت بنوده وكثرت جموعه وسمي بالملك - يبعد أن يضرب له دينار أو درهم أو يخطب له على منبر أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك وتخشى من أن يقابله بقتال أو يصافه بحرب لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل وللملك - وإن قل جمعه - صولة الحق وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم : هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزاله المرض ويصبح على أرض أخرى ومنزل بعيد وطبه مجازفة لأنه يأمن الموافقة والمعاينة والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة من الأدوية وإن عجلت سكون الألم فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب لأن ماتعطى الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض فهو كما قيل : الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه لأنهم عن نقل يتكلمون وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون كتهجم البرخشتي فعلومهم فرح ساعة ليس لعلومهم ثبات فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفيه عليهم من قول النبي صلى الله عليه و سلم : إن في أمتي محدثين ومكلمين وهو ما يلقي من الفراسات والدرايات كما نطق به عمر قيل لهم : لونطق عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير لما التفت إلى واقعته ولا يبتنى الشرع على فراسته ألاتراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي ؟ وقال في الكلالة ما قال يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه ويسمع الغناء من أمرد وحرة ويأكل من الحرام شبعة ويرقص كما تشمس الخيل لا يسأل الفقهاء ولا يبنى أمره على النقل يقول بواقعة ويقول أتباعه : الشيخ يسلم إليه طريقته وأي طريقة مع الشرع ؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولا ؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق ؟ ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان يحبون البطالات والاجتماع على اللذات وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات وأولئك يجرئون الشباب والأحداث وعلى البحث وكثرة السؤال والاعتراضات وتتبع الشرع بالمناقضات وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل ولا أحوال المتكلمين : لا التكشف ولا البحث بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات وجد وتشهير في الأعمال والطاعات فنصيحتي لأخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام وقد خبرت طريقة الفريقين : غاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح والمتكلمون عندي خير من المتصوفة لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال والتشبيه هو الغاية في الإبطال بل هو حقيقة المحال مما يسقط المشايخ من عيني وإن نبلوا في أعين الناس أقدارا وانسابا وعلوما وأخطارا إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع : عدتي كذا وكذا يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه تخرج عن سمت الشرع فذاك مختلق طريقة وكل مختلق مبتدع ولو كان في ترك النوافل لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رجل استمر على ترك الوتر : هذا رجل سوء أنا أنصح بحكم العلم والتجارب : إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه و سلم الله الله الثقة بالأشخاص ضلال والركون إلى الآراء ابتداع اللين والانطباع في الطريقة مع السنة أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها اصحاب الحديث رسل السفير : الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه ولا يتم اتباع إلا بمنقول ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان وما عداهما تكلف لا يفيد وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : نقلة وفقهاء ولا نعرف فيهم ثالثا أصحاب أسواق وصفقات وتجارات لا ربط ولا مناخ للبطالات يا أصحاب المخالطات والمعاملات عليكم بالورع يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد ولا لأبي بكر وعمر ولا الشيعة عندي من زار المشاهد وأنشد المراثي والقصايد السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء واحتذى الرسم واتبع الأمر وكف عن النهي وتنزه عن الشبه ووقف عند الشك وتفرغ من كل علم خالف النقل وإن كانت له طلاوة في السمع وقبول في القلب ليس قلبك معيارا على الشرع مالله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه وما أحدثوا وعولوا على ما رووا ولا على ما رأوا الصبر على الرواية مقام الصديقين قال الخضر للسفير : { إنك لن تستطيع معي صبرا } لأن مستحسنا برأيه ومستقبحا برأيه لا يتبع لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولا ابن عقيل من هذا الجنس في تعظيم الشرع وذم من يخالفه من أهل النظر والكلام وأهل الإرادة والعبادة كلام كثير من هذا الجنس كما قد تقدم تكلم في ذلك طوائف من اهل العلم والدين لكن من غلب عليه طريق النظر والكلام كان ذمه لمنحرفه العباد أكثر من ذمه لمنحرفه أهل الكلام وهذا كثير في أهل الكلام والفقهاء لاسيما في العتزلة وهؤلاء قد لا يعرفون ما في طريق أهل العبادة والتصوف من الأمور المحمودة في الشرع ومن غلب عليه طريقة أهل التصوف وهذا يوجد كثيرا في كلام أهل الزهد والعبادة لا سيما المعظمين لطريق الصوفية فمثل أبي عبد الرحمن السلمي و أبي طالب المكي و أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري و أبي حامد الغزالي وإن كانوا يذمون من منحرفة الصوفية ما يذمون فذمهم لجنس أهل الكلام والبحث والنظر أعظم ومثل أبي بكر بن فورك و أبن عقيل و أبي بكر الطرطوشي و أبي عبد الله المازري و أبي الفرج بن الجوزي وإن كانوا يذمون من بدع أهل الكلام والفلسفة ما يذمون فذمهم لما يذمونه من بدع أهل التصوف والتاله أعظم
وقد قال الله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] رواه الترمذي وصححه
وكان طائفة من السلف يقولون : من فسد من الفقهاء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى فمن كان فيه بدعة من أهل الكلام والنظر والفقه كالمعتزلة تجدهم يذمون النصارى أكثر مما يذمون اليهود واليهود يقرأون كتبهم ويعظمونهم ومن كان فيه بدعة من أهل العبادة والتصوف والزهد تجدهم يذمون اليهود أكثر مما يذمون النصارى وتجد النصارى يميلون إليهم وقد يحصل من مبتدعة الطائفين من موالاة اليهود والنصارى بحسب ما فيهم من مشابهتهم وهذا موجود كثيرا كما دل عليه الكتاب والسنة
وهذه الطريقة الأولى التي يعتمد عليها من يعتمد مثل ابن عقيل و صدقه بن الحسين وغيرهما هي التي ذكرها أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وهي التي اعتمد عليها في كتابه المشهور المسمى : ب اللمع في الرد على أصحاب البدع وهو أشهر مختصراته وقد شرحوه شروحا كثيرة ومن أجلها شرح القاضي أبي بكر له

كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى
وهذه السياقة النتقدمة هي سياقة أبي الحسن في اللمع فإنه قال في أوله : ( إن سأل سائل : ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره ؟ قيل : الدليل على ذلك أن الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ودما وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله ولا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا ولا أن يخلق لنفسه جارحة فدل ذلك على أنه قبل تكامله واجتماع قوته وعقله كان عن ذلك أعجز لأن ما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز ورأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر )
قال : ( ومما يبين ذلك أيضا : أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلا مفتولا ولا ثوبا منسوجا يغير صانع ولا ناسج ومن اتخذ قطنا فانتظر أن يصي رغزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج كان عن المعقول خارجا وفي الجهل والجا وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصرا مبنيا فانتظر أن يتحول الطين إلى حال الآجر وينتضد بعضه إلى بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلا فإذا كان تحول النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ودما أعظم في الأعجوبة كأن أولى أن يدل على صانع صنعها أعني النطفة ونقلها من حال إلى حال )
قال : ( وقد قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الدليل مبني على مقدمتين : على تحول الإنسان من حال إلى حال وأن ذلك لا بد له من صانع حوله من حال إلى حال وكلتا المقدمتين ضرورية والأولى هي مسألة حدوث صفات الأجسام كما تقدم بيانه وأن من أهل الكلام من يقول إن : المشهود هو حدوث الصفات لا حدوث الأعيان وإن أكثر الناس على خلاف ذلك
وهذا هو طريقة القرآن ولكن حدوث الصفات هي أقرب الطرق إلى طريقة القرآن وأما الثانية فهي ضرورية ولهذا لم يذكر أبو الحسن عليها دليلا لكن كثير من أصحابه يقولون : إنها طريقة موافقة منهم لمن قال ذلك من المعتزلة

كلام الباقلاني شرحا لكلام الأشعري
ولهذا اعترض من اعترض من المعتزلة على كلام أبي الحسن فأجابه القاضي أبو بكر على أصله بجواب ذكره قال القاضي أبو بكر : ( أعلم أنه إنما ضرب المثل بما ذكره من القطن واللبن لظهوره في نفوس العامة والخاصة واعتقاد جميعهم لجهل من جوز تنضد البنيان واجتماع الآجر والتراب وتصوير المصنوعات بغير صانع ولا مدبر وأنت لو اعترضت كل من سلمت حاسته وصح عقله فسألته : هل يجوز وجود ما ذكره من ضروب المحكمات بغير صانع مع العلم بأنها لم تكن كذلك من قبل ؟ لمنع ذلك ولاستجهل قائله لتقدم الأدلة وتقررها على فساده في نفوس العامة والخاصة وإن كانت العامة تقصر عبارتها عن عبارة الخاصة وألفاظ المتكلمين وطريق المستنبطين في التعبير وقولهم : لم تجد كتابة إلا من كاتب ولا ضربا إلا من ضارب ولا بناء إلا من بان وإن استحالة وجود ضرب من لا ضارب وبناء من لا بان كاستحالة ضارب لا ضرب له وبان لا بناء له وقد تقرر هذا المعنى في نفوسهم وإن قصروا عن تأديته وصار مقارنا للعلوم الضرورية وصار المخالف فيه عند سائرهم كالمخالف فيما يدرك من جهة الحواس )
قال : ( وجملة القول في هذا الباب أنا لا ندعي ولا صاحب الكتاب أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع شيء يدرك من جهة الضروريات وتعلم صحته من طريق درك الحواس لكنه يدرك بالاستنباط فإذا حصل في نفوس من يجوز أن يشك في هذه المسألة وفي صانع الأشياء التي غاب عنها نظير لما يشك فيه ومثل لما ارتاب فيه رده إليه وجعله أصلا معه في تصحيح ما ينبغي تصحيحه وكشف ما يرجى له كشفه )
قال : وقوله : لو أن منتظرا انتظر اجتماع المصنوعات من غير صانع كان متجاهلا كلام صحيح لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع كما يستحيل في العقول وجود صانعا لا صنعة له وكاتب لا كتابة له فتعلق الصنعة بالصانع كتعلق الصانع في كونه صانعا بوجود صنعته واستحالة أحد الأمرين في المعقول كاستحالة الآخر )
قال : ( وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل وإنما نذكر ضروبا من ضروب الصنائع تقريبا بذكره وليس القصد بذكره تخصيص تعليقه بالصانع وإنما يراد بذلك وجوب تعلق سائر المصنوعات بصانع صنعها فاعرف ذلك )
وذكر كلاما آخر إلى أن قال : ( فإن قال قائل : فما الدليل الآن على أنه لا بد لسائر الأفعال الحاضرة والغائبة من فاعل فعلها ومدبر دبرها ؟ وكيف وجه تعلق الإنسان وغيره من المصنوعات بفاعل ومدبر صنعه وقصده متى لم يكن هو الفاعل لنفسه ؟ قيل له : قد تقدم من كلام صاحب الكتاب ما هو دلالة على ذلك وقد مضى شرحنا له حيث قلنا : إن تعلق الفعل بالفاعل كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بفعله
ثم نقول في الدليل على ذلك : إنه لا يسوغ أن يجيب عن هذه المسألة إلا من سلم لنا هذه الأمور - التي هي التأليفات والتصويرات والتركيبات - معان محدثات وإن كان لا يقر بأنها أفعال كلم في أصل هذه المسألة وقرر معه القول بوجوب حدوثها فإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يكن لأحد أن يسأل عن هذه المسألة
وقد يخالف في أن هذه الأمور التي ذكرناها أفعال لأنه إذا قال : ما الدليل على أن هذه الأفعال تتعلق بفاعل ؟ فقد أثبتها أفعالا فإذا أنكر أن تكون أفعالا فقد أبطل بآخر كلامه ما أثبته بأوله ولكن قد يسوغ أن يقول : ما الدليل على أن التأليف يتعلق بمؤلف ؟ وإن لم يسلم أنه فعل لشبهة تدخل عليه
فإذا كان الأمر على ما وصفنا رجعنا فقلنا : الدليل على أنه لا بد للأفعال من تعلق بفاعل أنا وجدناها يتقدم بعضها على بعض في الوجود ويتأخر بعضها عن بعض وتوجد في زمان كان يصح عدمها فيه بدلا من الوجود وتعدم في زمان يصح وجودها فيه بدلا من العدم
فإذا كان هذا وصفها قلنا : لا يخلو ما تقدم منها : أن يكون متقدما لنفسه أو لمعنى يوجد به أو لا لنفسه ولا لعلة أولمقدم قدمه وكذلك حكم القول فيما تأخر منها فنظرنا فإذا هو مستحيل أن يكون إن ما تقدم منها إنما تقدم لنفسه لأنه قد يتقدم على ما هو جنسه وتأخر عنه ما ذاته مثل ذاته كالجواهر وأجزاء السواد وغير ذلك من المتماثلات فلو كان ما تقدم منها متقدما لنفسه لم يكن بالتقدم أولى مما هو مثل له ولا كان المتأخر منها بالتأخر أولى منه بالتقدم إذ قد صح وثبت أن المتماثلين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه واقتضت ذاته من الأحكام ما اقتضته ذات ما كان مثلا له
وفي العلم بتقدم بعض المتماثلات على بعض وتأخر بعضها عن بعض - فإن ما تقدم منها فالتقدم أولى منه بالتأخر وما تأخر منها فالتأخر أولى منه بالتقدم - دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدما لنفسه ولا المتأخر منها متأخرا لنفسه ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لعلة توجد به لأنه ليس بأن توجد له تلك العلة - إذا لم تكن تلك العلة منه معلقة بموجد - أولى من وجودها بغيره ووجود سائر ما جانسها بسائر ما يحتمله ذلك الجنس من العلل المقتضية بالتقدم الذي هو الوجود في الوقت المخصوص الذي يتكلم عليه حتى تتساوى في الوجود ولا يتأخر بعضها عن بعض لاحتمالها ما يقتضي وجودها من المعاني وكونها متماثلة على أنه لو كان المتقدم من الجواهر وأجزاء السواء متقدما لعلة والمتأخر عنها متأخرا لعلة لكانت علة التقدم قبل علة التأخر إذ كانت موجودة مع المتقدم الذي هو قبل المتأخر
ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون لعلة ايضا ما تقدمت إحدى العلتين على الأخرى لأن علة التقدم والتأخر يجب أن تكونا من جنس واحد لأنهما حدوثان ووجودان للحادث الموجود ولو ثبتا معنى من المعاني وقد أبنا فيما سلف أنه لا يجوز تقدم أحد المثلين على صاحبه لنفسه وجنسه ووجود الشيئين في زمانين متغايرين لا يخرج الوجود عن حقيقته فيجب لذلك أن تكون علة وجود الشيء في زمان كعلة وجود غيره في غير ذلك الزمان ومن جنسها
وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقدم إحدى العلتين للأخرى لعلة ثانية والقول في الثانية وفي وجوب تعليقها بثالثة - إذا كانت متقدمة لعلة - كالقول في الأولى وكذلك القول في علة التأخر وهذا يوجب ما لا نهاية له من الحوادث وذلك محال
فإن اعترف المخالف أن الشيء الذي يتقدم وجوده وجود ما هو مثل له لعلة فعلها فاعل أقر أن الفعل يتعلق بالفاعل وكان حكم المعلول حكم العلة ففي ذلك ما أردناه
وإن امتنع من تعلق العلة المقتضية لوجود ما يوجد به الفاعل دخل عليه ما كلمناه به آنفا : من أنه ليس احتمال بعض الجواهر لما يقتضي وجوده في زمان بعد زمان بأولى من احتمال وجود ذلك فيما هو مثل له )
قال : ( وسنبين بعد هذا أن الجواهر المعدودات ليست بذوات ولا أعيان ولا جواهر قبل وجود الأعراض وأنها لم توجد إلا مع وجودها وإنما لم نقدم هذا الباب في هذه الدلالة لعدم حاجتنا إليه وذلك أنا نجعل مكان قولنا : ( تقدمت الجواهر بعضها على بعض ) أن نقول : إن بعضها ينتضد قبل بعض وبعضها يتفرق قبل بعض وبعضها يجتمع قبل بعض وأنه لا يجوز أن يكون ما ينتضد منها منتضدا لنفسه وما افترق منها مفترقا لنفسه لقيام الدليل على تماثلها وأن ما اقتضاه ذوات بعضها من الأحكام اقتضاه ذوات سائرها وفي العلم بأن منها ما يكون مجتمعا منتضدا ومنها ما يكون متفرقا متباينا دليل على أنه ليس الذي اقتضى لها ذلك ذواتها وإن كانت تلك العلة فعلها فاعل فصارت بوجودها على صفة ما ذكرناه من الاجتماع والافتراق فصح أن الأفعال تتعلق بالفاعل وأن تلك العلة إذا كانت متعلقة بالفاعل من حيث كانت فعلا محدثا وجب أن يكون هذا سبيل الجسم إذ كان فعلا لمساواته لما تعلق بالفاعل فيما لو كان متعلقا به وهذا إقرار بتعلق الأفعال بالفاعل )
قال : ( ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لا لنفسه ولا لعلة لأنه كان يجب أن لا يكون بالتقدم - في وقت تقدمه - أولى منه بالتأخر ولا بالتأخر أولى منه بالتقدم ولا كان هو بأن يكون متقدما لا لنفسه ولا لعلة أولى من تقدم ما هو مثل له في زمانه لا لنفسه ولا لعلة وفي العلم بكون المتقدم أولى منه بالتأخر والمتأخر أولى منه بالتقدم وإن وصفه بالتقدم والتأخر يفيد فوائد متغايرة لا تجري مجرى الألقاب التي لا تفيد - دليل على أنه لا يجوز أن يكون ما تقدم منها متقدما لا لنفسه ولا لعلة )
قال : ( وفي فساد هذه الأقسام التي لا يخلو الأمر منها في التقدم والتأخر دليل على أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر )
قال : ( وهذا أحد ما يعول عليه في وجوب تعلق الأفعال بفاعل )
قلت : مضمون هذا الكلام أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث يستدل عليه بأن ذلك يتضمن الاختصاص بزمان دون زمان والتخصيص لا بد له من مخصص لأنه ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح معلوم الفساد بالضرورة ولم يحتج بعد هذا أن يستدل على أن الترجيح لا بد له من مرجح لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر فلا بد له من مرجح وقد ذكرنا فيما بعد أن هذا هو الطريق الذي سلكه أبو الحسين و أبو المعالي و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم : قرروا افتقار المحدث إلى المحدث بأن ذلك تخصيص بأحد الجائزين والتخصيص بأحد الجائزين لأنه لا بد له من مخصص وهذا عندهم مختص بالمحدثات ولا يتصور عندهم ممكن قديم حتى يستدلوا بافتقار الممكن المتساوي الطرفين إلى مرجح لأحدهما أو مرجح لوجوده
وذكر القاضي أبو بكر أن ما ذكر من ضرب المثل باللبن إذا صار بناء والغزل إذا صار ثوبا إنما هو لأجل ظهور ذلك في نفوس العامة والخاصة لا لأن أحداهما مقيس على الآخر
وذلك أن كثيرا من المعتزلة كأبي علي و أبي هاشم يقررون ذلك بالقياس على أفعال العباد فيقولون : كما أن الكتابة لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بان فكذلك الجسم المحدث لا بد له من فاعل للقدر المشترك لأن العلة الموجبة افتقار الأصل المقيس عليه إلى الفاعل هي موجوده في الفرع المقيس لأن افتقار الأصل إلى الفاعل إنما كان لحدوثه وهذا موجود في الفرع إلى سائر كلامهم المعروف في مثل هذا
فذكر القاضي أبو بكر أنه لا حاجة إلى هذا بل افتقار أحداهما كافتقار الآخر وقرر الجميع بالطريقة التي ذكرها وهو قوله : ( لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له وكاتب لا كتابة له فتعلق الصنعة بالصانع كتعلق الصانع في كونه صانعا بوجود صنعته )
قال : ( وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل )

تعليق ابن تيمية
قلت : بيان هذا أنه إذا قيل : صنعة أو فعل كان هذا اللفظ متضمنا صانعا فاعلا كما إذا قيل : فاعل صانع كان ذلك متضمنا فعلا وصنعة وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل كما يستلزم الفاعل المصدر فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له
و القاضي أبو بكر قرر هذا الوجه أيضا بناء على أن العلم بافتقار المحدث إلى محدث ليس بضروري وزعم أن الأشعري يقول بذلك كما تقدم من قوله : ( إنا لا ندعي - ولا صاحب الكتاب - أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع شيء يدرك من جهة الضرورات )
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة ولا بأن ذلك يتضمن تقديما وتأخيرا فيفتقر إلى مقدم ومؤخر
ثم إن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره إذا لم يكن هناك موجد وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة فتفتقر أيضا إلى لعة متقدمة وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها وهو محال
وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر
وأيضا فإنه بنى دليله على تماثل الجواهر وهذا فيه نزاع مشهور لكنه أحال على تقريره لذلك في موضع آخر
وإبطال هذا القسم يظهر بدون هذه الأدلة التي اعتمد عليها وذلك أن الكلام في حدوث ما يحدث من الحوادث التي تقدمت وتأخرت وهذه لا تقوم بها العلل في حال عدمها إنما تقوم بها في حال وجودها فيمتنع أن يكون حدوثها لمعنى قام بها قبل حودثها لأن المعدوم لا يحدث الموجود ولا يكون المعدوم علة للموجود
ولكن سلوك هؤلاء لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول دون الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية إما عنادا منه وإما لشبهة عرضت له افسدت عقله وفطرته مثلما يعرض كثيرا لهؤلاء فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمة مقدمة إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها لكن هذا يحتاج إليه كثيرا في مخاطبة الخلق فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم ويقبل شهادة من هو دونهم : إما لجهله وإما لظلمه وكذلك كم من الخلق من يرد أخبارا متواترة مستفيضة ويقبل خبر من يحسن به الظن لاعتقاده أنه لا يكذب وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية ويقبله إذا رآى مناما يدل على ثبوته أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة ومثل هذا كثير
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعا من النظر والاستدلال فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله وإذا أتاه على غير ذلك الوجه لم يقبله وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة
فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزيئات تحت كليات قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج إليها بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا فإن علم العقول بافتقار المحدث إلى محدث أبين وأظهر من علم العقول بأن تخصيص أحد المثلين بشيء دون الآخر يحتاج إلى مخصص ومن تصور هاتين القضيتين حق التصور لم يمكنه - مع الشك في الأولى - أن يجزم بالثانية بل قد لا يتصور إحداهما حق التصور
ألا ترى أنه إذا قيل لمن صدق بالثانية : لم قلت : إن التقديم والتأخير لا بد له من مقدم ومؤخر ؟ رجع إلى فطرته السليمة وحكم بذلك وغايته أن يقول : الأشياء المتساوية لا يترجح بعضها على بعض إلا بمرجح فلو قال قائل : لما قلت ذلك ؟ ولم لا يجوز أن يترجح هذا على هذا إلا بمرجح أصلا ؟ ويختص بما اختص به لا لمخصص أصلا ؟ لكان إنكاره لقول هذا القائل دون إنكاره لقول من قال : لم قلت : إن هذه الحوادث لا تحدث إلا بمحدث ؟
وهذا التأليفات والتركيبات الحادثة كانت بعد أن لم تكن لا بمؤلف ولا مركب فإن ترجيح أحد المتساويين الحادثين على الآخر بلا مرجح هو نوع من حدوث الحادث بلا محدث فإن سوغ العقل حدوث حادث بلا محدث سوغ ان يحدث أحد المثلين دون الآخر بلا مخصص لحدوثه
وهل تخصيص أحد الحادثين بوقت دون وقت أو شكل دون شكل أو وصف دون وصف إلا نوع من حدوث حادث ؟ فإن الصفات والأشكال حوادث والتقدم والتأخر إضافة للحوادث إلى وقتها فهو صفة في الحدوث كإضافة الحادث إلى مكانه وكل ذلك مما يعلم بصريح العقل وفطرته السليمة أنه لا بد له من محدث مخصص فاعل مؤلف سواه
ولهذا لم يحتج الأشعري إلى أن يقيم على ذلك دليلا كما فعله القاضي أبو بكر وأتباعه إلا أن يكون في موضع آخر فعل كما فعلوا ولعله إن فعل ذلك لأجل عناد المناظرين أو جهلهم فسلك بهم الطريق البعيدة لما لم يسلكوا الطريق القريبة لا لأنه عنده يحتاج إلى الطريق البعيدة
ولهذا لا توجد هذه الطريق البعيدة في كلام أحد من السلف والأئمة ولا ذكرت في القرآن فإنها من باب تضييع الزمان وإتعاب الحيوان في غير فائدة والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة ثم إذا اتفق معاند أو جاهل كان من يخاطبه من المسلمين مخاطبا له بحسب ما تقتضيه المصلحة كما يحتاج إلى الترجمة أحيانا وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل
ففي الجملة : الطرق التي تختص بطائفة طائفة مع طولها وثقلها على جمهور الخلق لا تكون في مثل الكتاب العزيز الذي جعله الله شفاء ورحمة ودعا به الخلق جميعهم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنة وعيا لا يحتاج إليه ويرونه من باب إيضاح الواضحات كما لو ذكر فيه الرد على السوفساطئية ببيان أن الشمس موجودة والقمر موجود والبحار موجودة والجبال موجودة والكواكب موجودة وأن الإنسان يعلم هذا بالمشاهدة - ونحو ذلك - لكن هذا مما يستقبح ذكره ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء لأن هذا عندهم أمر معلوم مستقر في عقولهم لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء فضلا عن كتاب منزل من السماء
وإذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى إزالة ما عرض له من هذه الشبه السوفسطائية كان هذا من الأمراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق وبيان ما يحتاجون إليه في صلاح أمورهم
ولو ذكر في القرآن مثل هذا لم يكن لما يذكر من ذلك غاية لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية لها ولا ضابط فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه ولا يصلح أمرهم إلا به
ونحن لم يكن بنا حاجة - في الإيمان بالله ورسوله - إلى مثل هذه الطرق وإنما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها يزعمون أنه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعرضون بها لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلا وما لم يعارض النصوص : فقد يكون حقا وقد يكون باطلا وماكان حقا ولم يعارض النصوص فقد لا يحتاج إليه بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت إليها ما يغني عن ذلك بل تلك الطرق أقوى وأقرب وأنفع فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
وقد قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة فإنها إما أن لا توصل وإما أن توصل بعد تعب عظيم وتضييع مصالح أخر فالطرق المبتدعة إن عارضت كانت باطلا وإن لم تعارض فقد تكون باطلا وقد تكون حقا لا يحتاج إليه مع سلامة الفطرة
ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف أقرب كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول أقرب ف القاضي أبو بكر وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين - بخلاف أصول الفقه - من أبي المعالي وأتباعه و الأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر و أبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه وهو المبلغ عن الله كلامه وخير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
ومما يبين ذلك أن ما ذكره القاضي أبو بكر من الطريقين البعيدين اقربهما مبني على أن دلالة الصنعة على الصانع كدلالة الصانع على الصنعة وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم
ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعا لا يعلم أنها صنعة ولا مفعولة لفاعل حتى يتضمن علمه بأحدهما علمه بالآخر فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث لم يعلم أنها مفعولة ولا مصنوعة فضلا عن أن يعلم أن لها صانعا فاعلا وإذا علم أنها مصنوعة مفعولة امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعا فاعلا
يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة بل علمهم بالأول قد يكون أقوى من الثاني وذلك لأنه أراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعا الإبصنعة والفاعل لا يكون فاعلا إلا بفعل وهذا صحيح ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعا إلا بصانع والمفعول لا يكون مفعولا إلا بفاعل والفعل لا يكون فعلا إلا بفاعل والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم أنه لا بد له من فاعل أحدثه وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلا ولا يعلمون : هل فعل شيئا أو لم يفعله ؟ فكان فيما ذكره بيان الأبين الأظهر بالأخفى وهم يمنعون من تحديد الأظهر بالأخفة وقد قلنا : إن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك
وأما الطريق الثانية التي جعلها القاضي أبو بكر معتمدة فهي مع طولها يمكن تقريرها بمقدمات صحيحة لكنه أدخل في بعض مقدماتها تماثل الجواهر وتناهي الحوادث ومعلوم لكل مؤمن عاقل أن الإقرار بالصانع لا يفتقر إلى هذا وهذا بل وعلم الخلق بأن الحادث لا بد له من محدث لا يفتقر لا إلى هذا ولا إلى هذا وهو ذكر هاتين المقدمتين مع غيرهما وفيما ذكره من غيرهما غنية عنهما فإن تماثيل الأعراض كأجزاء السواد يغنيه عن تماثل الجواهر وما ذكره من الوجه الأول في امتناع التقدم لعلة يغنيه عن الوجه الثاني المبني على تناهي الحوادث
ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحدا أو دهريا أو نحو ذلك وهذا يذكرونه في مواضع
منها : أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات الجوهر الفرد جعلوا إثبات ذلك من أقوال المسلمين ونفي ذلك من أقوال الملحدين
وكذلك قد يقولون : إن تماثل الجواهر والأجسام من أقوال المسلمين ونفي ذلك من أقوال الملحدين وكذلك قد يقولون : إن تناهي الحوادث من أقوال المسلمين والقول بعدم تناهيها من أقوال الدهرية الملحدين ولهذا نظائر مع أن الذين يضيفونه إلى المسلمين قد يكون إنما ابتدعه طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة والقول الآخر هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهور الخلق
وكذلك قد يضيفون إلى السنة ما لا يوجد في كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف بل قد يكون المأثور ضد ذلك حتى يتناقض أحدهم في النقل فيحكي إجماع المسلمين أو إجماع أهل الملل على شيء ثم يحكي النزاع عنهم في موضع آخر

كلام أبي الحسن الطبري إلكيا
كما رأيته قد ذكره بعض فضلاء المتكلمين من أصحاب أبي المعالي أظنه أبا الحسن الطبري المعروف بإلكيا أو بعض نظرائه ذكر في كتابه في الكلام لما استدل على حدوث العالم بدليل الأعراض المشهور عن المعتزلة وأتباعهم من الأشعرية والكرامية وغيرهم - قال : ( فإما الركن الرابع وفيه المعركة والتشاجر عنده يحصل وهو إثبات استحالة حوادث لا أول لها وقد أطبق المليون وأتباع الأنبياء كلهم على استحالة حوادث لا أول لها - وقال ملحدة الفلاسفة بإثبات حوادث لا أول لها )
وقال : في مسألة حلول الحوادث بعد أن ذكر قول الكرامية قال : ( واعلم أن المشبهة أيضا يقولون : إن الحوادث تقوم به وإن لم يصرحوا به فهم والكرامية في إثبات الجهة وقيام الحوادث بذات القديم على حد سواء وذلك أنهم يجوزون على الله الجيئة والذهاب والنزول والصعود والانتقال فيقولون : هذه الأشياء لم تكن فكانت وهذا هو الحادث ثم أثبتوا له التحيز وذلك لا يقوم إلا بمتحيز )
قال : ( وقد أثبتوا حوادث لا أول لها )
قال : ولا تصول الملحدة إلا بهذا وقد دللنا على بطلانه وأنه لا يتم القول بحدوث العالم إلا بإبطاله )

تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا القول الذي يحكيه هذا وأمثاله من إجماع المسلمين أو إجماع المليين في مواضع كثيرة يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام كما يحكون الإجماع على المقدمات التي يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها وأن صحتها من لوازم صحة الإسلام أو يكونون لم يعرفوا من المسلمين إلا قولين أو ثلاثة فيحكون الإجماع على نفي ما سواها وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل لا عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين بل ولا عن العلماء المشهورين الذين لهم في الأمة لسان صدق ولا فيها آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين التي لا يكون الرجل مؤمنا أولا يتم دين الإسلام إلا بها ونحو ذلك
ومثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام لما اعتقدوا أن العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول موقوف على هذا الدليل أخذ يحكيه عن جميع أهل الملل وجميع أتباع الأنبياء وهو مع هذا لا يمكنه أن ينقله عن عالم واحد لا من الصحابة ولا من التابعين ولا تابعيهم ولا معه فيه آية ولا حديث والمنصوص عن الأئمة المشهورين عند الأمة يناقض ذلك ولهذا عاد فحكى عن أهل الحديث الذين سماهم مشبهة أنهم يقولون بذلك وإن كان ذكره في معرض التشنيع عليهم ففي ذلك ما يبين أن أتباع الأنبياء تنازعوا في ذلك
وما ذكره من أن حدوث العالم لا يتم إلابإبطاله يقول منازعوه : إن الأمر في ذلك بالعكس وإن القول بما أخبرت به الرسل من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام لا يتم مع هذا القول ولا يتم إلا بنقيضه لأن إبطال هذا يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وحدوث مجموع الحوادث بلا سبب حادث ويصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن بدون سبب جعله فاعلا بل حقيقة هذا القول أنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب وصار الفعل ممكنا بدون سبب وهذا ممتنع في بدائه العقول
وبذلك صالت الدهرية على أهل الكلام الذين سلكوا هذه السبيل فإنهم لما رأوا فساد هذا القول في صريح المعقول وظنوا أن هذا قول الرسل وأبتاعهم اعتقدوا أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بما يخالف صريح المعقول ثم من أحسن الظن بهم قال : فعلوا ذلك لمصلحة الجمهور إذ لم يمكن مخاطبتهم بالحق المحض فكذبوا لمصلحة الجمهور فساء ظن هؤلاء بما جاءت به الأنبياء وامتنع أن يستدلوا به على علم وأولئك المتكلمون بجهلهم قصدوا إقامة الدليل على تصديق الأنبياء ونصر ما جاؤوا به فما نقص علمهم بالسمعيات والعقليات أدى ما فعلوه إلى تكذيب الرسل والطعن فيما جاؤوا به
فأما القول بما أخبرت به الرسل فلا يناقض هذا الأصل بل يبطل ما يدفع به الملاحدة أقوال الرسل ثم إنه يحكي عن اهل الحديث هذا القول وأن معنى قولهم هو أنه تحله الحوادث وتجد كثيرا من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني و أبي بكر بن عربي يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به وأظن ان أبا علي بن أبي موسى ذكر ذلك وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه وهذا لأن هذه أقوال مجمله قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة لا يفهمها إلا خواص الناس
وأول من أظهر هذه المقالات الجهمية والمعتزلة ونحوهم وصاروا يقولون : إنه منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والمقدار والحد ونحو ذلك ويدخلون في نفي الأعراض نفي الصفات وفي نفي الحوادث نفي الأفعال القائمة به وفي نفي المقدار نفي علوه على خلقه ومباينته لهم وفي نفي الأبعاض نفي علوه ومباينته ونفي الصفات الخبرية : كالوجه واليدين ونحو ذلك مما يستلزم عندهم أن يكون له أبعاض ومن عجيب ذلك ما ذكروه في هذه المسألة مسألة افتقار الحادث إلى المحدث فإن أبا الحسن لما قال : الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره ؟ واستدل بحدوث الإنسان كما تقدم فسر القاضي أبو بكر قوله بوجهين :
أحدهما : أنه يريد بالخلق : التقدير وكل جسم فله قدر فيكون المعنى : ما الدليل على أن لكل جسم قدرا من الأقدار قدره مقدر ؟ لكن هذا الوجه لم يرده الأشعري ولا بنى كلامه على إرادته وإنه لم يذكر دليلا على ذلك
والوجه الثاني : أن يكون الخلق : بمعنى الإبداع والاختراع وجعل الشيء شيء شيئا عينا بعد أن لم يكن كذلك
وهذا هو الوجه الذي أراده لكن اعترض عليه بعض المعتزلة وأظنه القاضي عبد الجبار بأن كل من أقر بالمحدث المخلوق أقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بفاعل ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق وأراد عبد الجبار بيان فساد الطريقة التي سلكها الأشعري وتصحيح طريق شيوخه وهو إثبات حدوث الأجسام أولا ثم إثبات المحدث بعد ذلك
وليس الأمر كما ذكره عبد الحبار بل الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمدا مع علمه بها كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع لم يسلكها السلف والأئمة وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان لأن ذلك أمر مشهود معلوم والقرآن العزيز قد دل عليها وأرشد إليها
لكن الأشعري لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة للمعتزلة في حدوث الأجسام فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة فهو يقول إن فيها تطويلا وشبهات ومقدمات كثيرة فيها نزاع فلا يحتاج إليها ابتداء ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال فإن هذا أبين وأظهر من كون كل جسم لا بد له من أعراض مغايرة له وأن الأعراض حادثة النوع
ثم من أراد إثبات حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون كما فعله من فعله من المعتزلة ومن وافقهم فالأمر عليه أيسر من إثبات من أثبت ذلك بأنها لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها وأن جميع أنواع الأعراض لا تبقى زمانين كما سلك هذه الطريقة كثير من الأشعرية ومن وافقهم فإن هذه أبعد الطرق وأطولها وأضعفها مقدمات لوكان في هذه الطرق شيء صحيح
فالجواب لعبد الجبار عن الأشعري أن يقال له : هو استدل بحدوث الإنسان وهو أمر معلوم مشهود لا ينازع فيه عاقل وكان في ذلك مندوحة له عن الاستدلال بحدوث جميع الأجسام وحينئذ فإذا ثبت أن للإنسان صانعا ثبت سائر صفاته من العلم والقدرة وغير ذلك ثم أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالسمع فلا يحتاج إلى ما يدل على حدوث جميع الأجسام مع أن تمام الطريقة التي ذكرها الأشعري تدل على ذلك فيقال لعبد الجبار : إن كانت طريقتكم صحيحة فقد سلكها الأشعري في آخر استدلاله وإن كانت باطلة لم يكن عليه ملام في تركها بل الذين ذموا ما ذموا منه من أتباع السلف والأئمة ذموا منها ما وافقكم فيه من هذه الطريقة وأمثالها فالذي تطلبون منه من موافقتكم هو الذي ينكره عليه السلف والأئمة كما ينكرون ذلك عليكم
وفي الجملة فإن كان طريقكم مذموما فالذم الذي يلحقه به أقل مما يلحقكم به وإن كان صحيحا فهو قد سلكه في آخر الدليل لكنه لم يجعل نفس إثبات الصانع تعالى مفتقرا إلى إثبات حدوث الأجسام لعلمه بأن الأمر ليس كذلك وبأن هذا مخالفة لدين المسلمين وسائر أهل الملل فكان في موافقتكم على سلوك هذه الطريق ابتداء مخالفة للشرع والعقل
وأما كون من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق ومن اعترف بالمفعول اعترف بالفاعل كما ذكره هذا المعتزلي فالأمر كذلك ولهذا لم يتعرض الأشعري للدليل على ذلك بل جعل كون المحدث دالا على المحدث أمرا مستقرا معلوما بالفطرة إذ النزاع في ذلك أقبح من نزاع السوفسطائية
وأما القاضي أبو بكر فأراد أن يجيب عن الأشعري بوجه آخر فزعم أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر نظري لا ضروري وأن الأشعري أثبت ذلك وذكر أن إثباته لذلك من جهة تتضمن الفعل للفاعل كتضمن الفاعل للفعل
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا ولا يحتاج كلامه إلى هذا وإما نشأ الغلط من ظن القاضي أبي بكر أن العلم بافتقار المحدث إلى الفاعل أمر نظري وليس الأمر كذلك بل هو ضروري عند جماهير العقلاء وإن كان نظريا عند طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم
والشيء قد يكون ضروريا مع إمكان إقامة الأدلة النظرية عليه فلا منافاة بين كونه ضروريا مستقرا في الفطر وبين إمكان إقامة الدليل عليه

كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق
فقال القاضي أبو بكر : ( وأما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع أكثر أهل الدهر لأن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث وأنه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر مع إظهارهم الإقرار بحدوثه وأنهم لذلك يعتقدون فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها مع إنكارهم الصانع المصور كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث أحدثها وصورها بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحا )
قال : ( وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث أو قريبا من شطرها يقع من غير محدث ولا فاعل أصلا وهو ثمامة بن أشرس النميري وشيعته لأنه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها وهي مع ذلك حوادث وأفعال )
قال : ( وإنما ذكرت لك هذه الفرقة من أهل الملة لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وإنكار محدثه مذهب قد شاع في أهل الملة وغيرهم وأن تعجب من تعجب من هذا وإنكاره دليل على جهله وشدة غباوته وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الأمم السالفة ومن بعدهم من شيوخه المعتزلة مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الأعتراض هو أن قال : كل من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق )
قال : ( وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا وذهابه عن جهة الصواب فيه ثم نقول : فهب أن الأمر كما وصفته ماالذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه إقامة الدليل على إثبات الخالق ؟ وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بخالق ليس هو مما يعلم بالاضطرار ولا يثبت بدرك الحواس وإنما يتطرق إليه بالبحث والفحص إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها ادعت في هذا المذهب البديهة وأن العلم يقع به عند كمال العقل وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل وإذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الإنسان ليس هو المحدث لنفسه وأن له محدثا سواه وأن المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال فكإنه إنما أراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل وما من أجله أجمعوا على ذلك فما في هذا مما يعاب لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ ؟ !
وأيضا فإن الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل أنه سام الرجل إقامه الدليل على حدوث الجسم قبل إقامته على وجود محدثه وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الأمرين فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث فلا يجب عليه ذلك فإنه قصد إلى الكلام في إحدى المسألتين دون الأخرى )
قال : ( وقد يقضي القول في هذا الذي سامه هذا المعترض في إثبات الأعراض وحدوث الأجسام في غير كتاب بما لا يخفي على من عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : ما ذكره القاضي أبو بكر ليس فيه جواب عن الأشعري بل كلام الأشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره
وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن كلام الأشعري ليس فيه إقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية وهو تعلق الفعل بالفاعل وأن المخلوق لا بد له من خالق بل الأشعري ذكر هذه المقدمة ذكرا مطلقا وجعلها مسلمة ولم ينازع فيها من يعبأ فيها من يعبأ به ولهذا لا يعرف في أهل المقالات المعروفة من نازع فيها
وقول القاضي : إن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يقولون : إنه محدث من غير محدث فهذا القول إنما يحكي عن شرذمة لا يعرف منهم وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم أرادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق لا أنهم أنكروا الصانع وحينئذ فيكونون قد أثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا للحدوث
وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم : يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس : هذا ينقض الاصل الذي أثبتم به الصانع وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فإذا كانت الأوقات متماثلة والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه كان ذلك ترجيحا بلا مرجح فقول أولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وأمثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولى وأمثال ذلك كل ذلك ينزع إلى أصل واحد وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث
والفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وابن سينا وأمثالهما جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم لكن قولهم تضمن هذا وما هو أقبح منه فإنهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها لا يتأخر عنها شيء من معلولها كما يقوله ابن سينا وأمثاله : إن الأول يحرك المتحركات بمعنى أنها تتحرك للتشبه به لا أنه أبدع حركتها كما أنها لم يدعها عندهم فلزم من ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت لا محدث وذلك أعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث وقد بسط هذا في موضعه
وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة فهو من لوازم قوله كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا : تحدث إرادة لا في محل بل إرادة ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي لا ينفي سببا اقتضى حدوثها وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار ولكن لازم المذهب ليس بمذهب وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح لفسادها بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل : إن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص أو أن الممكن لا بد له من مرجح أعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث

كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى
والتناقض الذي يلزم أولئك أكثر ولها أورد أبو عبد الله الرازي في مسألة إثبات الصانع على طريقة أسولة لم يجب عنها بجواب صحيح فإنه يبني جميع ما يذكره من الطرق على أن الممكن لا بد له من سبب فاعترض على ذلك بأنه : ( لم قلتم : إن الممكن لا بد له من سبب ؟
ثم هنا نظران : أحدهما : أن نقول : أنتم في هذا المقام بين أمرين : إما أن تدعوا الضرورة فيه أو النظر
ودعوى الضرورة باطل لوجهين : أحدهما أنا إذا عرضنا على العقل أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح وعرضنا أيضا قولنا : إن الواحد نصف الأثنين لم نجد القضية الأولى في قوة القضية الثانية
وثانيهما : أن العقلاء جوزوا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان ذلك ضروريا لاستحال من العقلاء دفعه
بيان أن العقلاء جوزوا ذلك صور ست : أحدها : أن القائلين بحدوث العالم وهم المسلمون يقولون : إن الله فعل في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت ومن علل منهم ذلك باختصاص ذلك الوقت بمصلحة خفية يحكم باختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة دون سائر الأوقات المذكورة مع تساويها بأسرها فيكون ذلك وقوعا للممكن بلا سبب
وثانيها : أن الذين يحيلون الدواعي والأعراض على الله تعالى وينكرون كون الحسن والقبح صفة عائدة إلى الفعل يقولون : أن الله تعالى حكم في الواقعة المعينة بحكم مخصوص من إيجاب أو ندب أو حظر أو إباحة مع كون سائر الوقائع مساويا لها فلا يكون على مذهبهم لتخصيص تلك الواقعة بذلك الحكم سبب مخصوص
وثالثها : أن أكثر زعموا أن القادر مع تساوى دواعيه إلى الشيء وضده قد يفعل أحدهما دون الآخر لا لمرجح بل زعموا أن الهارب من السبع إذا اعترضه طريقان متساويان من جميع الوجوه فإنه لا بد وأن يختار أحدهما دون الآخر وزعموا أن العلم بذلك ضروري وأن الجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين من كل الوجوه فإنه لا بد وأن يختار أحدهما بل يبتدىء بكسر أحد جوانب ذلك الرغيف من غير سبب مختص يختص به ذلك الجانب وكذلك النائم ينقلب من احد جنبيه على الآخر لا لمرجح وادعوا الضرورة في هذه الصورة
ورابعها : أن أكثر المعتزلة زعموا أن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في الصفات الذاتية وأنه ليس لاختصاصها بتلك الصفة علة
وخامسها : زعمت الفلاسفة أن حركات الفلك لأجل التشبه مع أنها لو وقعت إلى الجهة المضادة لجهتها أو أسرع أو أبطأ مما وجدت لكن التشبه حاصلا لا عن مرجح
وسادسها : أنهم يقولون : الكوكب المعين يختص بموضع معين من الفلك مع كون ذلك الموضع مساويا لسائر المواضع في الحقيقة والماهية لكون الفلك عندهم بسيطا فثبت أن العقلاء حكموا في هذه الصور بوقوع الممكن لا عن سبب ولو كان العلم بذلك ضروريا لاستحال ذلك كما استحال أن يحكم بعضهم بكون الواحد أكثر من اثنين
فهذا البطلان قول من يدعي الضرورة في هذا المقام وأما من يدعي الاستدلال فلا بد له من دليل وأنتم ما ذكرتم ذلك الدليل ثم لو ذكرتموه فإنه ينتقض بالصور التي عددناها )
وذكر أسولة أخرى
ثم قال أبو عبد الله الرازي : ( والجواب على منهجين : الأول : إجمالي وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين : إحدهما : أن المحدث لا بد وأن يكون ممكنا لأن الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدودا في شيء من الأوقات وثانيهما : أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية
وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات فكذلك ما ذكرتموه )
قال : ( وهذا جواب قاطع للمنصف )
قال : ( والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل )
إلى أن قال : ( قوله : إذا ثبت كون المحدثات ممكنة وجب استنادها إلى مؤثر قوله : تدعون فيه الضرورة أو النظر ؟ قلنا : بل ندعي فيه الضرورة فإنا أذا فرضنا إنسانا سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان : هل يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى لا لسبب أصلا ؟ فإن صريح العقل يشهد له بإنكار ذلك
وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلا ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة مشيدا فإنه مضطر إلى العلم بوجود باني وصانع وكذلك إذا أحس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك لأنهم إذا وجدوا في موضع شيئا لم يتوقعوا حصوله هناك حملتم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية قوله : إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الأثنين وعرضنا أيضا أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الإ لمرجح وجدنا الأول أظهر قلنا : هذا ممنوع وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول أجلى منه أن لا يكون هو جليا وذلك لأن العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية قوله : إن جمعا من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان فساد ذلك ضروريا لما قالوا به قلنا : إنهم لم يلزموا ذلك بل غايته أن صار ذلك لازما على مذاهبهم وليس كل ما صار لازما وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب والإشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه وكذلك فإن أصحاب هذه المذاهب متى ألزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب فإنهم يحتالون في الجواب عن ذلك سواء كانت أجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها فنحن بعد ذلك إن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها قال : وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من إحالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة )

تعليق ابن تيمية
قلت : فهو إن سلك مسلك هؤلاء في بيان افتقار المحدث إلى المحدث لأنه ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فمسلكه اطول وأضعف بل هذا المسلك الذي سلكه باطل كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر
وذلك أن كون تخصيص أحد الوقتين المتماثلين بالحدوث دون الآخر يفتقر إلى مخصص أبين من كون الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فإن المعلوم لكل أحد أن الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا بد له من غيره فلا يترجح وجوده إلا بمرجح
أما كون عدمه لا يترجح على وجوده إلا بمرجح فهذا محل نزاع وأكثر العقلاء على نقيض ذلك وعندهم أن العدم لا يعلل ولا يعلل به كما قال ذلك من قاله من متكلمة أهل الإثبات وغيرهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه ك أبي المعالي و القاضي أبي يعلى و ابن الزاغوني وغيرهم
فالجمهور يقولون : عدم الممكن لا يفتقر إلى سبب بل ليس له من ذاته وجود فإذا لم يكن ثم سبب يقتضي وجوده نفي معدوما وإذا قال القائل : عدم وجوده لعدم علة وجوده كما أن وجوده لوجود علة وجوده
قالوا له : أتعني أن نفس عدم العلة هو الموجب لعدمه كما أن العلة المقتضية لوجوده كالفاعل هو المقتضي لوجوده ؟ أم تعني أن عدم العلة مستلزم لعدمه ودليل على عدمه ؟
الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن عدمه لا يفتقر إلى سبب منفصل أصلا وما لا يفتقر إلى سبب منفصل لا يعلل بسبب منفصل وذاته ليست مستلزمة للعدم لتكون ممتنعة بل ليست مقتضية للوجود فعدمه مستمر إذا لم يكن هناك سبب يقتضي وجوده ولكن يستدل بعدم الموجب على عدم الموجب لأن وجوده بدون سبب محال
فإذا علمنا ان لا سبب يقتضي وجوده علمنا عدم وجوده فهذا من باب الاستدلاب وقياس الدلالة لا من باب العلة التي هي المؤثرة في عدمه في الخارج والله أعلم
وأيضا فالمعلوم بالبديهة هو أن ترجيح أحد المتماثلين من كل وجه على نظيره لا يكون إلا بمرجح كما ذكره من أن كفتي الميزان لا تترجح إحداهما على الاخرى إلا بمرجح وأن هذا معلوم بصريح العقل
وإذا كان كذلك فطريقة المتكلمين من الذي قالوا : لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخص كما قاله القاضي أبو بكر و القاضي أبو يعلى و أبو الحسين البصري و أبو المعالي و ابن عقيل و ابن الزاغوني وأمثال هؤلاء من نظار المسلمين - خير من طريقة الذين احتجوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح كما فعل ذلك ابن سينا والسهروردي المقتول و الرازي و الآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء بنوا ذلك على أن الممكن لا يترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلا بمرجح
ومن المعلوم أن العلم يكون أحد الأمرين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح يظهر في الأمرين المتماثلين من كل وجه كما ذكروه في كفتي الميزان فإما إذا قدرناهما متساويتين لم يترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح
وكذلك الأوقات المتماثلة إذا اختص وقت عن وقت بحدوث الحادث فيه كان ذلك التخصيص تخصيصا لأحد المثلين على الآخر والتخصيص ترجيح له عليه فلا يد له من مخصص مرجح وأما الوجود والعدم فليسا متماثلين في أنفسهما وإن كان الممكن يقبل الوجود ويقبل العدم فليس وجوده مماثلا لعدمه كتماثل الكفتين والوقتين ولكن هما بالنسبة إليه جائزان وهو قابل لهما
فغاية ما يقال : إنه باعتبار نفسه ليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر فهما بالنسبة إليه متماثلان من هذا الوجه فيكون ترجيح أحدهما مفتقرا إلى مرجح ولكن عند التحقيق يظهر أنهما بالنسبة إليه ليسا متماثلين وأنه ليس هنا حقيقتان ترجيح إحداهما على الأخرى بل ليس له نفسه وجود أصلا فهو باعتبار ذاته لا يستحق إلا العدم لا يقال : إنه لا يستحق لا الوجود ولا العدم بل إذا جردنا النظر إلى محض ذات الممكن الذي يقبل الوجود والعدم علمنا أن ذاته لا تكون موجودة بذاته
لسنا نقول : إن ذاته تستلزم العدم بحيث يكون عدمها واجبا ووجودها ممتنعا فإن هذا حقيقة الممتنع لذاته لا حقيقة الممكن لذاته ولكن نقول : إن ذاته هي باعتبار النظر إليها فقط معدومة عدما ليس واجبا بل عدما يمكن أن يتبدل بالوجود
ومما يوضح ذلك أن كل محدث فهو ممكن فإنه كان معدوما ثم صار موجودا فهو قابل للوجود والعدم ثم إنه من المعلوم لكل أحد أن المحدث لا يقال : إن عدمه يفتقر إلى سبب مرجح كما يفتقر وجوده إلى سبب مرجح بل المحدث ليس له من نفسه وجود أصلا ولا يستحق باعتبار ذاته إلا العدم أي لا يثبت له بذاته إلا العدم لا أنه يجب له بذاته العدم فالعدم ليس واجبا بذاته بل هو ثابت بذاته
وقولي : ثابت بذاته ليس هو إخبارا عن شيء ثابت في الخارج وذات فإن المعدوم ليس له في الخارج ذات ثابتة بل حقيقة الأمر أنه ليس له في الخارج شيء موجود من ذاته ولكن هو ممكن الوجود من غيره فهو مفتقر إلى غيره في كونه موجودا لا في كونه معدوما
وإذا قال قائل : إن الممكن - أو المحدث - يفتقر في عدمه إلى عدم السبب الموجب
قيل له : وعدم ذلك السبب الموجب : إما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا لزم أن يكون عدم كل ممكن واجبا فتكون جميع الممكنات ممتنعة لأن عدم كل ممكن على هذا التقدير معلول بعدم واجب وإذا كان معدوما لعدم علته وعدم علته واجبا كان عدمه واجبا وهذا معلوم الفساد بالبديهة
وإن قيل : إن عدم العلة ممكن فإن كان معدوما بنفسه أمكن أن يكون الممكن معدوما بنفسه لا بعلة وهو المطلوب وإن كان معدوما بعلة كان القول في تلك العلة كالقول في الأخرى ويلزم من هذا أن يكون عدم كل ممكن معللا بعدم ممكن آخر
وهذا باطل لوجوه : منها : أنه ليس تعليل عدم هذا بعدم هذا بأولى من العكس فإن كل ممكن مفتقر إلى المرجح المؤثر سواء سمي فاعلا أو علة أو موجبا أو سببا أو ما سمي به
فإذا قيل : عدم هذا الممكن لعدم مؤثره وعدم ذلك المؤثر لعدم مؤثره كان كل منهما مساويا للآخر في الافتقار إلى المؤثر فليس أن يكون عدم أحدهما لعدم الآخر المفتقر عدما إلى المؤثر بأولى من أن يكون عدم ذاك لعدم هذا المفتقر عدمه إلى المؤثر مع استوائهما في ذلك
منها : إذا كان عدم هذا لعدم ذاك وعدم ذاك لعدم آخر فالعدم الثالث إن كان هو الأول لزم الدور القبلي وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل والمعلولات وكلاهما ممتنع
فهذا كله مما يببين أن عدم الممكن ليس مفتقرا إلى المؤثر كافتقار وجوده إلى المؤثر فليس ترجيح وجوده على عدمهه كترجيح إحدى كفتي الميزان وترجيح أحد الزمانين بالحدوث على الآخر فإنه هناك رجح الشيء على مثله بلا مرجح ونسبة الحادث إلى هذا الزمان كنسبته إلى هذا ونسبة الرجحان إلى هذه الكفة كنسبته إلىهذه بخلاف الوجود والعدم يالنسبة إلى الممكن فإن ليس رجحان الوجود كرجحان العدم
ومما يبين هذا أن المرجح للوجود في الممكن ليس هو المرجح للعدم لا مثله ولا من جنسه فإن المرجح للوجود مؤثر موجود والمرجح للعدم عدم المؤثر وليس الوجود هو العدم ولا مثله ولا من جنسه فليس المرجح لأحد طرفي الممكن هو المرجح للآخر ولا مثله ولا من جنسه ولا يمكن ذلك فيه بخلاف المرجح لإحدى كفتي الميزان والمخصص لوقت دون وقت بالحدوث فإنه يمكن أن يكون هو الآخر لتغير صفته أو ما يكون من جنس بالآخر
وأيضا فترجيح سائر صفات الحادث والممكن على الأخرى ليست كترجيح الوجود على العدم بل هي أقرب إلى ترجيح الوقت على الوقت كتخصيصه بقدر دون قدر ووصف دون وصف ومكان دون مكان ونحو ذلك فإن هذا إلى تخصيصه لوقت دون وقت أقرب منه إلى تخصيصه بالوجود دون العدم
فتبين بذلك أن طريقة أولئك النظار من متكلمة المسلمين مع كونهم سلكوا فيها من التطويل والتبعيد ما لا يحتاج إليه بل ربما كان فيه مضرة خيرا من طريقة هؤلاء الذي استدلوا بترجيح أحد طرفي الممكن
ثم إن ابن سينا وأمثاله كانوا خيرا فيها من الرازي و الآمدي وأمثالهما و الرازي فيها خير من الآمدي كما قد ذكر في غير هذا الموضع وهذا لو قدر أن هذه الطريقة - طريقة ابن سينا ومن اتبعه ك الرازي ونحوه - طريقة صحيحة فكيف إذا كانت باطلة ؟ ! كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينا أن هذه الطريقة لا تدل على إثبات وجود واجب ثابت في الخارج مغاير للممكن أصلا ولو دلت على ذلك لم تدل على أنه مغاير للأفلاك ونحوها
ولهذا كان من سلك هذه الطريقة لا يمكنه أن يثبت بها الصانع ولو أثبت بها الصانع لم يمكنه أن يجعله شيئا غير الأفلاك فضلا عما يدعونه من نفي التركيب الذي جعلوه دليلا على نفي الصفات
وذلك أن هؤلاء بنوا هذه الطريقة على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وأن الممكن لابد له من واجب فاحتاجوا إلى شيئين : إلى حصر القسمة في الواجب والممكن وأن الممكن يستلزم الواجب
ولفظ ( الواجب ) فيه إجمال قد يراد به الموجود بنفسه الذي لا فاعل له فتدخل فيه - إذا كان ذاتا موصوفة بالصفات - ذاته وصفاته
ويراد به القائم بنفسه مع ذلك فتدخل فيه الذات دون الصفات ويراد به المبدع للممكنات فلا تدخل فيه إلا الذات المتصفة بالصفات
ويراد به شيء منفرد ليس بصفة ولا موصوف فهذا يمتنع وجوده ولم يفهموا دليلا على وجوده فضلا عن أن يكون واجب الوجود
فإذا قالوا : نعني بالواجب ما لا تقبل ذاته العدم وبالممكن ما تقبل ذاته العدم
قيل لهم : أثبتوا وجود ممكن تقبل ذاته العدم لتحتاج إلى الواجب ولما قيل لهم ذلك لم يثبتوه إلا بإثبات الحوادث التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى
وهذا صحيح فإن الحوادث مشهودة وافتقارها إلى المحدث معلوم الضرورة لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك فإن هذا إنما يثبت وجود قديم أحدث الحوادث
والممكن عندهم يتناول ما يكون قديما ومحدثا فالقديم الأزلي عندهم يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
وهذا القول قاله ابن سينا واتبعه هؤلاء وخالفوا به جميع العقلاء حتى أرسطو وأصحابه وحتى خالفوا أنفسهم وتناقضوا فإن ابن سينا وأتباعه صرحوا في غير موضع بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا لا يكون قديما أزليا وأن ما كان قديما أزليا لم يكن إلا واجبا ضروريا يمتنع عدمه
فهذا القول باطل وإن قدر صحته فلا يتمكن إثباته إلا بكلفة ونظر دقيق ومعلوم أن العلم بواجب الوجود الصانع للممكنات لا يتوقف على العلم بكون القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه قد يكون مممكنا يقبل الوجود والعدم فهم يقولون : إذا أثبتنا قديما نحتاج بعد ذلك إلى أن نثبت أنه واجب الوجود لا ممكن الوجود لأن القديم يحتمل الأمرين
وهذه طريقة الرازي التي اعتمد عليها في عامة كتبه ك الأربعين و نهاية العقول و المطالب العالية وغيرها من كتبه
فهؤلاء إذا قيل لهم أثبتوا واجب الوجود الذي هو قسيم الممكن عندهم والممكن عندهم يتناول القديم والحادث لم يمكنهم إثبات هذا الواجب إلا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم وهذا لا يمكنهم إثباته إلا بإثبات الحادث الذي يكون موجودا تارة معدوما أخرى ؟ والحادث يسلتزم ثبوت القديم والقديم عنده لا يجب أن يكون واجب الوجود بل قد يكون ممكن الوجود فهم لم يثبتوا : لا واجب الوجود ولا ممكن الوجود الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه
ثم إذا قدر أنهم أثبتواوجود واجبا فهم لم يقروا أنه واحد وأنه مغير للأفلاك إلا بدعوى أن الواجب لا يكون مركبا لأن المركب يفتقر إلى أجزائه وما افتقر إلى أجزائه لم يكن واجبا
ومعلوم أن هذا إنما ينفي وجوب واجب بمعنى أنه منفرد ليس بصفة ولا موصوف وأن مثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا مع أن الغرض أنه ليس بموصوف ولكن هذا الواجب لم يقم دليل على وجوده بل ولا على إمكانه وإنما يقوم الدليل على امتناعه يراد به افتقار المفعول إلى فاعله والمعلوم إلى علته الفاعلة وإنما يراد به أنه يلزم من وجود المركب وجود أجزائه فيلزم من وجود الذات المتصفة بصفات وجود الذات والصفات
وهذا لا محذور فيه وحقيقته أنه يلزم من كون الشيء موصوفا كونه موصوفا ومن كونه مركبا كونه مركبا وهذا كلام صحيح وليس فيه ما يدل على امتناع ذلك وقد بسط هذا فيغيره هذا الموضع
وقد تفطن الغزالي وغيره لبعض ما به يفسد كلامهم وقد تكلمنا على ذلك وعلى أنواع أخر ممما يتبين به بطلان كلامهم
والمقصود هنا بيان أن طريقة أولئك خير من طريقة هؤلاء وهذا كله مما يبين أن كل من كان إلى الإسلام أقرب فإن عقلياته في الأمور الإلهية أصح من عقليات من كان على الإسلام أبعد منه إلا حيث يكون قد اتبع في عقليانه من هو عن الإسلام أبعد منه هذا كله بين لمن تدبره ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء وجد كلام متكلمي المسلمين خيرا من كلام متكلمي الفلسفة ومبتعيهم
وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأتباعه لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة

كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية
وقد قال ابن سينا في الإشارات : ( ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته فوجود كل ممكن الوجود من غيره )
فقوله : ( ما حقه الإمكان فليس يثير موجودا من ذاته ) قضي صحيحة وهي بينة بنفسها فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه فإذا قيل : ما لا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره كان هذا من القضايا البينة ولكن هذا لا يعرف بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى كما اعترف هو وسلفه وسائر العقلاء لأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع ولم يمكنهم إقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث
وأما استدلاله على ذلك بقوله : ( فليس وجوده في ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن ) فهذا لا يحتاج إليه وهو متنازع فيه وهو لم يقم عليه دليلا بل يقال : هو العدم باعتبار ذاته أولى به من الوجود بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم بل يقال : هذا باطل فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله يعلم بالضرورة أنه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله وأما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده وأما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء
وقوله : ( فإن صار أحدهما فلحضور شيء او غيبته ) هو أيضا مما لا يحتاج إليه ولا بينه ولا هو مسلم بل هو باطل إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجودا فأما ما كان مستمرا على العدم فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء وحقيقة كلامه أنه صار الوجود فلحضور غيره وإن صار العدم فلغيبة غيره فيكون إنما عدم لغيبة سببه وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين وهو متنازع فيه بل هو باطل وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه ودليل على عدمه لا أنه الموجب لعدمه
وكلام القاضي أبي بكر و أبي الحسين البصري وأمثالهما في هذا الباب هو أصرح في المعقول بل هو صواب وهذا خطأ وإن كان أولئك مقصرين من وجه آخر حيث استولوا على الواضح بالخفي
وأما ابن سينا وأتباعه ك الرازي وغيره فدليلهم باطل ولم يثبتوا وجودا واجبا بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح فإن أبا الحسين يقول : ( الدليل على أن للمحدث محدثا هو أنه لا يخول : إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من ان يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه
وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه )
فقد بين أن الحادث إن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت وإذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الأوقات والتقدير أنه حدث في بعض الأوقات وأيضا فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وإن كان ممكن الحدوث بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه
فقول أبي الحسين : ( لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث ) يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث
فكانت هذه الطريقة مع طولها خيرا من طريقة ابن سينا و الرازي وأمثالهما لو كانت تلك صحيحة من وجهين : أحدهما : أن افتقار رجحان المحدث على عدمه إلى مقتض أبين في المعقول من افتقار كل ممكن فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث قد نازع طوائف من الناس في ثبوته وفي إمكان كونه معلولا لغيره ونحو ذلك بل عامة العقلاء على امتناعه والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه والعقل الصريح يدل على امتناعه ولم يقيموا دليلا على تحقيقه ولا على افتقاره إلى واجب وعلى إثبات واجب يكون قسيما له
وأما المحدث الذي كان بعد عدمه لم ينازع هؤلاء ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجودهه على عدمه إلا بمقتض فكان الاستدلال بترجيح وجود المحدث على عدمه أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف أذا لم يكون الممكن إلا محدثا ؟
الثاني : أنه قال : ( لم يكن بالحدوث أولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه ) فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بمقتض لم يقل : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف وهو بين في العقل ضروري فيه بخلاف ما قاله أولئك فإن فيه نزاعا واضطرابا وليس هو بينا في العقل بل الصواب يقتضيه
وكذلك أبو الحسين يقول دائما : ( ما كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل ) وهذا كلام صحيح ولكن ابن سينا إنما أخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية ليصير كلامه في الإلهيات مقربا لجنس كلام متكلمي المسلمين ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع والعقل فيستدل لها على ما نازعوه فيه مما وافقوا فيه دين المسلمين وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية مثل صاحب كتاب الأقاليد الملكوتية ونحوه فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم كما قالوا للمعتزلة : أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم ونفيتم الصفات بناء على ذلك ثم أثبتم الأسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الأسماء كما يلزم في الصفات فإذا قلتم : إنه حي عليم قدير لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات أسماء بلا صفات وهذا ممتنع وإذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات وهي لازمة للأسماء فنفي اللازم يقتضى نفي الملزوم فيلزمكم نفي الأسماء ولهذانظائر في كلامهم
فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين من المعتزلة وأشباههم أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت وهذا مما جعله هؤلاء أصلا لهم في إثبات العلم بالصانع
فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى ماده الإمكان والوجوب وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح لئلا يناقض قوله في قدم العالم ويقول : إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسى ما قرره في المنطق هو وسلفه من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثا وأن الدائم الأزلى والأبدي لا يكون إلا ضروريا واجبا لا يكون ممكن الوجود والعدم وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء
وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث جعله له حجة على قدم العالم بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم فإنه إذا كان العالم صادرا عن علة مستلزمة له والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالممكن على الواجب وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلا
وذلك أعظم من قول أولئك : حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم : إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارنا لعلته في الزمان وقابلوا لذلك قول المتكلمين الذي قالوا : بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره
والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره لا يقارنه ولا يتراخي عنه كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }
ولهذا يقال : كسرته فانكسر وقطعته فأنقطع وطلقت المرأة فطلقت وعتقت العبد فعتق وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين
وهم إذا قالوا : إن المكون مع التكوين لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة فإن الأول إذا كان علة تامة والعلة التامة يقارنها معلولها وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديما
ولزمهم أيضا أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها وذلك في آن واحد وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه هي غير طريقة سلفه الفلاسفة بل هي طريقة محدثة وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام ومن أصول سلفه الفلاسفة والذي أخذه عن متكلمة الإسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص وهذا حق
فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب وهذا حق لكن قد ينازعونه في أن الممكن : هل يمكن أن يكون قديما أم لا ؟ فإنهم - وعامة العقلاء - يقولون : الممكن لا يكون إلا محدثا وهو - وسلفه - يسلمون لهم ذلك
وأيضا فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون : الموجود على طريق الجواز ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل ويقولون : إنه يستحيل ان يوجب القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدمية
ولهذا يقولون : إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
وضم ابن سينا وأتباعه إلى ذلك أن الممكن لا يكون معدوما إلا بسبب وهذا مما نازعه فيه الجمهور حتى إخوانه الفلاسفة نازعوه في ذلك
وهذا الذي ذكرته من أن ابن سينا أخذ هذه الطريق عن المتكلمين رأيته بعد ذلك قد ذكره ابن رشد الحفيد ذكر في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإن أبا حامد الغزالي ذكر ذلك في كتابه المسمى بتهافت الفلاسفة مسألة في بيان عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم

كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم
قال : ( فنقول : النسا فرقتان : فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع فعقل مذهبهم في القول بالصانع
وفرقة أخرى هم الدهرية وقد رأوا العالم قديما ثم كما هو عليه ولم يثبتوا صانعه ومعتقدهم مفهوم وإن كان الدليل يدل على بطلانه
فأما الفلاسفة فقد رأوا قديما ثم أثبتوا مع ذلك له صانعا )
قال : ( وها المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج إلى إبطال )

رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت
قال ابن رشد الحفيد : ( بل مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين جميعا وذلك أن الفاعل قد يلقى صنفين : صنف يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وهذا إذا تم كونه استغنى عن الفاعل كوجود البيت عن البناء والصنف الثاني إنما يصدر عنه فعل فقط يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول أعني أنه إذا عدم ذلك الفعل عدم المفعول وإذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول أي هما معا وهذا الفاعل أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الأول لأنه يوجد مفعوله ويحفظه والفاعل الآخر يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة والفلاسفة لما كانوا يعتقدون أن الحركة فعل الفاعل وأن العالم لا يتم وجوده إلا بالحركة قالوا : إن الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم وأنه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم فعلموا قياسهم هكذا : العالم فعل أو شيء وجوده تابع لفعل وكل فعل لا بد له من فاعل موجود بوجوده فأنتجوا من ذلك أن العلم له فاعل موجود بوجوده فمن لزم عنده أن يكون الفعل الصادر عن فاعل العالم حادثا قال : العالم حادث عن فاعل لم يزل قديما وفعله قديم أي : لا أول له ولا آخر لا أنه موجود قديم بذاته كما تخيل لمن يصفه بالقدم )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الذي ذكره ابن رشد عن الفلاسفة أراد به تقرير طريقة أرسطو وأتباعه الذين استدلوا بالحركة على وجود المحرك الذي لا يزال محركا غير متحرك ويسمونه الأول وهو الواجب الوجود عند ابن سينا وأتباعه
وأما من قبل ابن سينا من الفلاسفة فلا يخصونه بواجب الوجود إذ كل قديم فهو عندهم واجب الوجود فلا يخصه بواجب الوجود إلا من يقول : لا قديم إلا هو وليس هذا قول أرسطو وأتباعه وإن كان هو مذهب جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم

كلام أرسطو وأتباعه
وكلام أرسطو وأتباعه باطل من وجوه :
( الوجه الأول )
أن هؤلاء لم يجعلوا الأول فاعلا للحركة الفلكية إلا من حيث هو محبوب معشوق يتشبه به الفلك لا من حيث هو مبدع محدث للحركة ومعلوم أن المحبوب المتحرك إليه من غيره بالمحبة له والشوق لا سيما إذا كان محبا للتشبيه به لا لذاته كما يتشبه المأموم بإمامه لا يكون هو المبدع المحدث للحركة بمجرد ذلك وإنما يكون علة غائية لا علة فاعلية فلم يثبتوا الواجب الوجود بنفسه فاعلا لشيء من الحوادث كما قد بسط في موضعه
و أرسطو وأتباعه معترفون بأن الأول عندهم لا يفعل شيئا ولا يعلم شيئا ولا يريد شيئا

الوجه الثاني
أنه بتقدير أن يثبتوه محدثا مبدعا للحركة التي لا قوام للفلك والعالم إلا بها كما قد يدعي ذلك ابن رشد وأمثاله فإنما يكون فاعلا لما هو شرط في وجود العالم لا يكون فاعلا لنفس جواهر العالم وسائر أعراضه بل هو فاعل لعرض واحد من أعراضه وهي الحركة التي زعموا أنه لا قوام له بدونها وهذا من أبعد الأشياء عن كونه مبدعا للعالم ولاسيما إذا جعلوا فعله للحركة من جهة كونه محبوبا فهو بمنزلة كون كل محبوب يبدع المحب الذي لا يقوم بدون تلك المحبة بل بمنزلة كون الإمام المقتدى به مبدعا للمؤتم به من جهة كونه يحتاج إلى الأئتمام به
ومعلوم أن هذا لا يقوله عاقل بل هذا يتضمن أن واجب الوجود - كالفلك عند أرسطو وأتباعه - يفتقر إلى شيء بائن عنه وذلك يدل على فساد قولهم فما قاله أرسطو وأتباعه من الحق يدل على فساد قول المتأخرين وما قاله المتأخرون من الحق في الواجب يدل على فساد قول أرسطو وأتباعه

الوجه الثالث
إن كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة أمر لا دليل عليه بل هو باطل وأقصى ما يمكن أن يقال : يمكن وجوده لكن يكون ناقصا ومعلوم أن هذا حال سائر المخلوقات التي لها صفات كمال إذا عدم بعض صفاتها إنما يلزم نقصها لا يلزم عدمها

الوجه الرابع
أنه ادعى أن هذا الفاعل أشرف من الفاعل الذي فعل البناء ونحو
فيقال : إن ادعيت أن ما يفعل حركة في غيره أشرف مما يفعل التأليف القائم به فهذا غير مسلم لا يسما إذا كان فعل ذلك بجهة كونه محبوبا أو مؤتما به وهذا مبدع لنفس التأليف القائم بغيره ومعلوم أن حاجة المؤلف إلى التأليف قائم به أعظم من حاجة المتحرك إلى الحركة القائمة به وأن تغير ذات المؤلف إذا انتفض تأليفه أبين من انتقاض ذلك المتحرك إذا والت حركته فإذا جعلتم فاعل الحركة فاعلا ففاعل التأليف أولى أن يكون فاعلا وهذا أمر مشهود ليس من جمع الأجزاء المتفرقة وجعلها شيئا واحدا كمن حرك الشيء الساكن لاسيما إذا كان تحريكه كتحريك الخبز للجائع والماء للعطشان والمرأة للرجل والرجل للمرأة فكيف إذا كان كتحريك الإمام للمؤتم به ؟
وإن قال : إن ذلك الفاعل للحركة يفعلها دائما وفاعل التأليف لا يفعله إلا حال إحداثه وهذا هو الوجه الذي قصده
فيقال له : ليس في الشاهد أمر يفعل الحركة التي لا قوام للمتحرك إلا بها دائما
فقولك : إن مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين وذلك أن الفاعل قد يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وقد يصدر عنه فعل يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه إن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة
فيقال لك : ليس فيما نشاهده شيء من هذا الصنف الثاني وإنما الفاعل المشاهد هو من النمط الأول
وإن قلت : إن النفس تحرك البدن بهذا الاعتبار
فيقال لك : كون النفس وحدها هي المحركة للبدن دون أن يكون هناك سبب للحركة أمر لو كان حقا لم يكن من المشاهدات
وأيضا فالنفس لا يقول عاقل : إنها هي الفاعلة للبدن
وأيضا فكل من النفس البدن شرط في حركة الآخر

الوجه الحامس
أن يقال : نحن نسلم أن الفاعل الذي نفتقر إليه المفعول دائما أكمل مممن لا يفتقر إليه إلا حال حدوثه لكن إذا قيل : إن المخلوقات مفتقرة إلى الخالق دائما كان هذا قولا صحيحا وليس هذا نظير ما ذكرته من الصنفين بل لو قيل : إنه يفعل تأليف العالم دائما وأن تأليفه لا يقوم إلا به كان هذا خيرا من قول سلفك : إنه يفعل حركة العالم دائما لو كانوا قائلين بذلك فكيف وحقيقة قولهم : إنه لا يفعل شيئا ؟
فأنت لو جعلته من الصنف الأول من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركات لكن الفاعل الدائم للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائما أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه فإذا جعلته فاعلا للتأليف وهو محتاج إليه دائما كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركة فكيف ولم تجعلوه فاعلا إلا من جهة كونه متشبها به فقط ؟

الوجه السادس
أن يقال : العالم ليس فيه مخلوق يشهد أنه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه لا عين ولا صفة فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط والكاتب ونحوهم غاية فعله تأليف تلك الأجسام مع أن كثيرا من متكلمة الإثبات كالأشعري ومن وافقه يقولون : ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته وما خرج عنه ليس فعله
والقائلون بالتولد يقولون : بل ذلك التأليف فعله والقول الوسط : أن التألف حادث بسبب فعله القائم به وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس والقوة التي جعلها الله فيها وتلك لا حاجة إليه فيها فالذي أحتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط
وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته فليس له نظير إذ هو سبحانه ليس كمثه شيء : لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره لا يقوم إلا بها والمخلوق يحدثها دائما فليس هذا بمشاهد في الفاعلين والمثل الذي ضربه لقوله وقولهم وإن لم يكن مطابقا ولس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى ولا فعل كفعله - فقولهم أقرب من قوله لأنه موجود في العالم وهو أقرب إلى الفاعل المطلق
فقوله : ( إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد ) كلام صحيح لكن ليس هو مطابقا لقول إخوانه الفلاسفة فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجوهر العالم ولأعراضه بل غاية ما جعلوه فاعلا للحركة ثم لم يجعلون فاعلا لها إلا من جهة كونه علة غائية لكون الفلك يقصد التشبه به وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل
وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم ثم من قال من المتكلمين المعتزلة ونحوهم إن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله - مع فساده - أرجح من قول الفلاسفة لكونهم أثبتوا فاعلا حقيقة
فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة الذي يقولون : إن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء فهذا أكمل من قولهم من كل وجه وإذا ضم إلى ذلك أنه إلههم الذي يعبدونه ويحبونه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا تبين بذلك أن العالم محتاج إليه من جهة كونه ربا فاعلا ومن جهة كونه إلها محبوبا معبودا
وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفى على أضعف الناس نظرا

بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
قال الغزالي : ( فإن قيل : نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نرد به فاعلا مختارا يفعل بعد أن لم يكن يفعل كما يشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء بل نعني به علة العالم ونسميه المبدأ الأول على معنى أنه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره فإن سميناه صانعا فبهذا التأويل وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب فإنا نقول : العالم موجود والموجود إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له فإن كان له علة فتلك العلة لها علة ام لا علة لها ؟
وهكذا القول في علة العلة فإما ان تتسلسل إلى غير نهاية وهو محال وإما أن تنتهي بالآخر إلى علة أولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الأول وإن كان العالم موجودا بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الأول فإما لم نعن به إلا موجودا لا علة له هو ثابت بالضرورة
نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هو السماوات لأنها عدد ودليل التوحيد يمنعه فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ ولا يجوز أن يقال : إنه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لأنه جسم والجسم مركب من الهيولى والصورة والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركبا وذلك يعرف بنظر ثان
والمقصود أن موجودا لا علة لوجوده ثابت بالضرورة والاتفاق - وإنما الخلاف في الصفات - وهو الذي نعنية بالمبدأ الأول )
قال الغزالي : ( والجواب من وجهين : أحدهما : أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة لذلك لا علة لها وقولكم إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فيبطل ذلك عليكم في مسألة التوحيد ونفي الصفات بعد هذه المسألة
الوجه الثاني : وهو الخاص بهذه المسألة هو أن يقال : نثبت تقديرا أن هذه الموجودات لها علة ولكن علتها علة ولعلة العلة علة كذلك وهكذا إلى غير نهايتة
وقولكم : أنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها لايستقيم منكم فإنا نقول : عرفتم ذلك ضرورة بغير واسطة او عرفتموه بواسطة ؟ لا سبيل إلى دعوى الضرورة وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له فلم يبعد أن يكون بعضها علة لبعض وينتهي من الطرف الآخر إلى معلول لا معلول له ولا ينتهي في الجانب الآخر إلى علة لا علة لها ؟ كما أن الزمان السابق له آخر وهو الآن ولا أول له
فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معا في الحال ولا في بعض الأحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان فإنها لا تفنى عندكم والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة إلى غير نهاية ثم كل إنسان مات فقد بقي نفسه وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده وإن كان الكل بالنوع واحدا فعندكم في الوجود في كل حال نفوس لا نهاية لأعدادها )
قال : ( فإن قيل : ليس لبعضها ارتباط ببعض ولا ترتيب لها : لا بالطبع ولا بالوضع وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها إذا كان لها ترتيب بالطبع كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق بعض أو كان بها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات وأما النفوس فليست كذلك
قلنا : هذا تحكم في الوضع ليس طرده أولى من عكسه فلم أحلتم أحد القسمين دون الآخر وما البرهان المفرق ؟
وبم تنكرون على من يقول : إن هذه النفوس التي لا نهاية لها لا تخلو عن ترتيب إذ وجود بعضها قبل البعض فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها فإذا قدرنا وجود نفس واحدة في كل يوم وليلة كان الحاصل في الوجود الآن خارجا عن النهاية واقعا على ترتيب في الوجود أي بعضها بعد البعض
والعلة غايتها أن يقال : إنها قبل المعلول بالطبع كما يقال : إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبيعي وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير النهاية ؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له ؟
قال فإن قيل : البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير النهاية أن يقال : كل واحدة من آحاد العلل ممكنة في نفسها أو واجبة ؟ فإن كانت واجبة لم تفتقر إلى علة وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها
قلنا : لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة فإن كان المراد هذا فلنرجع إلى هذه اللفظة ونقول : كل واحد ممكن : على معنى أن له علة زائدة على ذاته والكل ليس بممكن : على معنى انه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه وأن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه فهو ليس بمفهوم )
قال : ( فإن قيل : فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال
قلنا : إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب فلا نسلم أنه محال وهو كقول القائل : يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث والزمان عندهم قديم وآحاد الذوات حادثة وهي ذات أوائل والمجموع لا أول له فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل وصدق ذوات أوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع
وكذلك يقال على كل واحد : إن له علة ولا يقال : للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع إذ يصدق على كل واحد أنه واحد وأنه بعض وأنه جزء ولا يصدق على المحجموع وكل واحد حادث بعد أن لم يكن أي له أول والمجموع عندهم ما ليس له أول
فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها وهي صور العناصر الأربعة المتغيرات فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال وخرج قولهم إلى التحكم المحض
فإن قيل : الدورات ليست موجودة في الحال ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل وما لا وجود له لا يوصف بالتنهاهي وعدم التناهي إلا إذا قدر في الوهم وجودها ولا يتعذر ما يقدر في الوهم فإن كانت المقدرات بعضها علل لبعض فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان لا يبقى إلا نفوس الأموات وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان وعند مفارقة الأبدان تتحد فلا يكون فيه عدد فضلا عن ان يوصف بأنه لا نهاية لها وقال آخرون : النفس تابع للمزاج وإنما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم فإذن لا وجود في النفوس إلا في أحياء والأحياء الموجودون محصورون ولا تنتهي النهاية عنهم والمعدومون لا يوصفون أصلا بوجود النهاية ولا بعدمها إلا في الوهم إذا فرضوا موجودين )
قال : ( والجواب أن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا و الفارابي والمحققين منهم إذا حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل ومن عدل عن هذه المسلك فيقول : هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا ؟ فإن قالوا : لا فهو محال وإن قالوا نعم قلنا : إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها فالدورة وإن كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقى ولا ينقضي غير مستحيل وبهذا التقدير يتقرر الإشكال ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي أو جني أو شيطان أوملك أو ماشئت من الموجودات وهو لازم على كل مذهب لهم إذا أثبتوا دورات لا نهاية لها )

تعليق ابن تيمية
قلت : أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في أثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث وقال : إنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد نفسه فافتقر إلى صانع وهذا موافق لما ذكره حذاق أهل النظر بخلاف من ذهب إليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر و أبي المعالي وغيرهما ممن جعل هذه المقدمة نظرية
وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وأمثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين
أحدهما : أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب ولكن لا يمكن نفي كونه جسما من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات وتلك مبناها على نفس التركيب وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا
وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاما بينت فيه فساد كلامهم في طرقة التركيب قبل أن أقف على كلام أبي حامد ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته
ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة إفساد مذهب الفلاسفة الطبيعين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه وإن كان يمكن إفساد قولهم بطرق أخرى
ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية المحضة الذين يقولون : إن العالم واجب الوجود بذاته وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى
الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم : أنها مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها وقد ألزمهم أنهم لا يمكنهم إبطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهي كما قد ذكره
وابن سينا و الرازي و الآمدي إنما أثبتوا واجب الوجود بناء على هذه المقدمة فكان ما ذكره أبو حامد إبطالا لطريق هؤلاء كلهم و الآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود بل قرره في كتاب الأفكار بطريق أفسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع
وليس فيما ذكره أبو حامد و الآمدي إبطال لطريقة المعتزلة ومن وافقهم على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص فإن تلك لا تفتقر إلى أبطال التسليل في العلل والمعلولات
ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل وأنتم تجوزونها في الحوادث فجوزوها في العلل
والناس لهم في هذا المقام قولان : أحدهما : قول من يبطل عدم النهاية فيهما جميعا مثل كثير من أهل الكلام : المعتزلة ومن وافقهم ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والأبد كقول جهم والعلاف وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الأبد لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية ولهذا قال جهم بانقطاع نعيم الجنة وقال العلاف ببطلان حركاتهم
والثاني : قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والآثار كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة
وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية هو أنه لا يلزم أن ماصدق على الآحاد صدق على الجميع كما قاله هؤلاء في الحوادث بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري وغيره من أهل الكلام من أنه صدق على الآحاد صدق على الجيمع ثم سوى أبو حامد بين الأمرين
وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الأمرين وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد كان حكم الجميع حكم أفراده وإن لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد لم يلزم أن يكون حكمها حكمه فالأول مثل وصفها بالوجود أو العدم أو الوجوب أو الامكان أو الامتناع فإذا قدر أشياء لا تناهى كل منها موجود فالكل أيضا موجود
ثم أن قدر وجود كل منها مقارنا للآخر كان وجود الجميع مقارنا وإن قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقبا وإذا قدرت كل منها معدوما فالكل أيضا معدوم وإذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومة معا وإذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر كانت متعاقبة في العدم
فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها - كالحركات - وجودها متعاقب وعدمها متعاقب فالجملة أيضا موجودة على التعاقب معدومة على التعاقب وإذا قدر أشياء لا تتناهي ممتنعة فالجملة ممتنعة ولو قدر أشياء لا تتناهي واجبة فالجملة أيضا واجبة فكذلك إذا قدر أمور لا تتناهي ليس لشيء منها وجود من نفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره فوصف الافتقار والحاجة والإمكان يجب تناوله للجملة كتناوله لكل من أفرادها كما يتناول وصف الوجود والعدم والوجوب والامتناع للجملة بحسب تناوله للأفراد فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة لا تكون معدومة مع وجود كل منها ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات فهو أولى بالإمكان منها
ولو قال قائل : فكيف تصفونها بالامتناع مع كون كل منها ممكنا ؟ أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد ؟
قيل له : نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج ثم نحكم عليها بالامتناع فإن هذا جمع بين النقيضين فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها ولكن نقدر ذلك في الذهن ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج كالجمع بين النقيضين وأمثاله من الممتنعات بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج وكل منها ممكن
وقيل : إن الجملة واجبة بنفسها فهذا هو الممتنع كما ان وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهي كل منها بعد الآخر لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها كالحوادث المستقبلة في الجنة فإن كلا منها بعد غيره وليست الجملة بعد غيرها بل لا تزال إلى غير نهابة وهذا لأن تقديرها غير متناهية يستلزم أن لا يكون بعدها شيء
فحينئذ إذا قيل : بعد كل واحد غيره كان التقدير أن الجملة ليس لها بعد ولكل واحد من أجزائها بعد
ومعلوم أن مثل هذا حكم الجملة فيه ليس حكم الأفراد وكذلك إذ قدر أنه لا أول للجملة ولكل منها أول
وكذلك إذا قيل : إن الجملة كل وجميع ومجموع أومستدير أومربع أو مثلث أو حيوان أو إنسان لم يلزم أن يكون كل من أجزائها كلا ولا مدورا ولا حيوانا
ولكن الذي يبين فساد مذهب هؤلاء الفلاسفة أن يقال : قد علم بصريح العقل واتفاق العقلاء امتناع التسلسل في العلل وأما وجود حوادث لا تتناهى فلا ننازعهم فيه مطلقا إذ كان أئمة السنة يقولون بذلك في أفعال الرب وأقواله
لكن تبين خطؤهم من وجوه :

فساد مذهب الفلاسفة من وجوه
( الوجه الأول )
أن قولهم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آن واحد وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء بل بتضمن وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهي في آن واحد ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد وهذا مما يصرحون بامتناعه مع قيام الدليل على امتناعه وتضمن امتناع وجود حادث ووجود الحوادث بلا مؤثر تام وكل هذا ممتنع
وذلك أن أصلهم أن المعلول يجب مقارنته لعلته التامة في الزمان لا يتعقبها ولا يتراخى عنها فيكون الأثر مع التأثير التام
وكثير من المتكلمين يقولون : يجوز أن يتراخى والصحيح قول ثالث وهو أن يتعقبه : لا يكون معه ولا متراخيا عنه وذلك يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى
وأما على قولهم فيلزم أن لا يحدث شيء في الوجود بل يكون كل ممكن قديما أزليا لوجود علته التامة في الأزل ويلزم أن لا يحدث شيء لامتناع حدوث الحادث بدون سبب حادث والأول يمتنع عندهم أن يحدث عنه شيء ويلزم أنه كلما حدث حادث حدثت حوادث لا نهاية لها فإنهم يقولون : لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته
فيقال : وذلك التمام حادث فيحتاج أن يحدث معه تمام علته وهلم جرا فيلزم وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد وهذا ممتنع كامتناع علل ومعلولات لاتتناهى في آن واحد إذ لا فرق بين امناع التسلسل في ذات العلة وفي تمامها إذ كانت لا تصير علة بالفعل إلا إذا كانت تامة
ولهذا قالوا : لا يحدث حادث إلا بسبب حادث فلو حدث عن القديم لا فتقر إلى حادث والقول في الثاني كالقول في الأول فيلزم أن لا يحدث شيء
وهذا بعينه يلزمهم في كل حادث فإنه لا يحدث حتى يحدث حادث هو تمام مؤثره وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث حادث معه فيلزم أن لا يحدث شيء
فالمتكلمون قالوا : القادر يفعل بدون سبب حادث فقالوا : هذا محال وقالوا : تحدث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا فاعل محدث لها فكان قولهم أشد بطلانا

الوجه الثاني
أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد فإذا قدر قديمان : كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى كما يقولونه في الأفلاك فهذا ممتنع لأن كلا منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية مع أن أحدهما أكثر من الآخر وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه وهذا ممتنع كما امتنع مثل ذلك في الأبعاد
( الوجه الثالث )
أن قولهم يقتضي أن يكون فعل الفاعل مقارنا له أزلا وأبدا وأن يكون القديم الأزلي مفعولا ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما يعلم فساده بصريح العقل واتفاق العقلاء

كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وقد أورد ابن رشد على أبي حامد في هذا كلاما بعضه من باب الأسولة اللفظية وبعضه من باب الأسوله المعنوية فقال عن الدليل الذي ذكره لهم في إثبات العلة الأول ( هذا كلام مقنع غير صحيح فإن اسم العلة يقال باشتراك الاسم على العلل الأربع أعني : الفاعل والصورة والهيولى والغاية وكذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جوابا مختلا فإنهم كانوا يسألون عن أي علة أرادوا بقولهم : إن العالم له علة أولى فإن قالوا : أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال مفعوله هو فعله لكان جوابا صحيحا على مذهبهم على ما قلنا غير معترض عليه ولو قالوا : أردنا به السبب المادي لكان قولهم معترضا
وكذلك لو قالوا : أردنا به السبب الصوري لكان معترضا أن فرضوا صورة العالم قائمة به
وإن قالوا : أردنا به صورة مقارنة للمادة جرى قولهم على مذهبهم
وإن قالوا : صورة هيولانية لم يكن المبدأ عندهم شيئا غير جسم من الأجسام وهذا لا يقولون به
وكذلك إن قالوا : هو سبب على طريق الغاية كان جاريا أيضا على أصولهم
وإذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما ترى فكيف يصح أن يجعل جوابا للفلاسفة ؟ )
وبسط الكلام بسطا لا يرد على أبي حامد فإنه قد علم أنه أراد بالعلة هنا العلة الفاعلة لا الأقسام الثلاثة وهم يسمون المبدأ الأول العلة الأولى ويقولون : كل ما سواه صادر عنه فالذي ذكره تقرير مذهبهم - كما يقولونه - على أحسن وجه فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية وهو كون لفظا مشتركا فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب والخروج عن المقصود
والاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللد في الكلام وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم
ثم اعترض ابن رشد على الوجهين اللذين ذكرهما أبو حامد فقال على الوجه الأول وأنه يلزمهم على مساق مذهبهم أن يكون المبدع جسما قديما لا علة له وأنهم لم يبطلوا ذلك إلا بقولهم في التوحيد ونفي الصفات وقد أبطلة أبو حامد
قال ابن رشد : ( يريد أنهم إذا لم يقدروا على نفي الصفات كان ذلك الأول عندهم ذاتا بصفات وما كان على هذه الصفة فهو جسم أو قوة في جسم ولزمهم أن يكون الأول الذي لا علة له الأجرام السماوية )
قال ابن رشد : ( وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذي حكاه عن الفلاسفة - يعني طريقة ابن سينا والفلاسفة - يعني الأوائل - لا يحتجون على وجود الأول الذي لا علة له بمانسبة إليهم من الأحتجاج ولا يزعمون أيضا أنهم يعجزون عن دليل التوحيد ولا عن دليل نفي الجسمية عن المبدأ الأول وستأتي هذه المسألة فيما بعد )
قلت : ابن رشد لما رأى ضعف الطريقة المنسوبة إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في نفي الصفات ونفي التجسيم وأنها ليست طريقة أوليهم بنى نفي الصفات ونفي التجسيم تارة على إثبات النفس وأنها ليست بجسم واستدل بأضعف من دليلهم وتارة يستدل بطريقة كلامية لفظية وهي أن المركب لا بد له من مركب والمؤلف لا بد له من مؤلف وهذا إنما يكون إذا أطلق هذا اللفظ على مسماه باعتبار أن هناك مؤلفا فعل التأليف ومركبا فعل التركيب
ومن لا يطلق هذا اللفظ بحال أو أراد به ما فيه اجتماع وقال : إن ذلك واجب بنفسه لم يكن مثل هذا الكلام حجة عليه وهذا مبسوط في موضعه
المقصود تبيين ما أخذه ابن سينا عن أسلافه وما أخذه عن المتكلمين وكيف خلط أحدهما بالآخر
قال ابن رشد : ( قول أبي حامد : ولكن لعلتها علة ولعلة العلة علة وهكذا إلى غير نهاية إلى قوله : وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا أول لها شك تقدم الجواب عنه حين قلنا : إن الفلاسفة لا تجوز عللا ومعلولات لا نهاية لها لأنه يؤدي إلى معلول لا علة له ويوجبونها بالعرض من قبل علة قديمة لكن لا إذا كانت مستقيمة ومعا وفي مواد لا نهاية لها بل إذا كانت دورا )
قال : ( وأما ما يحكيه عن ابن سينا : أنه يجوز نفوسا لا نهاية لها وأن ذلك إنما يمتنع فيما له وضع فكلام غير صحيح ولا يقول به أحد من الفلاسفة وامتناعه يظهر من البرهان العام الذي ذكرناه عنهم فلا يلزم الفلاسفة شيء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع أعني القول لوجود نفوس لا نهاية لها بالفعل ومن أجل هذا قال بالتناسخ من قال : إن النفوس متعددة بتعدد الأشخاص وأنها باقية )
قال : ( وأما قوله : وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان إلى غير نهاية ؟ وهل هذا إلا تحكم بارد ؟ !
فإن الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جدا وذلك أن وضع الأجسام لا نهاية لها معا يلزم عنه أن يوجد لما لا نهاية له كل وأن يكون بالفعل وذلك مستحيل والزمان ليس بذي وضع فليس يلزم من وجود أجسام بعضها فوق بعض إلى غير نهاية وجود ما لا نهاية له بالفعل وهو الذي امتنع عندهم )
ثم لما ذكر ابن رشد البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها قال ابن رشد : ( وهذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنه طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الموجود وأن طرق القوم من أعراض تابعة للمبدأ الأول وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلمين ترى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وأن العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوه فيه : من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكر أبو حامد وإذا سومح في هذه القضية لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الموجود أولا إلى ما له علة وإلى ما لا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وإلى ضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة له وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا عله له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا يتبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
قلت : فقد ذكر ابن رشد لما ذكر البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها : أن هذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنها طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الوجود وأن طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ الأول
قال : ( وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلم يرى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وأن العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود هذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية )
قال : ( وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره بممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكره أبو حامد )
قلت : فقد بين أن كون الممكن يجب أن يكون له فاعل قول جيد إذ ان الممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم والمحدث لا بد له من فاعل هذا أيضا معلوم بين مسلم عند عامة العقلاء
وأما قوله : ( ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة )
فإنه يقول : أولئك أرادوا بالممكن المحدث وليس من المعروف بنفسه أن العالم كله محدث فأراد ابن سينا أن يجعل معنى الممكن هو ما له علة حتى يبني على ذلك أن العالم كله ممكن وله علة قديمة أزلية وهذا القول الذي ذكره ابن سينا يظن من أخذ الفلسفة من كلامه أنه قول أرسطو وأتباعه وليس كذلك وإنما يذكر هذا عن برقلس ولهذا قال : الباري جواد وعلة جوده هو ذاته فيكون جوده دائنا وهذا يوافق قول ابن سينا ولا يوافق قول أرسطو فإن الأول عنده لا فعل له : لا جودا ولا غير جود ولا إرادة بل ولا يعلم ما سواه
وقول ابن رشد : ( إن كون العالم بأسره ممكن ليس معروفا بنفسه )
فيقال له : إن سلم أنه ليس معروفا بنفسه هو معروف بالأدلة الكثيرة الدالة على أن كل ما سوى الله ممكن : يقبل الوجود والعدم بل إنه محدث وكل ما سواه فقير إليه وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن وأنه ليس شيئا موجودا بنفسه غنيا عما سواه قديما أزليا إلا واحد وأدلة ذلك مذكورة في مواضع وحينئذ فيحصل بذلك المقصود
لكن المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ونحوهم سلكوا في ذلك الاستدلال بأن ذلك لا يخلو عن الأعراض الحادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلزم بذلك أن الأول لم يزل غير متكلم بمشيئته وقدرته ولا فاعل لشيء بل ولا كان يمكنه أن يكون متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء بل هذا ممتنع فلا يكون مقدورا فيلزم أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وفاعلا بل ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن وأن الفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء أوجب انقلابه من الامتناع إلى الإمكان إلى غير ذلك من اللوازم كما قد بسط في موضعه
والسلف والأئمة كلهم ذموا الكلام المحدث وأهله وأخبروا أنهم يتكلمون بالجهل ويخالفون الكتاب والسنة وإجماع السلف مع أن كلاهم جهل وضلال مخالف للعقل كما هو مخالف للشرع كما قد بسط في موضعه
والمقصود ذكر كلام ابن رشد على طريقة ابن سينا : قال ابن رشد : ( وإذا سومح ابن سينا في هذه القضية : - وهو أن الممكن ما له علة - لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الوجود إولا : إلى ما علة وإلى ما لا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري )
قلت : أما تقسم الوجود إلى ما علة وإلى ما لا علة فهذا تقسم دائر بين النفي والإثبات لا يمكن المنازعة فيه كما إذا قيل : الموجود ينقسم إلى ما قوم بنفسه وإلى ما لا قوم بنفسه وإلى ما هو موجود بنفسه وما ليس موجودا بنفسه ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات فهذا تقسيم حاصر وإذ لا واسطة بين النفي والإثبات وهما النقيضان كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضا
لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم : أن ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث - وإلى ضروري هو الذي ليس بينا بنفسه ولم يقيموا عليه دليلا ولا يمكنهم إقامة دليل عليه بل الدليل يدل على بطلانه ولهذا أظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم
قال ابن رشد : ( ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة به وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الامر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيه إلى غير نهاية )
فقد بين ابن رشد أنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإذا أراد بالممكن : الممكن الحقيقي وهو الحادث وهو قد جعل الممكن ما له علة - أفضى ذلك إلى ما له علة فينقسم إلى ممكن ضروري - وهو القديم - وإلى ممكن حقيقي - وهو الحادث ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له وهو واجب الوجود لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين بل لا بد من دليل بدل على ثبوتهما وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة كما لو قيل : الوجود ينقسم إلى ماهو ثابت وإلى ما ليس بثابت أو ينقسم إلى قديم وحادث وما ليس بقديم ولا حادث أو ينقسم إلى واجب وممكن وما ليس بواجب ولا ممكن
فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام
وإذا قيل : ينقسم إلى معلول وغير معلول وقيل : المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا - وهو المعلول - مع كونه ضروريا كان غايته إذ أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث : إثبات القسمين : الضروري والحادث أو إثبات ضروري معلول ليس في إثبات ضروري ليس بمعلول وهو واجب الوجود بنفسه فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه فكيف وليس فيه أيضا إثبات ضروري معلول وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري ؟
ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك ولا استدل بالحدوث ألبته وهو الممكن الحقيقي وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن
فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه قالوا : ( والقديم - الذي سموه ممكنا - يفتقر إلى واجب بنفسه ) وهذا ليس بينا وعامة العقلاء ينازعونهم فيه ولا يمكنهم إقامة دليل عليه
فهذا الذي سموه ممكنا هو قديم أزلي ضروري الوجود ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه وهو أيضا ليس بثابت فلم يثبتوا هذا الممكن ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن ولا ما ادعوه من الواجب
قال ابن رشد : ( وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة )
قلت : وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما لا علة له وسمى هذا الأول ممكنا ثم قسم هذا الممكن إلى : الممكن الحقيقة - وهو الحادث - وإلى الضروري - وهو القديم المعلول - لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول وهو أن هذا الضروري الذي له علة هو ضروري له علة
وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم وحينئذ فيكون قد أثبت ضروريا واجب الوجود معلولا
قال : وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولا لعلة أمكن أيضا أن تكون تلك العلة وإن كانت ضرورية واجبة الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جرا ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل لأن مضمونه إثبات أمور واجبتة ضرورة كل منها له علة والجملة كلها واجبة ضرورة مع كونها وكون كل منها معلولا وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر إذا الممكن عندهم يكون ضروريا واجب الوجود ممتنع العدم - مع كونه معلولا لغيره فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري ويسمى ممكنا باعتبار أنه معلول وإن كان ضروريا واجب الوجود لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل

كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وحقيقة الأمر أنهم قدروا أمورا متسلسلة كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه وكل منها معلول وسموه باعتبار ذلك ممكنا وقالوا : إنه يقبل الوجود والعدم وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة فضلا عن افتقارها كلها لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل ويعود الأمر إلى المممكن الذي أثبتوه وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي : هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه ؟
وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل بل جميع العقلاء يقولون : إن هذا لا يفتقر إلى فاعل ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن - كما فعله ابن سينا والرازي و الآمدي وغيرهم - لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن - بهذا التفسير - يفتقر إلى فاعل وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع
وقد ذكر بعض ذلك الرازي في الأربعين و نهاية العقول و المطالب العالية و المحصل وغير ذلك من كتبه
وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن وعنوا بالممكن ما له علة وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه فيلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل
هذا حق لكنه يدل على إثبات قديم أزلي لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه ولما لم يثبتوا هذا الممكن والواجب لا يثبت إلا بثبوته لم يثبتوا لا واجبا ولا ممكنا ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين
وإن لم يثبت الممكن فإنه إن كان الممكن ثباتا فقد ثبت الواجب وإن لم يكن ثابتا فقد بقي القسم الآخر وهو الواجب لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات
ونحن قلنا : الموجود : إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له والمعلول لا بد له من علة فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب
قيل لهم : هذا لا ينفعكم لوجهين :
احدهما : أنكم لم تثبتوا وجودا لا علة له ومجرد التقسيم لا يدل عليه بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول وعلى هذا التقدير فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى فلا يثبت لكم وجود لا علة له
الثاني : أن يقال : هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب فمن قال : الوجود كله واحد وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن ولا قديم ومحدث فقد وفى بموجب دليلكم وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء
ولما كان هذا منتهى كلامهم صار السالكون لطريقهم نوعين :
نوعا يقول : لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون : لا جواب عنه كالآمدي وغيره
ونوعا يقول : الوجود كله واجب : قديمه ومحدثه وليس في الوجود موجودان : أحدهما قديم والآخر محدث وأحدهما واجب والآخر ممكن بل عني وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم كما يقوله ابن عربي وأتباعه كابن سبعين و القونوي
فيتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد الذي سلكه ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره
ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة فإن انقسام الموجود إلى واجب : هو قديم أزلي وإلى ممكن : هو محدث وجد بعد أن لم يوجد معلوم بالضرورة بجميع العقلاء وعوامهم
وصوفيتهم يقولون : الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان : أحدهما واجب قديم والآخر ممكن محدث فهؤلاء يجمعون بين النقيضين حين يجعلون الوجود الواحد قديما حادثا ممكنا معلولا مفعولا واجبا وغير مفعول ولا معلول
وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين بل يشكون في رفع النقيضين فلم يثبت عندهم وجود واجب بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره
ومعلوم أن الموجود مشهود وأنه إما ممكن وإما واجب فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما أوثبوتا أحدهما فهو في غاية السفسطة كما أن من لم يثبتهما بل جعل الجميع واجبا بنفسه قديما أزليا وأنكر وجود الحوادث فهو في غاية السفسطة والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر
وإنما المقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد فإنه مع تعظيمه للفلاسفة وغلوه في تعظيمهم وقوله : إنهم وقفوا على أسرار العلوم الإلهية قد تفطن لفساد ما ذكره أفضل متأخريهم وأتباعه وهو عند التحقيق خير مما ذكره أرسطو وأتباعه فإذا كان هذا فسادا فذاك بطريق الأولى
وقد تبين ما ذكره ابن رشد حيث قال : ( وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن نمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية )
قال ابن رشد : إنه إذا أريد بالممكن ما يعقل العقلاء أنه ممكن وهو المحدث بعد أن لم يكن الذي يكون أن يكون موجودا تارة ومعدوما تارة أخرى فإن هذا هو الممكن الحقيقي فإذا أريد بالممكن هذا وقيل : الوجود ينقسم إلى ممكن وغير ممكن والممكن ما له علة وهو الممكن الحقيقي وهو الحادث كان حقيقة الكلام : أنه ينقسم إلى قديم وحادث كما قاله المتكلمون
وحينئذ فهذه الممكنات - التي هي المحدثات - هي التي يستحيل فيها وجود علل لا تتناهى فإن المحدث يعلم بالضرورة أنه لا بد له من محدث فإذا قدرنا وجود ما لاينتاهى من المحدثات كان كل منها لا بد له من محدث وكان مجموع المحدثات أعظم افتقارا إلى محدث فإنه كلما كثرت المحدثات كان افتقارها إلى محدث لها أعظم من افتقر واحد منها وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لايتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة وأن جيمعها مفتقر إلى محدث خارج عنها والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديما وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي ولا معلول ضروري كما قدره أولئك حيث قدروا عللا ومعلولات لا تتناهى كل منها محدث وكل منها ممكن مع أن الممكن قد يكون ضروريا ممتنع العدم واجب الوجود فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولا حتى يكون المجموع من ذلك معلولا وهذا ممتنع عليهم حيث جمعوا بين النقيضين
قال ابن رشد : ( وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى تبين أن الأمر في الجملة الضرورية - التي من علة معلول - كالأمر في الجملة الممكنة )
قلت : فابن رشد ذكر أولا أن الممكن إن فهمنا منه : الممكن الحقيقي وهو المحدث فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية - كما يقوله ابن سينا وأتباعه : إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود يمتنع عدمها أزلا وأبدا ويقول مع ذلك : إنها ممكنة يمعنى أنها معلولة - قال ابن رشد : فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول
وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلولة قبل النتيجة فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم ويستدل بالبين على الخفي
وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية وهي المحدثات
ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم إذا قدر تسلسلها
الوجه الثاني : قال : ( ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا إي عن تقدير هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن تبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
ومعنى كلامه : أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكنا وإن كان ضروريا واجب الوجود لكنه واجب بغيره فيجب أولا أن يثبتوا أن هاهنا ضروريا يحتاج إلى علة وهو الواجب بغيره الذي قالوا : إنه واجب أزلا وأبدا ضروري الوجود لكنه واجب بغيره لا بنفسه فلهذا سموه ممكنا
قال : ( ولم يبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضروريا بغير علة وهو الواجب بنفسه ولو بين هذا أولا كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
يقول : تبين أولا أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلا وأبدا وهو مع ذلك معلول غيره
لقيل : هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له وحينئذ فنحتاج أن نقول : إنه يمتنع وجود علل ومعلولات كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلا وأبدا فيكون التسلسل فيها باطلا كما كان التسلسل باطلا في الممكن الحقيقي وهو المحدث
فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسة كل منها محدث الآخر ليس فيها قديم فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه فيكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم ؟
وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم - وهو أن الممكن قد يكون قديما أزليا ضروريا واجبا بغيره وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلا وأبدا ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره - هو مما ابتدعه ابن سينا وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غيره سلفه
وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلامحدثا وأن الدائم القديم الأزلي لايكون إلا ضروريا لا يكون محدثا
و ابن سينا وأتباعه وافقوهم على ذلك كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع من كتابه المسمى بالشفاء وغيره
لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن والممكن عندهم هو الحادث سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع : من أن الممكن لا يكون إلا محدثا وكان ما ذكره هؤلاء وسائر العقلاء دليلا على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجودا بنفسه إلى الله وحده وأن كان ما سواه مفتقر إليه
وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلا لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلا لما ذكره أرسطو وأتباعه و ابن رشد أيضا من أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم فإنه محتاج إلى غيره وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول لأنه لا قوام له إلا بحركته ولا قوام لحركته إلا بالأول فكان لا وجود له إلا بالأول فامتنع أن يكون وجوده بنفسه بل كان معلولا بغيره وما كان معلولا بغيره لم بكن موجودا بنفسه بل كان ذلك الأول علة في وجوده وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه علم بصريح العقل أنه ليس موجودا بنفسه فلا يكون واجبا بنفسه وما لم يكن واجبا بنفسه كان ممكنا وكان محدثا كما قد بسط في مواضع
إذا المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد و ابن رشد يقول : إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه وما كان أزليا واجبا بغيره دائما - بحيث لا يقبل العدم - لا يسمى ممكنا بل الممكن ما كان معدوما يقبل الوجود وأما ما لم يزل واجبا يغره فليس هو بممكن
وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء وأن طريقه التي أثبت به واجب الوجود بناء على هذا الأصل إنما هو إقناعي لا برهاني كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ( وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث )
قال : ( وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه )
قال : ( وأما هذا الذي يسميه ابن سينا ممكن الوجود فهذا والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم وكذلك ليس كونه محتاج إلى الفاعل ظاهرا من الجهة التي منها تظهر حاجة الممكن )
قلت : وهذا الذي حكاه عنهم : من أن الممكن عندهم لا يكون إلا محدثا مركبا قد ذكره في غير موضع وذكر عنهم أن الأفلاك عندهم ليست مركبة من المادة والصورة كالأجسام العنصرية والمولدات وأن القول بأن كل جسم مركب من المادة والصورة إنما هو قول ابن سينا دون القدماء وكذلك ذكر عنهم أن القول بأن الأول صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك وهلم جرا إلى العقل الفعال ليس هو قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله
وكذلك ذكر فيما ذكره ابن سينا وأتباعه في الوحي والمنامات : أن سببها كون النفس الفلكية عالمة بحوادث العالم فإذا اتصلت بها نفوس البشر فاض عليها العلم منها ذكر أنه ليس قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله وهو مع هذا فالذي يذكر عن القدماء وطرقهم هو أضعف من قول ابن سينا بكثير
وعامة ما يذكر في واجب الوجود أن يكون شرطا في وجود غيره وأما كونه علة تامة لغيره وربا ومبدعا كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهذا لا يوجد تقريره فيما ذكره عن الأوائل فإذا كانت طريقة ابن سينا يلزمها أن تكون الحوادث حدثت بغير محدث فطريقة أولئك تستلزم أن تكون الممكنات وجدت بغير واجب أو أن يكون كل من الواجبين بأنفسهما لا يتم وجوده إلا بالآخر إلى غير ذلك مما في كلامهم من الفساد
والمقصود هنا أن نبين أن خيار ما يوجد في كلام ابن سينا فإنما تلقاه عن مبتدعة متكلمة أهل الاسلام مع ما فيهم من البدعة والتقصير
ولما أورد عليهم الغزالي في قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وعدة أدلة بين بها فساد قولهم قال ابن رشد : ( إذا اعتقدت الفلاسفة أن في المعلول الأول كثرة لزمهم ضرورة أن يقال لهم : من أين كان في المعلول الأول كثرة ؟ وكما يقولون : إن الواحد لا يصدر عنه كثير كذلك يلزمهم أن الكثير لا يصدر عن الواحد فقولهم : إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يناقض قولهم : إن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه كثرة إلا أن يقولوا : إن الكثرة في المعلول الأول كل واحد منها أول فيلزمهم أن تكون الأوائل كثيرة )
قال : ( والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر و ابن سينا ؟ لأنهما أول من قال هذه الخرافات فقلدهما الناس ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة لأنهم إذا قالوا : إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين : أعني صورتين فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول وأيتهما التي ليست الصادرة ؟ )
قال : وكذلك إذا قالوا فيه : إنه ممكن من ذاته واجب من غيره لأن الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة أن تكون غير الطبيعة الواجبة التي استفادها من واجب الوجود فإن الطبيعة الممكنة ليس يمكن أن تعود واجبة إلا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الممكن ضروريا وكذلك ليس في الطبائع الضرورة إمكان أصلا كانت الضرورة بذاتها أو بغيرها )
قال : ( وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه : إن علومهم الإلهية ظنية )
وقال أيضا لما أراد أن يقرر قول أرسطو : إن كل حادث فهو مسبوق بإمكان العدم والإمكان لا بد له من محل وقد رد ذلك أبو حامد بأن الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع تقديره سميناه واجبا فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى نجعل وصفا له لأن الإمكان كالامتناع وليس للامتناع محل في الخارج ولأن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين
فقال ابن رشد : ( هذه مغلطة فإن الممكن يقال على القابل وعلى المقبول والذي يقال على الموضوع القابل يقابله الممتنع والذي يقال على المقبول بقابله الضروري والذي يتصف بالإمكان الذي يقاله الممتنع ليس هو الذي يخرج من الإمكان إلى الفعل من جهة ما يخرج إلى الفعل لأنه إذا خرج ارتفع عنه الإمكان وإنما يتصف بالإمكان من جهة ما هو بالقوة والحامل لهذا الإمكان هو الموضوع الذي ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل وذلك بين من حد الممكن فإن الممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد وهذا المعدوم الممكن ليس هو ممكنا من جهة ما هو معلوم ولامن جهة ما هو موجود بالفعل وإنما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة
ولذلك قالت المعتزلة : إن المعدوم ذات ما وذلك أن العدم يضاد الوجود وكل واحد منهما يخلف صاحبه فإذا ارتفع عدم شيء ما خلفه وجوده وإذا ارتفع وجوده خلفه عدمه
ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه أن ينقلب وجودا ولا نفس الوجود أن ينقلب عدما وجب أن يكون القابل لهما شيئا ثالثا غيرهما وهو الذي يتصف بالإمكان والتكون والانتقال من صفة العدم إلى صفة الوجود فإن العدم لا يتصف بالتكون والتغير ولا الشيء الكائن بالفعل يتصف أيضا ) وبسط الكلام في هذا
وقال أيضا في دليلهم المشهور على قدم العالم وهو قولهم : ( يستحيل صدور حادث من قديم مطلق لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلا فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكنا عنه إمكانا صرفا فإذا حدث لم يخل : إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح : لم رجح الآن ولم يرجح قبل ؟ فإما أن يمر إلى غير نهاية أو ينتهي الأمر فيها إلى مرجح لم يزل مرجحا )==

ج6.درء تعارض العقل والنقل أحمد بن

 عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
قال ابن رشد : ( هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا موصل البراهين لأن مقدماته هي عامة والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري الممكن الأقلي والذي على التساوي وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته لا من مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوي
والإمكان أيضا منه ما هو من الفاعل وهو إمكان الفعل ومنه ما هو من المنفعل وهو إمكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج لأنه يدرك حسا في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك وأنه ليس معروفا بنفسه : أن كل متحرك فله محرك وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته فإن هذا كله يحتاج إلي بيان فلذلك فحص عنه القدماء
وإما الإمكان الذي في الفاعل فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيرا يحتاج إلى مغير مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم )
قال : ( والتغير أيضا الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير : منها ما هو في الجوهر ومنه ما هو في الكيف ومنه ما هو في الكم ومنه ما هو في الأين والقديم أيضا : يقال على ما هو قديم بذاته وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة وكذلك المعقولات : على العقل الذي بالقوة ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض )
قال : ( وكذلك الفاعل أيضا : منه ما يفعل بإرادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا : أعني في الحاجة إلى المرجح وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد ) ؟
قال : ( وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين والغلط في واحد من هذه المبادي هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات )
قلت : المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا و الفارابي قبله
وهذا ابن رشد مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء واختصاره لكلامهم وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم يذكر أن كثيرا من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين ليس هو من قول قدمائهم
ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال : إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة
قال : وحينئذ فقول القائل : إن الموجود ينقسم إلى ما له علة وإلى ما لا علة له يحتاج إلى دليل قال : ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلته والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه وهو ما كان معدوما وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثا وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
قال : وإذا جعلنا الممكن ما له علة كان التقدير : أن ما له علة فله علة ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو المسمى عندهم بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يقال : إنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
قلت : ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوما كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة فإما كل ما يمتنع عدمه فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم بل هذا واجب الوجود سواء قيل : إنه واجب بنفسه أو واجب بغيره وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلا وأبدا فكونه ممكنا يفتقر إلى دليل فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا بد له من دليل كما ذكر ابن رشد بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده فهذا يعلم أنه ممكن ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها لا واجبة بنفسها
وهذا وإن كان حقا لكن دليلهم عليه في غاية الضعف فإنه مبين على أن كل جسم ممكن ودليلهم عليه ضعيف جدا كما قد بين في غير هذا الموضع وقد بين ضعفه أبو حامد ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق
والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكنا في اللغة باعتبار أنه بنفسه لا يوجد لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثا فيسمى ممكنا باعتبار ويسمى محدثا باعتبار والإمكان والحدوث متلازمان وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكنا يمكن وجوده وعدمه فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن كما قد بسط في غير هذا الموضع
واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه
وأما ما يقدر واجبا بغيره دائما فذاك لا يسمى ممكنا بهذا الاصطلاح
وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه وهو كون الممكن ما له علة قال ابن رشد : فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلة وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث
قال : وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري كما هو قول الجمهور فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث فلا بد له من فاعل ليس بحادث وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم ثم بعد هذا كونه لا علة له
والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا : بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية ممتنع عند جميع العقلاء وقد بين ذلك في موضعه
وأما كون الممكن الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود هو معلول لغيره فهذا ليس يبين أيضا امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول مع كونه واجبا قديما أزليا فالقول في علته كقول فيه فإذا قدر علل ومعلولات كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها إذ كان كل منها واجب له علة فإذا قيل : المجموع لا علة له لم يظهر امتناع ذلك كما يظهر امتناعه في المحدثات ولكن كونه له علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر
وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله وأنه صدر عن عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر كما هو معرف من مذهبهم وتقريره
قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم : ( وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا و أبي نصر وغيرهما ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية ومبادىء الموجودات السماوية موجودات مفارقة للمواد هي المحركة للأجرام السماوية والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها وأنها إنما خلقت من أجل الحركة
وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي مفارقة للمواد وأنها ليست بأجسام لم يبق وجه به تحرك الأجسام ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول إلا أن المعلوم في مادة والعلم ليس في مادة وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة وجب أن يكون جوهرها علما أو عقلا أو كيف شئت أن تسميها وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسما ولا قوة في جسم وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها مرتبط بمبدأ أول فيها ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود وأقاويلهم مسطورة في ذلك فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده
وما يظهر أيضا من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول وهو الله سبحانه وتعالى وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس
كما قال سبحانه : { وأوحى في كل سماء أمرها } وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيوانا ناطقا )
قال : ( وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها عن بعض فهو شيء لا يعرفه القوم وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه كما قال تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع فلو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف )
قال : ( فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا ) يعني ما ذكره ابن سينا قال : ( وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده )
قال : ( وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة مع أنها معقولة وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم فهو لذيذ محبوب عند الجيمع )
قال : ( وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى هو أن الإنسان إذا تأمل ما ها هنا ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة ولذلك قال المتكلمون : إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم فإذا حصل له هذا الأصل وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة فهو حيوان عالم وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات تولد أصل ثالث لا شك فيه وهو أن السماوات أجسام حية مدركة فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة بها قوام ما ها هنا وحفظه من الحيوان والنبات والجمادات فذلك معروف بنفسه عند التأمل فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل لم يكن ها هنا فصول أربعة ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة لما كان نبات ولا حيوان ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال فكانت الأمطار وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي وفي الصيف بالعكس : أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد الذي لها دائما من موجود موجود من المكان الواحد بعينه تلفى للقمر ولجميع الكواكب فإن لكلها أفلاكا مائلة وهي تفعل فصولا أربعة في حركاتها الدورية وأعظم من هذه كلها في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له في غير ما آية مثل قوله سبحانه : { وسخر لكم الليل والنهار } الآية
فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة ومن وجهات محدودة ونحو حركات محدودة وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية ذوات اختيار وإرادة ويزيده إقناعا في ذلك أن يرى أن كثيرا من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا لم تعدم بالحياة بالجملة على صغر أجرامها وخساسة أقدارها وقصر أعمارهما وإظلام أجسادها وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك التي لها دبرت ذاتها وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام لعظم أجرامها وشرف وجودها وكثرة أنوارها
كما قال سبحانه : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } الآية وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا علم على القطع أنها حية فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية الناطقة المختارة المحيطة بنا ونظر إلى أصل ثالث وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها علم أنها مأمورة بهذه الحركات ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات و الجمادات وأن الآمر لها غيرها وهوغير جسم ضرورة لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته وأنه لو لا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال لأنها مدبرة ولا منفعة لها خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده والآمر هو الله تعالى وهذا كله معنى قوله تعالى : { أتينا طائعين } )
قال : ( ومثال هذا في الاستدلال : لو أن إنسانا رأى جمعا عظيما من اناس ذوي نطق وفضل مكبين على أفعال محدودة لا يخلون بها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال وأن لهم آمرا هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة للعناية بغيرهم المستمرة هو أعلى قدرا منهم وأرفع مرتبة وأنهم كالعبيد مسخرين له
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }
وإذا اعتبر الإنسان أمرا آخر وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة له حركات خادمة لحركاته الكلية ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضا على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم رقيبا عليهم من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش : أن يكون منها جماعة جماعة كل واحد منها تحت آمر واحد وأولئك الآمرون وهم المسمون العرفاء يرجعون إلى أمير واحد وهو أمير الجيش
كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين وترجع السبعة - أو الثمانية على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم وكيف ارتباط وجود سائر الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها أعني قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول
وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا فيعرض من اعراضها كحال السيد مع عبيده بل في نفس وجودها فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية
وهذا هو معنى قوله تعالى : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل وإن كان يعترف بالوجود فمن رام أن يشبه الوجودين : أحدهما بالفاعل وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا فهو شديد الغفلة عظيم الزلة كثير الوهلة )
قال : ( فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية وفي إثبات الخلق لها وفي أنه ليس بجسم وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام واحدها هي النفس )
قال : ( وأما إثبات وجوده من كونها محدثة على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون فعسير جدا والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه )
قلت : فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله
بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركا لها من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به يحركها تحريك المحبوب لمحبه بل تحريك المتشبه به للمتشبه كتحريك الإمام للمؤتم فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه كتحريك الطعام للآكل ولمرأة للجماع وأما هذا فقد جعله آمرا لها بالحركة مسخرا لها بذلك مكلفا لها بذلك
لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك كم يتشبه المؤتم بالإمام

كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول
قال : والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك
وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبها به محبوبا لها كما ذكر أرسطو فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع وبينا ما فيها من النقص والتقصير عن إثبات واجب الوجود وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى

نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع كما ليس ذلك في كلام أرسطو وفي باطل وتناقض من وجوه :
( الوجه الأول )
أنه جعل الحركة تاره لا قوام للسماوات إلا بها كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال : إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر يعني الحركة كما ذكر أرسطو وجعلها تارة مستغنية عنها ولكنها كلفت بها لأجل السفليات وأن حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجدهم وهم غير محتاجين إليها

الوجه الثاني
أن غاية ما في هذا أن يكون آمرا لها بالحركة وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل كما ذكره في أمر الملك لنوابه وأمر القائد لجيشه وأمر السيد لعبيده

الوجه الثالث
أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بحركة التي أمرت بها فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة ؟

الوجه الرابع
أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها وأنه لا قوام لها إلا بالحركة فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطا في قوامها ويكون فاعلا لشرط من شروط وجودها ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها ولا أبدع أعيانها

الوجه الخامس
أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك وأن فيها عقلا هو فوقها في الرتبة والدليل الذي ذكره هذا و ابن سينا وغيرهما من الفلاسفة في إثبات العقول إنما يدل على إثبات عقول هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها من جنس العقل الموجود في نفوسنا فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها فلا دليل لهم على ذلك أصلا
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك لذكرت ألفاظهم بأعيانهم ليتبين لك ما ذكرته ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر والجواهر أعراضا والصفة هي الموصوف والموصوف هو الصفة وعلى هذا بنوا كلامهم كما صرحوا به في غير موضع ومن هنا يظهر :

الوجه السادس
وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم وجعلوا نفس العلم هو جوهرا قائما بنفسه واجب الوجود وهذا من أعظم سفسطة في الوجود وهو شر من كلام النصارى بكثير
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة وهو العقول التي جعلولها مبادىء أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون كليات مجردة عن الأعيان وهي المثل الأفلاطونية وجعلوها أزلية أبدية وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه وقالوا : الكليات لا يكون وجودها منفكة عن الأعيان وهؤلاء ظنوا أيضا أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضا غلط فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم حتى في واجب الوجود قالوا : إنه هو العلم وإنه العالم وأن العلم هو القدرة فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى كما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب
و ابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها والمراد بأمره بالحركة : كونه محبوبا لها أي تحب أن تتشبه به لا أنها تحب ذاته كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر وكل واحد يأمر من دونه وكلها ترجع إلى الآمر الأول
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئا من أعيان المأمورين : لا صفاتهم ولا أفعالهم بل الملك الآمر له شعور بأمره وطلب من المأمور وأما كون الشيء محبوبا مشتاقا إليه أو للتشبه به فليس في هذا صدور أمر من أمر ولا شعور بالمحب المشتاق ولا طلب لفعل منه
و ابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها بأنها لو كانت موجودة من ذاتها أي قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير وألا تطيعه كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا في عرض من أعراضها
فيقال له : أنت لم تقرر أنه آمر لها وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها أي تحب التشبه به وهب أنه آمر لها فأنت لم تذكر دليلا على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة إلا قولك : ( إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية )
وهذه دعوى مجردة
فلم لا يجوز أن يقال : تلك العبودية زائدة على الذات ؟
وقولك : ( إنها تقومت بالعبودية ) : إن أردت تقومت بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها فهذه دعوى أرسطو وقد علم ما فيها وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة بل يقتضي أن تكون الحركة شرطا في وجودها
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى فهذا هو المطلوب ولم تذكر عليه حجة
وأيضا فقولك : علم أن الآمر لها غيرها وهو غير جسم لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها - كلام لا حجة فيه لوجهين :
أحدهما : أنه مسخرا للعقول : ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة فلماذا يلزم إذا كان مسخرا للأجسام أن يكون من الأجسام المسخرة ؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة فلا يلزم أيضا إذا قيل : هو قائم بنفسه أو هو حي عليم قدير أو هو جوهر أو جسم أو ذات أو غير ذلك أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس
الثاني : أنه لم لا يجوز أن يكون خارجا عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها وهو موصوف وهو آمر لموصوفات وأمثال ذلك وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلا للمأمور
وأيضا فإنك قلت : لو تخيلت أمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر كما يقولون : لا توجد الأفلاك إلا بالحركة وهي قبول الأمر أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك
ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته أعظم من حاجة ما دونها إليها : فكيف يقال في هذا : لا يوجد إلا به ؟ ويقال في ذلك : لا يوجد إلا بقبول الأمر ؟
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلا بإبداع ما في الأرض وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل أو محبوب منفصل يحب التشبه به فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه وهم لم يقروا ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع لكن يمكن تقريره بأن يقال : إذا كان قوامها بحركتها وقوام حركتها به فقوامها به وإذا كان قوامها به امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره
وإذا كان الفلك متحركا بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود فيكون ممكن الوجود بنفسه وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه فيجب أن يكون مفتقرا إلى مبدع فاعل كما كان مفتقرا إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به
فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود لكن هم لم يذكروا هذا وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكنا
وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكنا لا واجبا بنفسه بهذه الطريق فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر
ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكنا مصنوعا صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه

عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكنا كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثا قال : ( فإن قيل : إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود لم يكن له علة : لا خارجة عنه ولا داخلة فيه فإن كانت له علة لكونه مركبا كان باعتبار ذاته ممكنا وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود )
أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار
قال : ( وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين ) : واجب الوجود وممكن الوجود ( فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة ) ( يعني العلة الفاعلة ) وإثباتها فكأنهم يقولون : إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها ؟ فيقول الدهري : لا علة لها فما المستنكر ؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا فنقول : إنه واجب وليس ممكنا وقولهم : الجسم لا يكون واجبا تحكم لا أصل له )
قال ابن رشد : ( قد تقدم من قولنا : إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة وفهم من ممكن الوجود ما له علة لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين معترفا بها فإن للخصم أن يقول : ليس كما ذكر بل كل موجود لا علة له لكن إذا فهم من واجب الوجود : الموجود الضروي ومن الممكن : الممكن الحقيقي أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له وهو أن يقال : كل موجود فإما أن يكون ممكنا أو ضرريا فإن كان ممكنا فله علة فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن تسلسل الأمر فيقطع التسلسل بعلة ضرورية ثم يسأل في تلك العلة الضرورية : إذا جوز أيضا أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة )
قال : ( وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو ضروري بغيره وأما : هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته ؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك فأما مسلكه فهو مختل ضرورة لأنه لم يقسم الموجود أولا إلى الممكن الحقيقي والضروري وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات )
قال : ( ثم قال أبو حامد مجيبا للفلاسفة في قولهم : إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته فإن قيل : لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة قلنا : ليكن كذلك فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول وقد أبطلنا عليهم ولا سبيل لهم سواه )
قال : ( فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام لا يصل لاعتقاد في الصانع أصلا )
قال ابن رشد : ( هذا القول لازم لزوما لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا وقد قال : إن أشرف من طريقة القدماء وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل من أمور متأخرة وهي الحركة والزمان وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود ولو أفضت لكان ما قال صحيحا لكنها ليس تفضى ) وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجودا فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركبا من مادة وصورة وبالجملة أن يكون له جزء فإذا وضع موجودا مركبا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها بعض كالحال في العالم وأجزائه صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود )
قال : ( هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجودا هو واجب الوجود وقد قلنا نحن : إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية ولا تفضى بالطبع إليه إلا على النحو الذي قلنا وأكثر ما يلزم هذا القول أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسما بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين لأن من يضع مركبا قديما من أجزاء بالفعل فلا بد أن يكون واحدا بالذات وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه أعني بسيطا ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحدا وكذلك يقول الإسكندر : إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم والرباط الذي بين أجزاء الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع من قبل الرباط القديم من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص كالحال في العالم فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان )
قال : ( وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك تأولوا على ابن سينا هذا الرأي وقالوا : إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقا وقالوا : إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية قالوا : وإنما سماها فلسفة مشرقية لأنها مذهب أهل المشرق ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة )
قال : ( ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير مامرة وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها وتكلمنا أيضا على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو وكلا الطريقين صحيحة لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو
قال : ( ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي على ما أصف كانت حقا وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات : الوجود في الجوهر والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر وهذه الطريقة هي أن نقول : إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوه فيه أصلا : لا في الجوهر ولا في غير ذلك من أنواع الحركات وما هكذا فليس بجسم مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه وظهر منه أنه ممكن الوجود في الحركة التي في المكان فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا : لا على حركة ولا على غيرها فلا يوصف بحركة ولا سكون ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلا ولا قوة في جسم وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر : إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية )
قلت : المقصود ذكر طرق هؤلاء ومنتهى نظرهم ومعرفتهم وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله إنما تلقاه من طرق المتكلمين كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين وطرق الفلاسفة والصوفية ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا حتى نفقت على كثير من أهل الملل بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا قليل الفائدة إذاكان صحيحا مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير مع أنه يقول : هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا
وهوكما قيل : لحم جمل غث على رأس جبل وعر ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود مضمونه : أن الممكن الوجود هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء : المحدث بعد عدم يجب أن تتقدمه واجب الوجود وهو القديم الذي لم يسبقه عدم
وهذا هو بعينه قول المتكلم : إن المحدث مفتقر إلى قديم
ثم قال : ( وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوة فيه أصلا وليس بجسم )
وهذا لم يذكر عليه دليلا صحيحا
وقوله : ( إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود ) أي قديم في جوهره ( وأنه ممكن الوجود في الحركة ) هو قول الفلاسفة الدهرية الذي يقولون : إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة
وهذا لا دليل له أصلا بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلا وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله : يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا لا على حركة ولا غيرها فلا يكون جسما أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة
ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل فلم قال : إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسما ؟ يقال : غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكنا فيقال : كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان
ثم يقال : بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركا وإما أن لا يكون فإن لم يكن متحركا كان محركا لغيره بدون حركة فيه
وهذا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطل مذهبهم وإن أمكن فالفلك نفسه : إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه وحركته ممكنة وهو محتاج في حركته إلى محرك منفصل كان واجب الوجود بنفسه جسما متحركا بحركة تقوم به يفتقر فيها إلى غيره
وحينئذ فيمكن أن يقال : المحرك للفلك هو أيضا جسم متحرك بحركة فيه سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى وإن قيل : إن الفلك ممكن الوجود فلا بد له من الواجب فيكون الواجب علة موجبة له فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل وهو ممتنع وإن لم يكن علة تامة له لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب إذ لا شيء له من نفسه
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة وهو أن الحركة الدائمة في الفلك إذا كانت صادرة عن موجب فالموجب لها : إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجبا بعد أن لم يكن
وذلك التمام : إن كان له من نفسه كان متحركا وهو خلاف ما زعموه وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه مفقترا في تمام فعله إلى غيره
وهذا أعظم عليهم : وهو أن يكون متحركا بحركة من غيره
وإذا قيل : نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب
قيل : الفعل إذا كان قائما في الواجب بنفسه لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون مفتقرا في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته بل كل ما سواه فقير إليه
وأما على قولهم : فهم يقولون : إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال ويقولون : إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئا بعد شيء
فيقال لهم : الفلك إن كان واجبا بنفسه فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئا بعد شيء فامتنع أن يقولوا : إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال وإن كان الفلك ليس واجبا بنفسه لم ممكن بنفسه فهو صادر عن الأول : ذاته وصفاته وأفعاله
فإذا قدر قديما لزم أن يكون المقتضى التام له قديما والفلك الممكن قابل للحركة شيئا بعد شيء فلا بد له من واجب والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئا بعد شيء فإذا قدر الفاعل الفلك ففاعله الفلك ممكنة فإذا حدثت شيئا بعد شيء لم يكن لها بد من فاعل وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمرا يتعلق بالواجب وذلك من لوازم الواجب لا يفتقر إلى غير الواجب وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره
وهذا قد بسط في موضع آخر وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم سواء قدر الفلك واجبا بنفسه أو قدر ممكنا واجبا بغيره
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه أو ناقصا لا يحصل المقصود وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وإلا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم
وهذه الطرق التي أخدها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وإنما هو قول مبتدعتهم وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية : صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعال فيهم : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك
والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وأمثاله عن المعتزلة : منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل فالصحيح كقولهم : إن تخصيص شيء دون شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص والباطل نفي الصفات
وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ولم يقتصر على مجرد ما قالوه بل وسع القول فيه حتى وصله كلام سلفه الدهرية
فالأول : وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص ضم إليه : أن كل ممكن وإن كان قديما لا يترجح إلا بمرجح وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن
و ابن سينا وافقهم على ذلك فتناقضت عليه أصوله وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم فهو نفي الصفات ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيما والتجسيم تركيبا ويقولون : إن المركب لا بد له من مركب فلا يكون مركبا فلا يكون جسما لأن الجسم مركب فلا يقوم به صفة لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم ولا يكون فوق العالم لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم
ولا يرى في الآخرة لأن الرؤية إنما تقع على جسم أو عرض في جسم
وكلامه مخلوق لأن لو قام به الكلام لكان جسما
أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك فزاد في نفي الصفات عليهم حتى كان أظهر تعطيلا منهم بل أبلغ تعطيلا من الجهم رأس نفاة الصفات وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور : بعضها أصابوا في مخالفتهم وبعضها أخطأوا في مخالفتهم لكن الذي أصابوا فيه منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا ك الإشارات وغيرها ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته وسموا ذلك توحيدا ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل وأظهر تناقضهم
ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم ويمكن أظهار تناقض قوله أكثر من إظهار تناقض أقوالهم فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه فإنهم يوافقون عليها وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم وبها تمكن من إنكار المعاد وتحريف الكلم عن مواضعه وقال : نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات وقال : كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه كما تقدم كلامه
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه ودخل في ذلك باطنية الصوفية أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء
وكلام ابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود يدور على ذلك لمن فهمه ولكن يسمون هذا العالم الله فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة كفرعون وأمثاله ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم بخلاف أولئك وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق مع قولهم بالوحدة والاتحاد كما رأينا منهم طوائف مع ما دخلوا فيه من العلم والدين لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه
وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم ومم كان كذلك فهو أحد رجلين : إمامؤمن عليهم : علم أن هذا يناقض الحق وينافي دين الإسلام فذمهم وعاداهم
وإما زنديق منافق : علم حقيقة أمرهم وأظهرمن ما يظهرون وكان من أئمتهم فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار
والأول من أتباع الرسل والأنبياء كآل إبراهيم الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره

كلام ابن سينا في الإشارات
وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم وتبين له مقصودهم فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الإشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم الذي قال في خاتمته : ( أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق وألقمتك نفي الحكم في لطائف الكلم فصنه عن المبتذلين والجاهلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والروية والسعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق فآته ما سألك منه مدرجا مجزأ مفرقا تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها أن يجري فيما تؤتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذه العلم وأضعته فالله بيني وبينك )
وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم
والمقصود هنا أن ابن سينا في الكتاب الذي عظمه لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته سلك ما ذكرته لك عنه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم
قال في آخره : ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هوالك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا )
و الرازي لم يعرف وجه وصيته فقال : ( إن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد فإنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة الحدوث والقدم وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون : ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد )
قلت : ليس مراد ابن سينا بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحدة لا شريك له مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى وعبادة ما سواه وإضافة التأثيرات إلى غيره بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم ولازم قولهم : إخراج الحوادث كلها عن فعله وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه وهو نفي الصفات وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا وهذا النفي الذي سموه توحيدا لم ينزل به كتاب ولا بعث به رسول ولا كان عليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها بل هو مخالف لصريح المعقول مع مخالفته لصحيح المنقول
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم : أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر ؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به الذي يقولون : إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته
وأيضا فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا إنما يتم إذا ثبت موجودا مجردا لا صفة له ولا نعت وإلا فإذا كان الخلق موصوفا بصفات متنوعة : كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة الرحمة بأفعال متنوعة : كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحدا عندهم بل كان مركبا وجسما
وحينئذ فيقال لهم : هذا الذي تسمونه واحدا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان وهو نظير الواحد البسيط الذي يجعلون منه تتركب الأنواع فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات ويقولون : إنه منه تتركب الأنواع الموجودة هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الألهيات ويقولون : هو مبدأ الوجود وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وإنما هو يقدره الذهن كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان وكما يقدر بعدا مجردا ودهرا مجردا ومادة مجردة كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم
بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه : إما الواحد الكلي البسيط الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم فبطل نفيهم للصفات وبطل قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فبطل قولهم في الأفعال فبطل ما قرروه في قدم العالم وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة حيث قالوا : كيف يصدر عنه ما لم يكن صادرا من غير قيام أمر متجدد به ؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم
أيضا فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات فكان هذا عصمته التي لا بد له منها
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم ولم يذكر مقالة أساطين الفلاسفة المتقدمين كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على إبطالها بما لا حجة له فيه فقال : ( أوهام وتنبيهات قال قوم : إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى : { لا أحب الأفلين } فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما )
قلت : وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه ليس له موجب آخر وهو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية وإليه يعود كلام محقيقهم ولهذا كان أئمة الكلام القدماء من المعتزلة والأشعرية وغيرهم كأبي على الجبائي وأمثاله و ك القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى وأمثالهما لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول
وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة وقد حكي هذا القول عن برقلس وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود وأنه لايكون موصوفا بصفات فتكون فيه كثرة ولا يكون جسما فتكون فيه كثرة ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيبا كتركيب الجسم من أجزائه الحسية : الجواهر المفردة ومن أجزائه العقلية : وهي المادة والصورة ومن الذات والصفات ومن العام والخاص ومن الوجود والماهية
ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين بل و ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة فساد ما ذكروه في هذا التوحيد وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيبا وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلا إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم
ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده فضلا عن إثبات أفعاله قال : ( وقال آخرون : بل هذا الوجود المحسوس معلول ثم افترقوا : فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين لكن صنعته معلولة وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين وأنت خبير باستحالة ذلك ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء وجعل غير ذلك من ذلك وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم )
فيقال له : الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين فإن ما لم يكن معولا كان واجبا لنفسه فهؤلاء جنس واحد حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من واحد ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء : أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد فيقولون بالتعدد في الصانع وأولئك إذا أثبتوا أصلا وطنية غير معلولة فلا يجعلونها فاعلة صانعة بل قابلة للفاعل فهؤلاء يقولون : إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم كابن زكريا المتطبب حيث قالوا : القدماء خمسة وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس
وكان ابن سينا ذكر هذا القول وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه فإن هذا يقول : سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة وهذا يقول : سببه عشق النفس للهيولى ثم ذكر قول المتكليمن وقول أصحابه فلم يذكرإلا هذه الأقوال الأربعة وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة
وحينئذ فيقال : مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه والعالم مع ذلك محدث الصورة فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب ولا يقولون بقدم العالم ولا يقولون بأن طينته غير معلولة وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل فإنه لا يدر عليه ما يرد على غيره ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سببا حادثا ويجعلون الفاعل معطلا عن الفعل ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها
قال : ( ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد ثم افترقوا فقال فريق منهم : إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه ولو لا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل لأن كل واحد منها وجد فالكل وجد فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود قالوا : وذلك محال وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معا فإنها في حكم ذلك وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له فتكون موقوفة على ما لا نهاية له فيقطع إليها ما لا نهاية له ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له ؟ ومن هؤلاء من قال : إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده ومنهم من قال : لم يمكن وجوده إلا حين وجد ومنهم من قال : لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء )
قال : ( وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول يقولون : إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئا أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع وأن تسنح جزافا وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال وكيف تسنح إرادة لحال تجددت وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد ؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلا لحسن من الفعل وقتا ما أو تيسر أو وقت معين أوغير ذلك مما عد أو لقبح كان يكون له قد زال أو عائق أوغير ذلك كان فزال
قالوا : فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة فهذا الداعي ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه
وأما كون غير المتناهي كلا موجودا ككون كل واحد وقتا ما موجودا فهو توهم خطأ فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال : الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
قالوا : ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوما إلا شيء بعد شيء وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أكثر وأقل ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب فإن معنى قولنا : كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفا معا بالعدم والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول وكذلك الاحتياج ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الأوقات يصح أن يقال : إن الأخير كان متوقفا على وجود مالا نهاية أو محتاجا إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية ففي جميع الأوقات هذه صفته لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها وذلك محال فهذا نفس المتنازع فيه : أنه ممكن أوغير ممكن فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه ؟ أبان يغير لفظها بتغيير لا يتغيره به المعنى ؟ قالوا : فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكن الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أوليا وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من الاختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير )
قال : ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك )

تعليق ابن تيمية
هذا جملة كلامه فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص فينتفي التخصيص فينتفي ما ذكروه من الحدوث
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود فتخصيصه بالوجود دون العدم وبالعدم دون الوجود كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة جميعا وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل فلما لم يطردوه نقض قولهم
وحينئذ فيقال له : بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين ؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين ؟
والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية : التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحدا من القولين فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضا قولك ؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسدا وكذلك إن كان صحيحا فهو فاسد على كل تقدير
وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث
فيقال لك : وأنت تقول : إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث فهم إن كان ما التزموه باطلا فقد التزمت أضعافه فيكون قولك أفسد وإن لم يكن باطلا بطلت حجتك على إبطال قولهم فتبين أن إبطالك لقولهم مع اعتقادك لما تعتقده باطل على كل تقدير وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها فأنت أعظم تناقضا في عدم طردك لأصولك مطلقا : صحيحها وفاسدها
وبيان ذلك أنه قد قال : يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا ومايلزم من ذلك لزوما ذاتيا وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير
فيقال له : إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا واللازمة من ذلك لزوما ذاتيا كما يقوله في لزوم الفلك عنه وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها فاللازم لهذه اللوازم : إما أن يكون لازما لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات أو لازما لها في حال دون حال
فإن كان لازما لها في كل الأوقات وجب أن لا يحدث شيء وأن لا يكون تغير أصلا
وإن كان لازما لها في وقت دون وقت فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات والأمور الحادثة في الأوقات حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث لأن الأمور الكائنة عنه كونا أزليا وما يلزمها لزوما ذاتيا نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفا لحاله ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر
وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث بطل أصل الكلام
وإن لم يجز ذلك لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له
فلا بد من أحد أمرين :
إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط وهذا أشد إبطالا لقولهم
وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها إلا لتخصيص لها بذلك إذ لو اختصت دون تخصيصه للزم الحدوث بلا محدث وهو ممتنع
ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم
وهذا أمر لا محيد لهم عنه هو يبين بطلان قولهم بيانا ضروريا لمن فهمه إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير وهذا يناقض ما قالوه
فهم بين أمرين : إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير لم يمكنهم إبطال قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب بل بمجرد القدرة أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير بطل قوهم كله فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه مختلف القدر والصفات وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم سواء قالوا : هو صدر عن العقل الذي لا يتغير كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير كما يقوله ابن رشد وأمثاله أو صادر عن الواجب بتوسط العقل كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة وكانوا أكثر التزاما للباطل الذي قرروا أنه باطل وأبطلوا به قول المعتزلة وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلا لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها : لا بوسط ولا بغير وسط وتلك الحوادث لم تحدث عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث وأن لا يكون الرب تعالى محدثا لشيء من الحوادث
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم : بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع
فقال لهم : أنتم عطلتم الصانع دائما عن صنع شيء من الحوادث على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئا من الخير والإحسان أزلا وأبدا
وأما صنعه اللوازم وجوده فهذا أنتم منازعون فيه وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلا وأبدا
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع فهذا ليس قولا معروفا لطائفة معروفة بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع وهذا ضروري في العقل
وعلى قولكم : الحوادث دائما تحدث وليس لها صانع فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلا وأيضا فإن الحوادث مختلفة في صفاتها ومقاديرها كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره وإن جاز ذلك بطل قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه سواء كان صادرا عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة فكيف ما قدروه فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه
وأيضا فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة كحادث الطوفان وأمثاله بل إرسال موسى عليه السلام وما تبع رسالته من الحوادث وإرسال محمد صلى الله عليه و سلم وما تبع رسالته من الحوادث وأمثال ذلك هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء وقد قالوا لأجل هذا : يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم وقالوا : العالم قديم لذلك ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث ما في ذلك القول وزيادات فإن المعتزلة يقولون : التخصيص إنما وقع وقت إحداث العالم فقط ثم التخصيص في سائر الأوقات كان أسباب حادثة في العالم
وهؤلاء يقولون : لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة والأشعرية ونحوهم وإن قالوا : إنه لا يزال يخص وقتا دون وقت بحدوث الحوادث من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة فهم أطرد لقولهم من قولكم : إن نسبته إلى الأوقات واحدة مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر مع استواء نسبته إلى الأوقات
فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية
وأيضا فمعلوم أن الحركات مختلفة والمتحركات مختلفة وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس بل لكل فلك أو لكواكب كل فلك حركة تخصه فإن الناس يشهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت

تعليق ابن تيمية
والجمهور من أهل الهيئة يقولون : المتحرك هو الأفلاك وإن الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد سواء صدرت بواسطة أو بغير وساطة
وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة فهو جمع بين النقيضين وقول متناقض
وأما الصدور بواسطة فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد فإذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد وإلا كان قولا متناقضا فإنه إذ صدر عنه ما فيه كثرة فقدر صدر عنه أكثر من واحد وإن لم يكن في الصادر كثرة وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد وهلم جرا وهذا خلاف المشهود
وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم : إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا أو مهما قالوه من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام فهي مع كونها أقوالا لا دليل عليها وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب بل والدليل يقوم على فسادها فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم فإن تلك الوجوه إما أن تكون أمورا وجودية أو عدمية فإن كانت وجودية فقد صدرت عن الأول فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة وإن كانت عدمية لا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحدا بسيطا وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد
يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية فلا يصدر عنه إلا واحد وهلم وجرا
وأيضا فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية كما بسط هذا في موضع آخر
وإذا كان كذلك فما يقولونه في هذا المقام من أنه حركة الفلك واحدة أزلية أبدية وهي فعل الرب الدائم فعله قول باطل لوجوه :
أحدها : أن الحركات ليست واحدة بل حركات مختلفات وليس بعضها صادرا عن بعض فقول القائل : إنها واحدة قول باطل
الثاني : أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة نوعا واحدا أو أنواعا مختلفة تحدث شيئا بعد شيء وإذا كان الأول علة تامة أزلية كان مستلزما لمعلوله فلا يتأخر عنه شيء من معلوله بل يكون معلوله كله أزليا أبديا دائما بدوامه إن أمكن مقارنة المعلول لعلته لا يحدث منه شيء بعد شيء فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وهو لا يكون بينه وبينها فصل فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل ؟ فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية
الثالث : أن يقال : كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان أمر لا يعقل وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن كما يقدر الممتنعات وسواء سمي الفاعل علة أولم يسم فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول وهو مفعول لها وكان زمانهما واحدا ولكن قد يكون الشيء مستلزما لغيره ومقارنا له في الزمان كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر كحركة الخاتم واليد لكن لا يكون الملزوم فاعلا للازم فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة
ولكن لفظ ( العلة ) فيه إجمال واشتباه واشتراك فقد يراد بها الملزوم الموجب وقد يراد بها الفاعل والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له لكن موجبه الذي هو مفعول له لا يعقل مقارنته له لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئا بعد شيء فتكون المفعولات صادرة عنه شيئا بعد شيء
وهؤلاء أصلوا أصلا فاسدا ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه ولا يكون معلول إلا لعلة تامة وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم في قولهم : إن المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره فقالوا : الباري كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره فقال أولئك : بل يجب أن يقارنه أثره
والصواب قول ثالث وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه لا مقارنا له ولا متراخيا عنه كما يقال : كسرت الإناء فانكسر وقطعت الحبل فانقطع وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق
قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه وقد يقال : يكون مع تكوينه بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم فإنه إنما يكون عقب تكوينه له فهو مسبوق بغيرهم سبقا زمانيا وما كان كذلك لا يكون إلامحدثا والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام
وأما على قول هؤلاء فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولم منها : أنه لا يحدث في العالم شيء فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان وكل ما سواه مغلول له بوسط أو بغير وسط لزم أن يكون كل ما سوى الله قديما أزليا
ومنها : أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد
وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء وهو تسلسل علل ومعولات أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها فإنه كلما حدث حادث فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ماهو كذلك فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى أوتمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد
وإذا قالوا : كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه
ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون : المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ماسوى الله تعالى
وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئا فشيئا عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع كالحجر الهابط وكالمسافر إلى بلد فإنه يقطع المسافة شيئا فشيئا والمقتضى لقطعه المسافة وهو قصده تلك المدينة قائم لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول
فيقال لهم : هذا يدل على فساد قولكم فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه فليس هذا نظير قولكم بل هو نظير قول من يقول : لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول
وهذا نظير قول من يقول : لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء فوجود الثاني كالإرادة الثانية والكلمة الثانية والفعل الثاني مشروط بانقضاء الأول وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضى لوجود الثاني
وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية فليس في مفعولاته قديم وإن قدر أنه لم يزل فاعلا وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ماسواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى : { الله خالق كل شيء }
وهؤلاء لمما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام أو حدوث العالم بامتناع حوادث لا أول لها ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة ولهذا كان أئمة أهل الكلام ك الرازي وغيره يوفقونهم على فسادها فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية ك الأربعين و نهاية العقول وغيرهما : امتناع حوادث لا أول لها كما تقدم تقريره واعتراض إخوانه عليه فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة ويقرر وجوب دوام الفاعلية وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب وامتناع حدوثها في غير زمان ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره
ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه ك الآمدي و الأبهري و الأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه أو أخذوه هم من حيث أخذه هو
وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له فأجدهم قد أخذوا ذلك الأعتراض أو الجواب أخذو من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي فإنه أخذه من المطالب العالية
والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضا ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين ومن المعتزلة والأشعرية هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحا لم يجيبوا عنه
فلا يظن الظان أن ما ذروه مما ينصر دين الإسلام بل هذا مما يقوي معرفة المسمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وأنه جهل لا علم
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك فإن النظر : إما أن يكون ناظرا بنفسه حتى يتبين له الحق أو يقلد المعصوم فهذان طريقان علميان وإما أن يكون محسنا للظن بشيوخ تقدموا من شيوخ هذا الكلام المحدث فهؤلاء قد عارضوهم من هو أعلم منهم فالسلف والأئمة عارضوهم وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم والفلاسفة أيضا عارضوهم وناقضوهم
وإذا قال القائل : هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف و أبي إسحاق النظام ومثل الجهم بن صفوان و اتبعهم عليه مثل أبي علي و أبي هاشم و عبد الجبار بن أحمد و أبي الحسين البصري وغيرهم ووافقهم على صحة هذه الطريقة - وهو امتناع حوادث لا أول لها - مثل محمد بن كرام و ابن الهيثم وغيرهما ومثل أبي الحسن الأشعري و القاضي أبي بكر و أبي المعالي و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل ابن الزاغوني و أبي عبد الله المازري و القاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة فهؤلاء - وأضعافهم - يحتج بهذه الطريقة وإن كان أصلها مأخوذا من الجهم بن صفوان و أبي الهذيل العلاف وغيرهما
قيل لمن قال هذا القول : الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والمظهر لباطل من خالف الرسول وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منهم إلا وله غلط في مواضع
وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق : هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا ؟
وهل هي موافقة للشرع أم لا ؟ فعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وزنه أيضا بالميزان الصحيحة العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ولا تتبع الظن فإنه لا يغنى من الحق شيئا وسل الله أن يلهمك ويهديك
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي [ أن الله تعالى قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
وقد ثبت في صحيح مسلم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ]
والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فالضلال وقع في السمع والعقل فإن أقواما نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله مما عرف بالنص والإجماع
ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك وأهم الأمور معرفة ماجاء به الرسول وفهم ذلك
فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال : [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ وهو بعد في قطع هذه المسافة فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه فإنه لوقدر واحد من العلماء النظار لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع لينظر في قوله وقول غيره كما يفعل من نظر في أقوال النظار فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ؟
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس وقد بلغه أن لبقراط و جالنيوس وأمثالهم فيها نصا لم ينبغ له أن يثبت القول فيها حتى يعرف ما قاله هؤلاء مع جواز غلطهم في نفس الأمر فكيف بنصوص الانبياء في الأمور الألهية ؟
وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية من الفلاسفة وغيرهم أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل لا بإظهار الحقائق إذ لم يكن إلا ذلك فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليدا لهم بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه هل يطابق قول هؤلاء أم يورث علما ضروريا بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمدا أو خطأ : إما عنادا وإما ضلالا ؟ وهذا مبسوط في موضعه

تعليق ابن تيمية
والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء
وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها
وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء فكل ماسواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها التي عجز المتكلمون عن حلها ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلا ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهومحدث كائن بعد أن لم يكن ولك ما سوى الله مفعول فيكون محدثا لا يناقض ذلك وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا : إن الله كان ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئا بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعا لا مقدورا له في الأزل ثم إنه صار ذلك ممكنا مقدورا بدون تجدد شيء فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلا
ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم و أبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها زاد الجهم : وبفناء العالم كله : الجنة والنار فيكون الرب ما زال معطلا من الكلام والفعال صم لا يزال معطلا من الكلام والفعال وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جدا بالنسبة إلى الأزل والأبد فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل ورآى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده لكن هؤلاء وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم فالمتفلسفة المتنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا وأما أولئك فقد يتأولون النصوص أو يقولون : لها معنى لا نفهمه ولا يقولون : إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل وتارة في تأويل المنقول
وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه ولكن يقولون كلاما مضمونه أنه كذب للمصلحة ولهذا سماهم المسلمون : ملحدين : فإنهم يلحدون في آيات الله ولهذا يفضي بهم تأويل النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك
وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها وإن كانوا متأولين في ذلك فما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل ثم أمكنه ذلك بلا سبب وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح وأن الممكن انقلب من الأمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث والفاعل أمكنة الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكنا بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثرا : إما أن يكون موجودا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان موجودا لزم القول بأنه لم يزل فاعلا لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره وإن لم يكن موجودا امتنع وجوده بعد هذا لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل وإذا حصل وجب وجود الفعل
وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها بأن يقولوا : المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته أو إمكان الفعل وانتفاء المانع وهو الأزل أو حصول المصلحة
وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جوابا صحيحا فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به والمعلوم يتبع الإرادة فإن لم يكن المرجح ثابتا في نفس الأمر لم يكن العلم مرجحا وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح
وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه
ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصا فتم
و الرازي يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه ثم يضعف هذا الجواب وتارة يقول : بل العقل والنفوس أزلية فحدث تصور من التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم وأجود أجوبته المعارضة والنقض وهو أنه يقول : هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة
وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل فأن الحس والمشاهدة يناقض ذلك ودليلهم لا يدل على ذلك بل يدل على حصول مطلق الترجيح لا على حصول ترجيح لممكنات معينة ولا كل ممكن
فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين كالعقول والنفوس والأفلاك ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئا فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه لا مفعول له في الخارج كان ذلك وفاء بموجب دليلهم وإذا قدر أن ذلك كونه لم يزل متكلما إذا شاء كان وفاء بموجب دليلهم
وإذا قيل : إنه قامت به إرادات متعاقبة كما قاله الأبهري وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث كان ذلك وفاء بموجب دليلهم إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلا بعد أن لم يكن والمثبت لمطلق لا ثبت فعلا معينا ولا مفعولا معينا فضلا عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول
بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثرا تاما فيها فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لك واحد منها والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط فلا يحدث حادث إلا منه سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط فلو كان المؤثر كما زعموه من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها
وهكذا الأمر في كل حال وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة فعنده يجب أن لا يكون علة تامة فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم
وإذا قالوا : حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه
قيل لهم : هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد كما في الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد وكل ما سواه من القوابل والمقبولات والاستعدادات والإمدادات فمنه لا من غيره سواء كان بوسط أو بغير وسط
وإذا كان كذلك وكان حاله قبل إحداث كل حادث كحاله قبل ذلك الحادث امتنع أن يحدث منه شيء أصلا : لا قابل ولا مقبول ولا استعداد ولا إمداد فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلا فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئا قط بل ولا فعل شيئا قط بل حدثت الحوادث بلا محدث فعلم أنه باطل
وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم فقولهم بقدمه باطل ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه وأما أساطين القدماء فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك فهم قائلون بحدوث صورة العالم ولهم في المادة كلام فيه اضطراب فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر كأبي البركات وغيره
وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه ولا ابن سينا وأمثاله على أن الرب وجود بسيط لا صفة له ولافعل بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته : إرادة بعد إرادة
وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله كما أخبرت بذلك الرسل فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه سبحانه : { استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم }
قال في الآية الأخرى : { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم }
فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين وأن السماء كانت دخانا وهو بخار الماء كم جاء تفيسره في عدة آثار : أنه خلق السماء من بخار الماء والبخار دخان الماء كما أن دخان الأرض دخان
وإن أريد بالدخان التراب فقط أو دخان التراب والماء فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة
وثبت في الصحيح : صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ]
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله به عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ] وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ] وفي رواية صحيحة : [ ثم خلق السماوات والأرض ] قأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجوده قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء
وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء
وكذلك في أول التوراة مثل هذا سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء وكانت الريح تهب على الماء وذكر تفصيل خلق هذا العالم
ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر فإن العرش أيضا مخلوق كما أخبرت بذلك النصوص واتفق على ذلك المسلمون فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا - فيما نقل الناقلون عنهم - قولهم يوافق هذا لم يكونوا بقدم العالم فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلا مع أنه في غاية الفساد
وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئا وأن الحوادث تحدث بلا محدث بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود وأنه ليس له مبدع
و أرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك لها واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية فلا بد لها من غاية وقال : إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه والمشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق بل ذاك لمحبته يتحرك إليه فكيف وحقيقة قولهم أن يتحرك للتشبه به كمايتحرك المأموم للتشبه بإمامه ؟ فهكذا يقولون : أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى
وقد بينا فساد قوله وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله وما فيها من الفساد في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل ليس من دين المسلمين كما أنه من خالف كتاب الله وسنة رسوله أو إجماع السابقين ليس من دين المسلمين فليس في دينهم الصحيح : لا ما يخالف صحيح المنقول ولا ما يخالف صريح المعقول ولاما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول
والمقصود هنا أن الممكن لا يترجح إلا بمرجح وأن هذا متفق عليه بين العقلاء والله أعلم

فصل
ثم إن الرازي مع سلوكه المسلك المتقدم ذكر أن هذه المتقدمة أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح هي مقدمة ضرورية وأن من لزمه ما يناقضها فهو لم يلزم ذلك فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها والأقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعا
وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم أنه ممكن وهو المحدث فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه وأما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم فهو يبين أنه باطل وأنهم لم يثبتوا بهذه الطريق : لا إثبات متمكن ولا إثبات واجب ولكن قد ذكر أيضا أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء
وقد ذكر أن كثيرا من الطوائف يتنافضون فيقولون بما يناقض هذه القضية ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل به نقول : إن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية
وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم : إن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجودا في كتاب الله أو سنة رسوله أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم
فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم ؟ بل هوقول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة
وطوائف منهم ينازعون في ذلك ويقولون : إن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت مع قولهم : إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة وقد علم النزاع في تسلسل الآثار بل فيما يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها وثبوت تسلسلها
والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن - الذي هو الحادث - بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء فإن كان الممكن هو الحادث كان كلاهما دليلا على مدلول واحد

القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه
وإن قدر أن الممكن أعم من المحدث فنقول : إذا كان ذلك ممتنعا فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع أيضا بل هو أعظم امتناعا لوجوه :
( الأول )
أنه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه إذ لولا إمكان وجوده لما وجد ولولا إمكان عدمه لما كان معدوما قبل حدوثه فوجوده يقتضي ترجيح وجوده علىعدمه وذلك يفتقر إلى مرجح

الثاني
أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت وصفة دون صفة وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص

الثالث
أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح وهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى المرجح إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك
وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية أقرب كانت طريقته أقوم فالمستدل بأن الموجود على سبيل الجواز وهو الموجود الممكن لا يكون بالوجود أولى منه بالعدم إلا بالفاعل وأن ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقا لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح كما سلك ابن سينا وأتباعه كالسهروردي و الرازي و الآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء حيث قالوا في موضع آخر : إن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف
ثم الذين استدلوا بذلك ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل الجمهور أقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل ابن سينا ونحوه
ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى إبطال التسلسل دون إبطال الدور أقرب من الذين احتاجوا إلى إبطال التسلسل والدور جميعا كما فعل الرازي ونحوه وظنوا أن الدليل لايتم إلا بذلك
ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي
ثم إن أبا الحسين مع أن طريقه أصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب و القاضي أبي يعلى و أبي المعالي الجويني و ابن عقيل و أبي الحسن ابن الزاغوني وأمثالهم خير من طريقته

كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم
وذلك أنه قال : ( فإذا ثبت أن العالم محدث فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن أن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وسندل على أنه عالم قادر فصح قولنا )
قال : ( واستدل شيوخنا رحمهم الله على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلىمحدث لأجل أنه محدث فكان حدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثه احتاجت إلى محدث )
قال : ( والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث وإن كرهناه وكنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه يحتاج إلينا
والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لأجل حدوثه أو لبقائه أو لعدمه فلو احتاج إلينا لأجل بقائه لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين فصح أنه احتاج إلينا ليحدث ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه فعلمنا أنه إنما يحتاج إلينا لأجل حدوثه )

تعليق ابن تيمية
قلت : فطريقة شيوخه الذين أشار إليهم من المعتزلة هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا وأنها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة
وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب الأشعري وغيرهم حتى مثل أبي القاسم القشيري و أبي الوفاء بن عقيل وبنوا ذلك على هذه
وأما الطريقة التي ذكرها هو وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث
وأبطل الأول بأنه لو كان حدوثه واجبا لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وقد قال قبل هذا : إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال واستحال عدمه
وهذا التقسيم لا يحتاج إليه ولا على إبطال هذا القسم بما ذكروه وذلك أن قول القائل : إما أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه
إما أن يريد به وجوب حدثه بنفسه أو وجوبه بغيره فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع بل يجوز أن يقال : المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه أي وجد المقتضي التام لحدوثه الذي يمتنع معه أن لا يحدث وهذا إذا قيل فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضا لا ينفي ذلك فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع
ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون قي كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجبا ويقولون : لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز أو أن يكون بالوجود أولى منه بالعدم لا على وجه الوجوب
ويقولون : إن القادر المختار سواء كان قديما أو محدثا لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء
وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور وفساد قولهم لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحا أو فاسدا فهم يستغنون عن جعله مقدمة إثبات الصانع
وإذا أمكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير كان خيرا من إثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم إثباته بأن المحدث لا بد له من محدث سواء قيل أنه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك فلا حاجة بهم في إثباته إلى ذلك
وإما إن أراد القائل بقوله : إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل
والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجبا بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم والمحدث كان معدوما فيمتنع أن يقال إنه حادث وهو واجب بنفسه
ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديما فإن هذا نقيض هذا إذ المعني بكونه محدثا أنه ليس بقديم
ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه
فإن الأول لم تنازع فيه طائفة معروفة والثاني نازع فيه طائفة معروفة
وأيضا فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فامتنع عدمه
وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديما فهو أبين من هذا
وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال : إنه حدث وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه أبين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال
و أبو الحسين بنى كلامه على نفي هذه الأولوية التي مضمونها أن الوقتين متساويان فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء فإن المحدث اختص حدوثه بوقت وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص
وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين
أما كونها خيرا وأقرب فظاهر وأما كونها أصح فلأن أبا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال
وهذا كما تقدم فيه إجمال يحتاج إلى استفصال يترتب عليه نزاع
فإذا قال له القائل : بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتضى اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال لم يمكنه أن يقول : ليس إيجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال لأنه يقول له كما قلت : إن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه يخصص الحدوث بحال من حال كذلك يقول : إن المقتضي لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال
فإن قال : المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء كان الجواب من وجوه :
أحدها : المنع فإن هذه دعوى مجردة
الثاني : أن يقال : لا نسلم أنه يمكن أن يكون شيء مقتضيا للحدوث إلا مع الوجوب وإنه مادام اقتضاؤه جائزا فإنه يمتنع الاقتضاء وذلك لأنه إذا جاز أن يقتضى وجاز أن لا يقتضى كان كل من الأمرين ممكنا جائزا لم يكن ثبوت الاقتضاء أولى من انتفاء لولا أمر آخر اقتضى ذلك الاقتضاء ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالأول ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها ولا وجود لشيء منه وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا
وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم ومسألة القدر وهو مما استطالت عليهم به أهل السنة والفلاسفة وغيرهم
لا سيما و أبو الحسين يقول : إنه مع فعل القادر يتوقف على الداعي وإنه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور فيكون أصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة : إن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث وهذايناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه
الثالث أن يقال : هب أنا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى وأنه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى وأنه يخص الحدوث بحال دون حال فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء أولى وأحرى
فإن قيل : ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه فيلزم قدم الحوادث بخلاف ما كان جائز الاقتضاء
قيل : هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازما له وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة كبرقلس و ابن سينا وأتباعهما
فإنهم يقولون : إن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات وما سواه معلول به فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث وهذا باطل قطعا
وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء
فيقال : إذا قدر أنه قادر مختار وهو يحدث الحوادث مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها فلان يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته
ولا يمكنهم أن يقولوا : القدرة والمشيئة لا تخص وقتا دون وقت لأن هذا ينقض قولهم فإنهم يقولون : إنه لمجرد قدرته يخص بعض الأحوال دون بعض
ولو قال قائل : ذلك من غيرهم لقيل له : تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال هو بحسب ما يعلمه من الأسباب المقتضية للتخصيص
وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته أسباب تقتضي التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته أو يقال : إن هذا يستلزم ما لا نهاية له على سبيل التعاقب ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي لا يوردها أحد إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض أعظم مما يلزم به منازعه وأما منازعه فيمكنه التزامها ولا يتناقض قوله : لا عقلا ولا شرعا
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولا ما يلزمه هو على تقديره رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه وأنه إذا صححه بذلك الطريق كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك
وبهذا وأمثاله يتبين أنه لم يسلك أحد طريقا مخالفة للسنة في إثبات شيء من اصول الإيمان إلا والله قد أغنى عنها بما هو سليم من عيوبها وأن تلك الطريق وإن غمض على أكثر الناس معرفة فسادها لدقته فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها
ونحن كثيرا ما نقصد بيان أن الطرق التي خالفها سالكها شيئا من النصوص غير محتاج إليها بل مستغن عنها ليتبين أن العلم بصدق الرسول وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة ليس موقوفا على شيء من الطرق التي تناقض شيئا مما جاء به مع أنا نبين أيضا أن تلك الطرق فاسدة لكن بيان الاستغناء عنها في مقام وبيان فسادها في مقام
وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولا ثم يعارضون بها النصوص ثانيا فنحن نبين الغنى عنها ثم نبين فسادها ثانيا ثم نبين ثالثا أن الطرق العقلية الصحيحة وهي الأدلة السمعية متلازمان فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر
وهذا قدر زائد على عدم تنافيها وعدم تنافيها وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما
وأيضا فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول : إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك يستلزم قدح الشرع في أصله
وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين بل ذكر أولا أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وأن ما قدم من الحوادث وأخر لا بد له من مقدم ومؤخر من غير أن يحتاج أن يقول : إن الحدوث : إما أن يكون واجبا وإما أن يكون غير واجب وهذا أصح وأقرب وأبين
ثم أن طريقة أبي الحسن الأشعري التي في اللمع خير من طريقة القاضي فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت والتخصيص لا بد له من مخصص فإن هذا وإن كان صحيحا فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين أو تخصيصه بصفة دون صفة هو موجود في نفس الحدوث فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات لا بد له من مخصص ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل ولو قدر أنه لم يحدث غيره ولا يمكن حدوث غيره وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس حتى الصبيان حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه قال : من ضربني ؟ من ضربني ؟ وبكى حتى يعلم من ضربه وإذا قيل له : ما ضربك أحد أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد لم يقبل عقله ذلك وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها لا بد له من مخصص بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء وبيان ذاك بهذا من باب بيان الأجلى بالأخفى
ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة الأشعري وغيره فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس من حدوث الأعيان المحدثة وحدوث الأعيان مشهود معلوم لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الأعيان لا تحدث وإنما تحدث صفاتها وأنهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه وإنما شهدوا حدوث صفات الأجسام وأن الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف
قالوا : فهذا هو الذي يشهد حدوثه ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الأعيان بالاستدلال الذي ذكروه من أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذه الطريق يظهر الاستغناء عنه لكل أحد بما يشهده من حدوث الأعيان وأصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات كما ذكره الرازي وغيره وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها
فمن قال : إن العلم بإثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها فقد ظهر خطؤه عقلا لكل أحد كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة
فإنه من المعلوم بالاضطرار : أن الرسول صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين ما دعوا أحدا من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث الذي قد أغنى الله عنه وظهر الغنى عنه لكل عاقل
ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلا هو ألطف من العلم بالغنى عنها ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير قبل أن يظهر لهم فسادها
وقد ذكر من الكلام على مقدماتها وفسادها وطعن بعض أهلها في بعض وإفسادها لمقدماتها وبيان فسادها بصريح العقل في غير هذا الموضع ما ينبه على المقصود
والمقصود هنا : التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث والمفعول إلى الفاعل وهو من العلوم الضرورية البديهية وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص
وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله أظهر مما استدل عليه أبو الحسين وأمثاله من أن الحدوث : إما أن يكون على وجه الوجوب أو على وجه الجواز
وهذا الذي ذكره أبو الحسين وأتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه لولا المقتضى لحدثه أظهر مما ذكره ابن سينا و الرازي وأمثالهما من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه ولا عدمه أولى من وجوده إلا لمرجح منفصل عنه
وطريق هؤلاء بعضها أصح وأقرب من طريق بعض
وقد ظهر بما ذكرنا فساد القاضي أبي بكر : أنه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار وإنما يتطرق إليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها ادعت في هذه المذهب البديهة

كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
ثم يقال له : إن كان هذا حقا فالأشعري لم يذكر في اللمع دليلا على ذلك بل جعل ذلك مسلما وإنما أثبت حدوث الإنسان وأنه لم يحدث نفسه
ثم قال : ( فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر )
فذكره هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال لا يعلم به أن له ناقلا مدبرا إلا بأدلة تذكر فهو لم يذكر تلك الأدلة بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل
وحينئذ فيكون طعن من طعن المعتزلة في كلامه أوجه فإنه لم يقم دليلا : لا على حدوث الجسم ولا على أن المحدث لا بد له من محدث
ثم يقال : من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية أو طائف من نظار المسلمين
وقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بفاعل وأن المخلوق تتعلق بخالق - علم ضروري إنما قاله شرذمة لا يعتد بقولها وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث مع أنه لا يعلم أن أحدا من المشهورين بالعلم طلب على هذا دليلا ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا ولا في كتاب الله وسنة ورسوله ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه : من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر فلا بد به من مرجح

فصل
ومن هنا يظهر الوجه الثاني الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلىما ذكره القاضي
وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو أبده للعقل وأرسخ في القلب وأظهر عند الخاصة والعامة مما قرره به وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض والتخصيص لا بد له من مخصص
فالأول : إن لم يكن أقوى منه وأجلى فليس هو دونه وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلا في أفراده
لا سيما على أصل القاضي وموافقيه من المعتزلة والأشعرية فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء
وإذا كانت النسبة مستوية فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر تخصيص بلا مخصص
وإذا قالوا : الإرادة لذاتها تخصص مثلا عن مثل بلا سبب مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلا أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلا وقال : من شأن الأوقات التخيصص بلا مخصص
وإذا قالت المعتزلة : القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد
فمن كانت هذه الأقوال أقواله وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث : أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان فلا بد للتخصيص من مخصص وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع ويجعل ذلك بديهيا ضروريا
كيف يمكنه أن يقول : إن وجود الحوادث بلا محدث والفعل بلا فاعل والصنعة بلا صانع ليس امتناعه بديهيا ضروريا ؟
فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية وجعل ما هو دونها بديهيا ضروريا تناقضت أقواله وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله
وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن فإنها في غاية السداد والاستقامة
ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين : أحداهما : أن الإنسان محدث والثانية : أن المحدث لا بد له من محدث
فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعولوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى
وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة أوعرضت له فيها شبهة كما تقدم
وأما المقدمة الأولى : وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة فإن حدوث الحوادث مشهود
ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى : إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها أو صورتها لا مادتها أمكنهم إثبات المحدث بناء على ذلك وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام
وأما من أنكر ذلك وهم جمهور العقلاء فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة و أبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداء وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري
وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظريا
وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص وهذا عند هؤلاء ضروري كافتقار الممكن إلى الواجب
ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظريا وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا وهي أقرب مما بعده
فجاء من بعدهم ك الرازي ضم إلى ذلك نفي الدور أيضا ثم هو و الآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة واستصعب ذلك على الآمدي حتى قال : إنه عاجز عن تمشيها وحل مايرد عليها كما ذكرناه
ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة ويعدم أخرة فهو سهل متيسر معلوم ببدائه العقول
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها حتى آل الأمر بهم إلى الجهل العظيم وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا وأكثرها وأقواها أدلة وأولاها بالعلم من كل معلوم وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة دائم الحصول في القلوب حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم
والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأمثاله وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض أو قيل : إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والائمة
فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية القريبة الصحيحة كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهة الصحيحة الشرعية

تابع كلام الأشعري في اللمع
قال أبو الحسن : ( فإن قال قائل : ما أنكرتم من أن تكون النطفة قديمة لم تزل ؟ قيل له : لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره وأن يجري عليه سمات الحدث لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة لم ينفك عن سمات الحدث وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام )

كلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر : ( اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام وذلك أن الذي عناه بقوله : لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة وعن الحركة إلى السكون وكاستصلابها بعد لينها وافتراقها بعد اجتماعها وما يلحقها من تعاقب الأكوان وغير ذلك من التغيرات لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ماذكره أصلا وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعا مثلا أو مفتقرا أومتحركا أو ساكنا أو على بعض هذه الصفات لم يجز خروجه عنه لأنه لايخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله : لنفسه أو لعلة أولا لنفسه ولا لعلة أن لبطلان نفسه أو لبطلان معنى فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت والخبر عن تعلقه بمخبر وغير ذلك من وجوه الفساد ويستحيل أن يكون ما هو عليه لبطلان نفسه - وعدمها لأن المعدوم ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات ولأنه ليس عدم نفسه - إن جاز عدمها - بأن يكون تحصيله ساكنا أولى من تحصيله له متحركا ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجودا به لأن القديم لا يجوز عدمه ولأنه ليس بأن يكون متحركا لعدم سكونه أولى من غيره ممن يصح أن يكون متحركا
وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات وإلىما هو أبعد منها
وفي تحركه إلى جهة مخصوصة ومحاذاة معينة - دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون أولى من غيره من الأجسام لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون أيضا فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك أولى من كل من خلا من الأجسام ؟ وفي فساد ذلك : دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى
وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه ولا لعدم معنى قديم
فلم يبق إلا وجهان : أحدهما : أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم فإن كان لم يزل ساكنا لنفسه استحال تحركه بعد سكونه لوجود نفسه في كلا الحالين ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه مع وجود نفسه التي بها كان كذلك
وإن كان لم يزل ساكنا لأجل معنى قديم استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم وإلا وجب تحركه وسكونه معا فإذا استحال ذلك واستحال عدم سكونه إذا كان قديما واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها لم يجز أن يلحقه - لما وصفناه - وانقلاب ولا تغيير ولا اعتمال ولا تأثير فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه )

تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة به يعلم حدوث سائر الأجسام وأن المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه إنكار حدوث النطفة
وليس الأمر كذلك بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحوذلك وحدوث أوائل ذلك كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك - أمر مشهود معلوم بالحس والضرورة واتفاق العقلاء وهذا بخلاف الفلك فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن
وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسما : كالهاشمية والكرامية وغيرهم أو من لا يطلق الاسم ولكن يقولون له : ما أثبته نسميه نحن جسما أو يجب أن يكون جسما كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة
فإن قال بهذا فالمفرق يقول : حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم وكذلك حدوث ما أشبهها
وأما حدوث كل ماسميته جسما فإنما أثبته بما ذكرته من الدليل وهو ضعيف على ما سنذكره
فإن قال : أعني بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة التي منها تركبت النطفة وتألفت أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة
قيل له : الجواب من طريقتين :
أحدهما : أن يقال : هذا لا حاجة لك به
الثاني : أن يقال : ما ذكرته ليس بصحيح
فأما الطريق الأول ففيه وجوه
أحدها : أن العلم بحدوث ما يحدث والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقرا إلى أن يعلم : هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة ؟ وهل ذلك قديم أو حادث ؟ بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثا كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثا
وإن قال : فقصدي تعميم حدوث سائر الأجسام
قيل له : فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الإنسان وحده من النطفة بل كان هذا تطويلا إذ كان ما به بثبت حدوث النطفة به يثبت حدوث الإنسان ابتداء
وحينئذ فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالأجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام كان ذكر هذا ابتداء أولى من التطويل لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل
وأيضا فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيرا : إما عدم العلم أو حصول ضده من اعتقاد الباطل فيكون ما جعل طريقا إلى العلم والإيمان موجبا لضده من الجهل والكفر
والوجه الثاني : أن يقال : فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك مبينا على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة ومعلوم أن هذا لو كان صحيحا لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان وهم لم يبنوا ذلك
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطراب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطرابا لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه :
فقالت طائفة : إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية
وقالت طائفة : بل فيها أجزاء لا نهاية لها وهوالمذكور عن النظام وعليه انبنى القول بطفرة النظام ولهذا يقال : ثلاثة لا يعلم لها حقيقة : طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري
وقالت طائفة : بل هي مركبة من المادة والصورة وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها
وقالت طائفة : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ
وقالت طائفة : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولا تتجزأ إلى غير غاية بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام بل كل ما وجد يقبل الانقسام لكنه يستحيل إلى جسم آخر في حال تميز جانب منه عن جانب فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع
وأذكياء المتأخرين : مثل أبي الحسين البصري و أبي المعالي الجويني و أبي عبد الله الرازي : كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان باعتبار تركبه من الجواهر أو المادة والصورة حتى يثبت ذلك أولا
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ليس موقوفا على العلم بأنها مركبة هذا التركيب الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء
الوجه الثالث : أن يقال : حدوث مايشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار وما يخرجه من الأرض من الزروع وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان
فإذا قيل له : هذا لم يحدث ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وجعل لها صفة غير تلك الصفة
قال : أما ما تغيرت صفاته كتغير الأبيض إلى السواد والساكن إلى الحركة والحامض إلى الحلاوة والمفرق إلى الاجتماع وتغير الجسم من شكل إلى شكل كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله وما يشبهه يشهد فيه أن العين باقية وإنما تغيرت صفاتها التي هي : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والألوان والطعوم والأشكال بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة والجنين الذي يخرج من بطن أمه والفروج الذي يخرج من البيضة فإن عاقلا لا يقول : إن نفس الرطبة فها جرم الخشب باقيا ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقيا
ومن قال : إن هذا باق في هذا كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه وحلا بعض حموضته وصار مدورا بعد أن كان مسطحا باق - فهو لا يتصور ما يقول أو هو معاند مسفسط فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض وهذا أصل كل ضلال وهو الجهل أو العناد والعناد وصف المغضوب عليهم والجهل وصف الضالين
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع
ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت مثل أن تصير رمادا أو ملحا ونحو ذلك ومثل كلامهم في باب الأيمان : فيما إذا حلف على فعل في جسم معين فتغير ذلك الجسم المعين فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخا أو لا يأكل هذه الخبز فصار كسرا ونحوذلك
وإن كانت قد استحالت أجزاؤه تغير اسمه : مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجا أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا
قالوا : فهنا لا يحنث لأنه زال اسمه وزالت أجزاؤه
وإن تغيرت الصفة مع زوال الاسم : كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أولا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا - فإنه يحنث عند جمهورهم : كأبي حنيفة و مالك و أحمد في المشهور من مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وكذلك لو حلف لا أكلت من هذا الرطب فصار تمرا
وتنازعوا فيما إذا أكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل فمنهم من قال : يحنث وهو مذهب مالك وهو المشهور من مذهب أحمد ومنهم من قال : لا يحنث كما هو مذهب أبي حنيفة و الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قالوا : لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما في مسألة البيضة والفروج
فقال لهم الأولون : عين المحلوف عليه باقية فصار كمسألة الحمل بخلاف البيضة إذا صارت فرخا فإن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم يبق عينها
مع أن في هذه المسائل كلاما ليس هذا موضعه إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير ومنهم من يرى أنه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين
ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الأعيان وانقلابها وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر : إذا تغيرت صفاته مثل أن يجمد الدم والخمر أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم
وأما إذا استحالت العين : مثل أن يصير ذلك ملحا أو رمادا أو نحو ذلك ففيه نزاع مشهور والجمهور على أنه يطهر بالاستحالة كما هو مذهب أكثر أهل الرأي وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك و أحمد واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلا أنها تطهر
وأما الطريق الثاني : وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام - فإن المعترض يقول : قوله : ( إن القديم إذا حصل على صفة من صفات لم يجز خروجه عنها ) كلام مجمل قد يراد به أنه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها وقد يريد له إذا حصل على حال عارضة له سواء كان نوعها لازما له أولم يكن لازما لذاته مثل الفعل والعمل سواء سمي حركة أو لم يسم : كالإتيان والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس : هل يقوم بالقديم أم لا ؟
فجمهور أهل السنة والحديث المتبعون للسلف والأئمة من السلف والخلف مع كثير من طوائف الكلام وأكثر الفلاسفة : يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال فيقول هؤلاء : قول القائل : أن القديم الحاصل على صفة لا يجوز خروجه عنها إن إراد به مواقع الإجماع : مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله أو نوع الصفات الازم لذات الله تعالى فهذا لا نزاع فيه
وإن أراد به أعيان الحوادث فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الأحوال المعينة لم يجز خروجه عنها ؟
وأما استدلال المستدل بقوله : لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
فيقال لك : ذلك الأمر الذي قام هو به هو معنى من المعاني ؟ فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمرا آخر - على قول مثبتي الأحوال القائلين : بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة - خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك : قام به ذلك لمعنى
قوله : وإذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى والقديم يستحيل عدمه
يقال له : قول القائل : القديم يستحيل عدمه لفظ مجمل أتريد به : أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه ؟ فإن أراد شيئا من هذه المعاني لم يكن له فيه حجة وإن أراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة فهذا محل نزاع ولا دليل على امتناع عدمه ولم يعدم القديم هنا بل النوع القديم لم يزل ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له كالأفعال المتعاقبة شيئا بعد شيء
فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده لم يكن قد عدم النوع بل كان الكلام في كونه أزليا كالكلام في كونه أبديا وكما أنه لا يزال فلا يعدم النوع وإن عدم ما يعدم من أعيانه فكذلك القول في كونه لم يزل
وأيضا فيقال له : القديم إذا فعل بعد إن لم يكن فاعلا فكونه فعل أمر موجود أو معدوم ؟
فإن قال : إنه معدوم فهذا مكابرة للحس والعقل فإن الفعل إذا كان أمرا عدميا فلا فرق بين حال أن يفعل وحال ألا يفعل لأن العدم المحض لا يكون فعلا
وإذا لم يكن فرق بين الحالين وهو في حال ألا يفعل لا فعل فيجب في الحال التي زعم أنه فعل ألا يكون له فعل لتساوي الحالين فيجب ألا يفعل مع كونه فعل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قال : كونه فعل أمر موجود فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد فإن لم يتجدد وجب ألا يفعل وإن تجدد شيء انتقض قوله : إنه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها
فإن قيل : إنما أعني بالصفة المعنى القائم بذاته وذاك لم يزل
قيل : هب أنك عنيت هذا لكن دليلك يتناول هذا وغيره ويوجب أن الأمر القديم الأزلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه لأن ما كان قديما كان لمعنى والقديم لا يزول
فالأمر المتجدد المتحول الحادث سواء سميته صفة أو حالا أو حادثا أو فعلا وسواء كان قائما به أو بغيره بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية فإن كان هذا حقا وجب ألا يحدث شيء من الحوادث فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطا في وجودها فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب وإن قال : لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل فانتقضت حجته
وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته فيقال له : القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلا فإنه إذا كان غير فاعل فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
وإن قال : فعله بعد أن لم يكن فاعلا ليس إلا مجرد وجود المفعولات والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما وهي عدمية
فيقال له : فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية والفعل حدوث نسبة وإضافة نسبة وإضافة بيهما وهي عدمية
فإن قال : هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به وهذا لا يجوز
قيل له : هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت لم تقم دليلا على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل : القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة
وإذا كان العلم بالصانع موقوفا على هذا الدليل لم يكن هناك علم بالصانع بل صار حقيقة الكلام : الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثا لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان جادثا
فيكون منتهى الكلام : مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها بنفسها مع ترك الدليل الواضح البين الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلولة بالضرورة لعامة العقلاء لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام في مثل هذا المقام ويقولون : إنا نعلم بالاضطرار : أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق ويقولون : إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل وكون المحدث لا بد لهم من محدث أمر يعلم بصريح العقل وأيضا فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل

عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر : ( وأما قول أبي الحسن : إن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الدحث وما لم يسبق المحدثات كان محدثا مثلها - ففيه وجهان من الكلام :
أحدهما : أن نقول : إن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة - فلا يخلو إما أن يكون خروجا من صفة قدم إلى صفة قدم أو من صفة حدث إلى صفة حدث أو من صفة قدم إلى صفة حدث أو من صفة حدث إلى صفة قدم
والأول باطل لوجهين :
أحدهما : أن المنتقل انتقل إلى أمر مستأنف لم يكن عليه وذلك لا يكون قديما الثاني : أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم والقديم لا يجوز عدمه )
قال : ( ويستحيل أن يكون التغيير خروجا من حال حدث لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين :
إما بحدوث تغيير القديم أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفا بعد أن لم يكن مستحقا له وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من أضدادها وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثا مثلها )
قال : ( ولا خلاف بيننا وبينهم - يعني المعتزلة - في هذا القسم لنطنب فيه )
وقال : ( وأما الوجه الآخر : فهو أن نقول : إنما أراد بقوله : إنها من سمات الحدث ودلائلة - إنها إذا ثبت حدوثها وأن الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل أولها : وجب له من الحدث ما وجب لها إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها إذ قد فسد أن يكون موجودا قبلها
فإن كان وجد مع وجودها وجب له من الحدث ما وجب لها وإن كان وجد بعد وجودها كان أولى بالحدوث لأن ما وجد بعد المحدث كان أولى أن يكون محدثا )
قال القاضي أبو بكر : ( واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال - فلا بد فيه من مقدمات أربع :
أولها : الدلالة على إثبات الأعراض
والثانية : الدلالة على حدوثها وأن لها أولا تنتهي إليه
والثالثة : أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل أولها
والرابعة : أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثا مثلها )
ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف فهم في ذلك
ولما قيل له : لم قلتم : إن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث ولا يوجد قبل أولها ؟
قال : ( لأدلة منها : أنا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها : أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصة كل شيء منها إلى جنب صاحبه أوتكون متباينة متباعدة كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه وليس بين هذين منزلة
فإن كانت متماسة فذلك معنى الاجتماع وإن كانت متباينة فذلك هو معنى الافتراق )
قال : ( ومما يبين ذلك أيضا : أنا لوجاز لنا وجود جسم خاليا من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والحياة والموت والسواد والبياض غيرهما من الألوان ومن سائر الهيئات لم يجد إلى ذلك سبيلا ولكان ذلك ممتنعا لأنا وجدنا هذه الأعراض متعاقبة عن الأجسام وتفسير التعاقب : أن الشيء منها يوجد بعقب غيره )

تعليق ابن تيمية
قلت : أما الاجتماع والافتراق : فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من يجتمعا أو يفترقا وأما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته
وإنما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول : بأنه مركب من الأجزاء المفردة فيقول : تلك الأجزاء إما مجتمعة وإما مفترقة وهذا ليس معلوما بالبديهة ولا الحس ولا يسلمه جمهور الناس
وأما الحياة والموت : فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت : هل هو وجودي أو عدمي ؟
ثم من قال : إنه عدمي يقول كثير منهم : إن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة
وما لا يقبل الحياة والموت كالجماد لا يوصف بواحد منهما
لكن القاضي وجمهور الناس يردون على هؤلاء : بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا
ويقولون : إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظيا
ويقول القاضي وأكثر الناس : إن كل جسم فإنه يقبل الحياة
لكن الذي يقال له : الجسم لا يخلو من أن يكون حيا أو ميتا كما لا يخلو من أن يكون متحركا أو ساكنا واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ولا يمكن اتصافه بضد ذلك
وحينئذ : فلا يمكن أن يقال : إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعا ولا شخصا كما قد يقال مثل ذلك في الحركة

تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه
ثم قال القاضي أبو بكر : ( فإن قال قائل : فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم متى لم يوجد قبل أول الحوادث ولم زعمتم ذلك ؟
قيل له : الدليل على هذا قريب واضح : وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال : إما أن يكون موجودا قبل أولها أو يكون موجودا مع وجودها أو يكون موجودا بعدها
فإذا بطل أن يكون الجسم عاريا عن الحوادث ومنفكا من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان : إما أن يكون موجودا مع وجودها أو بعدها
فإن كان موجودا مع وجودها ولوجودها أول : فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول وحصوله عن عدم حكمها وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقا لها
وإن كان موجودا بعدها : كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها )
فهذا منتهى كلام القاضي و أبي الحسن في إثبات الصانع وكلام أبي الحسن أجود فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم
وقول القاضي : إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولا وعلى حدوثها ثانيا - فليس كما قال بل الأشعري عدل عن هذه الطريق قصدا كما ذكره في رسالة الثغر وذم هذه الطريق وعابها
وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس لا ينازع فيه عاقل سليم سواء سمي ذلك تحول عرضا أولم يسم وسواء قيل : إن ذلك العرض مغاير للجسم أوقيل ليس بمغاير له وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة : وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث بناء على أن ما قامت به لم ينفك عنها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور
وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك
والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة بل ويقولون : إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم كما هو مذهب أهل الملل
وجمهور العقلاء يقول أئمتهم : إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة ومع القول بإبطالها ويقولون : إن موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث وأنه ليس في الوجود قديم مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة
وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام وذلك قوله : ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد - أصل الدين
ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة ويظنونها ضرورية ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ وما لا يسبق جنس الحوادث
فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ فهو محدث بالضرورة ولا ينازع في هذا عاقل
فإن ما كان عينه حادثا فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة كما قرره لأنه إما بعده وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث بالضرورة
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جرا كما أنه يقارنه حادث بعد حادث وفان بعد فان في الأبد فيقدر ليس متقدما على جنس الحوادث ولا متأخرا عن جنس الحوادث والفانيات فهذا محل نزاع : نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين : من المعتزلة والأشعرية وغيرهم أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة وجعلوها ضرورية واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث
والأول ظاهر معلوم لكل احد
وأما الثاني فليس كذلك فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله وأنه به يردون على من خالف الملة وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث إلى هذه المقدمة وهي لفظ مجمل فيه عموم وإطلاق أحد نوعيه بين
فإذا ذكروا ذلك النوع البين ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر وهم لم يبينوه
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم ولا على من يعلمونه ويخاطبونه لكن اشتبه الأمر عليهم فوقعوا في شبهات ظنوها بينات
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات ويغرقون في مثل هذه المجملات ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب والتقسيم المميز للصحيح من السقيم
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة الذين ذموا مثل هذا الكلام وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى وبحثوا معه وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال : ( فصل : فإن قال قائل من أهل الدهر الذاهبين إلى أنه : لا حركة إلا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا إلى غاية : فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلا إذ كان لا أول لوجودها ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية ؟
يقال له : أنكرنا ذلك لأمور : أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى أن يكون محدثا موجودا عن أول وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول ولا كائن عن حدوث
فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم : إنها لم تزل موجودات شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل موجودا فقديم غير مستفتح
وقولنا : إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول والجمع بين ذلك متناقض - محال
وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية وهو قولنا : حوادث ما هو موجود لا عن أول وكائن عن عدم فالموجود لا بحدوث والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديما لا محالة كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي : الماء والأرض والنار والهواء - قديمة عندكم إذ كانت موجودة لا عن عدم وكانت لا بحدوث فواجب أن يكون الفلك قديما لا أول لوجوده
ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا : حوادث ما هو كائن لا بحدوث موجود لا عن عدم وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضا وهذه الأعراض موجودة لا بحدوث كائنا لا عن عدم وهو مع ذلك محدث غير قديم
وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم فإن لم يجز هذا ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم وما هو موجود فيها بغير حدوث
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه لأن هذين الوصفين متناقضان
وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئا قبل شيء لا إلى أول
قال : ( وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة والقديم لا يكون محدثا ولا مجموعا من الحوادث لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث
فوجب أن للحوادث كلا وجميعا وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه وأن لم يسبقه ولم يكن قبله فواجب أن يكون محدثا مثله )
فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة وهي وسائر الأجسام إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها من الاعتمال والتأثير والانقلاب و التغيير )
قال : ( وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب )

تعليق ابن تيمية
قلت : هذا القاضي هو المقدم على أبناء جنسه وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع الذي هو عندهم أصل الدين الذي جعلوه أصلا لرد ما خالفه من النصوص النبوية ولما خالفه من مذاهب الدهرية
والمنازعون من أئمة السنة وأئمة الفلسفة يقولون لهم : ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور النزاع فإن قولكم : لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجودا عن أول أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول - جوابه : أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد بعينه ويراد به النوع المتعاقب شيئا بعد شيء
فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث فليس فيها شيء قديم بل كل منها كائن بعد أن لم يكن
وإن كان مرادك النوع المتعاقب شيئا بعد شيء فليس له أول وليس هو حادثا بل النوع قديم من أن كل فرد من أفراده حادث وأنت لم تذكر دليلا على امتناع هذه البتة وإنما ذكرت أنه ليس فيها شيء قديم وهذا مسلم لا نزاع فيه
وقلت : فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح
فيقال لك : كل واحد منها مستفتح مبتدأ ولكن لم قلت : إنه إذا كان كذلك استحال قول القائل : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح ؟
فإن هذا القائل يقول : إن الذي لم يزل إنما هو الجنس المتعاقب شيئا بعد شيء وأما كل واحد واحد من تلك الحوادث فلا يقول عاقل : إنه لم يزل
فقول القائل : فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء
يقال له : هم لا يقولون : إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ فإن ما لم يزل موجودا شيئا قبل شيء لا يكون إلا قديما لم يزل ولكن يقولون : إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ وهذا لا يقولون فيه : إنه لم يزل موجودا
فالذي يقولون : إنه لم يزل ليس هو الذي يقولون : إنه مستفتح مبتدأ وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات : إن كل واحد منها فان منقض والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم كما قال تعالى : { أكلها دائم } وقال : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } فالجنس دائم لا نفاذ له وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفذ لا يدوم
ولما تفطن كثير من أهل الكلام لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع ميزوا بين النوعين كما فعل ذلك أبو الحسين البصري و أبو المعالي الجويني و الشهرستاني و الرازي وغيرهم فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها فإخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع
ولهذا جعل أبو الحسين و أبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنيا على أربع مقدمات : إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وإثبات استلزام الجسم لها واستحالة حوادث لا أول لها
وجعلوا النتيجة : أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فإن ذلك حينئذ يكون معلوما بالضرورة بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم حيث جعلوا المقدمات أربعا : إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وأثبات استلزام الجسم لها والرابعة : أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وهذه هي النتيجة وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا واللفظ مجمل كما ترى
لكن قد بين هؤلاء ك القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى وغيرهما الكلام على هذا الأصل وهو امتناع وجود ما لا يتناهى في موضع آخر فجعلوا الكلام في إبطال ما لا يتناهى من الحوادث والأجزاء التي هي الجواهر المفردة ونحو ذلك جنسا
ومنهم من يجعل ذلك دليلا ثابتا في المسألة كما فعله ابن عقيل و القشيري وغيرهما
وقد ذكرنا : أن الناس لهم في وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم
أحدها : امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا قول أبي الهذيل و الجهم بن صفوان وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار واشتد إنكار سلف الأمة عليه ذلك
وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء يقولون : إن العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى ثم تعاد فلا تفنى و الجهم يقول : تفنى فناء لا تعاد بعده و أبو الهذيل يقول : تفنى حركات أهل الجنة والنار
والقول الثاني : قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل لأن الماضي قد وجد والمستقبل لم يوجد بعد وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم
والثالث : قول من يقول بإمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة
لكن أئمة أهل الملل وغيرهم ممن يقر بأن الله خالق كل شيء وأن كل ما سواه محدث مسبوق بعدم - يقولون : لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم واحد وأما من يقول بوجود قديمين متحركين كمن يقول بقدم الأفلاك فإن هؤلاء - كأرسطو وأتباعه - لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين - بل والقدماء - حوادث لا بداية لها ولا نهاية مع أن إحداهما أكثر من الأخرى فيجوزون فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه وأن يكون قابلا للزيادة بخلاف الذين قبلهم فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية لم يلزم أن يكون قابلا للزيادة
وعلى هذا فللناس في أن ما لا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث ؟ أقوال :
أحدها : أنه يجب أن يكون حادثا مطلقا
والثاني : لا يجب أن يكون حادثا
والثالث : أنه كان محتاجا إلى غيره وجب أن يكون حادثا وإن كان غنيا عن غيره لم يجب أن يكون حادثا
وأيضا فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثا وإن لم يسبق حوادث غيره كان حادثا وقد قرر هذا في موضع آخر
ومن فهم ما ذكرناه ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث وما لم يسبق الحوادث فهو حادث - تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة وقد عرف منازعه أكثر أهل الملل وأكثر الفلاسفة أو كثير من الطائفتين فيها وإبطالهم لها
ولما كان هؤلاء وأمثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل وغايته إذا قيل : إنه صحيح أنه لا يصل به إلى المطلوب إلى قليل من الناس بعد كلفة شديدة ومخاطرة عظيمة ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ودلت عليه العقليات الصريحة قابلهم من قال : إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم فإن هذه عندهم فطرية ضرورية أو مكتسبة بنوع من نظر العقل
وقد تقدم كلام الناس في أن أصل الإقرار بالصانع فطري ضروري أو قد يكون ضروريا خلافا لمن قال : إنه لا يحصل إلا بالنظر
وكلام السلف والأئمة في ذلك كثير ولهذا كان كثير من أتباعه ممن يقول : إن أول الواجبات هو النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر
وقد تقدم أن القاضي أبا يعلى وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة : طريقة الأعراض ثم رجعوا عن ذلك ويقولون : إن المعرفة نظرية وإنها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن
وكثير من الناس كانوا يقولون أولا بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة وهو النظر في حدوث الأعراض ولزومها للأجسام وأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأنه أول واجب على العباد ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك

كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر
ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى و ابن عقيل و أبو المعالي الجويني و الغزالي و الرازي وغيرهم فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا أولا الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذي سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة فقالوا - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في المعتمد - : ( إذا ثبت صحة النظر ووجوبه فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقد قيل : إن أول الواجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى )
قلت : هذا قول أبي المعالي في إرشاده وذكر القاضي أبو بكر وغيره
واختار القاضي أبو يعلى هذا في موضع آخر فقال : ( أول ما أنعم الله على المؤمنين - بعد الحياة - من النعم الدينية : خلق القدرة على الإرادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقد قيل : أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان )
قال : ( وجه الأول : أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الإرادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تسبقها وإذا كان ذلك أول الواجبات وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية )
قال : ( وأعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية وأجلها : كتب الإيمان في قلوب المؤمنين )
قال : ( وقد قيل : أعظم النعم الدينية هي : خلق القدرة على الإيمان والأول أشبه
فإن أعظم الطاعات هو الإيمان فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الآخرة وإذا لم يوجد لا يحصل ذلك ثم قالوا : - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - خلافا لمن قال : إن أول الواجبات المعرفة بالله وخلافا لمن قال : معرفة الله غير واجبة وأن الواجب الإقرار به والتصديق له
قال : ( والدلالة على ما ذكرنا أنه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب إليه كما أن من لا يعرف زيدا لا يمكنه أن يتقرب إليه
لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه وليس بمشاهد لنا ولا معلوم لنا ضرورة فوجب ألا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل إليه فلما لم تتم المعرفة إلا به وجب أن يكون واجبا وإذا وجب علم أنه أول الواجبات )
ثم قال : ( فصل ) : وإذا ثبت أن أول الواجبات فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله وهو حدوث الأشياء من الجواهر والأجسام وإذا كانت محدثة وجب أن يكون لها محدث لأن المحدث لو لم يعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكاتب والضرب بضارب لأن ذلك كله يبعد إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز محدث لامحدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض فلولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر )
وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي عن علي بن سري السجستاني عن الخطابي وذكر أن بعض الناس اعترض عليها
فإن الخطابي ذكر عن الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم وقال : ( فأموا مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك )
وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وحدوث العالم لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز ( وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه ) ( وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ) وقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقوله : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات } وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع ) إلى آخر كلامه
قال القاضي : ( وقد اعترض على هذا بعضهم فقال : هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض وليس ذلك بمعجزات الأنبياء وإنما هي الأجسام والأعراض )
قال : ( وإنما احتج المتكلمون بالأعراض لأن الجسم لا ينفك منها وهي محدثة في أنفسها لعلمنا بأن العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى وهذا شاهد على حدوثها وعلى حدوث ما لا ينفك منها )
قال : ( ومعنى قوله : انقلابها فيها انقلاب الجواهر في الأعراض ومعناه تغيره من سواد إلى بياض ومن حركة إلى سكون )
قلت : قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الأعراض في الجواهر فإنها تنقلب من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم ومن نوع إلى نوع : كالبياض والسواد والحركة والسكون
وهذا المعترض على الخطابي أخطأ فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا :
أحدهما : المعجزات بناء على أن الإقرار بالصانع فطري أو على المعجزات يستدل بها على الخالق وعلى صدق أنبيائه كما ذكرنا في عصا موسى
والطريق الثاني : أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق العقلية
فقال : ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة
وقد نبههم الكتاب على ذلك ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم )
ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره قال : ( وكقوله : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وبقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وما أشبه ذلك من خلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه )
قال : ( فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه )
فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية وهي أدلة عقلية
و الخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض وأنها لازمة للأجسام وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها ولكن بعض الناس ذكروا : أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في قوله : { لا أحب الأفلين } قالوا : لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها
وهذا باطل لوجوه :

بطلان استدلال الفلاسفة
أحدها : أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب
والثاني : أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب
الثالث : أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده بل المنافي هو الأفول
الرابع : أن إبراهيم لم يكن معنيا بقوله : { هذا ربي } أنه رب العالمين عل أي وجه قاله ولا اعتقد ذلك قومه ولا غيرهم وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه ربا لينال بذلك أغراضه كما كما عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك وكان قومه من هؤلاء لم يكونوا جاحدين للصانع بل مشركين به
ولهذا قال لهم : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
وقال في آخر قوله : { إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } وقد بسط هذا في موضع آخر
والمقصود هنا : أن القاضي كان أولا يقول بطريقة من يقول : إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام ثم رجع القاضي عن ذلك ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة وقالوا : إن هذه الطريقة ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة وإن كان النظر واجبا في غيرها من الطرق الصحيحة
وقد افتتح القاضي كتابه بقوله : ( الحمد لله مبتدىء الأشياء ومخترعها من غير شيء العالم بها قبل تكوينها والقادر عليها قبل أنشائها جاعل العلامات وناصب الدلالات ومبين الآيات الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار أرسل الرسل بالإنذار وأنزل الكتب بالأنوار وباعث النبيين ومنقذ العمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وأمينه المرتضى أنزل عليه كتابه الهدى نورا لمن التمسه وضياء لمن اقتبسه ودليلا لمن طبله دلهم فيه على معاني حكمته ولطيف صنعته وبيان جلاله أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا معقب لأمره ولا راد لفضله تعالى عما يقول الجاحدون علوا كبيرا )
ثم قال : ( وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركا به ولأنه قد صرح فيها بالقول وبالنظر والاستدلال بقوله : الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار )
قال : ( وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب )
قلت : وإيجاب النظر مطلقا غير إيجاب النظر في الطريق المعين طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين الذي يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ويتبعونه إذ كان معلوما بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة بل ولا دل على صحتها بل ما أخبر به يناقض موجبها وهي وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلا في معرفة الصانع وصفاته وصدق رسله فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولا : إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة وهو أول الواجبات لما ذكروا قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] قالوا : - واللفظ للقاضي في الفطرة - : ( ما الفطرة هنا ؟ على روايتين عن أحمد :

كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة
أحداهما : الإقرار بمعرفة الله تعالى وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه
قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول )
قال : ( وليس الفطرة ها هنا الإسلام لأمرين :
أحدهما : أن معنى الفطرة : ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض } أي مبتدئهما وإذا كانت الفطرة هي الأبتداء وجب أن تكون تلك هي وقعت لأول الخلق وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا : الإسلام لوجب إذ ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب ألا يصح استرقاقه ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم )
قال : ( وهذا تأويل ابن قتيبة ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة
قال : ( وليس كل من ثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين )
قال : ( وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال : الفطرة الأولى التي فطر الله عليها فقال له الميموني : الفطرة : الدين ؟ قال : نعم )
قال القاضي : ( وأراد أحمد بالدين : المعرفة التي ذكرناها )
قال : ( والرواية الثانية : الفطرة هنا : ابتداء خلقه في بطن أمه )
قال : لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بممعرفة الله تعالى حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم )
قال : ( ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله عن طاعة ومعصية )
قال : ( وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة فقال : على الشقاوة والسعادة
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة قال : هي التي فطر الناس عليها : شقي أو سعيد
وكذلك نقل حنبل عنه قال : الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة )
قال : ( وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا : ابتداء خلقه في بطن أمه )

تعليق ابن تيمية
قلت : أحمد لم يذكر العهد الأول وإنما قال : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقد قال في غير هذا موضع : إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه
واستدل بهذا الحديث : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
فدل على أنه فسر الحديث : بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث : ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث
وقوله في موضع آخر : يولد على مافطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى
والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله : [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره
وإنما قال الأئمة : ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله بل مما فعله الناس لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة وكفره بعد ذلك من الناس
ولهذا قالوا ل مالك بن أنس : إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال : احتجوا عليهم بآخره وهو قوله : الله أعلم بما كانوا عاملين
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره بل هو تهود وتنصر باختياره لكن كانا سببا في ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأن الله وإن خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك
كما في الحديث الصحيح : ( إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا )
فقوله : طبع أي طبع في الكتاب أي قدر وقضي لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد فهو مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر كما طبع كتابه يوم طبع
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار [ عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره قال : [ بعث النبي صلى الله عليه و سلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : ما حملكم على قتل الذرية ؟ قالوا : يا رسول الله : أليسوا أولاد المشركين ؟ قال : أو ليس خياركم أولادكم المشركين ؟ ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ] فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم : أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه و سلم من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله : [ أو ليس خياركم أولاد المشركون ؟ ] معناه : لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث ولكن معناه : إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كانوا مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب عن أبي سلمة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } قالوا : يا رسول الله : أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي الصحيح : قال الزهري : يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط و [ إن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وفي الصحيح من رواية الأعمش : [ ما من مولود يولد إلا وهو على الملة ] وفي رواية أبي معاوية عنه : إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك
قال ابن عبد البر في التمهيد : ( روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وغيره فممن رواه عن أبي سعيد بن المسيب و أبو سلمة بن عبد الرحمن و حميد بن عبد الرحمن و أبو صالح السمان و عبد الرحمن الأعرج و سعيد بن أبي سعيد و محمد بن سيرين )

كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة
قال : ( ورواه ابن شهاب واختلف في إسناده منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي : كل هذه صحاح عن ابن شهاب محفوظة )
قال ابن عبد البر : ( وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال : نعم لأنه ولد على الفطرة )
قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث : ( وقال آخرون : الفطرة ها هنا الإسلام قالوا : وهوالمعروف عند عامة السلف أهل التأويل وقد أجمعوا في تأويل قوله عز و جل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } على أن قالوا : فطرة الله : دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وذكروا عن عكرمة و مجاهد و الحسن و إبراهيم و الضحاك وقتادة في قول الله عز و جل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا : فطرة الله : دين الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا : لدين الله
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للناس يوما : ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب : إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما أعطاهم الله حلالا وحراما ] الحديث
قال : ( وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث ( حنفاء مسلمين )
( قال أبو عمر : روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال : حدثني ثلاثة : عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول : حدثني مطرف عن عياض عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال فيه : [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] لم يقل : مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده وقال فيه : [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] ولم يقل مسلمين )
قال : ( فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر ( مسلمين ) في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله : مسلمين وزاد ثور بإسناده والله أعلم )
قال : ( والحنيف في كلام العرب : المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام )
قال : ( وقد روي عن الحسن قال : الحنيفة : حج البيت وهذا يدلك على أنه أراد الإسلام وكذلك روي عن الضحاك و السدي : ( حنفاء ) قال : حجاجا وعن مجاهد : ( حنفاء ) قال : متبعين )
قال : ( وهذا كله يدلك على أن الحنيفية : الإسلام )
قال : ( وقال أكثر العلماء : الحنيف : المخلص وقال الله عز و جل : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } وقال : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى :
حنفاء : مسلمين
قال الشاعر - وهو الراعي - :
( أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا )
( عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا )
فهذا وصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به )
قال : ( ومما احتج به - من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث : الإسلام - قوله صلى الله عليه و سلم [ خمس من الفطرة ] ويروى [ عشرة من الفطرة ] يعني فطرة الإسلام )
قلت : الدلائل الدالة على أنه أراد : على فطرة الإسلام - كثيرة كألفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله : ( على الملة ) ( وعلى هذه الملة ) ومثل قوله في حديث عياض بن حمار : [ خلقت عبادي حنفاء كلهم ] وفي لفظ [ حنفاء مسلمين ] ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك وهو أعلم بما سمعوا
وأيضا فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقب ذلك : ( أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ ) لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لم سألوه والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير
وكذلك قوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها
وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها
وأيضا فإن الحديث مطابق للقرآن لقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة
يبين ذلك أنه قال : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره ومثل قوله : { كتاب الله عليكم } وقوله : { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال : كتب الله ذلك عليكم وسن الله ذلك وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك : على إقامة الدين لله حنيفا وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم

كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول : فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته وهي الدين حنيفا يقول : مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول : صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله : { فأقم وجهك للدين حنيفا } وذلك أن معنى ذلك : فطر الله الناس على ذلك فطرة )
قال : ( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) وروي ( عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال : الإسلام فمنذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك وقرأ : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }
فهذا قول الله كان الناس أمة واحدة يومئذ فبعث الله النبيين بعد )
وروي بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد : فطرة الله قال : الدين الإسلام وقال ( ثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح ثنا يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال : مر عمر بمعاذ بن جبل فقال : ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ : ثلاث وهن المنجيات : الإخلاص - وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها - والصلاة : وهي الملة والطاعة : وهي العصمة فقال عمر : صدقت )
قال : حدثني يعقوب - يعني الدورقي - ثنا أبن علية ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قوام هذه الأمة ؟ فذكر نحوه )
قال : ( وقوله { لا تبديل لخلق الله } : يقول : لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل )
ثم ذكر بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لا تبديل لخلق الله قال : لدين الله )
وروي عن ( عبد الله بن إدريس عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول : { لا تبديل لخلق الله } فقال عكرمة : هو الخصاء فرجع إلى مجاهد فقال : أخطأ لاتبديل لخلق الله إنما هو الدين ثم قرأ : { لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } )
وروي عن ( وكيع عن نصر بن عربي عن عكرمة : لا تبديل لخلق الله : لدين الله )
وروي أيضا عن ( حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة : فطرة الله التي فطر الناس عليها قال : الإسلام وكذلك روي ( عن وكيع عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد قال : لدين الله ) وروي ( عن سعيد عن قتادة : { لا تبديل لخلق الله } : أي لدين الله )
وكذلك روي ( عن ابن عيينة عن حميد الأعرج قال : قال سعيد بن جبير : { لا تبديل لخلق الله } قال : لدين الله )
وكذلك عن ( المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله )
وكذلك عن ( وكيع عن سفيان الثوري ومسعر عن قيس بن مسلم عن إبراهيم النخعي : { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله )
وكذلك عن ( مغيرة عن إبراهيم قال : لدين الله )
وعن ( عمرو بن أبي سلمة سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } قال : لدين الله )
وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه وقال : لا تبديل لخلق الله وعن حميد الأعرج قال : قال عكرمة : الإخصاء وعن حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد قال : الإخصاء )

تعليق ابن تيمية
قلت : مجاهد وعكرمة : روي عنهما القولان إذ لا منافاة بينهما كما قال تعالى : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه والخصاء وقطع الأذن أيضا تغيير لخلقه
ولهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما بالآخر في قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ]
فأولئك يغيرون الدين وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه وهذا تغيير ما خلق عليه بدنه
واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاة فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون : كل مولود يولد على الإسلام والله لا يضل أحدا ولكن أبواه يضلانه

الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين
والحديث حجة عليهم من وجهين :
أحدهما : أنه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين : لم يولد أحد على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا ولكن هذه أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع بين القدرية ولكن هو دعاهما إلى الأسلام وأزاح علتهما وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندهم غير مقدور ولو كان مقدورا لكان ظلما وهذا قول عامة المعتزلة وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول : إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة فهذا أحد الوجهين
الثاني : أنهم يقولون : إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى
وأما آخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين ؟ أو يغيرونها فيصيرون كفارا ؟
وإن احتجت القدرية بقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم : أنتم تقولون : إنه لا يقدر : لا الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما فحينئذ لا حجة لكم في قوله : [ فأبواه يهودانه ]
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك : دعوة الأبوين لهما إلى ذلك وترغيبهما فيه وتربيتهما عليه ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه وذكر الأبوين بناء على الغالب إذ لكل طفل أبوان وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين وقد يقع من غير الأبوين حقيقة وحكما

عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر : اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور قال : قال ابن المبارك : يفسره آخر الحديث : قوله صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
قال ابن عبد البر : هكذا ذكر عن ابن المبارك لم يزد شيئا
وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال : ( كان هذا القول عن صلى الله عليه و سلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ) هذا ما ذكره أبو عبيد
قال ابن عبد البر : ( أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل )
قال : ( وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه : إما لإشكاله عليه أو لجهلة به أولما شاء الله وأما قوله : إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله لأن المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه أو غلطة فيما أخبر به أو نسيانه وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم فقف عليه فإنه أمر جسيم من أصول الدين
وقول محمد بن الحسن : إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد )
وروي بإسناده ( عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان ؟ فقال رجل : أو ليس إنما هو أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه ]
قال : وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم بكر المزني والعلاء بن زياد والسري بن يحيى وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع قال : وهو حديث بصري صحيح قال : وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين ]
قلت : أما ما ذكره عن ابن المبارك و مالك فيمكن أن يقال : إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار فلا يحتج بقوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) على نفي القدر كما احتجت به القدرية ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث
وأما قوله محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال : هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة وإذا قيل : إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده
فإن الله تعالى يقول : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه
وهذا من قوله تعالى : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقوله : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة
قال ابن عبد البر : ( وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله فقالت فرقة : الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال : ( كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ) يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك )
قالوا : ( لأن الفاطر هو الخالق )
قال : ( وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار )
قلت : صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته حتى يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا : إنهم أولاد المشركين قال : أليس خياركم أولدا المشركين ؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان
قال : ( وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] يعني البدأة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم )
( قالوا : والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبدىء والمبتدىء فكأنه قال : صلى الله عليه و سلم : يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه واحتجوا بقوله تعالى : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وروي بإسناده إلى ( ابن عباس قال : لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأئتها ) ( وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه : اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها )
قلت : حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة
وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها على هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ وبين تلقين الإسلام وتعليمه وبين تعليم سائر الصنائع فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه
وأيضا فقوله : ( على هذه الملة ) وقوله : ( إني خلقت عبادي حنفاء ) يخالف هذا
وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص
وقد ثبت في الصحيح أنه : قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فلو قيل : كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة
قال ابن عبد البر : ( قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال : يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين : الله أعلم بما كانوا عاملين
قال المروزي : وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه
قال ابن عبد البر : ما رسمه مالك في موطأه وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا )
قلت : أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر : ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما قال : ( فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) وليس إذا كان الله قد كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في عمله أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له يدل على أنه الفطرة عنده : الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول : إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما وإن سبوا مع أحدهما فعنه روايتان وكان يحتج بالحديث

كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل : ( أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب : إنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
قال : وأما أهل الثغر فيقولون : إذا كان مع أبوية : إنهم يجبرونه على الإسلام )
قال : ( ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأبواه يهودانه ]
قال الخلال : أنبأ عبد الملك الميموني قال : سألت أبا عبد الله قبل الحبس - أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية - عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال : إذا مات صلى عليه المسلمون قلت : يكره على الإسلام ؟
قال : إذا كانوا صغارا يصلون عليه أكره من يليه إلا هم وحكمه حكمهم
قلت : فإنه كان معه أبواه ؟ قال : إذا كان معه أبواه - أو أحدهما - لم يكره ودينه على دين أبويه
قلت : إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ كل مولود يولد على الفطرة ] :
حتى يكون أبواه ؟ قال : نعم
قال : وعمر بن عبد العزيز نادى به ؟ قال : فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم
قلت : في الحديث كان معه أبواه ؟ قال : لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه )
قال الخلال : ( ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ) ( ولذلك نقل إسحاق ابن منصور أن أبا عبد الله قال : إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت : لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما ؟ قال : نعم )
قال الخلال : ( وقد روي هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال : إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه : ما رواه الجماعة )
وقال الخلال : ( ثنا أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد الله : إني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما ؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها وقالوا : إنهم قد كتبوا إليك فقال : أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيها عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته فقال : قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه و سلم ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) هذا ليس له أبوان
قلت : يجبر على الإسلام ؟ قال : نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه و سلم )
( وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال : قال أبو عبد الله : الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام وذكر الحديث : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان : هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى ؟ قال : ذاك يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة : يهودية أو نصرانية أو مجوسية ؟ فقال : يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام لأن آباءهم مسلمون حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ] يردون كلهم إلى الإسلام )
ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة : الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى
قال الخلال : ( أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله : كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه معناه : أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا ؟ فقال لي : نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون بقوله قلت لأبي عبد الله : فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب ؟ قال : إيش أقول أنا ؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى ثم قال لي : والذي يقول : كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له : فما الفطرة الأولى : هي الدين ؟ قال لي : نعم
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] قلت لأبي عبد الله : فما تقول لأعرف قولك ؟ قال : أقول : ( إنه على الفطرة الأولى )
فجوابه : أنه على الفطرة الأولى وقوله : إنها الدين - يوافق القول بأنه على دين الإسلام
وأما جواب أحمد : أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه فقال الخلال : ( أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله : كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد )
وكذلك نقل عنه ( الفضل بن زياد و حنبل و أبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال : ( الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة )
وكذلك نقل : ( عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال : على الشقاء والسعادة فإليه يرجع على ما خلق )
( وعن الحسن بن ثواب قال : سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت : إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال : هو على الفطرة حتى يهودانه أبواه أو ينصرانه فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال : كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب ارفع ذلك إلى الأصل هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة )

تعليق ابن تيمية
قلت : وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال فكان أحمد يقف فيه تارة يقف عن الجواب وتارة يردهم إلى العلم كقوله : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهذا أحسن جوابيه كما نقل محمد بن الحكم عنه وسأله عن أولاد المشركين فقال : أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
ونقل عنه ( أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين فقال : كان ابن عباس يقول : ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) حتى سمع : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فترك قوله
قال أحمد : ( وهي صحاح ومخرجها كلها صحاح وكان الزهري يقول : من الحديث ما يحدث بها على وجوهها )
وأما توقف أحمد في الجواب ( فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله : فأبواه يهودانه وينصرانه قال : الشأن في هذا وقد اختلف الناس ولم نقف منها على شيء أعرفه )
وقال الخلال : ( رأيت في كتاب لهارون المستملي قال أبو عبد الله : إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم فإنه أصل كل خصومه ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به قال : ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ونسكت لا نقول شيئا )
( قال المروزي : قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري عن سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال : يا صبي أنت تسأل عن هذا ؟ ! )
وكذلك نقل خطاب بن بشر و حنبل أن عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا فنهاه ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال : هم في النار ولكن طائفة من أتباعه كالقاضي أبي يعلى وغيره لما سمعوا جوابه بأنه قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي [ عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أولادها من غيره فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هم في النار فقالت : بلا عمل ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث خديجة وهذا غلط على أحمد فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد فضلا عن الإمام أحمد
و أحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وهو في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وكذلك في الصحيح عن ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا بعد أن كان يقول : هم مع آبائهم فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم
وأبو هريرة نفسه الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قد ثبت عنه ما رواه غير واحد منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره من حديث عبد الرازق : أنبأ معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار فيقولون : كيف ولم يأتنا رسل ؟ قال : وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم رسولا فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وروي هذا الأثر عن أبي هريرة : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر ومن رواية القاسم عن الحسين عن أبي سفيان عن معمر وقال فيه : ( والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا ) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعن الأسود بن سريع أيضا قال أحمد في المسند : حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع : أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ]
وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره : [ فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها ]
وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعن الصحابة والتابعين بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرساله في الدنيا وهذا تفسير قوله : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه
وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ومن قطع لهم بالجنةكلهم جاءت نصوص تدفع قوله ثم إذ قيل : هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب انفتح باب الخوض في الأمر والنهي والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة فلهذا كان أحمد يقول : هو أصل كل خصومه
فأما جواب النبي صلى الله عليه و سلم الذي أجاب به أحمد آخرا وهو قوله [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فإنه فصل الخطاب في هذا الباب وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة والله تعالى أعلم

تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد
و أحمد - رحمه الله - كان متبعا في هذا الباب وغيره لمن قبله من أئمة السنة كما روينا عن طريق إسحاق بن راهويه فيما ذكره ابن عبد البر وغيره
( ثنا يحيى بن آدم ثنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي : سمعت أبن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر
قال يحيى بن آدم : فذكرته لابن المبارك فقال : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ فسكت
وذكر محمد بن نصر المروزي ثنا شيبان بن شيبة ثنا جرير بن حازم فذكره بإسناده وقال : لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو مواتيا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر
وذكر المروزي أيضا ثنا عمرو بن زرارة أنبأ إسماعيل بن علية عن ابن عوان قال : كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال : ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين ؟ قال : وتكلم ربيعة الرأي في ذلك ؟ فقال القاسم : إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال : فكأنما كانت نارافطفئت ؟

تعليق ابن تيمية
قلت : ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبةبالبصرة وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة والتحذير من أسباب الفتن ما قد نقل إلينا كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب لما كثر القراء وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة
ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقائل يقول : ألم يقل الله كذا ؟ وآخر يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاتركوه
فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها ويرد معنى آية استدل بها مناظره ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى
ولهذا قال تعالى : { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق فلو صدق الإنسان فيما يقوله ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به فأولئك هم المتقون
ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله وإلى الإيمان بشرع الله فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي والوعد والوعيد فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر فأخطأوا في التكذيب به وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول : إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة ولا يسوي بين المتماثلين بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح
وهذا أصل مذهب القدرية النفاة ولهذا قالوا : إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعا وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال : الظلم ممتنع لذاته وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل حتى تعذيب الأنبياء والصالحين وتنعيم الكفار والفاسقين إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم
وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس وكذلك أمر أطفال المشركين : طائفة يقولون : يعذبهم كلهم أو يمكن تعذيبهم كلهم بناء على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة وطائفة تقول : بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحا بناء على رحمة بلا حكمة وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار وبين من آمن وعمل صالحا ومن لم يؤمن ويعمل صالحا من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق
وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها فإن الله أكمل الدين وأتم النعمة وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ]
وفي الصحيح [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما ]
وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
وقال تعالى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة
وقد قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه
وقال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن
ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس وهو قوله : إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا شك الراوي حتى يتكلموا في الولدان والقدر وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقا قال له ابن المبارك : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ وقد صدق ابن المبارك فقال له يحيى بن آدم : أفتأمر بالكلام ؟ فسكت ابن المبارك لأن أمره بالكلام مطلقا يتضمن الإذن بالكلام الذي وقع من الناس وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه وأما الكلام بلا علم فيذم ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم وقد يتكلم بما يظنه علما : إما برأي رآه وإما بنقل بلغه ويكون كلاما بلا علم وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا
كما ذم الله ذلك بقوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فالبغي مذموم مطلقا سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم ويذمهم على تركه أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه والله يغفر لهم خطأهم فيه فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم فقد بغى عليهم لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه
وقد قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } والله تعالى قد قال : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات }
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه وإلا فالإنسان ظلوم جهول وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه وأمره ووعده ووعيده ؟
ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل طعموا في هؤلاء القدرية
فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل ومن الناس من يحار ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة تناقضا منه في حالين أو جمعا بين النقيضين في حال واحدة
ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع ويدخلهم في اتباع النص والإجماع والكلام على هذه المسألة له موضع آخر
والمقصود هنا تفسير قوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) وأن من قال بإثبات القدر وأن الله كتب الشقي والسعيد لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه فيعلم أنه يولد سليما ثم يتغير
والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه وهو أنهم ولدوا على الفطرة ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان مستلزمة له لولا المعارض
فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده ( عن موسى بن عبيده سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وقال : من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بعمل أهل الضلالة ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة قال : وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة ثم هداهم إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين
وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } يقول : فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها )
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه وهو ما كتبه أنهم صائرون إليه قد يعملون قبل ذلك غيره وأن من ابتدأه على الضلالة أي كتبه أنه يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل أهل الهدى وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر لها
كما في الحديث الصحيح : [ إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ]
ولهذا قال محمد بن كعب : إن جميع الذرية أقروا له بالإيمان والمعرفة فأثبت هذا وهذا إذ لامنافاة بينهما
ثم روى ابن عبد البر بإسناده ( عن سعيد بن جبير في قوله : { كما بدأكم تعودون } قال : كما كتب عليكم تكونون

تعليق ابن تيمية
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { كما بدأكم تعودون } قال : شقي وسعيدا وقال غيره عن مجاهد : { كما بدأكم تعودون } قال : يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا
وقال الربيع أبن أنس عن أبي العالية : { كما بدأكم تعودون } قال : عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )
قلت : ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق وأن الخلق يصيرون إلى ذلك حق لا محالة كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأما كون ذلك تفسير الآية فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه
ولفظ ( بدأ الله الخلق ) : يراد به ابتداء تكوينهم وهو ظاهر القرآن وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك كما في قول السائل للنبي صلى الله عليه و سلم : [ ما كان أول أمرك ؟ قال : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي : رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ]
قال : ( وقال آخرون : معنى قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم ؟ قالوا جميعا : بلى فأما أهل السعادة فقالوا : بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا : بلى كرها غير طوع
قالوا : ويصدق ذلك قوله : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } قالوا : وكذلك قوله : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } قال محمد بن نصر المروزي : وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق : يقول : ( لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج إسحاق بقول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال : إسحاق : أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد : استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فقال : انظروا ألا تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل )
وذكر ( حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر قال : وكان الظاهر ما قال موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس ؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها وأنه لا تبديل لخلق الله : فأمر بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا )
وروى إسحاق حديث أبي بن كعب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا ] وهذا الحديث رواه مسلم
وروى البخاري وغيره ( عن ابن عباس أنه كان يقرأها : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين قال إسحاق : فلو ترك النبي صلى الله عليه و سلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه و سلم حكم الطفل في الدنيا فقال : [ أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] يقول : أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الأسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم
قال : ( ولقد [ سئل ابن عباس عن الولدان : ولدان المسلمين والمشركين فقال ابن عباس : حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال : إسحاق : ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين فقالت عائشة : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وقال : مه يا عائشة وما يدريك ؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلق النار وخلق لها أهلها ] قال إسحاق : فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم )
( وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] فقال : هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم
قال ابن عبد البر : ( وقال ابن قتيبة : يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى )
قلت : مقصود حماد و إسحاق و مالك و ابن المبارك ومن اتبعهم كابن قتيبة و ابن بطة و القاضي أبي يعلى وغيرهم هو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر وهذا مقصود صحيح ولكن سلكوا في حصوله طرقا بعضها صحيح وبعضها ضعيف
كما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ثبت عنه أنه قال : [ احتج آدم وموسى فقال موسى : ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة فقال له : أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله تكليما وخط لك التوراة بيده فبكم تجد علي مكتوبا قبل أن أخلق : { وعصى آدم ربه فغوى } ؟ قال : بأربعين خريفا قال : فحج آدم موسى ] فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو مروي بإسناد جيد من حديث عمر
فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب اضطربوا فيه : فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصدا لتصحيح الحديث ومقصودهم صحيح لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه وقول الآخر : لكونه كان قد تاب وقول الآخر : لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى وقول الآخر : حجة لأن الاحتجاج به كان في الآخرة دون الدنيا وقول الآخر : الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى
وأيضا فموسى أعلم من أن يلوم تائبا وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب فإن هذا لو كان حقا لكان حجة لإبليس وفرعون وكل كافر وفاسق
وكذلك قول من قال : إن الأحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل أو احتجاج الخاصة به سائغ فإنه قول باطل فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر ووقع العتب والملام بسبب الذنب كما حقق الله ذلك في القرآن ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة كما في الحديث : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه واجتباه ربه وهداه فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ما أخطاه لم يكن ليصيبه
كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } وقال : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }
قال طائفة من السلف : هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار
فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها فلا بد أن يصيبهم ذلك فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله
ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح : [ خدمت رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين فما قال لي شيء فعلته لما فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : دعوه فلو قضي شيء لكان ]
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح : [ احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان ]
والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشبعهم في حديث الحجة وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل
وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى مثل أن يتكلموا في مسألة فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم
وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنكرة : إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه فهذا حق يرده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجمهورهم ينكرون عموم خلقه وممشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق فهذا يتضمن شيئين : أحدهما : أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان
لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك
وأما قول القائل : إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى : طائع وكاره فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي في تفيسره
قال السدي في قول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } قالوا : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال : ادخلوا النار ولا أبالي
فذلك قوله : وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال : { ألست بربكم قالوا بلى } فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة : { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله عز و جل : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وذلك قوله : { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } يعني يوم أخذ الميثاق
فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله فإذا كانوا ولدوا على هذه النطفة فقد ولدوا على المعرفة ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر ومثل هذا لا يوثق به فإن هذا في مثل تفسير السدي وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه و سلم فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا ؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل لا سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار
وقول الله تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم لم يقل : إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهامن عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال : لم أقل ذلك طوعا بل كرها فلا تقوم عليه به حجة
وأما احتجاج إسحاق رحمه الله بقول أبي هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق : نقول : لا تبديل للخلقة التي جبل عليها فهذه الآية فيها قولان : أحدهما : أن معناها النهي كما تقدم عن ابن جرير أنه فسرها بالنهي أي : لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيرهم كالثعلبي و الزمخشري
والثاني : ما قاله إسحاق : وهو أنه خبر على ظاهرها وأن خلق الله لا يبدله أحد وظاهر اللفظ أنه خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح
وحينئذ فيقال : المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل فلا يخلقون على غير الفطرة لا يقع هذا قط والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة
وقد قال تعالى عن الشيطان : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فالله أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته
وأما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليها إلا الله والله لا يفعله كما قال : { لا تبديل لخلق الله } ولم يقل : لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله
وأما قول القائل : لا تبديل للخلقة التي جبل عليه ولد آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسئيات بالتوبة كما قال تعالى : { إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم }
و { أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }

تعليق ابن تيمية
وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله قط بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فإنه يبدله دائما والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك
ومما يبين ذلك أنه قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها ؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر ؟
وقد تقدم تفسير السلف : لا تبديل لخلق الله تعالى بأنه : دين الله أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه ولم يقل أحد منهم إن المراد : لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان إذ تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والله تعالى عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع
وأما قوله : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا فالمراد به : كتب وختم وهذا من طبع الكتاب وإلا فاستنطاقهم بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } ليس هو طبعا لهم فإنه ليس بتقدير ولا خلق
ولفظ ( الطبع ) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه : إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ ولكن قال في الحديث الصحيح : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فإن كان بالغا - وقد كفر - فقد صار كافرا بلا نزاع وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة أو على قول من يقول : إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة و أحمد وغيرهم - أمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا وإن كان أبواه مؤمنين ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ
فالغلام الذي قتله الخضر : إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله وإما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل
بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صباله الذي لا يندفع إلا بالقتل وأما قتل صبي لم يكفر بعد بين أبوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه ولا في السنة
وقد يقال : بل في السنة ما يدل عليه ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان : إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا رواه مسلم
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به ومن قال بالأول يقول : إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعماونه حتى يفعلوه
ويقول قائل هذا القول : إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وأن أباهما كان رجلا صالحا هذا مما قد يعلمها كثير من الناس فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما الإنكار عليه
فإن كان الأمر على ذلك فليس في الآية حجة أصلا وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلا ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر فهذا أيضا يبين أنه قتل قبل أن يصير كافرا ومن قال هذا يقول : إنه قتل دفعا لشره
كما قال نوح : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } فقد دعا نوح عليها السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا
وقول ابن عباس : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهره أنه كان حينئذ كافرا وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير
وأيضا فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولاد المشركين ؟ كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون : هم كفار كآبائهم فنقتلهم
وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة و الشافعي و أحمد و الأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع للعلماء
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيرهم بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينها وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبى بمنزلة الكافر
ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة
فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر
يبين ذلك أنه لو سباه كفار لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه
فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه وذكر صلى الله عليه و سلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ] فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يثبت له أحد الأمرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه : [ إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به
ومن هنا قال من قال : إن هذا الحديث - هو قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبوعبيد عن محمد بن الحسن فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا
وقوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب والعقاب في الآخرة إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين
ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه ؟ فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه لقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فإذا مات أبواه بقى على الفطرة
والرواية الأخرى كقول الجمهور : إنه لا يحكم بإسلامه
وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها
فقد عليم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله علي وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران وأرض اليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي صلى الله عليه و سلم بإسلام يتامى أهل الذمة وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ولم يحكموا بإسلام أحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما
و أحمد رضي الله عنه يقول : إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايتين : إنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث لم يحصل قبله والقول الآخر هو الصواب كما تقدم
والمقصود هنا أن قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد به في أحكام الدنيا بل في نفس الأمر وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب ولهذا لما قال هذا سألوه فقالوا : يا رسول الله : أرأيت من يموت من أطفال المشركين ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر بخلاف من مات
وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال : فقالت طائفة : إنهم كلهم في النار وقالت طائفة : كلهم في الجنة وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد الأول : اختاره القاضي أبي يعلى وغيره وحكوه عن أحمد وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه
والثاني : اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره ومن هؤلاء من يقول : هو خدم أهل الجنة ومنهم من قال : هم من أهل الأعراف
والقول الثالث : الوقف فيهم وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة
وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة و حماد بن زيد و ابن المبارك و إسحاق بن راهويه قال : وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك وذكر أيضا في أطفال المسلمين نزاعا ليس هذه موضعه
لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يعلم حكمهم فلا يتكلم فيهم بشيء وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى النسة وقد يقال : إن كلام أحمد يدل عليه
والثاني : أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة ويجوز أن يدخل جميعهم النار وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم
والثالث : التفصيل كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة ومن علم منه أن يعصي أدخله النار
ثم من هؤلاء من يقول : إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي
والأكثرون يقولون : لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتنحهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار
وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم
وقد روي به آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم حسان يصدق بعضها بعضا وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا
والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث وقد تبين ضعف قول من قال : الفطرة : الكفر والإيمان وأن الإقرار كان من هؤلاء طوعا ومن هؤلاء كرها
ومما يضعف هذا القول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان إقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره

تعليق ابن تيمية
قال ابن عبد البر : ( وقال آخرون : معنى الفطرة المذكورة في المولدين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فأقروا جميعا له بالربوبية عن معرفة منهم به ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار
قالوا : وليست تلك المعرفة بإيمان ولا ذلك الإقرار بإيمان ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة ألزمها قلوبهم ثم أرسل إليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع تصديقا بما جاءت به الرسل فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون
قالوا : وتصديق ذلك قول الله عز و جل : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وذكروا ما ذكره السدي عن أصحابه ) كما تقدم
وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي ( عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله عز و جل : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إلى قوله : { أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
قال : فجعلهم جميعا أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك
قال : فإني أرسل إليكم رسلي وأنزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي وإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي
قال : فأخذ عهدهم وميثاقهم ورفع أباهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال : يا رب لو سويت بين عبادك ؟ قال : أحببت أن أشكر
قال : والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج
وقال : وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها
قال : فهو قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح }
قال : وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها )
قال : ( وذلك قوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }
قال : ( فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق قال : وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم )
فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة التي هي المعرفة بالله والإقرار به وفيه زيادة : أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم وقد فسر ( فطرة الله ) في الحديث بذلك
وأما قول صاحب هذا القول : ( إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب ) فهذا لا يضر فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية وأنه بذلك صح أن يأمرهم فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه : أدعكم إلى الله لقالوا مثل ما قال فرعون : وما رب العالمين ؟ إنكارا له وجحدا كأن يكون قولهم متوجها
وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق لكن أظهر خلاف ما في نفسه كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وكما قال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر }
ولهذا قال تعالى : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا : { إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك }
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والأنكار على من لم يقر بهذا النفي والمعنى : ما في الله شك وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك ولكن تجحدون انتفاء الشك جحودا تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار وإلا فالأمر النظري مسلتزم للشك قبل العلم لا سيما إذا كانت طرقة خفية طويلة فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق وهم جمهور الخلق بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضا إذا عرف حقيقتها
قال ابن عبد البر : ( وقال آخرون معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد رسول الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا إيمانا ولا معرفة ولا إنكارا وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا
واحتجوا بقوله في الحديث : [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ] يعني سالمة : [ هل تحسون فيها من جدعاء ] يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال : هذه بحاير وهذه سوايب يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون قالوا : ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئا
قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار
قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة : السلامة والاستقامة بدليل قوله في حديث عياض بن حمار : إني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والزيادات ومن المعاصي والطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما
ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } { كل نفس بما كسبت رهينة } ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
قلت : هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والإسلام وإنما ذلك بحسب الأسباب فكان ينبغي أن يقال : فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبوه يكفرانه وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف ولا حكم ذم القرآن مسيلمة والتراب قبل أن يبنى مسجدا أو كنيسة لا يثبت له حكم واحد منهما
ففي الجملة كل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم ؟
وأيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم فكيف تكون فبل النقص لا محمودة ولا مذمومة ؟
وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس من أن المراد : أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة - فهذا القول قد يقال : إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله فإنه صاحبه يقول : في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها لكن يقال : فهذا الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية : هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج ؟
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك
ومعلوم أن فيها قبول الإنكار والكفر إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك وهو التهويد والتنصير والتمجيس وحينئذ فلا فرق بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج
وهذا القسم الأول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة وإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة سواء قيل : إن المعرفة ضرورية فيها أو قيل : إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن يسمع كلام مستدل فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال مالا يحتاج معه إلى كلام أحد فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب
والمقتضى التام يستلزم مقتضاه فتبين أن أحد الأمرين لازم : إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها وذلك ينفي مدحها
وتلخيص النكتة أن يقال : المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب فإما أن تكون هو موجبة مسلتزمة له وإما أن يكون ممكنا بالنسبة إليها ليس بواجب لازم لها
فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها إلا أن يعارضها معارض
فإن قيل : ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكنها إليها أميل مع قبولها للنكرة
قيل : فحينئذ إذا لم تسلتزم المعرفة وجبت تارة وعدمت أخرى وهي وحدها لا تحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس
ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها أضيفت إلى السبب فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل
والنبي صلى الله عليه و سلم شبه اللبن بالفطرة لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن فقال له جبريل : أصبت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك
والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرتضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض
وأيضا فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له مع الكبر والشرك والنفور إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلان هذا
وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزما لمقتضاة عند عدم المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت أن ذلك من لوازمها وأنه مفطورة عليه لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة
وإن قيل : إنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا
وإذا قيل : هي إلىالحنيفية أميل كان كما يقال : هي إلى النصرانية أميل
فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله والذل له وإخلاص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه

تعليق ابن تيمية
ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض
وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك وإذا كان كذلك وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له وإخلاص الدين له وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك كما لو خوطب الجائع بوصف طعام أو خوطب المغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكر ويحرك لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل
فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته وإن كان ذلك مذكرا ومحركا أومزيلا للمعارض المانع لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقا
وأيضا فالإقرار بالصانع بدون عبادته بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري وإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها - وهو المعرفة أيضا - جبلي فطري فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وهو فطرة الله التي أمر الله بها
وأيضا فإذا كانت المحبة فطرية وهي مشروطة بالشعور لزم أن يكون الشعور أيضا فطرية والمحبة له أيضا فطرية لأنها لو لم تكن فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء وهذا ممتنع كما تقدم وإذا كانت في الفطرة أرجح لزم وجودها في الفطرة وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه كما في المجوسية وغيرها من الكفر فتبقى الحنيفية مع المجوسية كاليهودية مع المجوسية وهذا باطل كما تقدم
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال هذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب
قال أبو عمر : ( قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية قالوا : ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات
والقرآن قد نطق عن أهل النار : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } من غير إنكار عليهم
وقال تعالى تصديقا لذلك : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } قالوا : وكيف يخاطب الله عز و جل من لا يعقل ؟ وكيف يجيب من لا عقل له ؟ أم كيف يحتج عليه بميثاق لا يذكرونه ؟ أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه ؟
قالوا : وإنما أراد الله بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامة الحجة عليهم بأن فطرهم ونبأهم فطرة : إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة : هل تقع ضرورة أو اكتسابا على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان )
قلت : ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة وإذا كان من نفاة الأول من يقول : إن هذه ضرورية فكيف بمن أثبت الثنتين وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس وهو قول من يقول : ولدوا على ما سبق به القدر أو على ذلك وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول منهم مقر طوعا وكرها أو اثنان من جنس وهو قول من يقول : ولدوا قادرين على المعرفة وقول من يقول : ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر إما من التساوي وإما مع رجحان القبول للإسلام
وأما من قول من يقول : ولدوا على فطرة الإسلام أو علىالإقرار بالصانع وإن لم يكن ذلك وحده أيمانا أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها بل يحصل بها المقصود
والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله الذي هو معرفة الله والإقرار به بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم وبمقتضاها يجب حصوله فيها إذا لم يحصل ما يعوقها فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء مانع
ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم لموجب الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } فأخبر أن المشركين مفترقون
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه لا تشركوه به شيئا وأنت تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]
وقد قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }
وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }
وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده كما قال : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فهو يجمع أصلين :
أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أحبه وأمر به وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق وضده الشرك والبدع
والثاني : حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود وهو الوسيلة وضدها تحريم الحلال والأول كثير في النصارى والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود وهما جميعا في المشركين
ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه كسورة الأنعام والأعراف يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى
وفي الحديث : [ أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ] فنعبده وحده بفعل ما أحبه ونستعين على ذلك بما أحله
كما قال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم }
وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه فإنه محبوب لكل أحد فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتحليل الطيبات النافعة وتحريم الخبائث الضارة

الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من أن [ كل مولود يولد على الفطرة ] مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه كما أخبر الصادق المصدوق وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك
وبيان ذلك من وجوه :
( الوجه الأول )
أن يقال : لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا وتارة ما يكون باطلا فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته وهو جلب المنفعة له وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة ولهذا [ قال صلى الله عليه و سلم : أصدق الأسماء : الحارث وهمام وأحبها إلى الله : عبد الله وعبد الرحمن وأقبحها : حرب ومرة ] فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية ولا بد من أن يهم بالأمور : منها ما يهم به ويفعله ومنها ما يهم به ولا يفعله فإن كان المراد موافقا لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة وإن كان مخالفا لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه
وإذا كان الإنسان تارة تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة وتارة تكون سيئة فلا يخلو : إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين
فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان : أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه والآخر يرجح الكذب الذي يضره فإما أن يتكافأ المرجحان أويترجح أحدهما فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وأن ينتفع وأن يكذب وتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير
فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه ؟ والثاني معلوم الفساد قطعا فتعين الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به
وأيضا فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته والثاني معلوم الفساد وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه
وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به والثاني معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده
وأيضا فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الإسلام مرجوحا أو راجحا والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين وبأدلة كثيرة فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول
وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل مثل من يعلمه ويدعوه أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل
فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما فلا يحصل بدونه البتة ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل كالقول في الأول وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين ووجود مخاطبين لا يتناهون وهو أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع
وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل دل على إمكان ذلك في الفطرة فبطل هذا التقدير : وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك وأن ذلك ليس موقوفا على مخاطب منفصل لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة
وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنيا عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع أمكن ذلك في حق كل شخص وهو المطلوب

الوجه الثاني
أن يقال : إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة : كالتعليم والتخصيص فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة : من معرفة الله وتوحيده فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضى لذلك
ومعلوم أن قوله : كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك فإن الله يقول : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا }
ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ فحصول موجب الفطرة سواء توقف على سبب وذلك السبب موجود من خارج أو لم يتوقف على التقديرين يحصل المقصود ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع فلا يحصل مقصود الفطرة

الوجه الثالث
أن يقال : من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم والسبب في الموضعين واحد فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل
ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام وإذاكان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة
يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج فمعلوم أنه نفس لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس إلا بقوة منها تقبل ذلك وتلك القوة لا تتوقف على أخرى وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين أو الدور القبلي وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء
فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق علىغيره وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيها على ما لا تعلمه لتعلمه أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره أو تخضيضها على ما لا تريده لتريده ونحو ذلك
وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتحضيضها واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر بمكن أن يخطر له مثله في قلبه فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك
ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضى لذلك قائما في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم يجب مقتضاه فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يصل لها من يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له
فإن قيل : هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض بحسب ما يتفق من الأسباب كما أن بعض الناس يحصل له من يخاطبه دون بعض فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب
قيل : إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان فإن هذا خلاف الواقع والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته

الوجه الرابع
أن يقال : هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة

الوجه الخامس
أن يقال : المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم والمانع زائل إذ يجب وجود مقتضاه
والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب من فصل على وجود المقتضي التام في الفطرة وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه
وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد فإنه هذا ممتنع بل إن الفطرة تقتضى وجوده كما تقتضى فطرة الصبي شرب لبن أمه فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك يوجب نفوره عن شرب لبنها وحب العبد لربه هو مفطور فيه أعظم مما فطر فيها حبه للبن أمه
قال الله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج وهو خلاف الواقع ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها والثاني ممتنع فتعين الأول

الوجه السادس
أن السبب الذي في الفطرة : إما أن يكون مسلتزما للمعرفة والمحبة وإما أن يكون مقتضيا لها بدون استلزام وعلى التقديرين يحصل المقصود

الوجه السابع
أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة بل هذا الخلوممتنع فيها فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال : إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه وعن محبته وعدم محبته
وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها ولو لم يكن لها معارض بل هذا باطل
وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضروة فطرتها وكونها مريدة من لوازم ذاتها لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم : [ أصدق الأسماء الحارث وهمام ] وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالإرادة فلا بد لها من حركة إرادية وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة وهو ممتنع كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية بل أولى
وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب فإذا لا بد لكل عبد من إله فعلم أن العبد مفطور على انه يحب إلهه
ومن الممتنع أن يكون مفطورا على أنه يأله غير الله لوجوده :
منها : أن هذا خلاف الواقع
ومنها : أنه ليس هذا المخلوق بأن يكون إلها لكل الخلق بأولى من هذا
ومنها : أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل عبد كل قوم ما يستحسنوه
ومنها : أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل من الميت فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله يألهه فلو كان هذا يأله هذا وهذا يأله هذا لزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه
فإن قلت : ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله أو لكل إنسان من إله لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه لا مألوها معينا وجنس المراد لا مرادا معينا ؟
قيل : هذا ممتنع فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول مثل كون العطشان يريد ماء والسغبان يريد طعاما فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده
والمراد لذاته لا يكون نوعا لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر فلو كان هذا مرادا لذاته للزم أن لا يكون الآخر ماردا لذاته وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته وإذا لم يكن مرادا لذاته لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مرادا لذاته
والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معينا فإذا لم يكن في المعينات ما هو مارد لذاته لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد فضلا عما يجب أن يألهه كل واحد
فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب لذاته من كل حي ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله فلزم أن يكون هو الله وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وأن كل مولود ولد على حبة هذا الإله ومحبته مستلزمة لمعرفته فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته وهو المطلوب
وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلا وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب فإنه ليس في ذلك ما هومارد لذاته بل المراد دفع ألم الجوع والعطش أو طلب لذة الأكل والشرب وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مارد ومحبوب لذاته فإنه لا يكون إلا معينا
أن يقال : اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والإرادة لكن بلا علم بل مع ضلال وجهل ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] رواه الترمذي وصححه
وأمرنا الله أن نقول في صلاتنا : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه وإذا كان كذلك والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا فطرته السليمة : إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العلم به أو للعمل به دون معرفته أو لهما أو لا لواحد منهما
فإن كان الرابع : فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب والاعتقاد المطابق والفاسد وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة
وإن كان الثالث : فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل وأن تهتدي وأن تضل وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما وهوأيضا خلاف المعلوم بالحس والضرورة
وإن كان الثاني : فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائما إذا استوت الدواعي الخارجة هو أيضا خلاف الحس الباطن والظاهر وخلاف الضرورة فبين أنه لا يستوى عندها هذان بل يترجح عندها هذا وهذا جميعا
وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية فعلى المجوسبة أولى ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به وهو المطلوب

فصل في قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
قالت الله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان :
أحدهما : أنها وقعت منهم ثم هؤلاء منهم من يقول : جميعهم خلقوا لها ومنهم من يقول : إنما خلق لها بعضهم
والقول الثاني : أنهم كلهم خلقوا لها ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم وهؤلاء حزبان :
حزب يقولون : إن الله لم يشأ إلا العبادة لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه
والثاني يقولون : بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها ولا يأمر إلا بذلك فمنهم من أعانة ففعل المأمور به ومنهم من لم يفعله
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } وفي قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين }
وقوله تعالى : { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } على قول الأكثرين الذي يجعول ( لعل ) متعلقة بقوله : ( خلقكم ) كما قال { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
وقوله : { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين }
وقوله : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }
وقوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم }
وقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }
ومنه قوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
وقوله : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } ونحو ذلك مما فيه : أن الله يفعل فعلا لغاية يحبها ويرضاها ويأمر بها عباده وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم ثم منهم من يعينه على فعلها ومنهم من لا يفعلها فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس وقالوا : كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل ؟
فيقال : الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل ومراد الفاعل نوعان : فإنه تارة يفعل فعلا ليحصل بفعله مراده فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون والله تعالى يفعل ما يريد فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولكن الله يفعل ما يريد
وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلا باختياره لينتفع ذلك الفاعل بفعله ويكون ذلك محبوبا للفاعل الأول كمن يبني مسجدا ليصلي فيه الناس ويعطيهم مالا ليحجوا به ويجاهدوا به وسلاحا ليجاهدوا به ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه وينهاهم عن المنكر ليتركوه وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم كان صالحا لهم وكان ذلك محبوبا له وإن لم يفعلوا ذلك لم يكن صلاحا لهم ولا حصل محبوبه منهم ثم هذا قد لا يكون قادرا على فعل ما أمروا به اختيارا
ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادرا على هدي العباد وهو خطأ عند أهل السنة وقد يكون قادرا فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا }
لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته ولا يعين آخر والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به وأحبه الله منهم لا يعين آخرين لما له في ذلك من الحكمة فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده
وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له هي أحب إليه من طاعة أولئك أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك
وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم ليطيعوه ويعبدوه ويفعلوا ما أحبه وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها جاز أن يقال : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وأن يقال : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وأن يقال : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم }
وأن يقال : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } ونحو ذلك
وإن كان هو لم يخلق ما أمره به وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به ليعبدوه ويطيعوه ويشكروه ويذكروه ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال : إنما خلقهم ليعبدوه وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابدا له كما جاز أن يقال : وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك فإنه ليس من شرط من فعل فعلا لغاية يفعلها غيره أن يكون هو فاعلا لتلك الغاية
ثم إذا علم أن كثيرا من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد وإن من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل ويأمر بما يأمر به لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له وهذا موجود في المخلوق والخالق فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي وإن كان يعلم أنه لا يطاع لأن نفس أمره لهم له فيه مصلحة ومنفعة وثواب وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك إذا كان له في ذلك أجرا ومثوبة ومصالح أخرى فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد وبعضهم لا يصلي فيه قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة وكان قد أزاح عن نفسه العلة بأن يقال : لم يبن لهم مسجدا يصلون فيه
والخالق تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنذر العباد وأزاح عللهم وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله فلا تقوم حجة آمر على مأمور إلا وحجة الله على عباده أقوام ولا يستحق مأمور من آمره ذما ولاعقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم
وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه و سلم وجد هذا فيها أظهر من الشمس ولهذا قال في آية الصيام : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وقال في آية الطهارة : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم }
وقال : { ما جعل عليكم في الدين من حرج }
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ]
وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء فيسقط القيام في الصلاة والصيام في شهره والطهارة بالماء كذلك بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره وقال : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
والشريعة طافحة بهذا وأمثاله وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه ولا يفعله غيره وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة
وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما
وقول القائل : كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل ؟
جوابه : أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده ومن فعل شيئا لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعا
وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون : لم يرد إلا المأمور وما سواه واقع بغير مراده وخلق الخلق لذلك المراد بعينه مع علمه أنه لا يكون وهذا تناقض يقولون : يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء
وأما أهل السنة الذين يقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يقع إلا ما شاءه وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه فلا إشكال على قولهم
وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره وله مراد بما خلقه فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه فما حصل إلا مراده وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه
مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول ومعجزة القرآن وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش
وعلى هذا فيجوز أن يقال : إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره وبها يحصل محبوبه وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم وإن كان منهم من لم يعبده ولم يجعله عابدا له إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر هي أحب إليه من عبادة أولئك وحصول مفاسد أخر هي أبغض إليه من معصية أولئك
ويجوز أيضا أن يقال : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون وكلاهما مرادة له تلك مرادة بأمره والموجود منها مراد بخلقه وأمره وهذه مرادة بخلقه والمأمور منها مراد بخلقه وأمره
وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : { إلا ليعبدون } قال : معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي واعتمد الزجاج هذا القول فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : لآمرهم وأنهاهم وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس قال : ما خلقتهما إلا للعبادة
وأما من قال : المراد : المؤمنون فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال هي خاص للمؤمنين
وأمامن قال : كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها فروي الوالبي عن ابن عباس : إلا ليعبدون : إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
وقال السدي : خلقهم للعبادة فمن العبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } هذا منهم عبادة وليس تنفعهم مع شركهم
وروى ابن أبي زائدة عن ابن جريج في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : إلا ليعرفون
روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي
وذكر الثعلبي عن مجاهد : إلا ليعرفون قال : ولقد أحسن في هذا القول لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ودليل هذا التأويل قوله : { ولئن سألتهم من خلقهم } الآيات قال : وروى حبان عن الكلبي : إلا ليوحدون فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء بيانه : قوله : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه وأقروا له بالعبودية طوعا وكرها
والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء لكن يقولون : ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به وإقرار به وعبودية له طوعا وكرها
وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعا وكرها وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم وأنه لم ينفك عنها أحد منهم مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر
وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم : إلا ليعبدون قال : جبلهم على الشقاء والسعادة
وكذلك عن وهب بن منبه : { إلا ليعبدون } قال : جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية ذكرهما ابن أبي حاتم ؟
وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره ونفوذ ميشئته فيهم وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال : إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
قال الثعلبي : ( فإن قيل : كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته ؟ قيل : إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه )
قلت : وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحا وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة
وأيضا فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى
وأيضا فإن قوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } دليل على أنه خلقهم ليعبدوه لا ليرزقوا ويطعموا بل هو المطعم الرازق وإطعامه لهم ورزقه إياهم هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم الذي قد جعله أهل هذا القول عبادة له فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين وهذا باطل
وأيضا : فقوله { ليعبدون } يقتضي فعلا يفعلونه هم وكونه يربيهم ويخلقهم ليس فيه إلا فعله فقط ليس في ذلك فعل لهم
ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول : إنهم كلهم عبدوه أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة كما أن قول القدرية الذين يقولون : إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف
والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه وفي تفسير القرأن بغير المراد وهو مما [ نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر : هذا قول : ألم يقل الله كذا ؟ وهذا يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ]
والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقهم ضروري فيهم وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري فيهم
وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
فإن هذه الآية فيها قولان : من الناس من يقول : هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم كما نقل ذلك عن طائفة من السلف ورواه بعضهم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقد ذكره الحاكم لكن رفعه ضعيف
وإنما المرفوع الذي في السنن كأبي داود و الترمذي و موطأ مالك من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر : هو أنهم استخرجهم ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا
ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم وفي حديث عمر وغيره أنه قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم
فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة ولا يدل عليه القرآن فإن القرآن يقول فيه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده وإن كان كثيرا كما قال تمام الآية : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }
وقال تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض } وقال : { ذرية من حملنا مع نوح } وقال : { ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون } إلى قوله : { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } فاسم الذرية يتناول الكبار
وقوله : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها : إقراره فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه
قال تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار
وفي حديث ماعز بن مالك : فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم أي أقر أربع مرات
ومنه قوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم
وقال تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم وهو إذا الشهادة على أنفسهم
ولفظ شهد فلان وأشهدته : يراد به تحمل الشهادة ويراد به أداؤها فالأول كقوله : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } والثاني كقوله : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم }
وقوله : { وأشهدهم على أنفسهم } من هذا الثاني ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره
كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها ولما ظن بعض المفسرين هذا قال : المراد أشهد بعضهم على بعض
لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه بمعنى أداء الشهادة على نفسه وهو إقراره على نفسه فالشهادة هنا خبر
وقولهم : { بلى شهدنا } هو إقرارهم بأنه ربهم ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه ولهذا قال في الآية : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فقولهم : بلى معناه : أنت ربنا وهذا إقرار بربوبيته لهم وهذا الإقرار هو شهادة على أنفسهم أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته
وقوله : ( أشهدهم ) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات كما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة }
ولهذا قال : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فهو يقول : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة فهو يذكر أخذه لهم وإشهاده إياهم على أنفسهم إذ كان سبحانه خلق فسوى وقدر فهدى
فالأخذ يتضمن خلقهم والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار فإنه قال : { أشهدهم } أي جعلهم شاهدين وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة كقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم
وهنا لم يقل : أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به فيكون هذا إقرار مشهودا به غير الشهادة سواء كان شهادة بعضهم على بعض كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم
فالشهادة هي الإقرار كما قال : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } وكما قيل لماعز : شهد على نفسه أربعا فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم أي مقرين له بربوبيته كما قال في تمام الكلام : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } فقولهم : بلى شهدنا هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده
كما يقول الملوك : هذا سيدي فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان فكل إنسان قد جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه
ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه وجعل علما ضروريا لهم لا يمكن أحدا جحده
ثم قال بعد ذلك : { أن تقولوا } أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين : عن الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية فإنهم كانوا غافلين عن هذا بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثير من الناس غافل عنها
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه بل لا بد أن يكون قد عرفه وإن قدر أنه نسيه ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد
كما قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وفي الحديث الصحيح : [ يقول الله للكافر : فاليوم أنساك كما نسيتني ]
ثم قال : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد
إحداهما : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل
والثاني : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فهذا حجة لدفع الشرك كما أن الأول حجة لدفع التعطيل فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم
وقوله : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } : وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا ؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا : نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية
كما قال صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا
وهذا لا يناقض قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإن الرسول يدعو إلى التوحيد لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة : إني كنت عن هذا غافلا ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا
والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب أحمد وغيره
طائفة تقول : إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين
وطائفة تقول : بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل وإن لم يرد سمع كما يقول ذلك المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم : أبي الخطابي وغيره
وطائفة تقول : بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم ولكن لا يعاقب أحدا إلا بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وفي قوله : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }
وقال تعالى لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }
وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم
وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } حجة على الطائفتين وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع
وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم

كلام أبي محمد بن عبد البصري
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد : ( فصل في الخلق على الفطرة قال : وخلق الله الخلق على الفطرة وهو قوله سبحانه : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهي الإقرار له بالربوبية مع معرفة الوحدانية وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه فخلقهم على ما علم منهم وشاء غير مؤمنين ولا كافرين صبغة بل مقرين عارفين لا موحدين ولا جاحدين وكذلك قد روي في الأثر بقول الله تعالى : خلقت خلقي حنفاء مقرين لا منكرين ولا موحدين وذلك إثبات ونفي الجبر فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم وله التحكم فيهم وهو أعدل من أن يضطرهم إلىكفر وغيره فيبطل بذلك الكسب وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان إذ التكليف لا يكون جبلا ولا يقع اضطرارا وجبرا ولا يكون إلا اختيارا إذ قد أمروا بها وأنزل الكتب وأرسل الرسل وكل ما منه حق غير عابث عدل غير ظالم عالم لا يخفى عليه شيء شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسبا لهم
وهو عادل في عباده : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } وقال عز من قائل : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } مع ما أنه لم يزل مالكا لهم وقادرا عليهم ومتصرفا فيهم لا غناء لهم عنه ولا محيص لهم منه فخلقهم عز و جل على الفطرة كما أخبر وخلق الأعمال كما ذكرنا ولم يضطر أحدا إلى شيء من ذلك ولو خلقهم كفارا صبغة لما قال لهم : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغة ويغير نفس ما خلق من غير كسب
وقال سبحانه : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } ولو خلقه كافرا لما صح منه الإيمان وكان معذورا مدليا بحجته والله تعالى يقول : { لا تبديل لخلق الله } وكان ذلك تكليف ما لا يطاق كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض والأبيض أسود وذلك مستحيل من حكيم
وأما قوله سبحانه : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } يعني : أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم وبالإخراج من العدم إلى الوجود فحقق فعله وقبل من رسله ووحد ربه ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه وأشرك به ما لا يجوز له وكذب برسله فصار كافرا بفعله
وقد روي نحو من هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ]
وقد قال تعالى : { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } فلما امتثل ذلك قوم وعدل عنه آخرون كانوا هم المرادين من قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن }
وقد قال سبحانه في حال المؤمنين { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم ولم يقل : خلقكم مؤمنين : وكره إليكم الكفر فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة : كافرين ولا مؤمنين )
إلى أن قال : ( وقد رأينا على الكفر برهة ثم آمن ومن كان مؤمنا ثم كفر ولو كان ذلك صبغة لما انتقلوا ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل وقد قال تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } فأضافه إليهم حقيقة
وقال : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا } ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفارا نفعهم إيمانهم ؟
ولما قال فرعون ( آمنت ) لم ينفعه
وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله صلى الله عليه و سلم : [ ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه على ما أمرهم به من الإيمان فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه وفعل فعلوه ونهي ارتكبوه وأمر خالفوه وهو ما أحدثوه لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له ولا خلقوا مجبولين عليه إذ لو خلقهم كفارا لكانوا إلى ذلك مضطرين ولم يقل بذلك أحد من المسلمين ألاترى أنه لما خلقهم علىمعرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك ولم يثابوا على ذلك ؟ أعني : معرفة الربوبية وهي الفطرة ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى الإيمان ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختيارا
وقال سبحانه : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ولم يقل : منهم من خلقت مؤمنا ومنهم من خلقت كافرا
وقال سبحانه : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات وعليه توعدهم بالعقوبات وكون الكافر مخلوقا كافرا صراح بالجبر ومن قال : ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر فهو قدري رديء وقد لعنت القدرية والمرجئة وكذلك المجبرة والله لا يجبر أحدا على فعل إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة
وقد قال سفيان و أحمد وسهل و الإمام وأهل العلم : ( إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها )
إلى أن قال : ( قال سبحانه : { وما ربك بظلام للعبيد } مع كونه سبحانه فعالا لما يريد وليس معنى ( شاء ) معنى ( علم ) ولا معنى ( علم وشاء ) معنى ( خلق ) فشاءهم وعلمهم وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة وهي العواقب التي لم يزل بها عالما وعليها قادرا ولها شائيا ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفارا ولا إقرارا للزوم المطالبة والعبودية ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم ويطالبهم كما زعم أهل الإجبار من ضرار وأصحابه وسالكي البدعة والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان والمغترين المحيلين على الأقدار والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة والعواقب مشهودة وأعمالهم في القبضتين داخلة وإلى المعبود صائرون وعلى اكتسابهم محاسبون وبها مؤاخذون
قال أصدق القائلين : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان ؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم وما قضى عليهم بما وجد منهم ولا شاء ذلك في ملكه ولا خلق أعمالهم ولا أحصى سكونهم وحركاتهم ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي مكابر معتزلي مدعي الحول والقوة وأن الأمر إليه
ومن زعم أن كلفهم صبغة وجبرهم على الأفعال وجعل كسبهم مجازا وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية وأعتى المجبرة وهو الغالي في دين الله المرجىء المحيل بمعاصيه على ربه وبفجوره على من تقدس عن كسبه بل تنزه عما يقول الظالمون ولم يزل عليما شائيا حكيما عادلا متفضلا منصفا محققا مجبرا خالقا آمرا ناهيا غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى ولا لها مهملا فخلق الكافر على الفطرة وخلق كفره وشاءه في ملكه ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه ولم يتوله بل تبرأ منه وتركه معه ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله وجعل له قدرة واستطاعة على كسبه وتركه مع هواه فلما دخل تحته واعتقده في نفسه واتصل به واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة والخلقة والكسب فصار بما اعتقد واكتسب كافرا وسمي فاجرا ولا هو لنفسه خالقا ولا لكفره مخترعا بل له مكتسبا وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما فصار لذلك مجانيا وخالط الكفر فصار فيه والجا فتوجه نحوه التهديد ولزمه الوعيد فألزمه ما اكتسب ورده إل ىما علم وأدخله في وعيده واستحق عقوبته وخلده بنيته : { وما ربك بظلام للعبيد }
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله عز و جل : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ]
وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه يسفر عن إيضاح ما أوردناه حنفاء عارفين على فطرته وهي معرفة ربوبيته والإقرار بوحدانيته لا يقع بذلك كفر ولا إيمان بل ذلك عليهم طارىء بالحكم الجاري فخلق الكل على الفطرة وأمر الكل بالإيمان لصحة الدعوة وعموم النصيحة وأقدر الكل على ما أمر وأراد )

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الكلام يوافق قول من قال : خلقهم على الفطرة التي هي المعرفة والإقرار بالصانع وأن ذلك لا يصير به العبد مؤمنا ولا كافرا وقد أبطل من يقول : إنهم خلقوا على الكفر والإيمان وهو ظاهر القول الذي تقدم عن طائفة من العلماء وصاحب هذا الكلام يقول : الذي خلقوا عليه من المعرفة والإقرار لا يمكن تغييره وهذا موافق لقول من قال : لا تبديل لخلق الله - إنها بمعنى الخبر لكن ذاك يقول : إنهم لا يخلقون إلا على الفطرة لا يبدل الخلق فيخلقون على غير ذلك
وصاحب هذا الكلام يقول : لايبدل الخلق بعد ذلك أي : لا يمكن أن يصيروا غير عارفين مقرين بالخلق بل هذه المعرفة والإقرار أمر لازم لهم وهو يقول : كل ما خلق عليه العبد فلا يمكن انتقاله عنه وهو يثبت القدر وأن الله خالق أفعال العباد وينكر أن يكونوا جبلوا على ذلك واضطروا إليه أو جبروا عليه
فأما الكلام في الجبر فهو مبسوط في غير هذا الموضع وقد بينا أن مذهب الأئمة كالأوزاعي و الثوري و أحمد بن حنبل وغيرهم أنهم ينكرون إثبات الجبر ونفيه معا ومذهب الزبيدي وطائفة : نفي الجبر وإنكار إثباته فقط وهو موافق لهذا الكلام
وأما ما حكاه أحمد ونحوه : أن الله لا يجبر على طاعة ولا معصية - فهو حكاه بحسب ما بلغه واعتقده والمنصوص الصريح عنه الإنكار على من قال : جبر وعلى من قال : لم يجبر
وفي الجملة الكلام في هذا الباب له موضع آخر والمقصود هنا ما ذكره في تفسير الفطرة وأنه فسر ذلك بأن الخلق فطروا على المعرفة والإقرار
وأما قوله : ( إن ذلك ليس بإيمان وإن ذلك لا يمكن تحويله ) فقد قدمنا الكلام على ذلك وبينا أن النصوص تدل على أن ما ولدوا عليه يتغير وإن كان ذلك بقضاء الله وقدره كما تغير الشاة المولودة سليمة بجدع الأنف والأذن والمقصود هنا كلامه في أن المعرفة بالصانع فطرية ضرورية وقد بسط ذلك مستوفيا في أول كتابه
وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم و أبي طالب المكي وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف واتباع السلف وأئمة السنة والحديث كمالك و سفيان الثوري و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و عبد الرحمن بن مهدي و الشافعي و أحمد بن حنبل وأمثالهم وكذلك ينسبون إلى سهل ابن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ

تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد قال : ( وكان إجماع السلف والخلف وأئمة الدين وفقهاء المسلمين من شرق وغرب وسهل وجبل وسائر أقاليم الإسلام من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين : على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة : سبعة متعلقة بالشهادة وهي مما يدان بها في الدنيا وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة
فالتي في دار الدنيا : القول مع الاعتقاد بأن الإيمان : قول وعمل ونية والإيمان بالقدر خيره وشره وأن القرآن غير مخلوق وتخيير الأربعة على الترتيب وإثبات الإمامة وترك الخروج على أحد منهم والصلاة على من مات من أهل القبلة وترك المراء والجدل
والمتعلقة بالآخرة : الإيمان بأحكام البرزخ والآيات التي بين يدي الساعة والبعث بعد الموت ورؤية الله تعالى والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان وخلود الدارين فمن خالف شيئا من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم وسنتكلم على كل مسألة بذاتها ونقيم الدليل على ذلك من كتاب وسنة ونظر وبه التوفيق والمعونة وهو حسبنا ونعم الوكيل لا غناء بنا عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك إذ قد أدبنا وعلمنا كيف نقول فقال : { إياك نعبد وإياك نستعين } إثباتا للمجاهدة وفقرا إلى المعونة منه سبحانه
فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار )
قلت : كأنه بالعكس وأظن الغلط في النسختين : المعتزلة ( وقال ابن كلاب وطائفة : جميعها اكتساب وقول أصحاب الحديث : إن منها اضطرارا ومنها اكتسابا وكان الأصل في ذلك أن المعرفة اسم لاضطرار ومكتسب وكأن الاضطرار راجع إلى معرفة الربوبية والوحدانية والمكتسب راجع إلى المريد ونحوه
فصل : في معرفة الوحدانية التي جبل الرحمن الرحيم الخلق عليها وبه نستعين أما معرفة الوحدانية فهي معرفة الصانع القديم المخترع لأعيان الأشياء والمتمم تصويره لها على غير مثال ولا بد لكل مخترع أن يعرف المنعم عليه بالإخراج من العدم إلى الوجود وهي غير مكتسبة لأنها تعم من يصح منه الكسب ومن لا يصح منه وهي ضرورة لا اختيار فيها كما لا كسب فيها ولا يتوصل إليها بالأسباب
دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } يعني : وما من شيء إلا يسبح قال ابن عباس : حتى النبات الذي خلقه يسبح بحمده
وقال عكرمة : لايسبن أحدكم ثوبه ولا دابته فما من شيء إلا يسبح بحمده وروي أن صرير الباب بالتسبيح
وقال سبحانه : { يا جبال أوبي معه والطير } وقد روي : سبحي
وقال سبحانه : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون } يعني : صاغرون
وقال سبحانه : { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } الآية
وقوله سبحانه : { سبح لله ما في السماوات والأرض } وسبح إخبار عن ماض وآت وإعلام لنا أن كل شيء يسبح بحمده ويسجد لعظمته ويعترف بألوهيته ووحدانيته ولا يجوز أن تسجد الأشياء وتسبح لمجهول وكذلك اعترافها بفضائل رسله وما استفاض من مخاطبات الجمادات له صلى الله عليه و سلم وسلامها عليه وحنينها إليه ومخاطبة الأنعام والوحوش والطير والصغار في المهود وغير ذلك
قال صلى الله عليه و سلم : [ إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث ] فذكر معرفة بارئها
وهذه الأشياء مما لا يصح فيها الاستدلال والنظر ولا عقول ولا اختيار ولا كسب وقد عقل معرفتها لبارئها عز و جل وثبت بالكتاب والسنة وهذا ظاهر جلي ينفي وجود هذه المعرفة بالوسائط لأنها حق له عز و جل ينفي عن نفسه ما شمل سائر البرية من المعلوم والمجهول لأنه سبحانه خلق الأشياء مجهولة ثم جلاها بالأسماء فعرفت من بعد جهلها وذلك دليل الحدث فعز عن أن يكون كالحوادث التي عرفت بغيرها
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها : وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول وكل تام بغيره معلول ولقد أحسن فيما قال وأصاب إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه الذي ارتفعت عنه تغيره الذي لولاه لم يعرف فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره إلى من ارتفعت عنه علة المجهول والغير علة والعلة لا تصحب إلا معلولا
قلت : وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي فقال : ( المعنى : أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو فصار زيد مفتقرا إلى وجود عمرو واسمه لزوال الجهالة عنه به وباسمه والمعنى : أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها بخلاف الواحد الذي لا نظير له ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها بل العباد مفترقون إليه وإلى معرفته )
قال : وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه )
قال الشيخ أبو محمد بن عبد : ( فعز ربنا أن يقوم بالعلل فيصير دليلا بعد ماكان مدلولا ) هكذا رأيته في الكتاب وإنما أراد : ( فيصير مدلولا بعد ما كان دليلا )
قال : ( وقد جاء في الأثر : يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة : أنا الدال على نفسي ولا دليل أدل علي مني وقد روى : كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فأظهرت خلقا وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني وهذ نص بإزالة العلل لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره كان إثباته تخييرا وتلك علل الحوادث فهو الثابت بثباته المعروف بنفسه لم يعرف من بعد جهل إذ ذاك تغيير عن الأزل فهو المعروف أزليا والعارفون محدثون كما أنه إله لم يزل والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون ولا يجوز على الإلهية تغيير ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة فتلزم مكلفا وغير مكلف )
قال : ( والفصل الثاني : معرفة الربوبية وهي خاصة للمكلفين من بني آدم وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم وهي ضرورية أيضا وهي عن رؤية وهي قوله سبحانه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } وهذا في غير وقت الكسب والتكليف فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف فأقر الكل له بتلك المعرفة إذ عاينوه جبارا قهارا وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد لأنها إقرار للضرورة وليس للكافر فيها اختيار إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها كما جحد معرفة التوحيد ولو كانت كسبية لوقع له بها إيمان وثواب بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده قال تعالى : { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون }
وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال سبحانه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } مع آيات كثيرة وذلك موجود منهم ضرورة وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه ويقولن : إلهنا القديم والعتيق وإله الآلهة ورب الأرباب وغير ذلك مع كفرهم
فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها وهو قوله تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقول : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } يعني : معرفة ربوبيته
وقد جاء في الأثر : يقول الله تعالى : ( خلقت خلقي حنفاء مقرين ) يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته وأقروا له بمعرفة ربوبيته وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء وهو قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وقول صاحب الشرع : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ] لم يقل : حتى يقولوا : إن ربهم ربا إذ هم عارفون بذلك وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا وقبل ذلك الموحدون فقال في حال المؤمنين : { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } وقال في حال الكفار : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل }
فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية إذ لكل معرفة مقام فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال لكان مكلفا لهم شططا إذ لايصح من الكل النظر والاستدلال ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط
وحديث الجارية فمشهور وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء لأنه لو خطابهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف )
قال : وقد [ قال له أبو ذر رضي الله عنه : يا رسول الله بماذا أقول : عرفت الله ؟ فقال : إنك إن قلت بمن فقد أشركت وإن حلت كفرت وإن وسطت واسطة ضللت ]
وقد قيل لعلي رضي الله عنه : بم عرفت ربك ؟ فقال : بما عرفني نفسه لا يشبه صورة ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس
وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال : يا ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته ؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين
وقول الصديق الأكبر : ( سبحان من لم يجعل للخق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته )
فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجودة فيه فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء والمعلوم الذي لا يجهله شيء فمن كانت معه معرفتان فهو كافر وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان وهو الفصل الثالث : وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها وبعثوا بها وكلفنا قبولها وهي قوله : { وإلهكم إله واحد } وهو قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وأخبرنا أنه ما كان معذبا قبل بعثتهم فكانوا يعرفون أن لهم ربا وإلها ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه وبه وقع منهم الكفر
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد ولا يزيل ضرورتهم وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف وهي ما وقفتنا الرسل عليه ودلنا عليه سبحانه ووفقنا لذلك وبها يجب الخلود في الجنة وبعدمها يجب الخلود في النار وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة لأن هذه المقالة تضاهي مقالة البراهمة حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولا وإن كان العقل حجة فهو باطن والرسل حجة الله ظاهرة
وقد قيل لبعض العارفين : بم عرفت الله ؟ قال : بالله فقيل : فأين العقل ؟ فقال : العقل عاجز يدل على عاجز
وقد جاء في الأثر : إن الله سبحانه لما خلق العقل وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال : عرف بالعقل - فقال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر فقال : عزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي وبك أعرف فتعلق الخصم بهذه الكلمة وتمام الحديث : فطفق لا ينطق فكحله بنور العزة فقال : أنت الله الذي لا إله إلا أنت فلم يعرف العقل الله إلا بالله
وإذا كان الله معروفا من طريق التوحيد بالعقل فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول - يقول الله عنهم إخبارا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } ؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم
وقال سبحانه : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم } الآية وأخبر عنهم أنهم يقولون في النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } لا خلاف أنهم كانوا ذوي أسماع لا يسمعون بها وكذلك عقول لا تغني عنهم ولا يستعملونها فلم تكن مغنية لهم مع تكذيبهم الرسل فبوجود الرسل صح التكليف وبالعقل تمثيل ذلك بعد التوفيق وليس للعقل مدخل فما تقدم من المعارف وإن كان له ها هنا مدخل فالأصل الرسل والعقل اتبع ذلك
وأما العقل فله مدخل بالغ في معرفة المزيد وكذلك العلم فالعلم بيان الله والعقل حجة الله والرسل هم الحجة الظاهرة المبلغة عن الله مراده والمخبرة بأمره والداعية إلى سبيله ولما كان سبحانه لا سبيل إليه ولا عقول تشرف عليه ولا لنا طاقة إلى استماع كلامه لم يكن بد من بعث الرسل لنعلم بها مراد الربوبية منا
وليس هذا للعقل وإنما للعقل الزوائد والتصرف في المراد المخبر عنه الرسل فعم سبحانه بمعرفة وحدانيته سائر ما ابتدع وخص بمعرفة ربوبيته بني آدم كما كرمهم وخص بمعرفة توحيده المؤمنين وخص بمعرفة المزيد خواص المؤمنين
وفي هذه المعرفة يتفاوت الناس فمن كان معه معرفتان كان كافرا ومن كان معه ثلاث فهو مسلم فإذا كان أربع كان مؤمنا فإذا كانت معه خمس كان مؤمنا عالما ثم يفاوتون في معرفة المزيد على قدر أحوالهم وصدق الهمم واتباع العلم وقوة اليقين وصفاء الإخلاص وصحة المعتقد ولزوم السنة
فالعقل والعلم والنظر والاستدلال والافتكار والاعتبار يكشف عن معرفة المزيد التي يتفاوت فيها العبيد فمن جعل حكم معرفة في أخرى فقد غلط غاية الغلط وأوبقه الجهل ورماه في بحر الحيرة ونقض الآثار إذ قد ورد في بعضها أنه عرف بنفسه وفي بعضها بالعلم وفي بعضها بالعقل وغير ذلك
فدل على أن كل معرفة لها حكم ومصدر ومقام وحال فللكل معرفة الوحدانية والربوبية وليس للكل معرفة التوحيد
وإذا عمت معرفة التوحيد المسلمين فليس لكل المسلمين معرفة المزيد وإذا زعم الخصم أن المعارف المتقدمة وجبت - أي حصلت - بالنظر والاستدلال - فذلك مكابر معاند
فإن احتج بقوله تعالى عن الخليل : { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } إلى قوله : { إني بريء مما تشركون } فتلك حجة على الخصم لا له لأنه لو عرف بالنظر والاستدلال لما صح له أن يقال : إني بريء مما تشركون ولم يحكم النظر والاستدلال ولا يقول : إني بريء مما تشركون وإني وجهت وجهي إلا عارف بربه

تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه بقوله تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد وإنما الإله الذي خلقكم ولمعرفته فطركم :
هو الذي أخبر عنه بقوله : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر فإنما المراد به الاستفهام )
قلت : وذكر ابن عبد أشياء وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت وكلام مستدرك فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية
إلى أن قال : وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه ومذكرا لهم الميثاق الأول ردا لهم إلى ضرورتهم ليصلوا إلى ما انعجم عليها بما هو ضرورتهم وكوشفوا به وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كم حكي فأين محل النظر والاستدلال ؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره حتى يلتبس على الخليل الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين ؟ ! نعوذ بالله من الحيرة في الدين
لا جرم وقال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولا بعقل وهو الذي لا يدركه عقل ولا يحيط به إحاطة وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير لا إلى من : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فعرفنا أن لكل أثرا مؤثرا ولك بناء بان ولكل كتابه كاتب من ضرورتنا إلى ذلك كما عرفنا اضطرارا أن السماء فوقنا والأرض تحتنا ومعرفة وجودنا وغير ذلك إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز كيف في عدمه وعجزه ؟ ! )
قال : ( والفصل الرابع : وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال وخالص الأعمال مدلول عليها وإن كان الأصل فضل الله المحض
قال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقد روى : معرفة { وزدناهم هدى } { ولدينا مزيد } { لئن شكرتم لأزيدنكم } فوعد بالزيادات وأخبر عنها فكلما نصحوا فيما عرفوا كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول
وفي الحديث : [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ( جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أراد عزا بلا عشيرة وغنى بلا مال وعلما بلا تعلم فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله فإنه واجد ذلك كله ]
وقد روي : [ إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله سبحانه بقلبه ملكا يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه ]
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله - : ( احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون فإنه يتجلى لهم أمور صادقة ) فكلما استعمل العبد عقله وعمل بعلمه وأخلص في عمله وصفا ضميره وجال بفهمه في بصيرة العقل وذكاء النفس وفطنة الروح وذهن القلب وقوى يقينه ونفى شكه وضبط حواسه بالآداب النبوية وقام على خواطره بالمراقبة وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال وصار الصدق وطنه وذهب عنه الرياء والعجب وأظهر الفقر والفاقه إلى معبوده وتبرأ من حوله وقوته ولزم الخدمة وقام بحرمة الأدب وحفط الحدود والاتباع وهرب من الابتداع زيد في معرفته وقويت بصيرته وكوشف بما غاب عن الأعيان وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة ولا أيضا معرفة التوحيد إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد وعلى معرفة المزيد إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها وأقامها مع مقدرتها لم يكلفها فوق الطاقة ولا شططا فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار وذلك غلط وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب وذلك أيضا غير صواب وبه يقول القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم وأصحاب الحديث وأهل الظاهر فيقولون بالاضطرار والاكتساب
والأمر هو ما ذكرنا والصواب ما شرحنا لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة نصرح بإبطالها ونومي إلى تناقض الأحاديث فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا
فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده وما سواه محدث وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطرارا وجبلا وكذلك لما اضطرهم في الذر وخاطبهم كفاحا في غير زمان التكليف لم يجز أن يكون ذلك بكسب فلما أرسل رسله وأنزل كتبه وتعرف على ألسنة السفراء لم يصح أن يكون ذلك جبرا ولا ضرورة فيسقط التكليف ولا يكون ذلك موقع الحكمة ولا ثبوت حجة : { وما ربك بظلام للعبيد } وهو الفعال لما يريد ذو الحكمة البالغة والعدل الشامل والفضل الذي يختص به فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته من حيث يعرف ومن حيث توحيده ومن حيث وصف ووقف ومن حيث المزيد من حيث استعمل ووفق واختص وتفضل فلكل معرفة مقام ولكل مقام حكم فعم بالأول وأفراد بالثاني واختص بالثالث من مقامات المعارف فمعارف البلغاء بالإصابة ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام ومعرفة الفقه للعلماء والحديث للرواة والفراسة للحكماء والمزيد للأنبياء والأولياء مع مشاركتهم للغير في المعارف لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا فلما استوى الكل في كونهم أحداثا مربوبين استووا في تلك المعرفة ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص تباينوا وتفاوتوا في المعارف وما يعقل ذلك إلا عارف ولا ينكره إلا جاهل فوصل الكل إلى معرفة الربوبية ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد وهو أن يعرف الله حق معرفته
قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وقد روي : ما عرفوه حق معرفته
وقال صلى الله عليه و سلم : [ لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل وما وصل أحد إلى ذلك قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : ولا أنا الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله ]
هذا وهو أعرف الخلق بربه الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة
وقد كان يقول في مناجاته : [ اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة ومنك رهبة ] وهذا طلب الزيادة في المعرفة كما أدبه : { وقل رب زدني علما }
وقد كان الشبلي يقول : ( ما عرف الله أحد حقيقة ) يعني لو عرفوه حقيقة ما اشتغلوا بسواه
وكان الواسطي يقول : ( كما به كانوا كذلك به عرفوا ) وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته :
( به عرفوه فاهتدوا لرشادهم ... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا )
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في كلامه : [ والله لول الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ] الحديث )
قال : ( فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه ولو كان الحكم واحدا والمعرفة واحدة لاستووا وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا مع تصحيح الآثار ومذاقات ألفاظ الرجال فهو أجل أن يجهل وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف أو تبلغه بصائر ذوي البصائر : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }
ومعرفة الرب بربوبيته إذ ربوبيته ظاهرة لا يدعها جاحد ولا يقدر أن ينكرها معاند إذ هو أجل أن يخفى وأعز أن يقاس وأعظم أن تشرف عليه العقول أو يتناوله معقول ليس في حيز المجهولات فيستدل عليه ولا مضبوط بالحواس فتصل الأفهام إليه فعرفناه بما تعرف ووصفناه بما وصف إذ به عرفت المعارف ووجدت الدلائل فعرفنا نفسه وعرفنا رسله بما أظهر على أيديها من المعجزات والبراهين والآيات وتعرف إلينا على ألسنتهم كيف نوحده ونشكره ونعبده إذ لا وصول لنا إلى مراده منا إلا بما أرسل وعلم لتكون المملكة معذوقة بمالكها ونوحده بما وحد به نفسه ونثني عليه بثنائه ونشكره كما علمنا على آلائه إذ هو الغني عن كل شيء وكل شيء إليه فقير قال الله : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } فلفقرنا لم نعرفه بنا ولغنائه عنا عرفناه به وجعل لنا الزيادة في الكسب والتوصل بالأسباب ومنه البداية وإليه المنتهى فكل من ألزمنا بسبب عكسنا عليه ذلك السبب وتسلسل الأمر وإلى الله ترجع الأمور : { وإليه يرجع الأمر كله } فلا مجهول فيستدل عليه ولا متوقع فيرتقب فللرسل تأثير في العبادات وللاستدلال تأثير في المكونات وللعقول تأثير في المدبرات وللرياضات تأثير في المكتسبات
وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقد روي : ليعرفون فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله ؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية فقالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } فما أريد منهم أن يقع بهم علل وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف )

تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال : ( فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها وأجملت وجهلت الحكم فالتبس عليها الحكم واختلفوا بما يصاب ؟ : بالعقول أو الاستدلال أو بالإمام ؟ فقال بعضهم : أصل المعرفة معرفة الإمام ومنهم من يقول : أهل البيت يعني معرفتهم والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه من حلال وحرام وفرائض ومندوبات و أحكام وسنن
وقال بعضهم : هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك
واختلفوا : أي وقت تقع ؟ فمنهم من يزعم : قبل البحث والنظر ومنهم من قال : بعد البحث والنظر وقوم يقولون : بعد البلوغ ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر وكلام يكثر ذكره ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية فجعلوا معرفته بأسباب وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية والربوبية لا تدنسها العلل ولا يقع عليها غوامض الفطر فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحا لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة
قال سبحانه : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده وقام على مراعاة ما شرعه له وتعرف به إليه واتكل في المعرفة عليه وأسند جميع أموره إليه ذكره ما سلف من الحال وكشف له عن العواقب والمآل فزهد فيما يفنى وزادت رغبته فيما يبقى وصار للإله موحدا خائفا ومصدقا راجيا ومن قصر في رعايته وخلط في سعايته وسلك محجة التفريط ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله جمت عيوبه وكثرت ذنوبه فملكه هواه فأعماه وأراده ولم يبلغ مناه فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف فحصل في جملة من خان وعاند ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار ولم يكن بخارج من ضرورته )
قال : ( وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية كمعرفة الإنسان بوجود نفسه فالربوبية أولى بذلك وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام والجمع والتفرقة وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم ومعرفة الشرع للفقهاء والمعرفة التي هي الحجة والبرهان والنور والبيان للعلماء البلغاء الحكماء ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب ويكاشفهم بالغيوب إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم وهم المكاشفون بنور اليقين وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين المخصوصون بالحقائق والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته لأهل صفوته وولايته فلكل قوم مقام ولكل مقام علم ولكل علم حكم وكذلك المعارف على أحكام ومقامات فلا يتعدى بمعرفة مقامها )
قال : ( وقد قيل لأبي الحسين النوري : كيف لا تدركه العقول ؟ فقال : كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له ؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له ؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف
وقال الواسطي : كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه وقال الشبلي : الحق لا يعرف بسواه وقال النباجي : طوبى لأهل المعرفة عرفهم نفسه قبل أن عرفوه )
قال : ( صدق أئمة الدين وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي وهو الهادي إلى معرفته والمتعرف بنفسه إلى بريته إذ ضلت العقول والفهوم والعلوم والأوهام في تيه التيه أن تتوهمه والأفكار والأضمار ان تدركه لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل حيث وتقدير وعجز عن توهمه كل فكر وضمير وردعت العقول فلم تجد مساغا فرجعت كليلة ورجع الوهم خاسئا وهو حسير )
إلى أن قال : ( بل هو المعروف بما تعرف والموصوف كما وصف فتعرف إلينا بربوبيته ووصف لنا توحيده ووحدانيته وأقسم على ذلك بقوله تعالى : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } وهو الصادق في خبره وشهادته إذ هو الواحد في الحقيقة الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء فأوقفتنا السفراء على توحيده الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه فالأصل منه ثم السفراء { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة والعلم الذي هو الحجة وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول ليكون أقوى في البرهان وأبلغ في البيان
قال سبحانه : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا وصدق الله في خبره وصدقت الرسل )
وتكلم على هذه الآية وعلى قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } بما يناسب ذلك إلى أن قال : ( قال سبحانه : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء }
وقال سبحانه : { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل }
وقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا } مثلا لمن عبد غيره إذ ضرب العبد مثلا لمن عبد من دونه لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك لا يقدر على شيء : لا نفعا ولا ضرا ولا خلقا ولا أمرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ومن رزقناه : جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سرا وجهرا فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون فعز من لمن يشارك في قدرته وجل من لم يرام في وحدانيته وتعظم من تفرد بالربوبية فجل أن يكون له شريك في خلقه )
إلى أن قال : ( فخلقهم على الفطرة وبعث إليهم السفراء وعلمهم العلم وركب فيهم العقل بالفكر فبالفطرة عرفوه وبالواسائل عبدوه فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته ولولا إرسال الرسول مع ما خاطبنا به ووقفنا عليه ووفقنا له ومن علينا به وكتب في قلوبنا واختصنا - ما عرفنا توحيده ولا كيف نطيعه
ولو لا ما ظهرت من الآيات والمعجزات التي أظهرها على أيدي الرسل بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها لم نعرف رسله
ولولا زوائد الأعمال وتصحيح الأحوال والعلوم والفهوم والمعارف وأسرار مقامات القوم وحلاوة أذواقهم والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد
وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته واعترف له بنعمه وإخراجه من العدم إلى الوجود ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها وكمال صورته وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده فصدق رسوله وحقق ما سلف من عهده ورجع إلى ضرورته واعترف بوحدانيته فأبطل ما سواه ولم ير إلها إلا إياه ولكن لما جهل النعمة وزاغ عن العهد ونكث في إقراره وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن وأفضل النعم : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فتركه مع هواه فكان هلاكه في مناه وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه وشكرها قبول ماجاء به الرسول : قول وعمل وإخلاص نية وإصابة سنة ولزوم قدوة وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة فكلما نصح في مزيد رفع إلى مزيد
قال سبحانه : { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
قلت : ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلا عليه وهذه هي الآية والعلامة وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم وبأن هذا ملزوم له
ولهذا قيل : إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى حتى تعرف دلالته عليه فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه بخلاف المعنى المركب فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين فنعرف أنه إذا قيل : قام فلان أنه فعل القيام القائم به فإذا قيل : زيد عرف أنه فعل القيام القائم به بخلاف مسمى زيد وأنه لا يعرف أن زيدا يدل على مسماه حتى يعرف أولا مسمى زيد فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور
وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا وتلك الأمور مستلزمة له وآيات عليه فكلما تصورت تصور المدلول عليه فيكون كما قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } تبصرة : إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولا فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف
كما قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل وتذكرة لما قد يحصل من غفلة وإن كان أصل المعرفة فطريا حصل في النفس بلا واسطة البتة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان : أقيسة وآيات فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي لا تدل على معنى معين
فإذا قيل : هذا محدث وكل محدث فله محدث قديم أو : كل ممكن فلا بد له من واجب فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه لا يدل على عينه بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة فإنه لم تعرف عينه فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق والايات تدل على عينه لكن كون الآية دليلا على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها
فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه بحيث يميز بينه وبين ما سواه كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل فلا بد أن يكون مشعورا به قبل هذا حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله
وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوبا لها وإذا كان مطلوبا لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء حتى يعلم أنه يلزم من تحقق الدليل تحققه وقد بسط هذا في موضع آخر وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوبا بالحد وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعورا به من بعض الوجوه فيطلب الشعور به من وجه آخر
ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفا بالمحدود إن لم يعرف أن الحد مطابق له وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد
وكذلك الدليل القياسي إذا قيل : كل مسكر خمر وكل خمر حرام فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة وإذا كان آية على شيء معين مثل كون الكوكب الفلاني كالجدي مثلا علامة على جهة الكعبة فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي والمدلول عليه وهو جهة الكعبة لم يمكنه الاستدلال لكنه عرف أولا الدليل والمدلول عليه ثم خفى عليه المدلول وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به كمن سمع مناديا ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه وقد أضل مكانه فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك
فالآيات الدالة على الرب تعالى : آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك
ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء وعلمه بأنه عالم به شيء وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث وكذلك إرادته وحبه شيء وعلمه بأنه مريد محب له شيء وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث
فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه وإن لم يتكلم بالنية ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها وهو غالط في ذلك
وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة ثم ينظر في دلالة الخبر فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر وهو قد كان قبل النظر عالما وقد يقال : إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه وهذا مما يبين لك أن كثيرا من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه وقد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا فإن كان فاسدا فهو لا يوجب العلم وهم يظنون أن العلم إنما حصل به وهم غالطون
بل العلم قد حصل بدونه وإن كان صحيحا فقد يكون مؤكدا للعلم ومحضرا له ومبينا له وإن كان العلم حاصلا بدونه
هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق وهو أجل المعارف عندهم من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلا لو كان ذلك الطريق صحيحا فكيف إذا كان فاسدا ! ؟
ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ]
فأما مجرد ذكر الاسم المفرد وهو قول القائل : ( الله الله ) فلم تأت به الشريعة وليس هو كلاما مفيدا إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه وإن كان ثابتا بأصل الفطرة وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية

كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد
والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد في الفقه تصنيفه لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول الإرشاد
قال لما ذكر التوحيد : ( الكلام بعد ذلك : المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع ؟ ) قال : ( فالذي نذهب إليه قول إمامنا : إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع ) قال : ( وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين فقال الأقلون منهم : إن المعرفة تدرك بالعقول مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها )
قال : ( والدليل على أنه تدرك بالسمع وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها : ان العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه يعلم ذلك كل أحد ضرورة فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك له اللامس الأراييح والشم لا يدرك به الشام الأصوات )
قال : ( وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلا إلى إدراك الأراييح ولا الشم سبيلا إلى إدراك المسموعات بل جعل كل واحد منهما سبيلا لإدراك ما خص به وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد والكلام في الرجل والنظر في اللسان لأن الجواهر من جنس واحد وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته ودليل تصوره كلام الذراع للنبي صلى الله عليه و سلم
وفي الآخرة إذا أنطق الله عز و جل الجوارح بقوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وبقوله : { ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة }
قال : ( فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلا إلى إدراك السواد والبياض ولا إلى إدراك المشام والطعوم بل جعل الله له سبيلا إلى التمييز بين الموجودات وإلى إدراك فهم السمعيات والفرق بين الحسن منها والقبيح والباطل منها والصحيح فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها ويعجز كل فاعل عنها وتحقق بصحة التمييز المركب فيه - إذا أراد الله هدايته - أن المحدثات لا تصنع نفسها علم أنها مفتقرة إلى صانع غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل ووقع له فهم في السمع وتحقق صحة الخبر وعرف الله من ناحية السمع لا من ناحية العقل لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز فيبقى أن يفعل الجماد نفسه ويقتضي بالشاهد على الغائب فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع )
قال : ( والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار فقال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يعني البصائر وقال : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل وقال : { ليتذكر أولو الألباب } فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلا إلى اعتباره دون غيره
ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت : أن الله عز و جل حجب عن الخلق - من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين - معرفة ما هو ولم يجعل لهم طريقا إلى علم مائيته ولا سبيل إلى إدراك كيفيته جل أن يدرك أو يحاط به علما وتعالى علوا كبيرا : { ولا يحيطون به علما } فمنع من أحاطة العلم به فلا سبيل لأحد إليه
وقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فنفى عن نفسه الأشبهاه والأمثال فمنع من الاستدلال عيه بالمثلية كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته ولا طريق له إلى علمه
ثم كلف جل إسمه سائر بريته وأفترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو ليعرف الخلق معبودهم ويعلموا أمر إلههم وخالقهم فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعا ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته وعلم ما كلفهم من معرفته علما منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال فقال تعالى : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقال : { ذلكم الله ربكم } وقال : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم } وقال : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }
قال : ( ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم ماكان لهم طريق إلى علم ذلك لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل )
قال : فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه : أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء ولا إلى معرفة المسمى لو لم يرد السمع بذلك ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل بعلم بطلان دعواه ضرورة )
وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه إلى أن قال : ( والمعرفة عندنا موهبة من الله وتقع استدلالا لا اضطرارا لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء )
إلى أن قال : ( فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع على ما نقول : إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم فتعرف إليهم على ألسنة رسله وأرسل الرسل بالدعاء إليه والدلاة عليه لكيلا تسقط حجج الله
وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم كقول نوح لقومه : { يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله } وكقول شعيب : { يا قوم اعبدوا الله }
وكذلك في قصص غيرهم من الرسل كل منهم يديم الدعوة لقومه فإذا قبض كان حكم شريعته قائما في حال الفترة إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه )

تعليق ابن تيمية
قلت : ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع : أحدها : هو الذي يعرف بالعقل والثاني : المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع والثالث : ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع
فالأول : المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية فإنما تدل على أمر مطلق كلي إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثا وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه فلا يكون في ذلك معرفة عينه ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقا كليا
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة حيث أثبتوا وجودا واجبا قديما ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه وأنه لا يكون إلا مطلقا وقد علم أن ما لا يكون مطلقا كليا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز وإن كان دليله لم يدله على عينه بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقا كليا أو قال ما يستلزم ذلك فإن هذا معطل له في الحقيقة
ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه فهذا قد علمه علما مطلقا وأما من قال : إن هذا النبي إنما يوجد مطلقا لا معينا فهذا قد نفى وجوده في الخارج فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام
ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع وإن أراد بذلك معرفة أخرى مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل فهذا أيضا يعلم بالسمع ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا ؟
وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهرا أو باطنا : إما بالإحساس بعينه أو بالإحساس بخصائصه فمن علم اسم شخص ونعوته أو اسم أرض وحدودها فإنه يعرف عينها بالرؤية : إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات
قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه و سلم التي نعت بها في الكتب المتقدمة ثم رآه ورأى خصائصه علم أن هذا هو ذاك لعدم الاشتراك في تلك الصفات
وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه وقد لا تكون بمشاهدة عينه بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو كما يعلم أن القرآن تلقي عنه وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها وأنه هو المذكور في الأذان وهو الذي يسميه المسلمون محمدا رسول الله وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة
وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة
لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من كل وجه وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه
فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره وأما القدر الفارق فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضا
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك
ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع وقد يحصل بالعيان وقد يحصل بالاستدلال والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين
ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر أو شهد شهود فرع على شهود أصل فإنه يعلم عين المسمى المنسوب كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة ؟ فيه نزاع بين الفقهاء
وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة وقد يكون بالمشاهدة الباطنة وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار
ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة فإن المبيع قد يكون معينا وقد لا يكون والمعين قد يكون مشاهدا فهذا يصح بيعه بالإجماع وقد يكون غائبا وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء وهي ثلاث روايات عن أحمد : أحدها : أنه لا يصح بيعه كظاهر مذهب الشافعي والثاني : يصح وصف أو لم يوصف كمذهب أبي حنيفة والثالث : وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد : أنه يصح بالصفة ولا يصح بدونها
ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله لأن حقه تعين في عين معينة وأما المبيع المطلق في الذمة فمثل دين السلم فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه كان للمستحق المطالبة بعين أخرى
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين كما لو نذر هديا بعينه فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه لم يكن عليه بدله بخلاف ما وجب في الذمة فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله
وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه وقد لا يكون مع العلم بعينه كالمبيع إذا كان مشاهدا فقد عرف المشتري عينه وإذا كان غائبا فهو معين في نفسه والمشتري لا يعرف عينه وإنما يعرف منه أمرا مطلقا سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه أو يحتمله ويحتمل غيره فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من صفتها كذا وكذا ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها وهذا بخلاف المسلم فيه فإنه لا يكون معينا ومتى كان معينا بطل السلم كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه أو زرع أرضا بعينها قبل بدو الصلاح كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه و سلم
وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان مثل أنه رب العالمين وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه بخلاف ما يمكن الشركة فيه
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال : إن عينه لا تعرف إلا بالسمع ويقول : التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم إنما يثبتون وجودا مطلقا لا يعين ولا يشار إليه بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين وهؤلاء يثبتون وجودا مطلقا كليا لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم
ولهذا يبقون في حيرة واضطراب تارة يجعلونه حالا في المخلوقات لا يختص بشيء وتارة يسلبونه هذا وهذا ويقولون : الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج لكنهم ضالون في ذلك وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنونا ثابتة في الأعيان ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم : هل هو شيء أم لا ؟ وفي مسألة الأحوال وفي مسألة وجود الموجودات : هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك ؟ والكلي الطبيعي : هل هو ثابت في الخارج أم لا ؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أمورا موجودة ثابتة في الخارج وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل وذلك ضلال
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة ليس مما لا يمكن الإحساس به لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت وفي الدار الآخرة
وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل فإن الدار الآخرة لهي الحيوان
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة لأن أحدهما معقول والآخر محسوس كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية ومن شركهم في بعض ذلك وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن والآخر غائب عنا لا نشهده الآن ولهذا سماه الله تعالى غيبا
قال تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } لم يسمه مقولا وقد بسط الكلام على هذا في موضعه
والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس إما بذاته وإما ببعض خصائصه والله تعالى يختص بما فوق العالم فالعباد يشيرون إلى ذلك ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم لا يشركه في ذلك أحد وهذا العلم قد يحصل بالفطرة وقد يحصل بالاستدلال والقياس وقد يحصل بالسمع من الرسل كما أخبرت بأن الله فوق العالم
ولهذا قال فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا }
ولهذا كان معراج نبينا صلى الله عليه و سلم إلى السماء وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه
وقد يقال : هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق كما يعرف عين الرسول صلى الله عليه و سلم من لم يشاهده بمعرفة ما يعرفه من خصائصه
وأما القائل : إن عينه لا تعرف إلا بالسمع فقد يقول : إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع
والناس متنازعون في كونه فوق العالم : هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل ؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة وهو قول ابن كلاب و ابن كرام وآخر قولي القاضي أبي يعلى أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه
فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا ويقولون : لم نعلم ذلك إلا بالسمع
ويقولون : لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع لكن كلامه أعم من ذلك
وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع كالصفات الخبرية أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية التي يوصف الله بها أو أراد بذلك أن كثيرا من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع
وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات أو أول الواجبات : المعرفة يقولون مع ذلك : إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي وابنه عبد الوهاب و ابن درباس وغيرهم كما قال من قال قبلهم : إنها لا تحصل إلا بالشرع
وهؤلاء يريدون بالعقل : الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة بل لا بد من أمر زائد على ذلك كما قالوا في استدلالهم : إن المعرفة لو كانت بالعقل لكان كل عاقل عارفا ولما وجد جماعة من العقلاء كفارا دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه ؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع
وأيضا فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية وهو أيضا يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع ولا يحصل عليها الإجماع وهوكما قالوا فإن الطرق القياسية العقلية النظرية وإن كان منها ما يفضى إلى العلم فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض تارة لدقتها وغموضها وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة
قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول

كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي
ولهذا قال هؤلاء المقررون لكون المعرفة لاتحصل بمجرد العقل ما قاله عبد الوهاب ابن أبي الفرج وغيره : ( إنا نقول إن المعرفة لو كانت بالعقل لوجب أن يكون كل عاقل عارفا بالله تعالى مجمعا على رأي واحد في التوحيد ولما وجدنا جماعة من العقلاء كفارا مع صحة عقولهم ودقة نظرهم - دل على أن المعرفة لم تحصل بالعقل لأن العقل حاسة من جملة الحواس فالحواس لا تختلف في محسوساتها ألا ترى أن ما يدرك بالنظر من أسود وأحمر وأخضر وأصفر وحيوان وحجر لا يختلف أرباب النظر فيه ؟ فدل على أن معرفة الله حصلت بمعنى غير العقل لوجود الأختلاف في المعرفة والاتفاق فيما طريقة العقل والحواس )

تعليق ابن تيمية
وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هومما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ ولذلك قالوا : لوكان العقل علة في معرفة الباري لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده وتعدم بعدمه كالمنظورات تدرك بوجود البصر وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات
ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمنا علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله ويحكم بجنونه وهو باق على المعرفة مقر بالتوحيد عارف بالله وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل
وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد وهذا مما لا ينازع فيه أحد فإن من يقول : إن المعرفة تحصل بالعقل يقول : إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة ولا بمجرد ذلك يصير مؤمنا
وهذا العقل هوالعقل الذي هو شرط في الأمر والنهي وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة كما قال تعالى عن أهل النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
وقال تعالى : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }
وقال : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وأمثال ذلك في القرآن
واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله }
وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له
احتجوا أيضا بما ذكروه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه به يعرف الله ويعبد وبه يمجد الله ويوحد هو إمام العمل والعمل تابعه يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم وينتهى إلى رأيهم ]
قالوا : فوجه الدليل قوله : ( به يعرف الله ويعبد ) وهذا الكلام معروف عن معاذ بين جبل رضي الله عنه رووه عنه بالأسانيد المعروفة وهو كلام حسن ولكن روايته مرفوعا فيه نظر وفيه : أن الله يعرف ويعبد بالعلم لا بمجرد الغريزة العقلية وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول
ومن يقول : إن المعرفة تحصل بالعقل يقول : إنما تحصل بعلوم عقلية أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل لا يقول : إن نفس العقل - الذي هو الغريزة ولوازمها - يوجب حصول المعرفة والعبادة
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل أيهما أشرف ؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية فإن العقل قد يراد به : الغريزة وقد يراد به : علم يحصل بالغريزة وقد يراد به : عمل بالعلم
فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر لكن قد يراد بالعلم : الكلام المأثور عن المعصوم فإنه قد ثبت أنه علم لقوله : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وأمثاله
ويراد بالعقل : الغريزة فهنا يكون أحدهما غير الآخر ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر
وأيضا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلا كما قيل :
( رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع )
( فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع )
( كما لا تنفع العين ... وضوء الشمس ممنوع )
وأما العمل لعلم وهو جلب ما ينفع الإنسان ودفع ما يضره بالنظر في العواقب فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة كالآثار المروية في فضائل العقل
ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان مرسلا : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم والعلم جزء مسماه ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به
وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة كما قال مالك بن أنس : ( الحكمة معرفة الدين والعمل به ) وكذلك قال الفضيل بن عياض و ابن قتيبة وغير واحد من السلف قال الشاعر :
( وكيف يصح أن تدعى حكيما ... وأنت لكل ما تهوى ركوب )
وقال آخر :
( ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم )
وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة لكن لكل أمة حكمة بحسبها كما أن لكل أمة دينا فاليونان لهم ما يسمونه حكمة وكذلك الهند وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك
ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا : لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علما والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به لقوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقوله : { ولا يحيطون به علما }
قال ذو النون المصري : العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق ) لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم
ولهذا كان السلف والائمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته كقولهم : ( الأستواء معلوم والكيف مجهول ) وهذا الكيف المجهول هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به
وقد قال ابن عباس : ( التفسير أربعة أوجه : تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله : من ادعى علمه فهو كاذب ) وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات : بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح وبين تفسير اللفظ وبيان معناه وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به وبالمعنى الثالث انفرد الله به وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها
ومما احتج به هؤلاء : القدر وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته

تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه
قال عبد الوهاب : ( وأيضا فإن الله قال في حق المؤمنين : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فاعلم أن الإيمان من تفضله وكتبه في القلوب فأي عمل للعقل بعد ذلك ؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل كالمسطور يدركه النظر وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة ) قال : ( ثم نقول : هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم ؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة ؟ فإن قال : بعقولهم فقد أكذبه الله تعالى بقوله : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة وإنما ذلك اختصاص من الله لهم كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع كالحياة والوجود )
قال والده أبو الفرج : قال بعض أصحابنا : عرف بنور الهداية وقال غيره : عرفنا نفسه بتعرفه والجميع واحد
قال : ( وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح فسئل بعضهم : أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به ؟ فقال : عرفت الله به وعرفت محمدا بالله ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله )
قلت : هذه الطريقة تصلح أن تكون ردا على القدرية من المعتزلة ونحوهم الذين يقولون : إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له وله هدى يسره له خصه به دون الكافر بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية حيث أرسل الرسول إليهما جميعا وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان وأزاح علةكل منهما
بل يقولون : إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختيارا كل ما يقدر عليه فيفعل به الأصلح في دينه وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه ولهذا قال لهم الناس : إذا كان الأمر كذلك وهما مستويان في أسباب الإيمان فلما أختص أحدهما بوجود الإيمان منه دون الآخر ؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته قالوا لهم : إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصا بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر
وأيضا فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله بل يجب عنده عليه فعله فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك ؟
وأيضا فإن الله تعالى قال : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآية فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان
والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه
فيقال لهم : أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين بقوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وقال في آخرها : { أولئك هم الراشدون } فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون والكفار ليسوا براشدين ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به
كما قال في أثناء السورة : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر لم يقل : إن كنتم صادقين فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء أولم يكونوا صادقين
وهذا كقوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار
كقوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا }
وقوله : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } ومثل هذا في القرآن كثير وليس هذا موضع بسط هذه المسألة ولكن المقصود التنبيه على المأخذ
فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه ويقولون : إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد لأن الواجب لا يكون إلا مقدورا للعبد ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها ولا له عليها قدرة وقد يقولون : إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره
ولهذا يقول من يقول منهم : إنه يمتنع أن تكون ضرورية لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب لكن هنا هم متنازعون فيه لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم ولا ثواب فيه ولا أجر لها
ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه ويثيبه عليه أعظم الثواب
فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه ونحو ذلك من العبارات يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية
وهذا صحيح لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم : إما إرشادا إلى الدليل العقلي وإما اخبارا بالحق الواقع
وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله
ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه وإن كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر فلا يمكن العالم العارف بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل أن يدفع ذلك عن قلبه اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان
وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان سواء حصل بسبب من العبد كنظره واستدلاله أو بسبب من غيره أو بدون ذلك هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره وهي من نعمة الله على عبده فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالا وهذا هو الذي أبطله هؤلاء
وقولهم : إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة كلام صحيح والشرط له مدخل في حصول المشروط به كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها
والعقل قد يراد به الغريزة وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك
وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر وله موانع تمنع حكمه كما أن الشمس سبب في الشعاع وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به وله مانع كالسحاب والسقف
والله خالق الأسباب كلها ودافع الموانع ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته : [ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ]
كما قال تعالى : ( { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وقال تعالى : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وقال تعالى : { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه }
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله
والقدرية لا يجعلونه من فعل الله بل يقولون : هو متولد عن نظره كتولد الشبع عن الأكل والري عن الشرب والجرح عن الجرح فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط كما يقولون في الأمور المباشرة
وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات فلم يجعل للعبد فعلا ولا أثرا في هذا المتولدات بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم ولم يجعل للعبد فعلا إلا ما كان في محل قدرته وهو ما قام ببدنه دون ما خرج عن ذلك
والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع
وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد وهو خالق للسببين جميعا
ولهذا كان العبد مثابا على المتولدات والله تعالى يكتب له بها عملا وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن
قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولدا فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات وكذلك غير الكافر
وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك ثم قال تعالى : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم } فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه : { إلا كتب لهم } ولم يقل : به عمل صالح
وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه : { إلا كتب لهم به عمل صالح } فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله
قال تعالى : { نكتب ما قدموا وآثارهم }
وقال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ]
وقال في الحديث الصحيح : [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ]
ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى كما قال تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }
وقال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم }
وقال : { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } وقال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين }
فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين فهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله بل هو من فعل العبد فقط وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر ردا عليهم
وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علما نافعا
وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم : هل هو بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلا ؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها ؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده وإذا حصل له علم بدليل عقلي فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه ثم يحدث العلم الذي حصل بها
وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه فلا حول ولا قوة إلا به
فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خذل ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم في الأحاديث الصحيحة كثيرا ما يقول : [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] ويقول في يمينه : [ لا ومقلب القلوب ] ويقول : [ والذي نفسي بيده ] ويقول : [ ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن وإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ]
وكان إذا قام من الليل يقول : [ اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ] وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم :
( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا )
وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده فيكون من المعاندين الجاحدين
قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }
وقال : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته فإنه لا حول ولا قوة إلا به كذلك فيما يكتسبه من العلوم ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح ولكن الشأن في تعيين الأسباب فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقا زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله
ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل تارة يقول : إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به وقد يعين طريق النظر كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة وكما فعل ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم
ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظرا في دليل والنظر الذي يوجبونه يكون نظرا فيما يعلم الناظر أنه دليل لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول وإذا كان عالما به لم يحتج إلى الاستدلال عليه فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق

كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر
ثم أن القاضي أبا يعلى في كتابه المعروف بعيون المسائل الذي صنفه في الخلاف من المعتزلة والأشعرية ذكر ما يخالف ذلك فقال : ( مسألة : مثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول خلافا للأشعرية في قولهم : لا تحصل حتى ننظر نستدل بدلائل العقول دليلنا أن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علمنا أن هناك مرسلا أرسله إذ لا يكون هناك نبي إلى وهناك مرسل وإذا ثبت أن هناك مرسل أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته ولأنه لما لم يقف وجود المعرفة على النظر في دلائل العقول بل وجبت بالشرع كذلك طريقها جاز أن يحصل بالشرع دون دلائل العقول ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ] فحكم بصحة إيمانهم بالدعاء إلى الشهادتين والإجاب إليها من غير أن يوجد منهم نظر واستدلال )
قال : ( واحتج المخالف بأن الله أمر بالنظر والاستدلال في دلائله فقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وقال : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
وقال : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها }
وقال : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } وإذا أمر بذلك دل على أن النظر يثمر المعرفة )
قال : ( والجواب أنا لا نمنع حصول المعرفة به وإنما كلامنا هل تحصل بغيره أم لا ؟ وقد دللنا على حصوله بغيرها من الوجه الذي ذكرنا )

تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : أما قوله : ( إن المعرفة يجوز حصولها بالشرع ) فهذا مسلم لكن حصولها بالشرع على وجوه :
أحدهما : أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع فتكون عقلية شرعية
الثاني : أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته التي بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }
وقوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
وقوله : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه

كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع
وأما كون مجرد الوجوب بالشرع فلا يدل على إمكان الحصول بمجرد الشرع
ونظير هذا استدلال طائفة كالشيخ أبي الفرج الشيرازي على أ وجوبها وحصولها بالشرع فقالوا : ( لا يخلو إما أن تكون معرفة الباري وجبت أو حصلت بالشرع دون العقل أو بالعقل دون الشرع أو بهما جميعا لا يجوز أن يكون ذلك بالعقل دون الشرع لما بينا
ولا يجوز أن يكون ذلك بالشرع والعقل لأنه لا يخلو إما أن يكون ما يعرف بالعقل يوجد في الشرع أو لا يوجد ولا يجوز أن يقال : لا يوجد في الشرع لأن الله تعالى قال : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وإذا كان ذلك موجودا في الشرع فلا حاجة بنا إلى ذكر العقل )

تعليق ابن تيمية
فيقال : هذه الطريقة تفيد أن ذلك موجود في الشرع ويستدل على ذلك بقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }
وقوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء }
وقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } ونحو ذلك مما فيه الاستدلال بذلك أجود من الاستدلال بقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } لأن الكتاب هنا في أشهر القولين - هو اللوح المحفوظ كما يدل عليه السياق في قوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء }
وإذا كان الشيء موجودا في الشرع فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها والقرآن ملآن من ذلك فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل فقد جمعت وصفي الكمال
وأيضا فإذا كان الشرع قد دل على شيء أو أوجبه وقدر أن في العقل ما يوافق ذلك لم يضر ذلك وإن كان قد يستغنى عنه فلا يطعن في صحته للاستغناء عنه
وأما كون النبي صلى الله عليه و سلم لم يطالب الناس بالنظر والاستدلال فهذا دليل قاطع على أن الواجب متأدى بدون الطرق التي أحدثها الناس وأبدعها
وأما الوجه الأول وهو قوله : ( إن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علم أن هناك مرسلا أرسله لكون ثبوت لارسالة يستلزم ثبوت المرسل ) فهذا لا بد فيه من تقدير وهذا الكلام الذي قاله من أن العلم بالرسول يتضمن العلم بالمرسل كلام صحيح فإن العلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف والمضاف إليه لكن المعترض يقول له : المعجزة لا تدل على الرسالة إلا بعد العلم بإثبات الصانع ثم يعلم بعد ذلك صدق الرسول إما لكون المعجز يجري مجرى التصديق والعلم بذلك ضروري في العادة وإما لكون المعجز لم يدل على الصدق للزم عجز الرب عن طريق يصدق به الرسول وإما لكون تصديق الكذاب قبيحا هو منزه عن فعل القبيح ونحو ذلك من الطرق التي سلكوها من سلكها من أهل النظر القائلين بأن صدق الرسول لا يعرف إلا بالمعجزة
والطريقان الأولان هما طريقا الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله والثاني هو طريق المعتزلة ومن وافقهم كأبي الخطاب وأمثاله
وأما القائلون بأن صدق الرسول يعرف بطرق أخرى غير المعجزة فلا يحتاجون إلى هذا وقد بسط الكلام على ذلك في موضعه
والمقصود هنا أن قول القائل : إن مثبتي النبوات تحصل لهم معرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول وإنا لا نمنع صحة النظر ولا نمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا : هل يحصل بغيره ؟ يحتاج إلى بيان حصول المعرفة لمثبتي النبوات
و القاضي في هذا قد سلك مسلك الخطابي كما قد كتبنا كلامه وقد قال : ( إنما يثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه : أحدها : ثبوت النبوات بالمعجزات التي أوردها نبيهم ) إلى قوله : ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في أنفسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله وإثبات صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن له صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته ) إلى آخر كلامه
وهذا الكلام يمكن تقريره بطرق :
أحدها : بأن يقال : الإقرار بالصانع ضروري لا يحتاج إلى نظر فإذا شوهدت المعجزات أمكن أن يعلم بها صدق الرسول
الثاني : أن يقال : نفس المعجزات يعلم بها صدق الرسول المتضمن إثبات مرسله لأنه دالة بنفسها على ثبوت الصانع المحدث لها وأنه أحدثها لتصديق الرسول وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم من العبد معرفة الإقرار بالصانع
وقد يقال : إن قصة موسى من هذا الباب قال تعالى : { كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }
وفي سورةطه : { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى } إلى آخر القصة
ففرعون كان منكرا للصانع مستفهما عنه استفهام إنكار سواء كان في الباطن مقرا به أو لم يكن ثم طلب من موسى آية فأظهر آيته ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعا
كما قال : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
ولهذا قال السحرة لما عارضوا معجزته بسحرهم فبطل سحرهم تبين أن تلك آية لا يقدر عليها المخلوقين : { قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } فكان إيمانهم بالله لما شاهدوا معجزة موسى صلى الله عليه و سلم فكانت المعجزة مبينة للعلم بالصانع وبصدق رسوله
وذلك أن الآيات التي يستدل بها على ثبوت الصانع تدل المعجزة كدلالتها وأعظم وإذا كانت دلالتها على صدق الرسول معلومة بالاضطرار كالمثل الذي ضربوه في أن رجلا لو تصدى بحضرة ملك مطاع وقال : إن كنت رسولك فانقض عادتك وقم ثم اقعد ثم قم ثم اقعد فخرق الملك عادته وفعل ما طلبه المدعي على وفق دعواه - لعلم الحاضرون بالضرورة أنه فعل ذلك تصديقا له
فمن المعلوم أنه إذا تنازع رجلان : هل داخل هذه الدار ناسخ يكتب خطا مليحا ؟ فأخذ المدعى ورقا أبيض ومعه شعر قد صنعوه في تلك الحال في ورقة أخرى وقال : إن كان هناك ناسخ فلينسخ هذا الشعر في هذه الورقة البيضاء فأخرجت إليهم الورقة البيضاء وقد كتب فيها ذلك الشعر - تيقنوا أن هناك من ينسخ
فكذلك من نازع في إثبات صانع يقلب العادات ويغير العالم عن نظامه فأظهر المدعي للرسالة المعجز الدال على ذلك - علم بالضرورة ثبوت الصانع الذي يخرق العادات ويغير العالم عن نظامه المعتاد
وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل على ثبوت صانع قدير عليم حكيم أعظم من دلالة ما اعيد من خلق الإنسان من نطفة فإذا كان ذاك يدل بنفسه على إثبات الصانع فهذا أولى وليس هذا الموضع بسط هذا
وإنما المقصود التنبيه على أن المعجزات قد يعلم بها ثبوت الصانع وصدق رسوله معا وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس حتى عامة فرق أهل الكلام قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم
وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام ولكن نازع كثير منهم في الواقع وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر وجمهور الناس نازعوه في هذا وقالوا : بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة

كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
و ابن الزاغوني ممن يقول بوجوب النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به حتى قال : ( فصل : إذا قال القائل : أنا أعتقد حدوث العالم والتوحيد وصحة الدين وأقر بالنبوة لا بطريق النظر ولااستدلال ولا عن نظر في حجة أو دليل لكن بطريق التقليد في ذلك أو مما سوى ذلك مما لا يستدل إلى معرفة ثابتة عن نظر في حجة أو دليل بحيث ينتهي الاستدلال إلى العلم الحق فهذا ليس هو بمؤمن ولا نحكم بأنه مؤمن عند الله ولا يثاب على هذا الإيمان بل هو معاقب ملوم على ترك ما أمر به من العلم بالله وصحة الدين والنبوة والنظر فيما يقتضي به النظر فيه إلى معرفته بذلك بطريق اليقين )
قال : ( وقالت طائفة : هو مؤمن عندنا وعند الله إذا صادق اعتقاده التوحيد والنبوة وما يجب عليه اعتقاده من الحق في المعارف الدينية سواء كان ممن يتهيأ له ذلك بطريق انقطع فيه بأدلته أو ممن لا يتهيأ له ذلك )
قال : ( وقالت طائفة : هو مؤمن في الظاهر عندنا ولا نعلم : هل هو مؤمن عند الله أم لا ؟ وقالت طائفة : نحكم بأنهم مؤمنون ما لم يخطر ببالهم ما يخالف ذلك من التشبيه والحيز وإبطال النبوات وأعراض الشبه في ذلك فإذا خطر لهم شيء من ذلك وجب عليهم النظر والاستدلال لدفعه وأن لا يتمكثوا ولا يتثبطوا عن النظر حتى يصلوا إلى عين الحق الرافع للشبهة فإن لم يصلوا إلى ذلك لم يؤدوا ما فرض عليهم من الإيمان علىحقه وإن عجزوا عن ذلك لم يكن عجزهم عذرا عن الوصول إلى حقيقة الحق )
قال : ( وقالت طائفة : لا يجب عليهم ذلك ويحل لهم البقاء على ما هم عليه وأن لا يعتقدوا في ذلك شيئا مع القيام على السنة )
قال : ( والدلالة عليه أنا قد قدمنا الدليل على وجوب معرفة الله وسائر المعارف الدينية : من التوحيد وصحة النبوة والدين وبينا أن حقيقة المعرفة إنما تكون بالعلم وأبطلنا أن يكون التقليد طريقا إلىالعلم وإنما يصل إلى العلم به واليقين فيه إذا خرج عن الشبهة العارضة الموجبة للشك الناقلة عن الحق وإذا ثبت ذلك بالأدلة المتقدمة فمدعي المعرفة مع ترك النظر والاستدلال - المؤدي إلى الدليل القاطع المتوقف على حقيقة التوحيد والمعارف الدينية - مبطل وإذا كان مبطلا في معرفته لم نحكم بإيمانه لأن الإيمان ها هنا هو التصديق وإنما يصدق بما يزول معه الشك ويبرأ من عهدة الاشتباه ) وبسط الكلام في ذلك العادة المعروفة
وقد قال في كتابه الكبير الذي سماه منهاج الهدى : ( فصل في معرفة الله وسائر معارف الدين : كسبية وليست حاصلة بطريق الضطرار )
قال : ( وقال طوائف منهم الجاحظ و صالح قبة و فضل الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة : معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة ثم اختلفوا بعد ذلك فقال طائفة منهم صالح قبة : إن الله جعل معارف دينه ضرورة يبتديها ويخترعها في قلوب البالغين من غير سبب متقدم ولا بحث ولا نظر وهو قول طائفة من الشيعة
وقالت طائفة من الشيعة : إن الله يخترعها في قلوب البالغين لكن من المحال أن يفعلها فيهم إلا بعد فكر ونظر يتقدمها ثم يهب الله المعرف لمن أحب كما يهب الولد عند الوطء وقد يجوز أن لا يهبها مع النظر كما لا يهب الولد مع الوطء
وقالت طائفة من الشيعة : الخلق مضطرون إلى المعارف بالأسباب فإذا حصلت عن الأسباب كانوا مختارين للمعرفة مضطرين إليها في حال واحدة فيكون مضطرا للسبب مختارا للإرادة
وقال طائفة من المعتزلة القائلين بأن المعرفة ضرورة : إن الله لا يخترع شيئا من أمور الدين والدنيا وعلومهمااختراعا ولكنها تحدث من بعد الإرادة وطباعا وأن الله خلق العباد وهيأهم لاكتساب الإرادة وما يحدث بعدها من نظر وغيره فهو واقع بالطبع وليس يضاف إلى الإنسان إلى على سبيل المجاز والاتساع )
قال : ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم غيلان بن مروان : إن معرفة الإنسان لنفسه ومعرفة صانعه وأنه غيره يضطر الإنسن إليها بالطبع فأما باقي المعارف الدينية فكلها اكتساب )
قال : ( وقالت طائفة منهم أبو الهذيل العلاف : معرفة العلم والدليل الذي يدعو إلى معرفة الصانع إضطرار فأما ما يحدث بعدها من علم فعام بالقياس فذلك علم اختيار واكتساب )
قال : ( وقالت : طائفة منهم بشر بن المعتمر : معرفة الإنسان لنفسه ليست من فعله ولا من كسبه ولا اضطرار إليها بل تخترع له وتخلق مخترعة في قلبه وما يدرك بالحواس من علوم الديانات وغيرها اضطرار وما يعلم بالقياس اكتساب ويجوز فيهما جميعا الاضطرار ويجوز فيهما جميعا أن يكونا اكتسابا )
قال : ( وقالت طائفة منالمعتزلة : الناس مضطرون إلى ذلك على كل حال وليس لهم في ذلك حيلة )
قال : ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم الجاحظ : معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال )
قال : ( وقالت الجبرية ومتقدمهم جهم بن صفوان : معرفةالله تقع باختيار الله لا باختيار العبد وبنوه عل مذهبهم في الخبر )
قال ابن الزاغوني : ( وتفيد هذه المسألة فائدة حكيمة وهو أن القائل بمعرفة الله واجبة بطريق الكسب يقول : إن الله يعاقب العبد على جهله بالله وجهله بالدين واعتقاد الباطل وأمامن قال : إنها ضرورية فإنه يقول : فائدة ذلك أنه لا يجوز أن يعذب الله الجاهل على جهله وعل أنه لم يكتسب المعرفة لأن ذلك ليس من مقدوراته وإنما يعذبه على جحده وإنكاره لما عرفه إياه بطريق اضطراره له إليه )

فصل
وما ذكرناه من أن الرسل صلوات الله عليهم بينوا للناس الطرق العقلية ونبهوهم عليها وهدوهم إليها كما أنه معلوم لنا فهو مما ذكره طوائف من أئمة الكلام والفلسفة وأعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية هم المعتزلة فإنهم يقولون : كما أن المعرفة لا تحصل ابتداء إلا بالعقل فإنهم يقولون بأنها واجبة بالعقل بناء على القول بأن العقل يعرف به الإيجاب والتحريم والتحسين والتقبيح
وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف فلكل طائفة من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد فيه قولان وأما الحنفيه فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى
ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع ومن القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي و أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي و أبو الخطاب وغيرهما بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون : إن الرسل بينت ذلك ووكدته وهكذا مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية يقولون : إن الرسل بينت ذلك ووكدته فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم

كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية
قال أبو الخطاب في تمهيده : ( اختلف أصحابنا : هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا ؟ فقال أبو الحسن التميمي : في قضايا العقل ذلك حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجابا كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة ونحو ذلك ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والخيانة وما أشبه ذلك )
قال : ( وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة )
قال : ( وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى - : ( ليس قضايا العقل ذلك وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار : ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول وإنما هو الاتباع )
قال أبو الخطاب : ( وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وشرعها )
قلت : قول أحمد : ( لا تدركها العقول ) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه و سلم فإنها لو أدركت ذلك لكان علم الناس كعلم الرسول ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أمر به ونهي عنه ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معيارا على السنة ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة )
قال أبوالخطاب : ( ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة وهم الجهمية )
قال : ( وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله : هل هي واجبة بالشرع حتى لو لم يرد ما يلزم أحدا أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا ؟ فمن قال : يجب بالشرع يقول : لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع ومن قال بالأول : قال : يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها ولما وجب اطراح هذا القول والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة )
قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه وإن كان ذلك ممكنا مقدورا له لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة وهم يقولون : إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء
والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه و ابن حامد و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق
وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه والقاضيان أبو بكر و أبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل
وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر و أبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع
وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين والفلاسفة وغيرهم
قال أبوالخطاب : ( دليل آخر : أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه إذ لو كانا قادرين على ذلك لكان هو أيضا قادرا وكانا يقدران على خلق غيره وهو يعلم أنهما لا يقدران فيعلم أن له خالقا من غير جنسه خلقه وخلق أبويه ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك كإقداره عليهم ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر
فإن قيل : كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم يجوز أن يخطر له أن له خالقا أنعم عليه وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول : من أنت حتى تقابلني بالشكر وتعتقد أنه جزاء نعمتي ؟ وما أصنع بشكر مثلك ؟ ونحو ذلك وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله )
قال : ( والجواب : أن العاقل مع اعترافه بحكمة خالقه لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه وإن كان غنيا عن ذلك لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه فيمتنع لعلمه بغناه عن ذلك وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل والتعظيم للمنعم من بدائه العقول والحكيم لايسخط ما هذا سبيله فإذا قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه فيجب في عقله توخي ذلك وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل : في الطريق مفسدون يأخذون المال ويقتلون النفس أو سباع تفترس الآدمي ويقال له : أنت ما معك قليل نذر والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا فلعلهم لا يعرضون لك فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه كذلك ها هنا )
قلت : مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف
قال : ( دليل ثالث : أنه لو لم يكن في قضاء العقول : إلزام وحظر لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلا لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب
كما أخبر الله عن قوم نوح : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا } فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر وحظر الإعراض عنه وذلك وصية العقل لا السمع )
قال : ( دليل رابع : أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم : من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان بل أكثر فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء وإذا ثبت أن فيها تحسينا وتقبيحا ثبت أن فيها حظرا وإباحة وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل
دليل خامس : أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل ويسقطان مع عدمه فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنى وإذا قد وجدنا ذلك دل على أن في العقل حظرا أو إلزاما
دليل سادس : أن التكليف محال إلا مع العقل ولهذا لا يكلف الشرع شيئا إلا بعد كمال عقولنا فدل على أن السمع يعلم بالعقول وإذا كان معلوما به والعقل متقدم عليه ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال : طريق معرفة الله السمع وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول ؟ ولا نعلم أنه رسول حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة ؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه ؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة ؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل الذي هو نوع من العلوم الضرورية ؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل
دليل سابع : لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات ويوجب ما كان قد نهى عنه فلما لم يكن ذلك دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير ولا يجوز نكثه ونسخه
دليل آخر : أن الله وهب العقل وجعله كمالا للآدمي وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيرا وإذا كان لا يقبح شيئا ولا يحسنه فوجوده وعدمه سيان وهذا لا يقوله عاقل
وأيضا يدل على ذلك عبارة ملخصة : أن من وجد نفسه مؤثرا بآثار الصنعة مستغرقا في أنواع النعمة لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه وتولى تدبيره وأنعم عليه وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره عوقب على ما أغفل من النظر وضيع من الاعتراف والشكر فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر فدل على وجوبه بالعقل )
قلت : هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب كما ذكر في موضعه وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب وغيره من أهل النظر : من المعتزلة وغيرهم بنوها على أن معرفة الله تحصل بالاستدلال بنفس الإنسان ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام كما سلك الأشعري أيضا هذه الطريقة
قال أبو الخطاب : ( احتج الخصم بظواهر الآية كقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولم يقل : حتى نجعل عقولا
وقوله تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولم يقل : بعد العقل
وقوله : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وغير ذلك من الآيات فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل
فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب )
وقال : ( والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد ويكونوا شهودا على أعمالهم
وقد قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا }
وقال : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }
وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل والتشبه بالحكمة التي جعلها الله فيهم والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق والرسول لعله متخرص متمترق لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة وهو يتوهم فيها ما ذكرنا إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب وعرف محكم الكتاب من متشابه وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله )
قال : ( فإن قيل : هذا توهين لأمر الرسل وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئا وإنما يفيد بعثهم في الفروع وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه )
ثم قال : ( والجواب : أنا نقول : بل لهم في الأصول أعظم فائدة لأنهم ينبهون العقول الغافلة ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر ليسهل سبيل الوقوف عليها كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز ويبين له مواضع الحجة والفائدة وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته
وأيضا فإنه بعثهم لتأكيد الحجة فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا : خلقت لنا الشهوات وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا فقطع الله سبحانه حجتهم ألا ترى أنه تعالى قال : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر ثم التدبر للتنبيه )
قلت : فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل وأنها لا تحصل إلا بالعقل ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه من كتب المصنفين لا تقليدا لهم فيما ذكروه لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة والطرق الموصلة التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة أعظم من كلام كل متكلم فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم
و أبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ بل تجب قبل البلوغ بخلاف الواجبات الشرعية
قال : ( واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلا ؟ ولو كان ذلك كذلك لكان من أنكر الحسن والقبح مكابرا لعقله مغالطا لنفسه لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر )
قال : ( والجواب أن للحسن والقبح أصلا في بدائه العقول وهو علمنا بحسن شكر المنعم والإنصاف والعدل وقبح الكذب والجور والظلم ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء إلا أن من العقلاء من قال : لا أعرف ذلك بضرورة العقل وإنما أعرفه بالنظر والخبر فذلك مقر بالحسن والقبح ومدع غير طريق الجماعة فيه فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك كما يعلمه أهل الأديان فسقط أن يكون طريقه إلا العقل وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع
ولا يقال : إن مخالفنا مكابر عقله واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاما وحظرا على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه فإذا ثبت هذا قلنا : يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة وما أشبه ذلك وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها والتفتنا إلى ما تؤثر به وهو خبر الشرع فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك )
وقال : ( والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سببا لهلاكه وعقابه وأن يكون ضده سببا لنجاته فإنه يلزمه النظر في ذلك سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه ثم ذلك خاطر عقلي ولا يقال : يقف على تنبيه الشرع )
قال : ( واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ وليس العقل موصوفا بذلك من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلا وإنما ذلك عقل قبل بلوغه فبان أن العقل لا يوجب شيئا ولا يحظره
وقال : ( الجواب : أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة فأما الأحكام المتستفادة بالعقل فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح فلا نسلم ما ذكروه )
قلت : هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان : وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ
وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم قالوا : وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه
قالوا : ويروى عنه أنه قال : لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم قالوا : وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل : إنه يجب عليه معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث قالوا : وهو قول كثير من مشايخ العراق ومنهم من قال : لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق )
قلت : هذا الثاني قول أكثر العلماء وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد كما يقول به هؤلاء الحنفية وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة وأن الأعيان قبل ورود الشرع هل هي على الحظر أو الإباحة ؟ لا يصح إلا على قول من يقول : إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة وأما من قال : إن العقل لا يعلم به ذلك ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظرا أوإباحة فقد تناقض في ذلك وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت كقول طائفة : إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة وليس هذا موضع بسط ذلك
لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ لقوله صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق ] وهو معروف في السنن وغيرها متلقى عند الفقهاء بالقبول من حديث عائشة وغيرهما
وأيضا فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء
وأيضا فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار : هل يدخلون الجنة أو النار أو يتوقف فيهم ؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم
وذهب طائفة إلى أنهم في النار كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره وذكروا أن أحمد نص على ذلك وهو غلط عن أحمد فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس
لكن هذا الحديث روي أيضا في حديث يروى [ أن خديجة سألته عن أولادها من غيره فقال : هم في النار فقالت : بلا عمل ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث خديجة كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد وهذا غلط على أحمد فإن هذا الحديث ضعيف بل موضوع و أحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث والحديث متناقض ينقض آخره أوله
وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة كما جاء في ذلك عدة آثار وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث وقد بسطنا هذا فيما تقدم
والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف كالقتل والقطع لا تكون إلا لبالغ لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال : الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان
بل قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة فضربهم على الكذب والظلم أولى وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع : أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته
وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي نظير النزاع في الواجبات الشرعية فإن أحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز : أن الصلاة تجب على ابن عشر وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه
وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا بل يقال : لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال : إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين بل يجب ذلك في مال المجنون أيضا وفي مال الطفل
وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه وغير ذلك من أقواله وأفعاله كلام معروف ليس هذاموضع بسطه وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيما للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر ويحسن ويقبح كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء
وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح كما نقله أبو الخطاب عنهم
ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم : إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات لما رأى الناس أنه يناقض ذلك صاروا يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه كما نقله الرازي وغيره فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به وأنه يوجبها يعني على المميزين يقولون مع ذلك : إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها ودل الناس عليها ووكدها وقررها حتى تمت الحجة به على الخلق فجعلوا ما جاء به الشرع متضمنا للمقصود بالعقل من غير عكس حتى صارت العقليات النافعة جزءا من الشرع فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر ؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد لما قسم الناس إلى أربعة أصناف كما سيأتي

فصل كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فقد ذكرنا ما تيسر من طرق الناس في المعرفة بالله ليعرف أن الأمر في ذلك واسع وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته مثل الإيمان بالله ورسوله فإن الله يوسع طرقه وييسرها وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلا عظيما وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها وقد يكون الخطأ الحاصل الرسل وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه
وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل مثل كتاب أبي عيسى الورق و النوبختي و أبي الحسن الأشعري و الشهر ستاني : تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئه والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواعا من المقالات
والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين لا يعرفونه ولا يذكرونه بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدهما ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل والقول الذي جاء به الرسول وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه فيبقى الناظر في كتبهم حائرا ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على علمه ببطلان تلك المقالات كلها
وهذا موجد في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة : متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي و الآمدي ونحوها وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والالهية القول الذي هو الحق بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها إما أن يكون الكل خطأ وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة مثل إطلاق القول بإثبات الصانع وأنه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله لكن لا يعطون هذا القول حقه : لا تصورا ولا تصديقا فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها بل قد لا يحتاج إليها
وأما المطالب العالية والمقاصد السامية من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا يعرفونه كما يجب وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم ولايذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول
و ابن رشد الحفيد واحد من هؤلاء ولهذا لما ذكر أصناف الأمة وجعلهم أربعة أقسام : باطنية وحشوية ومعتزلة وأشعرية : جرى في ذلك على طريق أمثاله من أهل الكلام والفلسفة وهو قد نبه على كثير مما جاء به القرآن كما سنذكره عنه
لكن المقصود أنه في تقسيم الأمة لم يذكر القسم الذي كان عليه السلف والأئمة وعليه خيارها إلى يوم القيامة لكنه صدق في وصفه من ذكره بالتقصير عن مقصود الشرع فإنه كما قال قال : وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري تعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها مثل قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } ومثل قوله { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى
قال : وليس لقائل أن يقول : إنه لو كان واجبا على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العبر كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى
ولذلك قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ منه فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور وهذا فهو أقل الوجود فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع
قال : فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع
قال : وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها وذلك أن طريقهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث بحدوثه وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد - وبالجملة حدوث الأجسام - طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم - كما يقولون - أن يكون له - ولا بد - فاعل محدث وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزليا ولا محدثا أما كونه محدثا فلأنه يفتقر إلى محدث وذلك المحدث إلى محدث ويمر الأمر إلى غير نهاية وذلك مستحيل
وأما كونه أزليا فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزليا فتكون المفعولات أزلية والحادث يحب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل وهم لا يسلمون ذلك فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث
قلت : من أصولهم التي تلقوها عن المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثا وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل وكثير من الناس لايميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل حتى أن كثيرا من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة أو غيرها من الأعراض اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين وما لا يسبق النوع الدائم الذي آ حاده حادثة فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده
ولما تفطن كثير من أهل الكلام للفرق أرادوا أن يثبتوا امتناع حوادث لا تتناهى بطريق التطبيق وما يشبهه كما قد ذكر ذلك في موضعه فهم لايسلمون وجود حوادث لا أول لها عن فاعل قديم ويسلمون وجود فعل حادث العين عن فاعل قديم وهو يقول : الحادث يجب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث ثم ذلك الحادث متعلق بفعل حادث فيكون فعل حادث الأفراد دائم النوع عن فاعل قديم فهو يقول : لا يمكن وجود حادث عن فاعل أزلي إلا بفعل حادث الأفراد دائم النوع وهم لايسلمون ذلك قال : وأيضا إن كان الفاعل حينا يفعل وحينا لا يفعل وجب أن يكون هنالك علة صيرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى فلنسأل أيضا في تلك العلة مثل هذا السؤال وفي علة العلة فيمر الأمر إلى غير نهاية
قال : وما يقوله المتكلمون في جواب هذا من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ليس بمنج ولا مخلص من هذا الشك لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بإيجاده حادثا سواء فرضنا الإرادة قديمة أو حادثة متقدمة على الفعل أو معه فكيفما كان فقد يلزمهم أن يجوزوا على القديم أحد ثلاثة أمور : إما إرادة حادثة وفعل حادث وإما فعل حادث وإرادة قديمة وإما فعل قديم وإرادة قديمة
والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا وسطة إن سلمنا لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة ووضع الإرادة نفسها هي الفعل المتعلق بالمفعول شيء لا يعقل وهو كفرض مفعول بلا فاعل فإن الفعل غير الفاعل وغير المفعول وغير الإرادة والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل
وأيضا فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهرا لانهاية له إذا كان الحادث معدوما دهرا لانهاية له فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له وما لانهاية له لا ينقضي فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل أو ينقضي دهر لا نهاية له وذلك ممتنع
وهذا هو بعينه برهان المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك وأيضا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص دون وقت لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل قدر زائد على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل وإلا لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه وأيضا كيف يتعين وقت للحادث من غير أن يتقدمه زمان ماض محدود الطرف إلى ما في هذا كله من التشغيب والشكوك العويصة التي لا يخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام والحكمة فضلا عن العامة ولو كلف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق
وأيضا فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت هذين الوصفين معا أغني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها ولا هي مع هذا برهانية فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور ونحن ننبه ها هنا على ذلك بعض التنبيه فنقول إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان :
أحدهما : وهو الأشهر الذي اعتمد عليها عامتهم ـ ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الاصول لما يرومونه من إثبات حدوث العالم
إحداهما : أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض أي لا تخلو منها والثانية : أن الأعراض حادثة والثالثة : أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث أعني ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
فأما المقدمة الأولى وهي القائلة : إن الجوهر لا يعرى من الأعراض فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ففيها شك ليس باليسير وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفا بنفسه وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند وليس في قوة صنا عة الكلام تلخيص الحق منها وإنما ذلك صناعة البرهان وأهل هذه الصناعة قليل جدا والدلائل التي يستعملها الأشعرية في إثباته خطا بية في الأكثر وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو انهم يقولون : إن من المعلومات الأولى أن الفيل مثلا إنما يقولون فيه : إنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزائه على أجزاء النملة وإذا كان ذلك كذلك فهو مؤلف من تلك الأجزاء وليس هو واحدا بسيطا فإذا فسد الجسم فإليها ينحل وإذا تركب فمنها يتركب وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة وذلك إنما يصدق هذا في العدد أعني أن نقول : إن عددا أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه أعني الوحدات
وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه ولذلك نقول في الكم المتصل : أنه أعظم وأكبر ولا نقول : اكثر ونقول في العدد : إنه أكثر ولانقول : إنه أكبر وعلى هذا القول فتكون الأشياء كلها أعداد ولا يكون هناك عظم متصل أصلا فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها
ومن المعروف بنفسه أن كل عظم فإنه ينقسم بنصفين : أعني الأعظام الثلاثة التي هي : الخط والسطح والجسم
وأيضا فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يفرض عليه في وسطه نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعا وليس يمكن ذلك في العدد ولكن يعارض هذا أيضا أن الجسم وسائر أجزاء الكم المتصل يقبل الانقسام وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم أو إلى شيء غير منقسم فإن انقسم إلى غير منقسم فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال في ذلك المنقسم : هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم ؟ فإن انقسم إلى منقسم إلى غير النهاية كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها ومن المعلومات الأولى أن أجزاء المتناهي متناهية
قلت : هذا الموضع هو الذي أوجب قول النظام ونحوه بالطفرة وقول طائفة من المتفلسفة والمتكلمين بقبول انقسام إلى غيى نهاية بالقوة لا بالفعل
وقد أجاب عن هذا طائفة من نفاة الجزء بأن كل ما يوجد فهو يقبل القسمة بمعنى امتياز شيء منه عن شيء وهي القسمة العقلية المفروضة لكن لا يلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء لأن الموجود إن قيل : إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى وإن قيل : إنه يقبلها بالفعل فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفني كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قاتلة لانقسامات لا تتناهى ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى
قال : ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ : ما القابل لنفس الحدوث ؟ فإن الحوادث عرض من الأعراض وإذا وجد الحادث فقد ارتفع الحدوث فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر فيضطرهم الأمر إلى أن يضعوا الحدوث في موجود ما وبوجود ما
قلت من يقول : إن الإحداث هو نفس المحدث والمخلوق هو نفس الخلق والمفعول هو نفس الفعل كما هو قول الأشعرية لا يسلم أن لحدوث عرض ولا أن له محلا فضلا عن أن يكون وجوديا لكنه قد قدم إفساد هذا وأنه لا بد للمفعول من فعل وحينئذ فيقال : الإحداث قائم بالفاعل المحدث وحدوث الحادث ليس عرضا موجودا قائما بشيء غير إحداث المحدث
ويقال أيضا : إن هذا ينبني على أن المعدوم شيء وأن الماهيات في الخارج زائد على وجودها وكلاهما باطل وبتقدير صحته فيكون الجواب : أن القابل للحدوث هو تلك الذوات والماهيات
لكن هذا الذي ذكره يتقرر بطريقة أصحابه المشهورة : أن الحادث مسبوق بالإمكان لا بد له من محل فلا بد للمحدث من محل قال : وأيضا فقد يسألون إن كان الموجود يكون عن عدم فبم يتعلق فعل الفاعل ولا يتعلق عندهم بما وجد وفرغ من وجوده فقد ينبغي أن يتعلق بذات متوسطة بين العدم والوجود وهذا الذي اضطر المعتزلة إلى أن قالت : أن في القدم ذاتا ما وهؤلاء أيضا - يعني المعتزلة - يلزمهم أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل وكلتا الطائفتين يلزمهم أن يقولوا بوجود الخلاء
قلت هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك : إن قيل : يتعلق بالشيء وقت عدمه لزم كونه موجودا معدوما وإن قيل يتعلق به وقت وجوده لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين
وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده بمعنى أنه هو الذي يجعله موجودا لا بمعنى أنه كان موجودا بدونه فجعله هو أيضا موجودا
قال : فهذه الشكوك - كما ترى - ليس في قوة صناعة الجدل حلها فإذا يجب أن لا يجعل هذا مبدأ لمعرفة الله تعالى وخاصة الجمهور فإن طريقة معرفة الله تعالى أصح من هذا وأوضح على ما سنبين بعد من قولنا
قال : وأما المقدمة الثانية وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة فهي مقدمة مشكوك فيها وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب فإن كان واجبا في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب - أعني أن نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياسا على ما شاهدنا - فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام وذلك أن الجسم السماوي - وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد - الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك و تعالى بيقين
قال : وهي طريق الخواص وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية وأكثر النظار إنما انتهوا إليها واعتقدوا أنها آلهة
قلت : قول هذا وأمثاله : إن إبراهيم استدل بطريق الحركة هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة : إن إبراهيم استدل بطريق الحركة لكن هو يزعم أن طريقة الخواص : طريقة أرسطو وأصحابه حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك وأولئك المتكلمون يقولون : إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثا لامتناع وجود حركات لا نهائية لها وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى وتبين تناقضها بالأدلة العقلية
وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين ولا احتج بالحركة بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب كما قد بسط في موضع آخر
فالآفل لا يستحق أن يعبد ولهذا قال { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } وقال { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى لكن كانوا مشركين به فاستدل على ذم الشرك لا على إثبات الصانع
ولو كان المقصود إثبات الصانع لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر إلى أن أفلت كانت متحركة ولم ينف عنها المحبة ولا تبرأ منها كما تبرأ مما يشركون لما أفلت فدل ذلك على أن حركتها لم تكن منافية لمقصود إبراهيم بل نافاه أفولها

فصل كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن رشد : وأيضا فإن الزمان من الأعراض ويعسر تصور حدوثه وذلك أن كل حادث فيجب أن يتقدمه العدم بالزمان فإن تقدم عدم الشيء على الشيء لا يتصور إلا من قبل الزمان وأيضا فالمكان الذي يكون فيه العالم إذا كان كل متكون فالمكان سابق له يعسر تصور حدوثه لأنه إن كان خلاء - على رأي من يرى أن الخلاء هو المكان - احتاج أن يتقدم حدوثه إن فرض حادثا خلاء آخر وإن كان المكان نهاية الجسم المحيط بالمتمكن - على الرأي الثاني - لزم أن يكون ذلك الجسم في مكان فيحتاج ذلك الجسم إلى الجسم ويمر الأمر إلى غير نهاية وهذه كلها شكوك عويصة وأدلتهم التي يرومون بها بيان إبطال قدم الأعراض إنما هي لازمة لمن يقول بقدم ما يحسن منها حادثا أعني من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة وذلك أنهم يقولون : إن الأعراض التي يظهر للحس أنها حادثة إن لم تكن حادثة فإما أن تكون منتقلة من محل إلى محل وإما أن تكون كامنة في المحل الذي ظهرت فيه من قبل أن تظهر ثم يبطلون هذين القسمين فيظنون أنهم قد بينوا أن جميع الأعراض حدوثه ولا ما يشك في أمره مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية من حركاتها وأشكالها وغير ذلك فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب وهو دليل خطابي إلا حيث النقلة معقولة بنفسها وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب وأما المقدمة الثالثة : وهي القائلة : إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهي مقدمة مشتركة الاسم
وذلك أنها يمكن أن تفهم على معنيين : أحدهما ما لا يخلو من جنس الحوادث ويخلو من آحادها والثاني : ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه
كأنك قلت : ما لا يخلو من هذا السواد المشار إليه فهو مادي فأما هذا المفهوم الثاني فهو صادق أعني ما لا يخلو من عرض ما يشار إليه وذلك أن العرض الحادث يجب بالضرورة أن يكون الموضوع له حادثا لأنه إن كان قديما فقد خلا من ذلك العرض وقد كنا فرضناه لا يخلو وهذا خلف لا يمكن وأما المفهوم الأول وهو الذي يريدونه فليس يلزم عنه حدوث المحل أعني الذي لا يخلو من جنس الحوادث لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد - أعني الجسم - تتعاقب عليه أعراض غير متناهية : إما متضاده وإما غير متضاده كأنك قلت : حركات لا نهاية لها وحركات وسلوكيات لانهاية لها كما يرى كثير من القدماء في العالم أعني أنه يتكون واحد بعد واحد
ولهذا لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهاء هذه المقدمة رامو شدها وتقويتها بأن بينوا - في زعمهم - أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها وذلك أنهم زعموا أنه يجب على هذا الوضع أن لا يوجد في المحل منها عرض ما مشار إليه إلا وقد وجدت قبله أعراض لا نهاية لها وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها أعني المشار إليه لأنه يلزم ألا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له ولما كان ما لا نهاية له لا ينقضي وجب ألا يوجد المشار إليه أعني المفروض موجودا مثال ذلك : أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي إن كان قد وجد قبلها حركات لا نهاية لها فقد كان يجب ألا يوجد ذلك ومثلوا ذلك برجل قال لرجل : لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لانهاية لها قالوا : فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبدا
قال : وهذا التمثيل ليس بصحيح لأن في هذا التمثيل وضع مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه لأن قوله وقع في زمان محدود وإعطاءه إياه يقع في زمان محدود فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين ذلك الزمان الذي تكلم فيه أزمنة لا نهاية لها وهي التي يعطيه فيها دنانير لانهاية لها وذلك مستحيل فهذا التمثيل بين أمره لا يشبه المسألة الممثل بها
وأما قولهم : إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده فليس بصادق من جميع الوجوه وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين : إما على جهة الدور وإما على جهة الاستقامة فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية إلا أن يفرض فيها ما ينهيها
مثال ذلك : أنه إن كان شروق فقد كان غروب وإن كان غروب فقد كان شروق فإن كان شروق فقد كان شروق وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض وإن كان بخار صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض وإن كان قد ابتلت الأرض فقد كان مطر وإن كان مطر فقد كان غيم
وأما التي تكون على استقامة مثل كون الإنسان من الإنسان وذلك الإنسان من إنسان آخر فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الآخر وإن كان ذلك بالعرض مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان الذي هو الإله وهو المصور له ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلا لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة أن يكون فعله لأشخاص الناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء وإليه الإشارة في قوله تعالى { أن اشكر لي ولوالديك }
قلت : مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول وأما في الشروط والآثار - مثل كون الوالد شرطا في وجود الولد ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر - فلا يمتنع وهذا فيه نزاع معروف وقد ذكر في غير هذا الوضع
وليس في هذا ما ينفع الفلاسفة في قولهم بقدم الأفلاك وإنما غايته إبطال ما يقوله من يقول بوجوب تناهي الحوادث وقد تقدم غير مرة أن حجة الفلاسفة باطلة على تقدير النقيضين فإنه إذا امتنع وجود ما لا يتناهى بطل قولهم وإن جاز وجوده لم يمتنع أن يكون وجود الأفلاك متوقفا على حوادث قبله وكل حادث مشروط بما قبله كما يقولون هم في الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها ويقتضي أنه يلزم من قولهم أن لا يكون للحوادث فاعل إذا كان كل حادث مشروطا بحادث قبله والعلة التامة المستلزمة لمعلولها يمتنع عندهم - وعند غيرهم - أن يحدث عنها شيء بوسط أو غير وسط لأن ذلك يقتضي تأخر شيء من معلولاتها فلا تكون تامة بل فيها إمكان ما بالقوة لم يخرج إلى الفعل وهو نقيض قولهم
قال ابن رشد : وأيضا فإن قولهم : إن الحركة المشار إليها لا تخرج إلا وقد انقضت قبلها حركات لانهاية لها قول لا يسلمه الخصوم فإن الخصوم : إنه لا ينقضي إلا ما له ابتداء وما لا مبدأ له - كما نضعه نحن - فلا انقضاء له وبهذا ينكرون قولهم : إن ما وقع في الماضي فقد دخل في الوجود لأن معنى : دخل في الوجود أنه تناهى وجوده وكمل ولا يتناهى إلا ما له ابتداء فأما ما لم يبتدي فلا يدخل في الوجود
قلت : لفظ الانقضاء والقضاء قد يعنى به الكمال والتمام كما قال تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } { فإذا قضيتم مناسككم } ويقال : قد انقضت هذه السنة والمضي والزوال فمعلوم أن الحوادث التي كانت قبلها قد انقضت ومضت وانتهت بمعنى أنها لم يبق منها شيء
وعلى هذا فقول القائل : كل حركة لا تكون حتى يكون قبلها حركات لا نهاية لها معناه : حتى توجد قبلها حركات لا ابتداء لها ليس المراد : لا آخر لها بل المراد : ليس لها ابتداء وهذا صحيح وهو أول المسألة والمنازع يقول : إذا كانت الحركات لا أول لها فالمعنى أنه قد مضى في الماضي ما لا ابتداء له كما يقال : إنه سيوجد في المستقبل ما لا انتهاء له وهذا هو قوله فما الدليل على بطلان هذا ؟
فهناك اشتراك واشتباه في الألفاظ والمعاني إذا ميزت ظهر المعنى ولفظ الدخول في الوجود قد يتناول ما كمل وجوده وما لم يكمل وجوده ويتناول ما وجد معا وما وجد متعاقبا لكن قول القائل : إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل عند منازعه فرق لا تأثير له فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك يتناول الأمرين وهي باطلة في أحدهما فيلزم بطلانها في الآخر ومن اعتقد صحتها مطلقا ك أبي الهذيل و الجهم طردوها في الماضي والمستقبل وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل
وهذا الذي يذكره هؤلاء المتفلسفة إنما يتوجه فيما مضى ولم يبق كالحركات فأما النفوس الإنسانية المجتمعة إذا قالوا بأنه الآن في الوجود منها ما لا يتناهى وهو مجتمع وأن ذلك لا يزال يزيد لم يكن ما ذكروه في الحركات متناولا لهذا
ولهذا فر ابن رشد من ذلك إلى أن جعل النفوس واحدة بالذات وشبهها بالضوء مع الشمس والضوء عرض وفساد هذا القول معلوم وليس هذا موضع بسطه
ولهذا قال ابن رشد هنا : وهذا كله ليس بينا في هذا الموضع وإنما سقناه ليعرف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان فليس برهانا ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور أعني التراهين البسيطة التي كلف الله تعالى بها الجميع من عباده الإيمان به
قال : فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لانهاية لها لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة وقبل تلك الدورة دورة وذلك إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد أي متى وجدت دورة وجدت قبلها في المحل دورة وبعدها دورة وأن هذا المرور إلى غير نهاية كالحال في المستقبل فإنما نقول : إن بعد هذه الدورة دورة وبعدها دورة وذلك إلى غير نهاية ولا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم عن هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها الآن فيكون ما لا نهاية لها أعظم مما لا نهاية له وذلك محال وكذلك الحال في الأدوار الماضية وقولهم : إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي : أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد وأن مضى قد أنصرم وانقضى وما انصرم وانقضى فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه - قول حق إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة وذلك أنه لم يكن هناك حركة واجب أن تكون أولى يستحيل أن تكون قبلها حركة فليس يجب أن يكون ها هنا جملة هي أو لجملة دخلت في الوجود ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد وذلك على جهة التعاقب على محل وحد
فمن أين - يلزم ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد أن يكون هاهنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا ؟
والأصل في هذا كله أن لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى وجوده ولا ينقضي إلا ما ابتدى وجوده وإنما كان يلزم أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له الماضي في الوجود لو كان دخوله معا أعني ما لا نهاية له وأما الداخل فيه شخص فشخص على محل واحد وكأنك قلت على الجسم الدوري وليس هناك أول فليس يجب أن يكون ما دخل منها في الوجود منحصرا أو متناهيا لأن المتناهي هو الذي يمكن يزاد عليه شيء وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن أن يكون فيها جملة قبلها جملة أخرى هذا هو حد ما لا نهاية له الجائز الوجود أعنى أن يكون أبدا يوجد شيء خارج عنه ويسألون : كما أن تقدير وجود الباري سبحانه وتعالى في الماضي غير متناه وكما أن تقدير وجوده في المستقبل غير متناه وهذا معنى قولنا لم يزل ولا يزال : هل تقدر أفعاله في الماضي متناهية أو غير متناهية ؟
فإن قالوا : غير متناهية كما هو في المستقبل فقد اعترفوا بوجود ما لا نهاية له في الماضي على الشرط الذي يوجد ما لا نهاية له أعني أن لا يوجد معا وأن لا ينقطع المكان
وإن قالوا غير ذلك فقد أحالوا على الوجود الأزلي أن تكون أفعاله أزلية يلزمهم ذلك في علمه بالحادثات وإرادته لها فتكون معلوماته بالفعل متناهية وكذا إرادته وبالقوة غير متناهية
أما في الماضي فمن قبل أنه لا يجوز عندهم أن تكون أفعال لا نهاية لها وأما في المستقبل فمن قبل أن ما لا نهاية له إنما يوجد عنده بالقوة وذلك شيء لا يقولونه فإن قالوا : إرادته ومعلوماته غير متناهية بالفعل فقد سلموا دخول ما لا نهاية له بالفعل في الوجود قال : وهذا كله تشويش لعقائد المتشرعين وصد عن الغاية التي قصد بها تعريفهم هذه الأشياء وهو أن يكونوا مصمين في هذه الأشياء أخيارا فإن من ليس بمصمم العقيدة في هذه ليس بخير
قلت : قول القائل : هذا متناه أو غير متناه لفظ مجمل يراد به ما لا يتناهى من أوله ولا من آخره فلا يمكن أن يزال عليه وهذا هو مراد ابن رشد بما لا يتناهى من أوله فقط أو من آخرهس فقط كالحوادث الماضية إذا قيل : لا تتناهى فإنه لا نهاية له من جهة الابتداء بمعنى أنه لا ابتداء لها ولكن إذا قدر أنها انقضت اليوم فقد تناهت من هذا الطرف
قال ابن رشد : فخصماء هؤلاء المتكلمين لا يقولون : قيل هذه الدورة المعنية دورات لا نهاية لها بالمعنى الأول أي ليس لها أول ولا آخر بل يعترفون أنه حينئذ يكون للدورات آخر وهذا عندهم هو الذي لا يتناهى بالمعنى الآخر وهو جائز عندهم
قال : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما
قال : فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة وقبل تلك الدورة دورة إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد كالحال في المستقبل فإنا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم أن يكون بعد هذه الدورة بمدة عشرة آلاف سنه دورات لانهاية لها وبعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيكون ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له وذلك محال
فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالا هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه وهو ما لا أول له ولا آخر وأما إذا قيل : وجد قبل هذه الدورة دورة وقبلها دورة إلى غير نهاية فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى لأنها تناهت من أحد الجانبين وإن كانت غير متناهنة من الجانب الآخر فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في الماضي إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين وما قدر متناهيا من أحدهما فلا يسلم امتناع أنقضائه ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى والتناهي والانقضاء واحد ولكن يقال فيه : إنه وجد شيئا قبل شيء إلى غير نهاية فتكون النهاية مسلوبة عن ابتدائه لا عن الجانب الذي انتهى إليه
ويقال : لا يتناهى مقيدا لا مطلقا كما قال : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز وجودة هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أي يمكن أن يزاد عليه دائما فهذا يسميه ما لا نهاية له الجائز وجوده وهو أن يكون خارجا عنه شيء يمكن أن يزاد عليه دائما هو إنما يقبل الزيادة من الجهة التي تناهى منها فهو متناه من احد الطرفين غير متناه من الطرف الآخر فلهذا جاز أن يقال : ليس هو مما لا يتناهى لتناهيه من جانب ويجوز أن يقال : هو لا يتناهى لعدم تناهيه من الجانب الآخر ولهذا نقول : إنه لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى - ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده - لأنه إذا قدر أن الحوادث دائمة لم تزل ولا تزال فلم تنقض وإنما يفرض الإنسان انقضاء الماضي فرضا وإنما المنقضي ما لم يبق فيه شيء
والحوادث إذا كانت مستمرة فما انقضت ولا انتهت فما دخلت في الوجود والذي وجد في الماضي فهو متناه ليس هو مما لا يتناهى وإنما يكون قد دخل ما لا يتناهى إذا كان ممتنعا في الوجود فيكون قد انقضى مع كونه غير متناه وهذا ممتنع فأما ما يوجد شيئا بعد شيء وهو لم يزل ولا يزال فهذا ليس يجب أن يكون ما دخل منه في الوجود منحصرا أو متناهيا لأنه لم ينقض بل هو متواصل الوجود والمنقضي عنده ما انقطع وجوده ولم يبق منه شيء وليست الحوادث المستمرة كذلك
فلفظ انقضى و انتهى و انصرم ونحو ذلك معناها متقارب فإذا قال المتكلم : الحوادث الماضية قد انقضت فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له كان هذا تلبيسا فإنها إذا جعلت منقضية فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية ومن هذه الجهة هي متناهية وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم فإذا قيل : انصرم وانقضى ما لا يتناهى كان هذا تناقضيا بينا والحوادث الماضية ليس لها أول فإذا قدر أنها انقضت فقد انتهت وانصرمت فلا يطلق عليها أنها لا تتناهى مع تقدير أنها منقضية بل إذا قدر تناهيها فقد انقضت وإن قدر استمرارها فلم تنقض
وما ذكره ابن رشد كما أنه مبطل لقول من يقول بامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل - كما يقوله من يقوله من المتكلمين - فهو مبطل أيضا لقول إخوانه من الفلاسفة الذين يقولون بوجود ما لا يتناهى ولا له أول ولا آخر في قديميين مختلفين كما يقولونه : إن حركات كل واحد من الأفلاك لا تتناهى ولا لها بداية ولا نهاية مع أن إحدى الحركات أكثر وأعظم من الأخرى
كما يقولون : إن القمر يتحرك في كل شهر مرة والشمس في كل سنة مرة والفلك المحيط في كل يوم مرة فهو أعظم مقدارا وأسرع حركة من فلك الشمس القمر وغيرهما فإنه محيط بالجميع فهو أعظم وهو يتحرك كل يوم الحركة الشرقية التي تحرك بها جميع الأفلاك وليس في الأفلاك ما يتحرك كل يوم غيره فتكون حركته أكبر وأكثر من حركة سائر الأفلاك : فلك الشمس والقمر وغيرهما فإن الأيام أكثر عددا من الشهور والشهور أكثر عددا من الأعوام
ونفس المتحرك كل يوم حركته أعظم مقدارا مما يتحرك في الشهر والعام مع أن كلا من هذه الحركات ليس لها أول ولا آخر عندهم فيلزم من ذلك أن يكون ما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر كحركة فلك القمر والشمس يقبل أن يزاد عليه أضعافا مضاعفة بل وجد ما هو بقدره أضعافا مضاعفة وهو حركة الفلك المحيط فيكون ما لا يتناهى من الجانبين وليس له أول ولا آخر أعظم مما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر وأكبر منه وهذا هو الذي بين ابن رشد وغيره من النظار أنه ممتنع ولايلزم هذا أئمة أهل الملل قالوا : إن الرب يفعل أفعالا أو يقول كلمات لا نهاية لها ليس لها أول ولا آخر فإن هؤلاء يقولون : لا قديم إلا الله وحده وما سواه محدث مخلوق فلم يقم بغيرة ولا يصدرعن غيره ما لا يتناهى وإنما ذلك له وحده فلم يكن لغيره ما لا يتناهى من الطرفين لا أقل مما له ولا أكثر وذلك أن ابن رشد عنده ما لا يتناهى هو ما لا أول له ولا آخر فما كان له منتهى ينتهي إليه محدود فلا بد أن يكون له مبدأ محدود فلا يتناهى شيء في النهاية إلا وله مبدأ محدود
ولهذا قال : وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما إلى قوله : ( إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي : أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد وأن ما مضى قد انقضى وانصرم وما انقضى ونصرم فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه فهو قول حق ومراده بذلك أن الذي ينقضي وينصرم هو ما له مبتدأ وأما ما لا ابتداء له فلا انتهاء له ولا ينقضي ولا ينصرم
ولهذا قال : إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة وذلك أنه لم يكن هناك حركة واجب أن تكون أولى بحيث يستحيل أن تكون قبلها حركة فليس يجب أن يكون ها هنا جملة دخلت في الوجود ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهيه إن كانت من الاشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد
إلى قوله : فمن أين يلزم - ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد أن يكون ها هنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا
قال : والأصل في هذا كله ألا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده
إلى قوله : لأن المتناهي هو الذي يمكن أن يزاد عليه شيء وأي جمله فرضناها متناهية فإنه يمكن قبلها جملة أخرى وهذا هو حد مالا يتناهى الجائز الوجود
وقد قال قبل ذلك : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما إلى قوله : ولا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم من هذا أن يكون بغد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها فمن تدبر كلامه تبين له ما قلناه
قلت : فأما الكلام على إحاطة علم الله تعالى بالكليات والجزئيات وإرادته فمذكور في غير هذا الموضع وهذا الرجل قد أورد على هؤلاء هذا السؤال المعروف وهو الذي أوقع أبا المعالي في قوله بالارسترسال وأن العلم يحيط بأعيان الجواهر وأنواع الأعراض ويسترسل على أعيان الأعراض هذا ليس هو قول من يقول بأنه يتعلق بالكليات فإن ذلك لا يفرق بين الجواهر وأنواع أعراض وأعيانها ومن علم أن الكليات لا تكون إلا كلية في الذهن وأن كل موجود فإنه معين والأفلاك معينة والعقول والنفوس عندهم معينة ونفسه المقدسة معينة تبين له أن قول من يقول : يعلم الكليات وأنه إنما يعلم الجزئيات على وجه كلي مضمون كلامه أنه لا يعلم نفسه ولا شيئا من الموجودات
وهذا وهم يقولون : إنه مبدع لها وسبب في وجودها وأنا العلم بالسبب يقتضي العلم بالمسبب فقولهم هذا يوجب علمه بنفسه وبكل موجود وذلك يناقض هذا وهذا مبسوط في موضعه
وهذا الرجل - أعني ابن رشد - أراد أن يجمع بين قولهم هذا وبين علمه بالجزئيات فقال قولا فيه من الحيرة والتناقض ما هو مذكور في موضعه
والمقصود هنا ذكر ما ناقض به قول هؤلاء المتكلمين الذين يزعمون أن عقلياتهم تعارض الكتاب والسنة وله أيضا من عقلياته التي يزعم أنها تناقض ذلك في الباطن ما هو مردود عليه بالعقل الصريح أيضا
لكن من عرف كلام بعض هؤلاء مع بعض تبين له فساد كل ما يعارض به كل طائفة للنصوص النبوية وأنه ما من معقول يدعى معارضته لذلك إلا وقد نقضه أهل المعقول بما يتبين فساده { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات : 180 - 182
قال ابن رشد : والأولى أن يقال لمن وصل من الجمهور إلى هذا القدر من التشكك : إن العالم ليس هو موجودا واحدا وإنما هو أفعال لله متجددة ومتعاقبة فيمكن في العقل أن تكون هذه الأفعال أزلية ويمكن أن تكون محدثة إلا أن الشرائع كلها قد وردت بأنها محدثة فيجب التصديق بأحد الجائزين الذي ورد به الشرع وأن يقال في علمه وإرادته : إنهما غير مكيفين ولا حادثين ولا يلزم في العلم المكيف الحادث

فصل
قال ابن رشد : وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعرفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين : إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائر أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو عليه أو يكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار أن تتحرك إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية
والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالجائز الآخر
قال : فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي وهي في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسها مثل كون الإنسان موجودا على خلقه غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية
إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون ذلك لعلة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان
ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنايع وذلك أن هذا الذي شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات - أو جلها - ممكن أن يكون على خلاف ما هي عليه ويوجد على ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة
وأما الصانع الذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة
والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم ! وهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فلا تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة - لأن الحكمة ليست شيئا أكثر من معرفة أسباب الشيء وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده - على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجودا فليس هنا معرفة يختص بها الحكيم
الخالق دون غيرة كما أنه لو لم تكن أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالآذان كما بالعين والشم بالعين كما يتأتى بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك قلت : مضمون هذا الكلام إثبات ما في الموجودات من الحكمة والغاية المناسبة
لاختصاص كل منها بما خص به وأن ارتباط بعض الأمور ببعض قد يكون شرطا في الوجود وقد يكون شرطا في الكمال وبإثبات هذا أخذ يطعن في حجة أبي المعالي وأمثاله ممن لايثبت إلا مجرد المشيئة المحضة التي تخصص كلا من المخلوقات بصفته وقدره
فإن هذا قول من أهل الكلام كالأشعرية والظاهرية وطائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وأما الجمهور من المسلمين وغيرهم فإنهم - مع أنهم يثبتون مشيئة الله وإرادته - يثبتون أيضا حكمته ورحمته وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية وهم يلزمهم من التناقص ما هو أعظم من ذلك فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار ويقولون : إنه علة موجبة للمعلول بلا إردة كان هذا في غاية التناقص ما هو أعظم من ذلك فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار ويقولون : إنه على موجبة للمعلول بلا إرادة كان هذا في غاية التناقص ومن سلك طريقة أبي المعالي في هذا الدليل لايحتاج إلى أن ينفي الحكمة بل يمكنه إذا أثبت الحكمة المرادة أن يثبت الإرادة بطريق الأولى
وحينئذ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض دال على مشيئة فاعله وعلى حكمته أيضا ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه
وإذا كان كذلك فقولنا : إن ما سوى هذا الوجه جائز يراد به أنه جائز ممكن من نفسه وأن الرب قادر على غير هذا الوجه كما هو قادر عليه وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصصت بعض الممكنات المقدرات دون بعض
فهذه المقدمة التي ذكرها أبو المعالي مقدمة صحيحة لا ريب فيها وإنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية وقد ذكر الكلام عليها في غير هذا الموضع وهو أن التخصص للممكنات ببعض الوجوه دون بعض : هل يستلزم حدوثها أم لا ؟
قال ابن رشد : وقد نجد ابن سينا يذعن إلى هذه المقدمة بوجه ما وذلك أنه يرى أن كل موجود ما سوى الفاعل فهو إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز وأن هذه الجائزات صنفان : صنف هو جائز باعتبار فاعله وصنف هو واجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته وأن الواجب بجميع الجهات هو الفاعل الأول قال : وهذا قول في غاية السقوط وذلك أن الممكن في ذابه وفي جوهره ليس يمكن أن يكون ضروريا من جهة فاعله وإلا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري فإن قيل : إنما نعني بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله وتفعا ارتفع هو قلنا : هذا الارتفاع مستحيل لازم عن مستحيل وهو ارتفاع السبب الفاعل وليس هذا موضع الكلام في هذا الرجل ولكن للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجزنا القول هنا معه
قلت : مراد ابن رشد أن المفعول لا يكون قديما أزليا فإن الضروري عنده وعند عامة العقلاء حتى أرسطو وأتباعه وحتى ابن سينا وأتباعه - وإن تناقصوا - هو القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه في الماضي والمستقبل وهذا يمتنع أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم بل هذا لا يكون إلا محدثا يمتنع أن ينقلب قديما فلهذا قال : الممكن يمتنع أن يكون ضروريا
أما كون الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه وهو المحدث يصير واجب الوجود بغيره فهذا لا ريب فيه وما أظن ابن رشد ينازع في هذا ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا وهذا حق وإن قاله ابن سينا فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلا
بل هو مذهب أهل السنة أنه م شاء الله كان فوجب وجوده وما لم يشأ لم يكن فامتنع وجوده وهذا يوافق عليه جماهير الخلق فإن هؤلاء يقولون : كل ما سوى الله ليس له من نفسه وجود وهذا يعنون بكونه ممكنا لا يعنون بذلك أنه يمكن أن لا يوجد فهو واجب بغيره غير واجب بنفسه ولهم نزاع فيما إذا عدم هل يقولون : عدم لعدم موجبه أولا يعلل عدمه ؟ بل ليس له من نفسه وجود وإنما وجوده بفاعله فإذا لم يفعله فاعل بقي على العدم المستمر هذا فيه نزاع لفظي اعتباري وتحقيق الأمر أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أن عدم علته فعل عدمه وأوجب عدمه ولكن يلزم من عدم علته عدمه فإن أريد بالعلة في عدمه المؤثر في عدمه فعدمه المستمر لا يحتاج إلى مؤثر وإن أريد به المستلزم لعدمه فلا ريب أن عدم علته مستلزم لعدمه وهؤلاء يقولون : إن الجائزات صنفان : صنف هو جائز باعتبار فاعله وصنف هو واجب باعتبار فاعله بل الجائزات الموجوده كلها واجبة باعتبار فاعلها وما لم يوجد من الجائزات فهو جائز باعتبار يفسه وهو ممتنع لغيره
فكما أن ما وجد من الممكنات فهو واجب لغيره لا لنفسه فما لم يوجد منها فهو ممتنع لغيره لا لنفسه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء أن يكون فلا بد أن يكون وليس هو واجبا بنفسه ولا له من نفسه وجوده بل الله مبدعه
وما لم يشأ لم يكن فإنه يمتنع وجود شيء بدون مشيئة الله تعالى وإن كان الله قادرا عليه وهو ممكن في نفسه أي يمكن أن يخلقه الله لوشاء الله خلقه
فهذا الباب كثير من النزاع فيه لفظي وهم لا يعنون بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله مرتفعا ارتفع هو ولكن ابن سينا وأتباعه الذين يقولون : إن الفلك قديم أزلي وهو مع هذا ممكن يعنون ذلك
وأما عامة العقلاء فيعنون بذلك أنه لا يوجد بنفسه وأنه باعتبار نفسه يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد وما كان كذلك فهو محدث
ولا ريب أنه مع هذا واجب بغيره حين وجوده لا قبل وجوده يمتنع ارتفاعه حين وجوده لا متناع ارتفاع فاعله ولا يمتنع ارتفاعه مطلقا إذا كان معدوما فوجد فارتفاعه مستحيل حين وجوده لازم عن مستحيل
والذي ينكره جمهور العقلاء - ابن رشد وغيره - على ابن سينا ومن وافقه من المتأخرين قولهم بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا واجبا بغيره فهذا مما ينكره الجمهور
وقد ذكر ابن رشد أنه مخالف لقول أرسطو ومتقدمي الفلاسفة ولهذا لزم ابن سينا وموافقيه من التناقض ما ذكر بعضه الرازي وهم إذا حقق الكلام عليهم في الممكن فروا إلى إثبات الإمكان الاستقبالي وهو أنه يمكن في هذا الموجود أن يعدم في المستقبل وفي المعدوم العين أن يوجد في المستقبل فيكون الممكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وهذا قول جمهور العقلاء
وكلامهم في الإلهيات وفي هذا الممكن القديم الأزلي مضطرب غاية الاضطراب كما ذكره ابن رشد وغيره وأما كلامهم فيه في المنطق وغيره فوافقوا فيه سلفهم
أرسطو واتباعه وسائر العقلاء وصرحوا بأن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا محدثا مسبوقا بعدم نفسه وقسموا الممكن إلى أقسام كلها محدثة وجعلوا قسيم الممكن العامي هو الضروري الواجب وجوده وهو القديم الأزلي وصرحوا بأن ما كان قديما أزليا يمتنع أن يقال : إنه ممكن يقبل الوجود والعدم 0
وممن صرح بذلك ابن سينا وأتباعه لما تكلموا في الإلهيات وأحدثوا مذهبا ركبوه من مذهب سلفهم - أرسطو وأتباعه - ومن مذهب أهل الكلام المعتزلة ونحوهم وقسموا الوجود إلى واجب ممكن كما قسمه المتكلمون إلى قديم وحادث 0
وهذا التقسيم ابتدعوه لم يذهب إليه قدماء الفلاسفة بل قدماؤهم قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض كما هو معروف في كتاب قاطبغورياس وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر 0
وهؤلاء جعلوا هذه القسمة للممكن وقالوا : الوجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب 0 فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين 0
وظنوا أن هذه الطريقة التي ابتدعوها في إثبات رب العالمين طريقة عظيمة وأنها غاية عقول العقلاء وهي من أفسد الطرق لا تدل على إثبات مبدع للعالم البتة فإنهم يحتاجون إلى حصر الوجود في القسمين
ثم إلى بيان أن الممكن الذي جعلوه قسيم الواجب يستلزم ثبوت الواجب الذي ادعوه وهذا ممتنع على طريقهم 0
فإنهم إذا قالوا : الموجود إما أن يقبل العدم وإما أن لا يقبله وما قبل العدم فهو الممكن ولا بد له من واجب 0
قيل لهم : إن عنيتم بما يقبل العدم المحدث كان مقتضى الحجة إثبات قديم محدث للمحدثات 0 وهذا حق ولكن القديم عندكم قد يكون واجبا وقد يكون ممكنا فليس في هذا ما يدل على إثبات واجب0
وإن قلتم : إن الممكن لا بد له من واجب 0
قيل لكم : فمعلوم أن المحدث لا بد له من فاعل 0 وأما ما جعلتموه قديما أزليا وسميتموه ممكنا فهذا لا يعلم أنه يفتقر إلى فاعل بل عامة العقلاء يقولون : إنه يمتنع أن يكون لهذا فاعل 0 ولو قدر أن له فاعلا لكان هذا يعلم بنظر دقيق خفي فلا يمكن أن يكون إثبات واجب الوجود موقوفا على مثل هذه المقدمة0
فإن قالوا : نحن قد قررنا أنه ممكن ولا بد للمكن من واجب 0
قيل : أنتم جعلتموه ممكنا قديما أزليا وهذا عند جمهور العقلاء جمع بين النقيضين وهو ممتنع 0 والممتنع قد يلزمه حكم ممتنع 0 وإنما موجب دليلكم ثبوت قديم أزلي وهذا حق0
والقديم الأزلي عندكم يمكن أن يكون واجبا ويمكن أن يكون ممكنا وهذا الممكن لم نعلم أنه يفتقر إلى واجب فلا يلزم ثبوت الواجب الذي ادعيتموه كما لم يلزم ثبوت الممكن الذي ادعيتموه
وإن قلتم : إذا قدر عدم هذا الممكن لزم ثبوت القسم الآخر وهو الواجب لانحصار الموجود في الواجب والممكن كما بيناه
قيل لكم : كما لم يلزم ثبوت هذا الممكن فلم يثبت نفيه بل الشك حاصل وإن قدر انتفاؤه فإذا لم يثبت وجود ممكن بل واجب لم يكن في هذا ما يدل على أن في الوجود ما هو ممكن وأمكن أن يقال الوجود كله واجب كما يقوله من يقول بوحدة الوجود ويقول : عين وجود ما يسمى ممكنا ومحدثا هو عين وجود الواجب فصار حقيقة قولكم إن الوجود كله إما واجب وإما ممكن هو نوعان : قديم ومحدث
وهذا الكلام لا فائدة فيه بل ليس فيه إلا ذكر التقسيم والشك في وجود الواجب أو إثبات واجب يعم المحدث والقديم وهو باطل قطعا فليس فيه إلا الجزم بالباطل أو الشك في الحق أو يقولوا : إن الموجود يمكن أن يكون كله واجبا ويمكن أن يكون ليس فيه واجب بل هو إما محدث وإما قديم ممكن
ومعلوم أن كل القولين معلوم الفساد بالضرورة وأن الوجود فيه حوادث كانت معدومة فوجدت وهذه ممكنات وأنه لا بد لها من قديم أزلي والقديم الأزلي يجب وجوده ويمتنع أن يكون ممكنا وهذا يبين أن كل ما سوى الواجب المبدع فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا كله يناقض ما قالوه
ولهذا يوجد في بحوث من سلك طريقهم ك الرازي و الآمدي من البحوث المضطربة في الواجب والممكن والعلة والمعلول ما ليس هذا موضع بسطه وقد تكلم عليه في غير هذا الموضع

فصل
فإن قالوا : نحن إذ قلنا : الوجود : إما واجب ذاته لا تقبل العدم وإما ممكن يقبل العدم وما كان قابلا للعدم فلا بد له من واجب لزم ثبوت الواجب على التقديرين مع قطع النظر عن الممكن : هل يكون قديما أم لا ؟
بل نفس تصور هذه الحقيقة وهو كونه يقبل العدم فيلزم افتقاره إلى فاعل قيل صحيح لكن هذا التقسيم لا يستلزم ثبوت القسمين في الخارج إن لم يبين ثبوت الممكن ولكن يلزم ثبوت موجود لا يقبل العدم على التقديرين وهذا لا يناقض قول القائل بأن الموجود واحد لا يقبل العدم وإنما يبطل قول هؤلاء إذا بين أن في الوجود ما هو ممكن يقبل العدم وليس في مجرد التقسيم ثبوت القسمين وإنما يثبت القسمان إذا ثبت أن في الوجود ممكنا يقبل العدم وهذا الممكن لا بد له من واجب وحينئذ فيكون استدلالا بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم وهذا استدلال بالمحدثات على القديم لا استدلال بالوجود من حيث هو جود الواجب كما ظن ابن سينا وأتباعه بأن الوجود من حيث هو وجود إذا دل على وجود واجب لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجبا
فإذا قال أنا أبين بعد أن فيه محدثا
قيل : إذا بين ذلك ثبت أن فيه قديما ويكون الدليل على ثبوت القديم وهو الحوادث وهذه طريقة صحيحة وهي تدل على إثبات قديم لا على ثبوت واجب له مفعول قديم لكن نفس الوجود يدل على كل تقدير ثم يقال : وليس الوجود كله واجبا قديما فإن نشهد حدوث المحدثات والمحدث ليس بقديم وليس بواجب الوجود وعدمه ولا بممتع الوجود يجب عدمه فإنه كان موجودا تارة ومعدوما أخرى فعلم أنه يمكن وجوده وعدمه وما كان هكذا فلا بد له من فاعل قديم أزلي يمتنع عدمه فثبت وجود الموجود القديم الأزلي من نفس الوجود ومن وجود المحدثات وثبت من وجود المحدثات أنه ليس كل موجود قديما ولا واجبا بل ثبت انقسام الوجود إلى قديم واجب وإلى محدث ممكن بهذه الطريق وهي طريق الحدوث وطريق الإمكان الذي لا يناقض الحدوث بل يلازمه فأما الإمكان الذي ابتدعوه فلا يثبت هو بنفسه ولا يثبت به شيء ثم الكلام في تعيين القديم الواجب وأن السماوات محدثه له طرق متعددة ضرورية ونظرية كما قد بسط في موضع آخر وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية : معرفته بعينه وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقه له حادثه بعد أن لم تكن وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة ولهذا قالت الرسل : { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار لما قال موسى : إني رسول من رب العالمين قال : { وما رب العالمين } قال له موسى : { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } ولما قال لموسى وهارون : { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين }
قال ابن رشد : وأما المقدمة الثانية وهي القائلة : إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيئا جائزا أزليا ومنعه أرسطوطاليس وهو مطلب عويص ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادتة وشهادة ملائكته
قلت : أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوته الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر ولا ممن يقول بقدم الأفلاك ولا ممن يقول قولا يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفا على ما انفرادوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ما هيتها وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود وأمثال ذلك وهذا الذي ذكره من ينازع هذين فإنه ينصر قول أرسطو طاليس ويقول : إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديما أزليا وحكايته لهذا عن أفلاطون قد يقال : إنه لا يصح فيما يثبته قديما من الجواهر العقلية كالدهر والمادة والخلاء فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة ونقل ذلك عنه فيه نظر
وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيرة أنها محدثة فإن أرسطو طاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة وعلى أصله يكون أزليا وهم ينقلون : إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطو طاليس وهو صاحب التعاليم وأما القدماء كأفلاطون وغيرة فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك وإن كانوا يقولون - أو كثير منهم - بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء أخر ويخلق من ذلك شيء آخر إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم فهذا قول قدمائهم أو كثير منهم وهو خير من قول أرسطو وأتباعه
قال ابن رشد : وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة بمقدمات : إحداها : أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني والثانية : أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا والثالثة : أن الموجود على الإرادة حادث ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة مثال ذلك أن السقمونيا ليس تدذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه من الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة
قال : والمقدمة القائلة : إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما لأنه إن كان محدثا احتاج إلى خلاء
قلت : أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين فيناقض ما قد ذكر أولا من أنه لا بد من المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول ومتى تسلم هذا أمكن أن يقال : إن مجرد اختيار الفاعل وهي إرادته خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل وبقدر دون قدر وبوصف دون وصف
وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمرا واحدا وجوديا يكون العالم فيه بل هم يقولون : إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة وإن كان ما وراءه عدم محض وتسمية ذلك موضعا كقول القائل : العالم في موضع ولفظ الموضع والمكان والحيز يراد به أمر موجود وأمر معدوم
قال ابن رشد : وأما المقدمة القائلة : إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل فهي مع فعل المراد نفسه لأن الإرادة من المضاف وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل مثل الأب والابن وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة فالمراد لا بد حادث وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة فالمراد الذي بالفعل قديم وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل فإذا لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثا ولابد
قال : والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة وذلك قوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وإنما كان ذلك كذلك لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث وسنبين هذا المعنى بيانا أتم عند القول في الإرادة قلت : الكلام في الإرادة وتعددها أو وحده عينها أو عمومها أو خصوصها وقدمها أو حدثها أوحدوث نوعها أوعينها وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه وهي من أعظم محارات النظار والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه لكن نفس تسليم الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه بل تسليم كون الشيء مفعولا يستلزم حدوثه فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا لفاعله المريد له الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم فهذا مما يعلم جمهور العقلاء بضرورة العقل
وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريدا لأن يفعل شيئا بعد شيء يكون كل ما سواه حادثا كائنا بعد أن لم يكن وتكون الإرادة قديمة بمعنى أن نوعها قديم وإن كان كل من المحدثات مرادا بإرادة حادثة قال : فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع تعالى وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين : أحدهما : أن تكون يقينية والثاني : أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول
قال ابن رشد : وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة ونحن نقول : إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فليست عامة للناس بما هم ناس ولوكانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثا
مثل قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله } البقرة : 282 ومثل قوله تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } العنكبوت : 69 ومثل قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } الانفال : 29 إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن إماته الشهوات قد تكون شرطا في صحة النظر لا أن إماته الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في العلم وإن كانت ليست مفيدة له
ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي بينا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه
قلت : العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به لأنه مقصود في نفسه وهو معين على حصول العلم النافع كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح كما أن الشرع أمربالعلم بالله تعالى لأنه مقصود في نفسه وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع
قال ابن رشد : وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئا من جنس طرق الأشعرية
قلت : طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية وإنما أخذها من أخذها ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة ذم هذه الطريقة كما تقدم ذكر كلامه في ذلك فذمها وعابها موافقه للسلف والأئمة في ذلك وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية فرأى اعتمادهم عليها فذلك تكلم عليها
وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد حتى في كتابه الذي سماه غرر الأدلة

كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية
قال في أوله : إنا ذاكرون الغرض بهذا الكتاب والمنفعة به لكي إذا عرف الإنسان شرف تلك المنفعة وشرف الغرض صبرت نفسه على تحمل المشاق في طلبها والاجتهاد في تحصيلها فنقول : إن الغرض به هو التوصل بالأدلة إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال وصدق رسله وصحة ما جاءوا به
قال : وظاهر أن المنفعة بذلك عظيمة شريفة من وجوه منها : أن من عرف هذه الأشياء بالأدلة أمن من أن يستزله غيره عنها ومنها : أنه يمكنه أن يرد غيره عن الضلال إليها ومنها أن يكون على ثقة مما يقدم عليه في معاده غير خائف من أن يكون على ضلال يوديه إلى الهلاك
قال : وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن نصدق الكذابين وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله فنكون آمنين في المعاد
ثم قال : باب الدلالة على محدث الأجسام الدلالة على محدث الأجسام والجواهر هي أن الأجسام والجواهر محدثة وكل محدث فله محدث فللأجسام إذا محدث
قال : وهذا الكلام يشتمل على أصلين : أحدهما : قولنا : إن الجسم لم يسبق الحركات والسكنات المحدثة والآخر : قولنا : وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث فالأول يشتمل على ثلاث دعاو : إثبات الحركة والسكون وأن الجسم ما سبقها وأنها محدثان
والأصل الآخر لا يشتمل إلا على دعوى واحدة : وهو أن ما لم يسبق المحدث محدث فصارت الدعاوى أربعا ونحن نبينها ليصح حدوث الجسم
قلت : وهذه الدعاوى الأربع التي ذكرها أبو المعالي في أول الإرشاد لكن جعل بدل الحركات والسكنات الأعراض ولكنه لم يقرر حدوث الأعراض إلا بحدوث الأكوان ولم يقرر ذلك إلا بالاجتماع والافتراق وأما طريقة الحركة والسكون التي اعتمدتها المعتزلة فهي التي يعتمدها الرازي وهي أقوى مما سلكه الآمدي وغيرة حيث سلكوا طريقة الأعراض مطلقا بناء على أن العرض لا يبقى زمانين فإن هذه أضعف الطرق وطريقة الحركة أقواها وطريقة الاجتماع والافتراق بينهما وهي طريقة أبي الحسن الأشعري وطريقة الكرامية وغيرهم ممن يقول : إنه جسم
ثم إن أبا الحسين أحتج لهذه الدعاوى الأربع بنظير ما تقدم
قيل : فإن قيل : فما الدليل على أن الحركة غيرة ؟
قيل : لو كان تحرك الجسم هو الجسم لكان إذا بطل تحرك بطل الجسم ولو كان تحرك الجسم هو الجسم لكانت الدلالة على حدث التحرك دلالة على حدث الجسم فلو كان تحرك الجسم هو الجسم لكان أسهل في الدلالة على حدث الجسم
قلت : هذا ينبني على أن ما ليس هو الشيء فهو غيره وهو قول المعتزلة وأما الصفاتية فينازعونهم في هذا ويقولون : الصفة لا يطلق عليها : إنها هي هو ولا إنها غيره وأئمتهم لا يقولون : لاهي هو ولا هي غيره لأن لفظ الغير مجمل وكثير منهم يقولون : لا هي هو ولا هي غيره لكن الاستدلال يمشي بأن تكون الحركة ليست هي الجسم وهي حادثة ويمشي بأن يقال : الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود والحركة تفارق الجسم بالوجود فإنه قد يكون موجودا ولا حركة له لكن يقال : لانسلم أن كل جسم يجوز أن يفارقه نوع الحركة بل قد تقارنه عين الحركة وهم لايدعون أن الجسم مستلزم لعين الحركة والسكون بل لنوعها قال أبو الحسين : والدلالة على استحالة سبق الجسم لجنس الحركة والسكون وهي أنه لو سبقه لكان لا واقفا ولا مارا ولا حا صلا في مكان مع أنه جرم متحيز والعلم باستحالة ذلك ضروري قال : والدلالة على حدوث الحركة والسكون هي أن كل حركة وسكون يجوز
عليهما العدم والقديم لايجوز عليه العدم وإنما قلنا : يجوز على السكنات والحركات لأنه ما من جسم متحرك إلا ويمكن أن يسكن أو يحول من حركة إلى حركة كخروج الفلك من دورة إلى دورة وما من جسم ساكن إلا ويمكننا أن نحركه : إما بجملته أو بأجزائه كالأجسام العظام وإنما قلنا : إن القديم لا يجوز عليه العدم لأن القديم واجب الوجود في كل حال وما وجب وجوده في كل حال استحال عدمه
وإنما قلنا : إنه واجب الوجود في كل حال لأنه موجود فيما لم يزل فإما أن يكون وجوده على طريق الجواز أو على طريق الوجوب فلو كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل ويستحيل أن يوجد القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدم فيخرجه فصح أن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
ثم قرر الأصل الثاني وهو المهم
قال : فإن قيل : ما أنكرتم أن الحوادث الماضية لا أول لها ولا يلزم حدث الجسم إذا لم يتقدمها ؟
قيل : إذا كان كل واحد من الحوادث له أول استحال ألا يكون لجميعها أول لأنها ليست سوى آ حادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود ولا يكونوا كلهم سودا ولأن كل واحد قد سبقه عدمه فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها ولا من عدمها ولا يفصل السابق من المسبوق
قلت : هذه المقدمة هي التي نازعهم فيها المنازعون كما تقدم ذكر بعض طعن الطاعنين فيها في كلام الرازي وغيره وهؤلاء يقولون : لا نسلم أنه إذا كان لكل واحد منها أول أن يكون لجميعها أول كما أن كل واحد منها له آخر وليس لجميعها آخر وكما أن كل واحد من العشرة عشر وليس المجموع عشرا وكل واحد من أعضاء الإنسان عضو وليس المجموع في جميع المواضع بل تارة يتصف المجموع بما يتصف به الأفراد كما أنه إذا كان كل جزء من الجملة موجودا فالجميع موجود وإن كان كل جزء من المجموع ممكنا فالمجموع ممكن وإذا كان كل جزء منها معدوما فالجميع معدوم وتارة لا يكون كذلك كما تقدم
فلا بد من بيان أن مورد النزاع من أحد الصنفين وإلا فدعوى ذلك هو أول المسألة فدعوى ذلك مصادرة وتمثيلهم بالزنج تمثيل بأم جزئي لايحصل به المقصود إلا أن يعلم أن هذا مثل هذا
ولهم عنه أجوبة : المنع والمعارضة والفرق أما المنع : فيقولون : لا نسلم أن هذا مثل الزنج
وأما المعارضة : فيعارضون ذلك بعلمنا بأن كل حركة لها آخر وكل حادث له آخر وليس لكل الحركات والحوادث آخر وأن كل عدد له نهاية وليس للأعداد نهاية وأن كل واحدة من الأخوات يباح التزويج بها وليس الجمع بين الاخوات مباحا وكل واحد من أفراد العشرة واحد وهو ثلث الثلاثة وربع الأربعة وليست العشرة ثلث الثلاثة ولا ربع الأربعة وأن كل واحد من أجزاء المركب هو مفرد بشرط المركب ليس مفردا بسيطا وأن كل واحد من أجزاء الدائرة جزء دائرة والدائرة ليست جزء دائرة وأن كل واحد من أجزاء المطر قطرة وليس المجموع قطرة وليس المجموع قطرة فإنه يفرق بين ما له مجموع يمكن أن يوصف بما وصفت به الأفراد وبين ما ليس له مجموع يمكن وصفه بذلك ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل زنجي فهو أسود فإنا نعلم بالضرورة أن مجموع الزنج سود وذلك لأن المجموع غير كل واحد واحد من الأفراد فتارة يمكن وصفه بصفات الأفراد كما نقول عن الحوادث المحدودة الطرفين : إن مجموعها حادث كما أن كل واحد منها حادث
وتارة لا يمكن وصفه بذلك اللفظ بل بصيغة الجمع فإن مجموع السودان لا يقال فيه بنفس اللفظ : أسود ولا يقال غير أسود بل يقال : سود وسود صيغة جمع فهي بمعنى قولنا : كل زنجي أسود
وإذا لم يكن الحكم على المجموع هو بلفظه الحكم على الأفراد كان نظير مثال الزنج وأما إذا اتحد الحكم فقد يكون حكم المجموع فيه حكم الأفراد وقد لا يكون
فالأول إذا قلنا : كل محدث فهو مخلوق أو فهو ممكن أو : كل ممكن فهو مفتقر إلى غير ممكن
فإن ذلك يوجب أن يكون مجموع المحدث مخلوقا وممكنا ومجموع الممكن مفتقرا إ لى غير ممكن لأن هذا الحكم ثابت للجنس من حيث هو هو فيلزم ثبوته حيث تحقق الجنس والجنس يتحقق في المجموع كتحققه في كل فرد فرد
فطبيعة المحدث تستلزم كونه مخلوقا ممكنا وطبيعة الممكن إذا وجد تستلزم الافتقار إلى غير ممكن والطبيعة لازمة للمجموع فيستحيل وجود الطبيعة منفكة عن لازمها فلا يكون مجموع الممكنات إلا مفتقرا إلى غيره كما لا يكون كل فرد منها إلا مفتقرا إلى غيره ولا يكون مجموع المخلوقات إلا حادثة وممكنة كما لا يكون كل منها إلا حادثا ممكنا كذلك في المعنى
لكن من المجموع ما يكون اللفظ يتناول جنسه كما يتناول الواحد منه كلفظ المخلوق والمحدث والممكن ومنه ما يكون لفظ الكثير فيه صيغة جمع لا يستعمل في الواحد منه
والزنج ليس لهم مجموع يحكم عليه بأنه أسود أو ليس بأسود بل يقال : مجموعهم سود وذلك معنى قولك : كل واحد منهم أسود ولكنه الأسود يتصف به المجموع من حيث هو مجموع كما يتصف به كل واحد واحد بخلاف اتصاف المجموع بكونه محدثا وممكنا ومفتقرا إلى غيره فإن هذا الوصف يمكن ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع كما يثبت لكل فرد من أفراده
والحوادث إذا حكم على مجموعها بأن له أولا ليس له أول فهو حكم على الجنس المجموع فإن علم أن الجنس الحادث لا يكون دائما متصلا بل لا يكون إلا بعد عدم كما علم أن كل فرد فرد من أفراده كذلك كان هذا نظير المحدث والممكن لكن النزاع في هذا فإنا إذا عرضنا على العقل المحدث عن عدم من حيث هو مع قطع النظر عن أفراده ومجموعه : هل يكون مخلوقا ممكنا ؟ جزم العقل بأن ما كان مخلوقا محدثا فإن كونه محدثا يستلزم كونه ممكنا إذا لو لم يكن كذلك لزم كونه واجبا فلا يعدم أو ممتنعا فلا يوجد
والمحدث كان معدوما وصار موجودا فطبيعته تنافي الوجوب و الامتناع لا فرق في ذلك بين الواحد والجنس
وإذا عرضنا على العقل الحادث مع قطع النظر عن أفراده وجنسه : هل يستلزم أن يكون منتهيا منقطعا لن ابتداء أو يستلزم ذلك بل يمكن دوامه ؟ لم تجد في العقل ما يقضي بأن جنس الحادث يجب أن يكون منتهيا له ابتداء وهذا الباب من تدبره تبين له الفرق بين تسلسل المؤثرات الفاعلات أنه ممتنع وبين تسلسل الآثار : أثرا بعد أثر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود الفرق بين الزنجي وبين الحادث ومما يوضح ذلك أنا إذا قلنا : كل زنجي أسود لم يكن في الزنج ما ليس بأسود لأن هذا النقي يناقص ذلك الإثبات وصدق أحد المتناقضين اللذين لا يرتفعان يوجب كذب الآخر فإنا إذا قلنا : بعض الزنج ليس بأسود كان مناقضا لقولنا : كل زنجي أسود فإذا لم يكن في الزنج ما ليس بأسود لزم أن يكون جميعهم سودا وأما إذا قلنا : كل حادث فله يلزم أن لا يكون في الحوادث ما ليس له أول وهكذا عكس نقيضه فيمتنع أن يكون جميع الزنج سودا ؟ هذا محل نزاع فيقال : الفرق معلوم بين قولنا : جميع الحوادث لها أول بمعنى : أن كل واحد منها له أول وبين قولنا : إن جنس الحوادث لها أول بمعنى : أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة ولا متسلسلة فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر وهي مع ذلك دائمة مستمرة فيمكنه الحكم بأن كل حادث له أول كما أن كل زنجي أسود وهو بعد ذلك لم يعلم : هل هي دائمة أم هي منقطعة ؟
بل العلم بكون الحادث له أول هو العلم بأنه مسبوق بعدم وليس العلم بأن كل حادث هو مسبوق بعدم هو العلم بأنه كان العدم مستمرا دائما حتى حدث جنس الحوادث بل يمكن العقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث وبعده حادث وما من عدد إلا وبعده عدد 0 وهو يعلم أن كل حادث فله أول وكل نقص فله آخر وكل عدد فله حد ومنتهى وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى 0
ومما يبين ذلك الفرق : أن كون الشخص أسود وأبيض صفة قائمة به في حال وجوده فلا يمكن انتفاؤها عن الجنس الموجود مع قولنا : إن كلا منهم أسود 0 وأما أن كون الشيء حادثا أو مسبوقا بعدم أو موجودا بعد أن لم يكن أو له أول فهو بمنزله كونه ماضيا وملحوقا بعدم ومعدوما بعد ما كان 0
وهذا يقتضي أن كلا من هذه الأمور ثابت لكل واحد من الحادث والمنقضي أما كون جنس المنقضي انقطع فلا يكون بعده منقض أو كون جنس الحوادث منقطعا فلم يكن قبل الحوادث المعينة شيء حادث هذا نوع آخر
والحكم على كل فرد فرد غير الحكم على المجموع من حيث هو مجموع في النفي والإثبات ففي النفي نفرق بين قوله : لا تأكل هذا ولا هذا ولا تأكل السمك وتشرب اللبن إذا الأول نهى عن كل منهما والثاني نهى عن جميعها
وكذلك إذا قال : ما ضربت لا هذا ولا هذا أو لم أضربها وعنى نفي ضربهما جميعا ولهذا تنازع الفقهاء فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه كما لو حلف : لا آكل الرغيف فأكل بعضه ولم يتنازعوا في أنه لو عنى أكل جميعه لم يحنث بأكل البعض وهذا كما في قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } النساء : 23 ونهي النبي صلى الله عليه و سلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها فالجميع بينهما منهي عنه فهذه وحدها مباحة وهذه وحدها مباحة واجتماعهما ليس مباحا
وكذلك كل واحد من الضدين مقدور ممكن وليس الجمع بينهما مقدورا ممكنا وكذلك الجائع إذا حضرته أطعمة يكفيه كل منها فكل منها مباح له أكله ولا يباح له أكل المجموع حتى يبشم ويموت وكذلك من قال لغيره : خذ عبدا من عبيدي أو فرسا من خيلي كل منها مباح له وليس المجموع مباحا له فإذا قيل : كل من هذه مباح لم يستلزم أن يكون المجموع مباحا والمقصود أن الأمور التي يتصف بها كل واحد من الأفراد ثلاثة أنواع :
أحدها : ما لا يمكن تصوره في المجموع فلا يقال : هو ثابت ولا منتف
والثاني : ما يمكن تصوره في المجموع وهذا قد يكون ثابتا كثبوت الافتقار إلى الفاعل في مجموع الممكنات والحادثات وثبوت الحل في كل من الأجنبيات منفردة وفي جمع أربع وقد لا يكون ثابتا كثبوت النهاية في أفراد الحوادث المنقضية لا في مجموعها وثبوت الحل في كل من الأختين لا في مجموعهما والفرق بين هذا وهذان أن الحكم الذي ثبت للأفراد إن كان للمعنى الذي يوجد في المجموع ثبت له وإن لم يكن لذلك المعنى لم يلزم ثبوته له فيكون المحدث ممكنا أو مفتقرا إلى الفاعل ثبت لحقيقة الحدوث وهذا ثابت للأفراد والمجموع وكذلك افتقار الممكن إلى ما ليس ثبت لحقيقة الإمكان فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه وهذه الحقيقة لا تفرق بين الأفراد وبين المجموع وأما كون الحادث له أول أو الماضي له انتهاء فهذا يعلم في كل حادث حادث وماض ماض وأما كون هذا الجنس كذلك فالطبيعة تلزم كل واحد واحد وليس في الخارج مجموع ثابت للحوادث والماضيات حتى يقال : هل يحكم لذلك المجموع بحكم أفراده أم لا ؟ فإن أفراده موجودة على التعاقب وإذا قدر حوادث متعاقبة لم يكن في العلم بهذا ما يوجب أن لا تكون دائمة
لكن إذا قدر إجتماع حوادث في آن واحد أو كانت محدودة قيل : إن هذا المجموع له ابتداء وإذا قدر اجتماع أمور منقضية أو محدودة الآخر
قيل : لها انتهاء
وأما ما لا يمكن اجتماعه لا من هذا ولا من هذا فليس وجوده مجتمعا في الخارج وإنما يجتمع أفراده في الذهن لا في الخارج
يبين ذلك أن ما لا يوجد إلا متعاقبا متتاليا إذا قيل : إن كل واحد من أفراده يعقب فردا آخر لم يعلم من ذلك أنه كله يعقب شيئا آخر إذا لم يحكم على جنسه بأنه يعقب غير جنسه وإنما حكمنا على أفراد الجنس بالتعاقب
وكذلك إذا قلنا : كل واحد من أفراده سبقه عدم لم يحكم على الجنس بأنه سبقه عدم كما حكمنا هناك على جنس المحدث بافتقاره إلى الفاعل وعلى جنس الممكن بافتقاره إلى ما ليس بممكن أو إلى الفاعل أو الواجب ونحو ذلك والكلام على هذا مبسوط في موضعه
والمقصود التنبيه على ما ذكره المنازعون لأبي الحسين وغيره من القائلين بأن جنس الحوادث ممتنع دوامها من أهل الإسلام والسنة والفلاسفة وغيرهم وكذلك قوله : كل واحد قد سبقه عدم فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها وعدمها ولا ينفصل السابق من جنس المسبوق فإنهم يقولون : كل واحد مسبوق بعدم نفسه لا بعدم جنسه فإذا كان الجنس لا أول له لم يلزم أن يقارنه عدمه بل يقارن كل فرد من أفراده عدم غيره
وهم يسلمون عدم كل واحد واحد كما يسلمون حدوثه فإن حدوثه مستلزم لعدمه لكنهم ينازعون في عدم الجنس وانتهائه وامتناع دوامه في الأزل كما ينازعون في انتهائه وامتناع دوامه في الأبد

كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وبالجملة : هذا الموضع هو من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسماوات والأرض ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام وأئمة أهل الحديث والسنة وطوائف من أهل النظر والكلام مع أئمة الفلاسفة تنازعهم في هذا
ثم إنهم والدهرية من الفلاسفة اشتركوا في أصل تفرعت عنه مقالاتهم وهو أن تسلسل الحوادث ودوامها يستلزم قدم العالم بل قدم السماوات والأفلاك فقال الفرقان إذا قدر حادث بعد حادث إلى غير نهاية كان العالم قديما فتكون الأفلاك قديمة
ثم إن الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله قالوا : تسلسل الحوادث ودوامها واجب لإن حدوث الحادث بدون سبب ممتنع فيمتنع أن يكون جنسها حادثا بلا سبب حادث لكل حادث سبب حادث كان الجنس قديما فيكون العالم قديما
وأبو الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام قالوا : تسلسل الحوادث ممتنع لأن كل حادث مسبوق بالعدم فيكون الجنس مسبوقا بالعدم فيلزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث والأجسام لاتخلو من الحوادث فتكون حادثة
ونفس الأصل الذي اشترك فيه الفريقان باطل وهو أنه يلزم من إمكان تسلسل الحوادث قدم الأفلاك أوقدم العالم أوقدم شيء من العالم
والفلاسفة الدهرية أعظم إقرارا ببطلانه من المعتزلة فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها ولا قدم السماوات والأفلاك ولا شيء من العالم والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لايقتضي قدم شيء من أعيانها وأن تسلسلها ممكن بل واجب
فيقال لهم : هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئا بعد شيء فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة ؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها ؟ بل يقال : هذا يبطل قولكم فإنها إذا كانت متسلسلة امتنعت أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة فإن العلة التامة لايتأخر عنها شيء من معلولها والحوادث متأخرة فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط
وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم يقولون : أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه خالق كل شيء وأنه القديم وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم ؟
وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك وكل حادث مسبوق بحادث مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور حصل مقصودكم
وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء أو فاعلا لما يشاء لم يناقض هذا كون العالم مخلوقا له فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام كما أخبرت بذلك الرسل والله خالق كل شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم
ويقول لهم منازعوهم : أنتم أردتم إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطا في حدوثه بل وشرطا في العلم بالصانع فكان ما ذكرتموه مناقضا لحدوث العالم وللعلم بحدوثه وللعلم بإثبات الصانع
وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحداث المحدثات لم يفعل شيئا من الأفعال ولا الأقوال بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية لها في الأزل ثم حين أحداثها هو على ما كان عليه قبل ذلك فحدث من غير تجدد شيء أصلا
فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل
وقلتم : يجب أن يكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن بل أن يكون مخلوقا في غيره لا قائما بذاته أو أنه لايتكلم بمشيئته وقدرته
وقلتم : لا يمكنه أن يحدث شيئا إن لم يمتنع دوام الفعل منه فلا يكون قادرا متكلما إلا بشرط أن لا يكون كان قادرا فاعلا متكلما وقلتم : لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط وبدلتم الفضايا العقلية كما حرفتم الكتب الإلهية ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم وزادوا في الكتب الإلهية تحريفا وإلحادا وصار أصل الأصول عندكم - الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة أتباع السلف والأئمة ومن غير أهل القبلة - هو قولكم : إذا كان كل واحد من الحدوث له أول استحال ألا يكون لمجموعها أول لأنها ليست سوى آحادها والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم وليس الجسم جوهرا فردا بل المجموع من أفراد وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد
وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان وليس كل عضو منه إنسان وكذلك كل من الشمس والقمر والشجر والثمر وغير ذلك من الأجسام المجتمعة لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها والإنسان حي سميع بصير متكلم وليس كل واحد من أبعاضه كذلك فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائما باقيا أن يكون كل من أفراده دائما ؟
والأمور المقدارية والعددية كالكرات والدوائر والخطوط والمثلثات والمربعات والألوف والمئات كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم أو طويل أو ممتد لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك
قال تعالى في الجنة : { أكلها دائم وظلها } الرعد : 35 ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفني وينقضي والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل
قال تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ص : 54 فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد وأن كل واحد من أجزائه ينفد
ويقال للزمان والحركات في الأجسام : إنها طويلة ممتدة ولا يقال للصغير من أجزائها : إنه طويل ممتد فيكون الرب لم يزل ممتلكا إذا شاء أولم يزل فاعلا لما يشاء هو بمعنى كونه لم يزل متكلما فعالا وبمعنى دوام كلامه وفعاله لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل
فإن قلتم : الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره فكما أن الممكنات - مفردها ومجموعها - يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل وكذلك المحدثات فكذلك الحوادث - مفردها ومجموعها - يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير
وهذا من جنس قولهم : الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة
قال لكم منازعوكم : هذا لفظ مجمل مشتبه وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة مع إلغاء الفارق ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس
وذلك أن قولهم : الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره أو الحركة - من حيث هي - تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير
يقال لكم : الحادث المطلق لاوجود له إلا في الذهن لا في الخارج وإنما في الخارج موجودات متعاقبة ليس مجتمعة في وقت واحد كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة والموجودات والمعدومات فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث فالحكم إما على كل فرد فرد وإما على كل جملة محصورة وإما على الجنس الدائم المتعاقب
فيقال لكم : أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقا بغيره أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقا ؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما وأما الثالث فيقال : أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه أم مسبوق بفاعله بمعنى أنه لا بد من محدث ؟ الثاني مسلم والأول محل النزاع
وكذلك في الحركة : إن قلتم : إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم فهذا لا نزاع فيه وإن قلتم : إن نوعها مسبوق بالعدم فهذا محل النزاع
وذلك أن معظم ما اعتمدوا عليه قولهم : الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير فإن الحركة تحول من حال إلى حال فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض وكل ما كان مسبوقا بغيره لم يكن أزليا فالحركة يمتنع أن تكون أزلية فيقال لهم : قولكم : الحركة تستلزم المسبوقة بالغير سبق بعض أجزائها على بعض وهو المعنى الذي دللتم عليه ؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم أم مسبوقة بالفاعل ؟
أما الأول وهو الذي دللتم عليه فإنه يقتضي نقيض قولكم وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجودا لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى وتلك الحال مسبوقة بأخرى فكان ما ذكرتموه دليلا على حدوث الحركة كما أنه يدل عل حدوث أعيان الحركة وأجزائها فهو يدل على دوام نوعها وهو نقيض قولكم
فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم وحينئذ فيقول المنازع : نحن نقول بموجب دليلكم وهو حجة عليكم وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم فلم تذكروا على هذا دليلا أصلا وهو مورد النزاع
وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل فهذا أيضا يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقا انفصاليا وإن لم يقيموا دليلا على هذا فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلا عليه وما أقمتم عليه دليلا لا يدل على قولكم بل على نقيضه
ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة : أنتم لم تقيموا دليلا عل قدم شيء من العالم بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية وهذا يدل على نقيض قولكم فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه
وأما قدم شيء من العالم فلا دليل لكم عليه بل دليلكم يدل على نقيضه فإنه لو كان المفعول مقارنا للفاعل لزم ألا يحدث في العالم شيء والطائفتان جميعا أصل قولها الكلام في الحركة فهؤلاء يقولون : يمتنع أن تكون الحركة دائمة فلا بد أن يكون جنس الحركة حادثا عن غير سبب حادث
وهؤلاء يقولون بل جنس الحركة يمتنع أن يكون حادثا فيمتنع أن تحدث الحركة لا من حركة والزمان مقدار الحركة فيجب قدم نوعه ثم قالوا : ولا حركة فوق حركة الفلك ولا قبلها إلا مقدار هذه الحركة فتكون هذه الحركة وزمانها أزليين
فيقال لهم : من أين لكم أنه لا حركة قبل حركة الفلك ولا فوقها ؟ وهل هذا إلا قول بلا علم ونفي لما لم تعلموا نفيه وتكذيب لما لم تحيطوا بعلمه ولما يأتيكم تأويله ؟
ثم قولكم بأنه لا حركة إلا هذه الحركات مع أنه لا أول لها ولا آخر وهذا كذلك وهذا أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة
قالوا : فالجسم يمتنع أن يتحرك حركة لا تتناهى كما ذكر ذلك أرسطو لأن الجسم ينقسم فتكون حركة الجزء مثل حركة الكل لا تتناهى وهذا ممتنع : يمتنع أن يكون الجزء مثل الكل
قيل لهم : بل هذا الذي ذكره أرسطو وتلقيتموه بالقبول يدل على نقيض مقصوده ومقصودكم فإن الجسم إذا قامت به حركة فحركة مجموع الجسم أكبر من حركة بعضه في المكان وهذا غير ممتنع عند أحد من العقلاء فليس حركة الجزء مثل حركة الكل ولكن كلاهما لا يتناهى بعضه أكثر من بعض في الزمان وما لا يتناهى لا يكون شيء أكبر منه
فهذا يدل على فساد قولكم لأنكم تقولون : إن حركة المحيط أعظم من الحركة المختصة بفلك الشمس والقمر وغيرهما وكلاهما لا يتناهى فهذا الذي ذكرتموه في حركة الجسم الواحد يستلزم بطلان قولكم في حركة الجسمين وأما الجسم الواحد فإن قولكم فيه ينبني على أنه يتبعض وأن حركته متبعضة حتى يقال : إن بعضه يساوي كله في عدم النهاية وهذا ممتنع بل هي حركة واحدة لا أول لها ولا آخر ولا امتناع في ذلك
ويقال للمتكلمين : إن قلتم : إنه مسبوق بالمحرك بمعنى أنه لا بد للحركة من محرك فهذا أيضا مسلم لكن قولكم : إن المحرك لا يجوز أن يحرك شيئا حتى تكون الحركة ممتنعة عليه أولا ثم تصير ممكنة من غير تجدد شيء فتنقلب من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث سبب أصلا ولا يجوز أن يحدث شيئا حتى يحدثه بلا سبب حادث أصلا
هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم ويقولون لكم : لم ينزل الله قادرا على الفعل والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه فكل ما هو مقدور للرب تعالى فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا
ويقولون : إذا قلتم : لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا لأن الفعل لم يكن ممكنا ثم صار ممكنا فما الموجب لهذا التجدد والتغير ؟
فإن قلتم : حدث ذلك بلا سبب كان هذا أعجب من قولكم الأول إذا كان القادر بصير قادرا بعد أن لم يكن من غير تجدد شيء أوجب قدرته
وإن قلتم ما ذكره أبو الحسين : المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم فيمتنع وجوده في الأزل
قيل لكم : إن الفاعل لا يكون فاعلا حتى يحصل الشيء عن عدمه فلا يكون الفعل نفسه أو المفعول نفسه قديما لكن لم قلتم : إنه يشترط في الفعل المعين عدم غيره ؟ ولم قلتم : إنه لا يكون فاعلا لهذه السموات والأرض حتى لا يكون قبل ذلك فاعلا أصلا ولا يكون فاعلا حتى يكون جنس الفعل منه معدوما بل ممتنعا ؟ فهذا غير واجب في المعقول بل المعقول يعقل أنه حصل الشيء عن عدم
وإن كان قبل تحصيله حصل غيره عن عدم وهم قد يقولون : كان في الأول قادرا على الفعل فيما لم يزل وهذا كلام متناقض فإنه في حال كونه قادرا لم يكن الفعل ممكنا له عندهم
فحقيقة قولهم : كان قادرا حين لم يكن قادرا فإن القادر إنما يكون قادرا على ما يمكنه دون ما لا يمكنه فإذا كان الفعل في الأزل - وهو الفعل الدائم أي الذي يدوم جنسه - غير ممكن له مقدورا له فلا يكون قادرا عليه
وهذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء المتكلمين وكان هذا من أسباب لعنة بعضهم على المنابر
ويقال لهم : مقصودكم الأول نصر الإسلام والرد على مخالفيه وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن أحد من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان هذا القول الذي أحدثتموه وجعلتموه أصل دين المسلمين ليس فيه أن الرب لم يزل لا يفعل شيئا
ولا يتكلم بشيء ولا يمكنه ذلك ثم إنه بعد تقدير أزمنة لا نهاية لها فعل وتكلم وإنه
صار ممكنا من الفعل والكلام بعد أن لم يكن متمكنا بل القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين يناقض ما ذكرتموه فكان ما ابتدعتموه من الكلام الذي ادعيتم أنه أصل الدين مخالفا للسمع والعقل ثم إنه صار من تقلدكم ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم
ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم بل المعروف عنهم يناقض ذلك ولكن الثابت عند الأنبياء أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن خلاف قول الفلاسفة الذين يقولون : إن الأفلاك أو العقول أو النفوس أو شيئا غير ذلك مما سوى الله قديم أزلي لم يزل ولا يزل
ويقال : قول القائل : الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم أتريد به الفاعل للشيء المشار إليه أنه لا يكون فاعلا له إلا إذا حصله عن عدم ؟ أم تريد به أنه لا يكون الفاعل في نفسه فاعلا لشيء حتى تكون فاعليته ممتنعة ثم صارت ممكنة ؟
أما الأول فمسلم والثاني ممنوع وسبب ذلك الفرق بين الفعل ونوعه فإذا لم يعقل فاعل لمعنى إلا بعد عدمه لم يلزم ألا يعقل كون الفاعل فاعلا إلا بعد أن لم يكن فاعلا بل العقل لا يعقل حدوث فاعلية بلا سبب

تابع كلام أبي الحسين البصري
قال أبو الحسين البصري : فإذا ثبت حدوث العالم فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذا كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز ألا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه ويستدل على أنه عالم قادر فصح قولنا
قال : واستدل شيوخنا على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث لأجل أنه محدث فحدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثة احتاجت إلى محدث والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث 0 وإن كرهناه أو كنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه محتاج إلينا 0
قال : والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لحدوثه أو لبقائه أو لعدمه احتاج إلينا لبقائه لوجب ألا يبقى البناء إذا مات الباني 0 ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين 0 فصح أنه يحتاج إلينا ليحدث ولإن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه 0 فعلمنا أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا أصل أصول القوم الذي بنوا عليه دينهم الصحيح والفاسد فإن الإقرار بوجود الصانع تعالى وأنه حي عالم قادر ونبوة نبيه صلى الله عليه و سلم حق لا ريب فيه وأما نفيهم صفات الرب تعالى ودعواهم أنه لم يتكلم بكلام قائم به ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ونحو ذلك فهو من دينهم الفاسد
وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة وإبطاله أخرى فإنه كان ذكيا كثير الكلام والتصنيف فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم
وابن الجوزي يقتدي به فيما يدخل فيه من الكلام مثل كلامه في منهاج الأصول وفي كف التشبيه ونحو ذلك
ولهذا يوجد في كلام هؤلاء من نفي الصفات الخبرية ومنعهم أن تسمى الآيات والأحاديث آيات الصفات وأحاديث الصفات بل آيات الإضافات ونصوص الإضافات ونحو ذلك من الكلام الموافق لأقوال المعتزلة ما يبين به أن الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين للصفات الخبرية ونحو ذلك أقرب إلى السنة والسلف والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره من كلام هؤلاء الذي مالوا في هذا إلى طريقة المعتزلة
وهذه الطريقة التي سلكها أبو الحسين في إثبات أن المحدث لا بد له من حادث هي طريقة أبي المعالي وابن عقيل في كثير من كلامهم وغيرهم
والقاضي أبو بكر يذكر ما يشبهها في الأصلين من استدلاله على افتقار المحدث إلى محدث بالتخصيص والاستدلال على ذلك بالقياس
والأشعري أحسن استدلالا منه مع أنهم كلهم سلكوا سبيل المعتزلة في هذا الأصل وسلموا كلامهم وهي طريقة أثبتوا فيها الجلي بالخفي وأرادوا بها إيضاح الواضح كمن يقرر القضايا البديهية بقضايا نظرية يسندها إلى قضايا أخرى بديهية وذلك العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين في العقل من العلم بأن ما جاز حدوثه لم يكن بالحدوث أولى من ألا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وبأن ما وجب حدوثه وجب في كل حال
فإن هذه القضايا وإن كانت حقا وهي ضرورية فالعلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين منها والعقل يضطر إلى التصديق بهذه أعظم مما يضطر إلى التصديق بتلك وتصور طرفي هذه القضية أبده في العقل من تصور تلك ولا تعرض هذه القضية وتلك على سليم الفطرة إلا صدق بهذه قبل تلك
وهذا كقول أبي المعالي ومن وافقه على طريقة إذا أثبت حدوث العالم : فالحادث جائز وجوده وكل وقت صادفه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته بساعات فإذا وقع الوجود الجائز بدلا عن استمرار العدم المجوز قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع وذلك - أرشدك الله - مستبين على ضرورة لا حاجة فيه إلى سبر الغير والتمسك فيه بسبيل النظر
ثم إذا وضح اقتضاء الحادث مخصصا على الجملة فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجبا وقوع الحدوث بمنزلة العلة الموجبة معلولها وإما أن تكون طبيعة كما صار إليه الطبائعيون وباطلا أن يكون جاريا مجرى العلل فإن العلة توجب معلولها على الاقتران فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة فإن كانت قديمة فيجب أن يجب وجود العالم أزلا وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم وقد أقمنا الدلالة على حدثه وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي
ومن زعم أن المخصص طبيعة فقد أحال فيما قال فإن الطبيعة عند مثبتها توجب أثرها إذا ارتفعت الموانع فإن كانت الطبيعة قديمة فلتقتض قدم العالم وإن كانت حادثة فلتكن مفتقرة إلى مخصص
قال : وإذا بطل أن يكون مخصص العالم علة أو طبيعة موجبة بنفسها لا على اختيار فتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات قلت : فهذه الطريقة هي من جنس طريقة أبي الحسين كما ترى وهي من جنس طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم ومعلوم لكل ذي فطرة سليمة أن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن التخصص لا بد له من مخصص فإنه ليس التخصص إلا نوعا من الحوادث فإنهم لا يريدون بذلك أن كل تخصيص سواء كان محدثا أو قديما لا بد له من مخصص فاعل له على الاختيار فإن القديم يمتنع عندهم أن يكون له فاعل فلم يبق إلا التخصص الحادث فيكون المعنى أن كل تخصيص حادث لا بد له من مخصص فاعل مختار
والتخصص الحادث إما أن يكون مساويا للحادث في العموم والخصوص أو يكون أخص منه فإن كان مساويا له كان هذا بمنزلة أن يقال : المفعول الحادث والمتجدد الحادث وما أشبه ذلك وإن كان أخص منه كان استدلالا على أن كل محدث لا بد له من محدث لأن هذا النوع من الحادث لا بد له من محدث
ثم إن هذا النوع هو المطلوب إثباته بالدليل فيكون استدلالا على هذا النوع بالجنس ثم استدلالا على الجنس بذلك النوع فيكون استدلالا بالشيء على نفسه
لكن يقال من جهتهم : التخصص وإن كان مساويا للحدوث في العموم والخصوص فجهة كونه تخصيصا غير جهة كونه حدوثا وهم استدلوا بما فيه من التخصيص وإن كان مشروطا بالحدوث على أنه لا بد له من مخصص
فيقال : هذا صحيح لكن عليه سؤالان : أحدهما أن جهة كونه حدوثا أدل على المحدث من جهة دلالة كونه مخصصا على المخصص فإنه لو قال لهم قائل : لا نسلم أن التخصص لا بد له من مخصص لم يكن لهم جواب إلا ما هو دون جوابهم لمن قال : لا نسلم أن المحدث لا بد له من محدث
وإذا كان قد قال : إن ما جاز تقدمه وتأخره فإذا وقع وجوده بدلا عن عدمه قضت العقول ببدائهها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع فلأن يقال : ما حدث بعد أن لم يكن فإن العقول تقضي ببدائهها بافتقاره إلى محدث أحدثه أولى وأحرى فإن العلم بافتقاره المحدث إلى محدث أبين من العلم بافتقار المخصص إلى المخصص وافتقار ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلى مرجح
السؤال الثاني : أن يقال لهؤلاء كلهم ك أبي الحسين ومن وافقه : هذه المقدمة التي بنيتم عليها إثبات الصانع تعالى تناقضهم فيها فإن حاصلها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
فإن هؤلاء يقولون : إذا حدث مع جواز أن يحدث وأن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يكون والآخرون يقولون إذا تخصص بوقت دون وقت مع تشابه الأوقات أو بقدر دون قدر لم يكن تخصيصه بأحدهما أولى من الآخر إلا بمخصص والأول ينبني على أنه قد استوى بالنسبة إلى ذاته الحدوث وعدمه فيفتقر إلى مرجح للحدوث والثاني ينبني على أن الأزمنة والمقادير والصفات مستوية فلا بد من مخصص يخصص أحدهما بالوقوع فيه وكل هذا مبني على أن الأمرين المتساويين في الإمكان لا يترجح أحدهما إلا بمرجح وهذا حق في نفسه لكنهم نقضوه حيث قالوا : إن هذه المحدثات والتخصيصات تقع بلا سبب يقتضي حدوثها ولا اختصاصها
فإنهم وإن أثبتوا فاعلا لكن يقولون : إن نسبة قدرته وإرادته إلى جميع الممكنات سواء وأنه حدثت الحوادث بلا سبب حادث أصلا بل حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ومعلوم أن هذا تصريح برجحان الممكن بلا مرجح تام
وهؤلاء يقولون : القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا هو أصل قول القدرية وهو أصل قول الجهمية الجبرية القدرية أخرجوا به أفعال الحيوان أن تكون مخلوقة لله وقالوا : إن العبد قادر مختار فترجح الفعل على الترك بال مرجح
وقالوا : إن ما أنعم الله به على أهل الإيمان والطاعة مما يؤمنون به ويطيعون هو مثل ما أنعم به على أهل الكفر والمعصية فإن أرسل الرسل إلى الصنفين وأقدر الصنفين وأزاح علل الصنفين وفعل كل ما يمكن من اللطف الذي يؤمن عنده الصنفان بمنزلة من أعطى أبنيه مالا بالسوية ثم قالوا : إن المؤمن فعل الطاعة من غير نعمة خصه الله بها تعينه على الإيمان والكافر فعل الكفر من غير سبب من الله وهذا القول مخالف للشرع والعقل فإن الله بين ما خص به المؤمنين من نعمة الإيمان في غير موضع كقوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }
والقدرية يقولون : إن هذا خطاب لجميع الخلق وليس الأمر كذلك بل هو خطاب للمؤمنين كما قال : { أولئك هم الراشدون } وكما قال قبل ذلك : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم }
فهذا خطاب للمؤمنين لا لجميع الناس
وأيضا فإن العبد إذا كان قادرا على الطاعة والمعصية فلو لم يحدث سبب يوجب وقوع أحدهما دون الآخر للزم الترجيح بلا مرجح وذلك السبب إن كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون السبب الحادث الموجب للترجيح من غير العبد والسبب الذي به وقعت الطاعة نعمة من الله خص بها عبده المؤمن
ثم إن القدرية من المعتزلة وغيرهم بنوا على هذا أن الرب لم يكن يتكلم ولا يفعل ثم خلق الكلام والمفعولات بغير سبب اقتضى الترجيح وأما المثبتون للقدر من الجهمية ونحوهم فخالفوهم في فعل العبد وقالوا إنه لا يترجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بمرجح ووافقوهم في فعل الله
ولهذا يوجد كلام الرازي - ونحوه من هؤلاء - متناقضا في هذا الأصل فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدورا إلا بمرجح وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم وردوا على الدهرية بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وقالوا : إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار ولا يصح من العلة الموجبة وادعوا الفرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل بالإختيار في هذا الترجيح
وهذا حقيقة قول القدرية لكن جهم نفسه نفى كون العبد قادرا ونفى أن يكون له قدرة على فعل وحينئذ إذا قال : إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح لم ينتقض قوله بناء على أصله الفاسد
و الأشعري وغيره ممن يقول : إن العبد كاسب وله قدرة ويقولون : ليس بفاعل حقيقة ولا لقدرته تأثير في المقدور إن حصل فرق معنوي بين قولهم وقول جهم احتاجوا الى الفرق بين فعل الرب وفعل العبد وإلا كانوا مثل جهم
وأما جمهور المثبتين للقدر الذين يقولون : للعبد قدرة وفعل وهذا قول السلف والأئمة فعندهم أن العبد فاعل قادر مختار وهو لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا لمرجح
و الرازي يميل إلى قول هؤلاء ويثبت للعبد قدرة وداعيا وأن مجموعهما يستلزم وجود الفعل
فهؤلاء الطوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم وإن خالفوا المعتزلة بقدر فهم يشاركونهم في الأصل الذي بنى أولئك قولهم في القدر عليه وهم يناظرون الفلاسفة القائلين بالموجب بالذات وأهل الطبع القائلين بأن فاعل العالم علة تامة أزلية تستلزم معلولها
وهذا القول أشد فسادا فإن حقيقة القول هؤلاء أنه ليس لحوادث العالم محدث كما أن حقيقة قول القدرية أنه ليس لفعل الحيوان محدث فما قاله القدرية في فعل الحيوان قاله هؤلاء في جميع حوادث العالم لأن العلة التامة المستلزمة لمعلولها لا يصدر عنها حادث لا بوسط ولا بغير وسط
فهؤلاء شبهوا فعله بفعل الجمادات مع تناقضهم وتقصيرهم في ما جعلوه فعل الجمادات والقدرية شبهوا فعله بفعل الحيوانات مع تناقضهم وتقصيرهم فيما جعلوه فعل الحيوانات ثم المثبتين للقدر من الكلابية وغيرهم يخالفون المعتزلة في إثبات القدر وفي بعض مسائل الصفات ويجعلون المخصص هو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع المرادات سواء وقالوا : إن من شأن الإرادة أن تخصص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب ولهذا بنوا أصولهم على أن التخصيص بأحد الوقتين لا بد له من مخصص
ثم كلام أبي الحسين وأمثاله أحذق من كلام هؤلاء من وجه وأنقص من وجه فإنه من حيث جعل نفس وجود الحدوث بدلا عن العدم مع جواز أن لا يحدث دليلا على المقتضي لحدوثه كلامه أرجح من كلام من جعل الدليل هو التخصيص بوقت دون وقت فإن نفس الحدوث فيه من التخصيص ما يستغنى به عن نسبة الحادث إلى الأوقات
وأما كونه أنقص فإنه متناقص من وجه آخر وذلك أنه قال : لو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذا كان حدوثه واجبا فإنه بعد أن يتجاوز عن أن نفس الحدوث يستلزم المحدث ولو قدر واجبا يقال له : إذا قدرت الحدوث واجبا فلم لا يجوز أن يكون حدوثه في حال أولى منه في حال أخرى ويكون واجبا في تلك الحال دون غيرها ؟
فإن قال : لأن الأحوال مستوية
قيل له : الأحوال مستوية سواء قدر أن الحدوث واجب أو جائز فلا بد من مخصص سواء قدر الحدوث واجبا أو جائزا
وإن قال : إن الواجب لا يختص بحال دون حال خلاف الجائز
قيل : هذا حق فيما وجب بنفسه لكن ليس العلم به بأبين من العلم يكون الحادث لا يحدث بنفسه بل يحتاج ذلك إلى مزيد بيان وإيضاح أكثر من هذا لأنه قد تقدم تقريره بأن القديم واجب الوجود في كل حال فإنه موجود في الأزل فلا يجوز أن يكون وجوده على طريق الجواز ولا بالفعل فتعيين أن يكون واجبا ولم يقرر أن الواجب لا يختص بوقت دون وقت
فإن قال : هذا بين معروف بنفسه معلوم بالضرورة
قيل له : إذا عرضنا على عقول العقلاء : أن الواجب : هل يكون واجبا في وقت دون وقت ؟ وأن الحادث : هل يحدث بنفسه كان ردهم لهذا الثاني أعظم من ردهم لذاك فلا يقرر الأبين بالأخفى
وأيضا فهذا أرجح من ذاك من وجه آخر وذلك أن الفلاسفة الدهرية الإلهين من المتأخرين ك ابن سينا وغيره يقولون : إن الواجب قد يكون قديما وهو واجب بغيره فالواجب بغيره عندهم قد لا يكون محدثا مع كونه مفتقرا إلى مخصص موجب فإذا عرف افتقاره إلى موجب لم يلزم على قولهم أن يكون له محدثا ولم يقل أحد من هؤلاء : إن المحدث يكون بغير محدث ومن قال هذا فإنه لا ينكر افتقار المخصص إلى مخصص فحينئذ فمن أقر بالمحدث أقر بالمخصص من غير عكس وما دل على المحدث دل على المخصص بالاتفاق وفي العكس نزاع
وأيضا فلو نازعه منازع في أن ما وجب حدوثه يجوز أن يحدث في وقت دون وقت وقال : هذا كما تقول أنت : إن القادر يخصه بوقت دون وقت لاحتاج إلى جواب
فإن قال : القادر له أن يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح كالجائع والهارب
قال له المعترض : فهذا الترجيح واجب أو جائز ؟
فإن قال : واجب
قال : فلم اختص بوقت دون وقت ؟
وإن قال : جائز
قال : فحدوثه مع جواز أن لا يحدث يفتقر إلى ترجيح آخر وإلا لم يكن بالحدوث أولى
وإن قال : العلم بأن الواجب بنفسه لا يختص بزمان دون زمان ضروري
قال المعترض : والعلم بأن الحادث لا بد له من محدث علم ضروري
فإن زعم أن هذا ليس بضروري بل نظري أمكن المعترض أن يقابله ويقول : العلم بأن الواجب لا يختص نظري لا ضروري
والمقصود هنا التنبيه على أصول هؤلاء التي هي عمدتهم وعليها بنوا دينهم الحق وما أدخلوا فيه من البدع وأن ذلك إما أن يكون باطلا وإما أن يكون حقا طولوه بما لا ينفع بل قد يضر واستدلوا على الجلي بالخفي بمنزلة من يحد الشيء بما هو أخفى منه
وإذا كانت الحدود والأدلة إنما يراد بها البيان والتعريف والدلالة والإرشاد فإذا كان المعروف المعلوم في الفطرة ويجعل خفيا يستدل عليه بما هو أخفى منه أو يدفع ويذكر ما هو نقيضه ومخالفه وكانت هذه طرق السلف والأئمة التي دل عليها الكتاب والسنة وهي الطرق الفطرية العقلية اليقينية الموافقة للنصوص الإلهية - تبين أن من عارض تلك الطرق الشرعية - معقولها ومنقولها - بمثل هذه الطرق البدعية بل عدل عنها إليها كان في ضلال مبين كما هو الواقع في الوجود والله يقول الحق وهو يهدي السبيل : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وأما طريق شيوخ المعتزلة التي ذكرها أبو الحسين وعدل عنها فهي أبعد وأطول والأسولة عليها أكثر كما لا يخفى ذلك مع أن هذه الطرق لم تتضمن كذبا ولا باطلا من جهة أنها إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه أو من جهة أنها قضايا كاذبة بل من جهة الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه بخلاف كلامهم في الترجيح بل مرجح والحدوث بلا سبب وإبطال دوام الحوادث فإن منازعيهم يقولون : كلامهم في ذلك من نوع الكذب الباطل وإن لم يعتمدوا الكذب كسائر المقالات الباطلة
وهاتان الطريقتان اللتان ذكرهما أبو الحسين عنه وعن شيوخه هما اللتان اعتمد عليهما كثير من المثبتين للصفات الذين استدلوا بطريقة الأعراض والحركات على حدوث الأجسام كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في المعتمد ) وغيرهما فإنهم سلكوا هذه الطريق فأثبتوا وجودها وأن الأجسام لا تخلو عنها وأنها لا تبقى زمانين وأنها محدثة وأن ما لا يخلو منها فهو محدث لأن الحوادث لها أول وأبطلوا وجود ما لا يتناهى مطلقا وذكروا النزاع في ذلك مع معمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم وأثبتوا ذلك بنظير ما تقدم من الحجيج وقالوا : إن ما لا ينفك عن الحوادث فهو محدث وقالوا : إذا ثبت أن ذلك محدث فلا بد له من محدث أحداثه وصانع صنعه خلافا للملحدة في نفي الصانع
قالوا : والدلالة عليه أن المحدث لو لم يتعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكتاب ولا الضرب بضارب لأن ذلك كله يتعذر إذا استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز وجود محدث لا محدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وهؤلاء يقولون : المحدث عين الإحداث فحقيقة قولهم وجود محدث لا إحداث له وقد جعلوا هنا نفي هذا مقدمة معلومة يحتج بها
قالوا : وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها بعضا ويتأخر بعضها عن بعض ولولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر ثم لا يخلو ذلك الأمر من أن يكون نفس الحادثات أو معنى فيه أو نفسه ولا معنى فيه أو لجاعل جعله فيستحيل أن يكون ذلك لنفسه لأن نفسه هو وجوده والشيء لا يجوز أن يفعل نفسه ولا يجوز أن يكون لذلك المعنى لأن ذلك المعنى لا بد أن يكون موجودا إذ المعدوم ليس له تأثير في ذلك وإذا كان موجودا فلا يخلو من أن يكون قديما أو محدثا فلا يجوز أن يكون قديما لأنه لو كان قديما لوجب قدم الجسم المحدث وذلك باطل وإن كان محدثا فلا بد أن يكون متقدما أو متأخرا فإن كان كذلك مع جواز أن لا يكون متقدما لقدم موجبه فلا يكون كذلك إلا لمعنى آخر وذلك المعنى لمعنى آخر إلى غير نهاية
ولا يجوز أن يكون كذلك : لا لنفسه ولا لمعنى ولا لأمر لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون بالوجود في وقت أولى من عدمه وبقائه على عدمه ولما علو أن اختصاصه بالوجود أولى من عدمه بطل أن يكون إلا لأمر وإذا بطلت هذه الأقسام علم أن هذه الحوادث إنما اختصت في الوجود في أوقات معينة لجاعل جعله وأراد تقديم أحدهما على الآخر وتأخر بعضها عن بعض فثبت ما قلناه
فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى ومن سلك هذه الطريقة كأبي محمد بن اللبان وقبلهما القاضي أبو بكر وغيرهم : هي من جنس ما تقدم
وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ذكروا ذلك مسلما كأنه بين وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها وجعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية تسوية بين النوع وأشخاصه فيقولون مثلا إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها : الحوادث لها أول أبتدئت منه خلافا لابن الراوندي وغيره من الملحدة
والدلالة على ذلك علمنا بأن معنى المحدث أنه الموجود عن عدم ومعنى الحوادث أنها موجودة عن عدم فلو كان فيها ما لا أول له لوجب أن يكون قديما وذلك فاسد لما بينا من إقامة الدلالة على حدوثها
والجمع بين قولنا : حوادث وأنه لا أول لها مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى وذلك باطل
ثم يقولون : وإذا ثبت ما ذكرنا من ثبوت الأعراض وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها وجب أن تكون محدثة كهي لأن الجواهر لا تخلو من أن تكون موجودة معها أو بعدها أو قبلها فإذا بطل أن تكون الجواهر موجودة قبل الأعراض وبطل أن توجد بعدها وجب أن تكون موجودة معها وثبت حدوثها كحدوث الأعراض فهذا الذي يقوله هؤلاء كالقاضيين ومن وافقهما على ذلك وهذا لفظ القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ونحوهما
والمعترض على ذلك يقول إن موضع المنع لم يقيموا عليه حجة وإنما قالوا : معنى الحوادث أنها موجودة عن عدم فلو كان فيها ما هو لا أول له لوجب أن يكون قديما وهم لا يقولون فيها ما لا أول له بل كل حادث له أول عندهم وإنما يقولون : إن جنسها لا أول له بمعنى أنه لم يزل كل حادث قبله حادث وبعده حادث
وحينئذ فيقولون : إنه لا مناقضة بين قولنا : حوادث وقولنا : لا أول لها لأن معنى قولنا : حوادث أن كل واحد واحد منها حادث منها حادث بعد أن لم يكن ليس معناه أن جنسها حادث
والذي لا أول له هو الجنس عندهم لا كل واحد واحد فالذي أثبتوا له الحدوث هو كل واحد واحد من الأعيان وتلك لم يثبتوا لشيء منها قدما ولا قالوا : لا أول لشيء منها والذي قالوا : لا أول له بل هو قديم هو النوع المتعاقب وذلك لم يقولوا : إنه حادث
ثم إن هؤلاء أيضا بعد ذلك يقررون ما يدقونه من امتناع حوادث لا أول لها في ضمن دعواهم امتناع وجود ما لا يتناهى فيقعدون قاعدة فبقولون : لا يجوز وجود موجودات لا نهاية لعددها سواء كانت قديمة أو محدثة خلافا لمعمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم من الملحدة في قولهم : يجوز وجود ذوات محدثة لا نهاية لها وخلافا للفلاسفة في قولهم : يجوز وجود جواهر قديمة لا غاية لها 0
ثم يقولون : والدليل على ذلك أن كل جملة من الجمل لو ضممنا إليها خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها زادت أو نقصت منه خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها قد نقصت
وإذا كان هذا كذلك وجب أن تكون متناهية لجواز قبول الزيادة والنقصان استحال أن تكون متناهية وإذا كان كذلك استحال وجود موجودات غير متناهية قديمة كانت أو محدثة
وليس لأحد أن يقول يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن معلومات الباري عز و جل أكثر من مقدوراته لأن جميع مقدوراته معلومة وله معلومات لا يصح أن تكون مقدورة وهي ذاته تعالى وسائر صفاته وسائر الباقيات والمحالات التي لا يصح وجودها لأن مقدورات الباري ومعلوماته على ضربين : موجودات ومعدومات فالموجودات من المقدورات والمعومات كلها متناهية والمعدومات منها غير متناهية ولا يصح فيها الزيادة والنقصان وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما قالوه فهذا الذي يذكره مثل هؤلاء كالقاضيين وابن اللبان أو غيرهم
وهذه الطريق هي طريق التطبيق ومبناها على أن ما لا يتناهى لا يتفاضل وعليها من الكلام والاعتراض ما قد ذكر في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على طرق الناس في الأصول التي يقول القائل : إنها تستلزم ما يخالف النصوص

كلام الجويني في الإرشاد عن امتناع حوادث لا أول لها
ومنهم من يسلك في دعوى امتناع دوام الحوادث مسلك الضرورة كما سلكه طوائف منهم أبو المعالي في إرشاده الذي جعله إرشادا إلى قواطع الأدلة وجعل أصل الأصول الذي بنى عليه جميع ما يذكره من أصول الدين التي بها كفر أو بدع من خالفه هو دليل الأعراض المذكور وسلك فيه مسلك من تقدمه من أهل الكلام السالكين طريق المعتزلة في تقرير ذلك وهو مبني على أربعة أركان : إثبات الأعراض ثم إثبات حدوثها ثم إثبات لزومها للجسم
قال والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها
قال : والاعتناء بهذا الركن حتم فإن إثبات العرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة فأصل مقالتهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه فلم تزل دورة الفلك قبل جورة إلى غير أول ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح فكل ولد مسبوق بوالد وكل زرع مسبوق ببذر وكل بيضة مسبوقة بدجاجة فنقول : موجب أصلكم يقضي بوجود حوادث لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها على التعاقب في الوجود وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها ونقول من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإذا تصرمت الدورات التي قبل هذه الدورة أذن انقضاؤها بتناهيها وهذا القدر كاف في غرضنا
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار عليها حتى أتباع أبي المعالي كالرازي والآمدي والأرموي وغيرهم وهم ينازعونه في قوله : إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول ويقولون : قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل : المسلمين واليهود والنصارى ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم بل قد يقولون : إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم وفضلاء الطوائف لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء بل يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء لكن يقولون : ما زال الله تعالى متكلما تكلم بما شاء أو ما زال فاعلا يفعل بنفسه ما شاء أو ما زال يفعل الحوادث شيئا بعد شيء أو نحو ذلك من المقالات التي يقولون : إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها
وأما قدم الأفلاك ودوامها فهو قول طائفة قليلة كأرسطو وأتباعه وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك وقول أرسطو هذا وأتباعه هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة
وما الأقوال التي قالها الرسل أو قالت ما يستلزمها ولم تقل نقيض ذلك فهذه لا تضاف إلى الملاحدة بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء ولم يوافقه عليه الأنبياء كان أقرب إلى أقوال أهل الإلحاد ولكن قد تشتبه على كثير من النظار فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلا عقليا ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس لا القول من أقوال الأنبياء بل قد يكون مناقضا لها ولا الدليل دليلا صحيحا في العقل بل فاسدا فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء وما فطر الله عليه العقلاء فمن خالف هذين كان مخالفا للشرع والعقل كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال
والمقصود هنا أن المعترضين على ما ذكر في تناهي الحوادث يقولون : لم يذكر على وجوب تناهيها دليلا فإن عمدته قوله : ما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإذا تصرمت الحوادث أذن انقضاؤها بتناهيها
وهم يقولون لفظ الانتهاء لفظ مجمل : أتريد به الانتهاء بمعنى أنه لا أول لها ؟ أو الانتهاء بمعنى انقضاء ما مضى ؟
أما الانتهاء بالمعنى الثاني فإنهم لا ينازعون فيه بل يسلمون أن ما انتهى فقد انتهى لكن لا يسلمون أن الحوادث انتهت بل يقولون : لم تزل ولا تزال فإن الانتهاء انقطاعها وانصرامها ونفادها وهي لم تنفد ولم تنقطع
وإن قيل : الماضي قد وجد بخلاف المستقبل
قيل : وجود ما وجد مع دوامها لا يوجب انتهاؤه
فإن قيل : فنحن نقدر أنها انتهت وفرغت
قيل : إذا قدر تناهيها لزم تناهيها على هذا التقدير وقيل : إن أريد بتناهيها أن ما مضى هو محدود بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل وهذا انتهاء
قيل : هب أن هذا يسمى انتهاء لكن على هذا التقدير فهي منتهية من هذا الطرف الذي انتهت إليه لا من الطرف الأول الذي لا ابتداء له
وعلى هذا فهؤلاء لا ينازعون في الانتهاء بهذا المعنى بل يقولون : كل ما مضى من الحوادث فقد انتهى وانقضى وانصرم وفرغ
وهذا هو الذي نفاه الله عن كلماته وعن نعيم أهل الجنة كما قال تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } [ ص : 54 ]
وقال : { أكلها دائم وظلها } [ الرعد : 35 ] وقال : { لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة : 33 ]
وقال : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } [ الكهف : 109 ]
وأما عدم الانتهاء بمعنى أنه لا ابتداء لها فلم يذكر دليلا على امتناعه فإن القائل إذا قال : ما انتفت عنه النهاية بمعنى أنه لا ابتداء له يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإن الحوادث إذا انصرمت أذن انقضاؤها بتناهيها
قيل له : انقضاؤها يؤذن بتناهيها من آخرها فالانتهاء والانصرام هنا معناهما واحد فكأن القائل قال : إذا انتهت فقد انتهت وإذا انصرمت فقد انصرمت
وأما كون الانقضاء والانتهاء من الآخر يؤذن بأن لها مبدأ كان بعد أن لم يكن فليس في الانتهاء ما يؤذن بحدوث الابتداء بل هذا هو رأس المسألة وليس الاطراد بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها بل المراد انتهاء ما مضى منها فإن ما انقطع بالكلية فعدم جنسه يمكن أن يقال إن له مبتدأ ولو كان قديم الجنس لم يعد فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه سواء كان شخصا أو نوعا
وأما إذا أريد بالانتهاء انتهاء ما مضى مع دوام النوع في المستقبل فليس في هذا الانتهاء ما يستلزم أن يكون أوله محدودا
ومن المعلوم أن العقل إذا قدر حوادث متوالية لم تزل ولا تزال كان يعلم أن كل واحد منها قد انصرم وانصرم ما قبله مع أنه قد قدر دوام هذا النوع كما يعلم أن كل واحد منها له أول مع تقديره أنه لا أول لها فعلم أن هذا التقدير ينافي انصرام ما انصرم ولا حدوث ما حدث وإذا لم يتناف هذا وهذا لم يكن ثبوت أحدهما دليلا على انتفاء الآخر فعلم أن ما ذكروه لا ينافي جواز دوام الحدوث
وقد عارضهم المعترضون بالحوادث المستقبلة وأوردوا سؤالهم
قالوا : فإن قيل : مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها
قلنا : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التوالي وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى : ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر
وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج فليس هو الساعة داخلا في الوجود وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه فقد استوى هذا وهذا في الدخول والخروج وفي العدم الآن لكن دخول هذا وخروجه ماض ودخول هذا وخروجه مستقبل وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما فهما اشتركا فيه لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان فما من حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل وهكذا كل حادث
وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله وكلا الأمرين منتف هنا والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا فإما أن يصحا جميعا وإما أن يبطلا جميعا
ولهذا كان من طرد هذا الدليل وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات : الجهم بن صفوان إمام الجهمية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي
وإذا قال القائل : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التعاقب
قيل له : فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحادا على التعاقب لكن لم تدخل بعد وذاك دخل ثم خرج
وقوله : يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد هو محل النزاع إذا قصره على الماضي وإن كان اللفظ عاما فهو خلاف ما سلمه بل هؤلاء يقولون : يجب أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادرا ثم صار قادرا أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول
ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم : إن الرب في الأزل لم يكن قادرا ثم صار قادرا وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادرا والقدرة لا تكون إلا على ممكن فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال
وقول القائل : من هؤلاء : أنه كان قادرا في الأزل على ما لم يزل كلام متناقض فإنه يقال لهم : حين كان قادرا : هل كان الفعل ممكنا ؟ فلا بد أن يقولوا : لا فإنه قولهم
فيقال لهم : كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور ؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه : قادر على الفعل
وأما قوله : إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض فيقولون : هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول وهو كل واحد واحد من الحوادث أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية وهو نوع الحوادث لم يتناقض كما تقدم
ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي قال : وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين قالوا : مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه دينارا ولا درهما ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل : لا أعطيك دينارا إلا وأعطيك بعده درهما ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط
فيقول المعترضون : هذا التمثيل ليس مطابقا لمسألتنا فإن قوله : لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله دينارا ولا أعطيتك دينارا إلا أعطيتك قبله درهما فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار وكل دينار كان قبله درهم وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث
كما أن قوله : لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده دينارا أو لا دينارا إلا وبعده درهم هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل أمكن أن يصدق في قوله في الماضي وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا ولكنه يفرق بين قوله : لا أعطيك حتى أعطيك وبين قوله : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك
فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والإعتبار وهم في القياس الذي جعلون أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه علم أن ذلك قياس باطل
وهذا من أعظم أصولهم أو أعظم أصولهم الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته
وقوله : لا أعطيك حتى أعطيك مثل قول : ما أعطيتك حتى أعطيتك فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل وكلاهما ممتنع فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء وحقيقته الجمع بين النقيضين حتى يجعل الشيء موجودا معدوما كما لو قيل : لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده بل في حال عدمه فيكون قد جعل موجودا حال كونه معدوما وهذا ممتنع بين الامتناع
بخلاف قوله : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله ولا أعطيك إلا أعطيك بعده فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء وقبل كل عطاء عطاء فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل وقبل كل حادث ماض حادث ماض فأين هذا من هذا ؟
وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل كما إذا قال : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا
واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا ؟ فمنهم من منع ذلك وقال : هذا مثل أن نقول : لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا ومنهم من جوز ذلك وقال : ليس هذا مثل هذا الممتنع ولكن هذا نظير ذلك الجائز وهو قوله : لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده دينارا فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث
وهذا المعنى هو هذا المعنى لكن هذا قدم اللفظ بما بعد وهناك قدم التلفظ بما قبل وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما
قالوا : وأما الممتنع فنظيره أن نقول : ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك فهذا نظير قوله : لا أعطيك حتى أعطيك ليس نظيره : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله فهنا أصل متفق على جوازه وأصل متفق على امتناعه بل أصلان متفق على امتناعهما وأصل متنازع فيه هل هو نظير هذا الجائز أو نظير الممتنعين ؟
ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين كالرازي والآمدي وغيرهما قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى : أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك معظمين لأرسطوا وأتباعه كابن سينا وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلا جهل أو ربما مالوا أحيانا إلى دين الملاحدة حتى قد يصنفون في الشرك والسحر كعبادة الكواكب والأصنام
وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى كما دل عليه المنقول والمعقول فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به ليس لهم على ذلك حجة صحيحة : لا عقلية ولا سمعية بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به
فإن كان هذا الأصل في المعقول ولزومه للطوائف ودلالة الشرع عليه بهذه القوة وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعا وعقلا على أقوال المرسلين الثابة شرعا وعقلا أو تكافي المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد - تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد
ومصداق ذلك أن الرازي - مثلا - إذا قرر في مثل نهاية العقول وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري : اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته كما أنه واجب الوجود لذاته فهو واجب الوجود من جميع جهاته وإذا كان كذلك وجب أن تدوم أفعاله بدوامه وبينا أيضا أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني وحللنا فيه الشكوك والشبه
قال : وأيضا العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود يجب أن يكون دائم الوجود فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود أما الصغرى فقد مضى تقريرها وأما الكبرى فهي أن الذي لا يمتنع أن يكون موجودا دائما لو كان جائز العدم لكان : إما أن يكون عدمه ممكنا دائما أو لا يكون دائما فإن لم يكن له إمكان العدم دائما كان ذلك الإمكان محدودا وإذا تعدى ذلك الحد وجب فيه وجوده وامتنع عدمه مع أن الأحوال واحدة وهذا محال يبقى أنه إن كان عدمه ممكنا فهو ممكن العدم دائما وكل ما كان ممكنا فإنه إذا فرض موجودا أمكن أن يعرض منه كذب وأما المحال فلا يعرض البتة إذا فرض معدوما لكن فرض هذا العدم يعرض منه محال وبيانه هو : أنا نفرض أن أحد طرفي الممكن وهو الوجود الدائم وجد وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائما فلا يمتنع أن يقع ذلك الممكن فإن استحالة وقوعه لم يكن ذلك ممكنا لكنه يستحيل مع فرض وجوده دائما عدمه دائما وإلا لكان الشيء في زمان غير متناه معدوما وموجودا معا وهو محال نعم يمكن فرض عدمه بعد وجوده ولكن ذلك العدم غير دائم بل هو عدم متجدد وإذا كان هذا محالا بالوضع ليس بكذب غير محال بل هو محال فالحكم على ما يمكن وجوده دائما بأنه جائز العدم محال فإذا وجوده واجب وهو المطلوب

تعليق ابن تيمية
قلت : فهذه الحجة مضمونها أن الفعل يمكن أن يكون واجب الوجود فيجب أن يكون دائم الوجود لأنه لو لم يكن كذلك لكان ممكن الوجود والعدم
والمقصود هنا أنه يمكن دوام وجوده بغيره فيجب دوام وجوده بغيره لا بنفسه إذ لو لم يجب بنفسه ولا بغيره بل أمكن عدمه لوجب أن يمكن عدمه دائما إذ إمكان عدمه في حال دون حال مع تساوي الأحوال محال وإمكان عدمه دائما ينافي وجوبه بنفسه أو بغيره في شيء من الأوقات فإنه لو وجب موجودا في حال بنفسه أو بغيره لم يكن ممكن العدم في حال وجوبه وهو إذا كان موجودا كان بغيره فيكون واجبا بالغير فإذا كان موجودا امتنع - في حال وجوده - أن يمكن عدمه فإذا قدر أنه ممكن العدم دائما بحيث لا يجب لا بنفسه ولا بغيره امتنع أن يكون موجودا في شيء من الأحوال
والتقدير أنه ممكن الوجود بل ممكن دوام الوجود وإمكان الوجود ينافي امتناع الوجود فما أمكن وجوده دائما امتنع عدمه
ونكته الحجة أن ما أمكن وجوده دائما يكون مع وجوده واجبا بغيره فإن الممكن إن اقترن به ما يوجب وجوده صار واجبا بغيره وإن لم يقترن به ما يوجب وجوده صار ممتنعا لغيره إذ الممكن لا يحصل إلا عند المرجح التام الذي يوجب وجوده إذ لو لم يجب معه لكان ممكنا وإذا كان ممكنا لم يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
وهذا الموضع قد نازع فيه طوائف المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام طائفة يقولون إن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح أصلا كما يقول ذلك طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من أصناف المتكلمين
وهؤلاء يقولون : عند وجود القدرة والداعي لا يجب الفعل بل يكون جائز الوجود والعدم
وطائفة من المعتزلة الكرامية يقولون : بل عند وجود المرجح يكون الوجود راجحا على العدم من غير وجود وهذا قول محمود الخوارزمي وابن الهيصم الكرامي وغيرهما
والقول الثالث : هو قول طوائف من أهل السنة والمعتزلة كأبي الحسين : أنه عند وجود القدرة التامة والداعي التام يجب وجود المقدور
والقول الذي اختاره محمود يقول أصحابه : إنه عند وجود المرجح يكون الممكن أولى بالوجود منه بالعدم وإن لم ينته الترجيح إلى حد الوجوب وجعلوا فعل القادر المختار من هذا الوجه
وبهذا يناظرون الناس في مسألة القدر ويناظرون الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لكن الناس بينوا فساد قولهم وذلك أنه إذا حصل مرجح وكان مع وجوده يمكن وجود الممكن ويمكن عدمه فلا بد من ترجيح لأحدهما على الآخر
فإن قيل : جانب الوجود : أقوى أو أضعف ؟
قيل : قول القائل : أقوى يريد به أنه مع هذه القوة يمكن وجوده وعدمه أو لا بد من وجوده
فإن قال بالثاني : ثبت وجوبه عند المرجح
وإن قال بالأول قيل له : فإن كان مع القوة يمكن وجوده وعدمه فلا بد من ترجيح وإلا كان الممكن نوعين أو له حالان : حال يحصل فيها بغير مرجح وحال لا يحصل فيها إلا بمرجح
والممكن ليس له من نفسه وجود أصلا بل وجوده ممكن ولا يحصل إلا بغيره فكل ما وصف بهذه الحقيقة يمتنع أن يوجد إلا بغيره فما دام ممكنا لا يوجد إلا بغيره وذلك الغير إذا كان يمكن أن يفعل ويمكن أن لا يفعل كان فعله ممكنا والممكن لا يحصل إلا بغيره
وإذا قيل : الغير هو القادر أو القادر المريد أو نحو ذلك
قيل : مجرد القادر المريد إذا كان معه وجود الفعل تارة وعدمه الأخرى كان ممكنا فلا بد له من مرجح وإلا فإذا قدر استوىء الحال من كل وجه فلا يترجح وإذا لم يكن ترجيح لزم حصول الممكن بلا ترجيح مرجح وهو ممتنع
وهذا الموضع هو الذي أنكره من أنكره من أئمة السنة والحديث ومن أئمة الفلاسفة أيضا على من صار إليه من أهل الكلام : المعتزلة والكلابية كالأشعرية وطائفة من أصحاب أحمد وغيره من الأئمة وهو أصل قول ابن كلاب في مسألة القرآن الذي أنكره عليه الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة وهو أصل شبهة الفلاسفة في مناظرتهم لهؤلاء في قدم العالم وقد بسط في موضعه
وإذا كان الممكن نفسه إما واجبا بغيره وإما ممتنعا لغيره فما كان يمكن دوام وجوده كان مع وجوده واجب الدوام بغيره فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه مع كونه واجب الدوام بغيره فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه مع كونه واجب الدوام بغيره فكل ما أمكن وجوده بغيره وأمكن دوامه امتنع مع وجوده عدمه وامتنع مع عدمه وجوده فإنه إذا لم يدم وجوده لزم أن لا يكون هناك ما يقتضي وجوده أو ما يقتضي وجوده في حال دون حال فإن ممكن الوجود إنما يعدم لعدم مقتضيه فالعدم الدائم عدم فيه مقتضى الوجود على سبيل الدوام والعدم الحادث عدم فيه مقتضى الوجود في تلك الحال
والمراد أنه عدم كمال المقتضى لا أنه عدم كل شرط من شروط الاقتضاء بل عدم بعض الشروط كاف في عدمه وعدم المقتضى في حال دون حال مع تماثل الأحوال منتف وعدمه دائما يوجب أنه يمتنع وجوده دائما والتقدير أنه فرض إمكان وجوده دائما
ومادة هذه الحجة مشاركة لمادة الحجة التي اعتمدوها في قدم العالم وهي أن الحدوث بدون سبب الحدوث ممتنع ووجود المقتضى التام في الأزل يستلزم وجود مقتضاه فإن الأصل في ذلك أنه لا يتجدد شيء بدون سبب يقتضي التجدد
فالمنازع لهم من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ونحوهم إما أن يقول : الفعل في الأزل ممتنع كما قاله طوائف منهم وإما أن يقول : هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال : الفعل في الأزل : إما ممكن وإما ممتنع وإذا كان ممكنا فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد وإما أن لا يحصل
فالتقدير الأول أنه ممتنع لاستلزام تسلسل الحوادث والثاني أنه وإن قدر إمكانه لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى أو قدرته أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به
فمن قال : إن دوام الفعل ممتنع فقد أبطلوا قوله كما ذكر ومن قال : إنه ممكن لكن لم يوجد تمام شرطه قالوا له : فهو قبل ذلك كان ممتنعا ثم صار ممكنا بل موجودا مع تساوي الحالين فيلزم الترجيح بلا مرجح
وإذا قال : إنه ممكن وما به يحصل موجود قالوا : فيلزم وجوده
ولما ذكر الرازي هذه الحجة قال : عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها وقد مضى القول فيه في باب الزمان فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول

كلام الرازي في المباحث المشرقية عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
والموضع الذي أحال فيه ذكر فيه الحجج التي احتج بها هو وغيره على حدوث الزمان ولوازم ذلك من حدوث الحركة والجسم وأبطل ذلك كله فذكر ما احتج به المعتزلة والأشعرية وما ذكره هو في الأربعين ونهاية العقول في مسألة حدوث العالم وأبطل ذلك كله فركب لهم سبع حجج : أولها : الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان وما كان كذلك فبه بداية فللحوادث الماضية بداية بيان الأولى بأربعة أوجه أحدها أن الحوادث الماضية إلى زمن الطوفان أقل من الحوادث إلى زماننا بمقدار ما بين الطوفان وزماننا الثانية : أن الدورات الماضية إما أن تكون شفعا أو وترا وكيفما كان فهو ناقص عن العدد الذي فوقه الثالث : أن عودات القمر لا شك أنها أقل من عودات زحل والمشتري الرابع : أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية فكانت النفوس البشرية غير متناهية لامتناع التناسخ فكانت النفوس البشرية الموجودة في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء الأنفس البشرية لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء الأنفس البشرية لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا قابل للزيادة والنقصان فهو متناه فالنفوس التي كانت موجودة في زمان الطوفان لا شك أنها أقل عددا من عدد النفوس إلى زماننا وكل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه فالنفوس الموجودة البشرية متناهية ثم يستدل بتناهيها على تناهي الأبدان وتناهي الأبدان على تناهي الحركات والمتحركات وتناهي كل العالم
قال : وأما بيان أن كل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه فقد زعموا أن العلم بذلك بديهي
قال : والحجة الثانية : لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده وكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية
قلت : وهذه هي التي ذكرها من ذكرها من شيوخ المعتزلة والشيعة وقد ذكرها أبو المعالي وأمثاله من أئمة الكلام
والثالثة : أن كل واحد واحد من الحوادث : إذا كان له أول وجب أن يكون للكل أول كما أن كل واحد واحد من الزنج لما كان أسود وجب أن يكون الكل سودا
قلت : وهذه حدة أبي الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة
والرابعة : أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية لكان ما لا نهاية له متناهيا وذلك محال وأمثاله من المعتزلة
والرابعة : أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية لكان ما لا نهاية له متناهيا وذلك محال وهذا من جنس الثاني
والخامسة : أن الأزل إما أن يكون قد وجد فيه حادث أو لم يوجد والأول محال لأن ذلك الحادث يكون مسبوقا بالعدم والأزل لا يكون مسبوقا بالعدم وإن لم يوجد شيء من الحوادث في الأزل فقد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجودا فإذا كل من الحوادث مسبوق بالعدم
السادسة : أن الأمور الماضية قد دخلت في الوجود وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود وما حصره الوجود كان متناهيا فالحوادث الماضية يجب أن تكون متناهية
السابعة : أن كل واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أول له فإذا فرضنا جسما قديما وفرضنا حوادث لا أول لها لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدما لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أمورا ولا يتقدم ما هو سابق على كل واحد واحد من تلك الأمور فيصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكما واحدا
ثم قال : قالت الفلاسفة : الجواب عما ذكروه أولا من وجوه ثلاثة
الأول : المحكوم عليه بالزيادة والنقصان : إما كل الحوادث وإما كل واحد واحد منهما والأول محال لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية وما لا يكون موجودا امتنع أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية من الزيادة والنقصان وغيرهما لما بينا في باب الوجود : أن ما لا يكون ثابتا في نفسه لا يمكن أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية
قلت : هذا كقولهم : الحركة غير موجودة والصوت غير موجود والكلام غير موجود وهذا لفظ مجمل فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد فهذا غير موجود وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئا بعد شيء فهذا كله موجود وهو من حيث هو موجود شيئا بعد شيء لا موجود على سبيل الاقتران
الثاني : أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهيا من جانب وغير متناه من جانب آخر فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء حتى ازداد هذا الجانب فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهيا إلا أن يقال : إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر
ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبدا من غير أن ينقطع الناقص بل يبقى أبدا مع الزائد بتلك الفضلة العددية
الثالث : معارضة ذلك بأمور أربعة : أولها : صحة حدوث الحوادث من الأزل إلى الطوفان أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا مع أنه لا يلزم تناهي الصحة
وثانيها : صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد
وثالثهما : تضعيف الألف مرارا غير متناهية أقل من تضعيف الألفين مرارا غير متناهية
ورابعها : معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية
قال : والجواب عما ذكروه ثانيا - يعني الحجة الثانية - أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله فإن كان الأمر على هذا فقد وجدنا أمرا معدوما ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة فيبتدي في الوجود من وقت ما اعتبر هذا الاشتراط فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال فهذا هو نفس المطلوب فإن النزاع ما وقع إلا فيه
والجواب عما ذكروه ثالثا أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد ثبوت الأول للكل لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفا لحكم الآحاد لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة وكل واحد من الأجزاء ليس بكل مع أن كلها كل وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم بل نقول : إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساويا لجزئه من حيث هو جزء وإلا لم يكن أحدهما كلا والآخر جزءا وأما المثال الواحد فلا يكفي لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفا لحكم الآحاد حتى يضرنا المثال الواحد بل نقول : إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون والأمر فيه موقوف على البرهان
قال : والجواب عما ذكروه رابعا أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا وثبوت النهاية من أحد الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر والدليل عليه الصحة فإنه لا بداية لها مع أنها قد تناهت إلينا وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها مع أنها في جانب البداية لها نهاية
قال : والجواب عما ما ذكروه خامسا وهو قولهم : الأزل هل وجد فيه حادث أم لا ؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة بل هو عبارة عن نفي الأولية فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم يمتنع وقوعه في الأزل فأما قولهم : لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجودا فنقول : قد بينا أن الأزل ليس وقتا مخصوصا حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية فقولنا : الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث معناه : أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث أي كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم فلم قلتم : إنه لما كان واحد منها مسبوقا بالعدم وجب أن يكون الكل كذلك فإن النزاع ما وقع إلا فيه
والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة فنقول : صحة حدوث الحوادث : هل كانت حاصلة في الأزل أم لا ؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي وذلك محال وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول وهو محال ولما لم يكن هذا الكلام قادحا في أن الصحة لا بداية لها لم يكن قادحا في هذه المسألة
قال : والجواب عما ذكروه سادسا وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا أما لم قلتم : إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث ؟
والجواب عما ذكره سابعا من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها فنقول : إن عنيتم به أنه يكون موصوفا بوجود كل الحوادث ويكون موصوفا بعدمها معا فذلك باطل لأن الحوادث ليس لكلها وجود حتى يكون الجسم موصوفا بعدمها معا فذلك باطل لأن الحوادث ليس لكلها وجود حتى يكون الجسم موصوفا به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفا بواحد من تلك الحوادث فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفا بعدم ذلك الحادث حتى يلزم التناقض بل يكون موصوفا بعدم سائر الحوادث والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفا بالحادث المعين وبعدم ذلك الحادث معا فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفا بوجوده وبعدم غيره فأي تناقض فيه ؟
قال : هذا جملة ما قيل في هذه المسألة
قلت : فهذا كلام الرازي في هذا مع أنه من عادته في الكتاب المذكور الذي صنفه في الفلسفة وهو أكبر كتبه في ذلك إذا تمكن من القدح فيما يورده الفلاسفة قدح فيه كما قدح في قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا ونحو ذلك مما يتوجه له القدح فيه وكما تقرر ما ذكره بزيادات وتكميلات لم يذكروها هم إذا توجه له تقرير ذلك فإنه بحسب ما يتوجه له من البحث والنظر
ولهذا كان تارة يعارض ما ذكره الفلاسفة بما يناقضه من كلام المتكلمين كما يعارض من الكتب الكلامية ما يذكره المتكلمون بما يذكره في مناقضة الفلاسفة ويرجح ما يترجح له في تلك الحال وهو مع هذا ذكر هذه الحجج التي هي عمد القائلين بأن الحوادث لا تدوم وعليها بنوا حدوث الجسم وأبطلها كلها وذكر أدلة أولئك في دوام فاعلية الرب تعالى ولم يبطلها
وقد ذكر أيضا حجج هؤلاء في دوام الزمان بكلام طويل ليس هذا موضع بسطه والمقصود هنا أن من يريد هذا وأمثاله من كلام هؤلاء تبين له أن ما ذكره أئمتهم الأشعرية وشيوخ أئمتهم المعتزلة في هذا الباب كان مما تبين لهم فساده ثم مع هذا لا يمكنهم القدح في أدلة الفلاسفة إن لم يقروا بما أنكروه من مدلول الكتاب والسنة الموافق لصريح المعقول فحينئذ يمكنهم القول بالمعقولات الصريحة ويتبين لهم أنها موافقة للمنقولات الصحيحة وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم إذ هم - ولله الحمد - أكمل الناس عقلا وأتمهم إدراكا وأصحهم دينا وأشرفهم كتابا وأفضلهم نبيا وأحسنهم شريعة
ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل وأصح عقلا ودينا ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى ملة من الملل وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية وعلى حل ذبائحهم ونسائهم وإن خالف في ذلك أهل البدع
وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين وإما أن يكونوا من المجوس وإما يكونوا من الصابئين وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث فمن كان من المشركين كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم أو من المجوس كفلاسفة الفرس ونحوهم فاليهود والنصارى خير منه ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين والصابئون للعلماء فيهم طريقتان : إحداهما : أنهم هل يقرون بالجزية أم لا ؟ على قولين والثانية : إنه يفصل الأمر فيهم فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم وإلا فلا وهاتان الطريقتان في مذهب الشافعي و أحمد وغيرهما
والنزاع في إقرارهم الجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب كقول الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين وأما من يقر مشركي العجم بالجزية ك أبي حنيفة و مالك و أحمد في الرواية الأخرى فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم ولذلك ينتازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل كما هو قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد بناء على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل لكن جمهور العلماء ك مالك و أبي حنيفة و أحمد في المنصوص عنه على أن الاعتبار بنفس الرجل لا ينسبه كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة
والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل كان شرا ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين
وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب والاختصاص من أهل الكلام يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيرا من قول الأنبياء والمرسلين فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه و سلم باطلة وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة لزم الأول
وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم وقول سلفهم هو قول الأنبياء لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيرا من قول الأنبياء فإن طرودا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء
وممن كان أقل علما وإيمانا منهم مال إلى القول الثاني ومن كان أعظم علما وإيمانا كان ميله إلى الأول أهون عليه فإن كفر لا حيلة فيه اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه
وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف هم شر من اليهود والنصارى ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل فإن أولئك وإن كانوا ضالين فهؤلاء شركوهم في الضلال ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله ومن كفرهم الذين يستحقون العقوبة عليه ما لم نعلمه من حال أولئك
وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء وأرسل إليهم رسول فليس هو مثل محمد صلى الله عليه و سلم بل نعلم قطعا أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه و سلم ولا شريعة كشريعته
وكل من علم حاله يعلم بالاضرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه خالق كل شيء وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار موسى وغيرهما من المرسلين مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار
وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة
وأما أهل المعرفة العالمون بالمعقول والمنقول فلا يقولون في سلفهم ما هو من لوازم قولهم كما أنهم لا يقولون في الأنبياء ذلك بل يعلمون قطعا أن كلام الأنبياء هو الحق وكل ما ناقضه من قول متفلسف أو متكلم أو غيرهما فباطل وأنه لا يجوز أن يكون في العقل ما يناقض قول الأنبياء ولا يجوز تعارض الأدلة العلمية السمعية والعقلية أبدا ويعلمون أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس كلام الفلاسفة وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحيانا كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام
كما قال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } [ آل عمران : 75 ]
وهم يعلمون مع هذا أن كل من كان مؤمنا بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم باطنا وظاهرا على الوجه الذي يرضاه الله فهو خير من كل كتابي لكن من المظهرين للإسلام من المنافقين من يكون في الآخرة أشد عذابا من بعض اليهود والنصارى فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والإسلام الظاهر يتناول المؤمن والمنافق والسعداء في الآخرة هم المؤمنون دون المنافقين والمنافقون وإن أجريت عليهم في الدنيا أحكام الإسلام فما لهم في الآخرة من خلاق

فصل أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة
ونحن نبين هنا ما ننصر به أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الإسلام والسنة من هؤلاء الفلاسفة وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة
وذلك من وجوه

الوجه الأول
أن يقولوا لهؤلاء المتفلسفة : أنتم ادعيتم قدم العالم بناء على ما ذكرتموه من قدم الزمان ووجود دوام فاعلية الله تعالى ونحو ذلك مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها ما يدل على قدم شيء من العالم : لا السموات التي أخبر الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا غير ذلك
فيقولون لهم : الحوادث إما أن تكون لها بداية كما قلنا وإما أنه لا يجب ذلك كما قلتم فإن كان الأول بطل قولكم ولزم أن يكون للحوادث ابتداء فبطل قولكم بأن حركات الأفلاك أزلية وهو المطلوب
وإن كان الثاني أمكن أ يكون حدوث الفلك حركاته موقوفا على حوادث قبل ذلك كالحوادث اليومية وتلك الحوادث على حوادث أخرى وهذا مطابق لما أخبرت به الرسل من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء ومطابق للأخبار المتضمنة أنها خلقها من الدخان والبخار الذي حصل من الماء وذلك كله أسباب حادثة ومطابق لما أخبر به الله من أنه خالق كل شيء وليس في حججكم ما يناقض هذا

الوجه الثاني
أن يقال : دوام فاعلية الرب تعالى ودوام الحوادث يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته وتحدث شيئا بعد شيء وأن تحدث حوادث منفصلة شيئا بعد شيء وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديما فلم قلتم : إن الأمر ليس كذلك وإن كان ما ذكرتموه صحيحا ؟ وإن كان باطلا فهو أبعد وأبعد
فإن اعتذروا بأن واجب الوجود لا تقوم به الصفات والأفعال كان الجواب من وجوه : أحدها : أن قولكم في هذا أفسد من قولكم بدوام الحوادث وحجتكم على ذلك في غاية الفساد
فإن قلتم : هؤلاء المنازعون لنا من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يسلمون لنا هذا
قيل لهم : هؤلاء إنما سلموا لكم امتناع قيام الأفعال المرادة المقدورة بذاته بناء على امتناع قيام الحوادث به وإنما منعوا ذلك لأن ذلك يفضي إلى تعاقبها عليه وإنما منعوا تعاقب الحوادث على القديم لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا القول فاسدا لم يكن لهم دليل على نفي ذلك
فيقولون لكم : هذا الدليل إن كان صحيحا بطل قولكم ولزم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان باطلا بطل قولنا الذي بنينا عليه نفي الأفعال وليس لكم على هذا التقدير أن تلزمونا بأن القديم لا تقوم به الحوادث بأنا إنما بنيناه على أصل يعتقدون فساده
غاية ما في هذا الباب أنكم تلزمونا التناقض وتقولون : يلزمكم : إما القول بدوام الحوادث وإما القول بجواز قيامها بالقديم
فنقول : إن كان القول بدوامها هو الحق قبلناه وتركنا ذلك وكان في ذلك لنا مصلحتان : إحداهما : موافقة الأدلة العقلية التي ذكرتموها على ذلك والثانية : موافقة النصوص الإلهية التي بدعنا بمخالفتها إخواننا المؤمنين
والقول الذي يجمع لنا موافقة العقل والنقل خير من أن نوافقكم على قدم الأفلاك ونفي صفات الله تعالى فإن في هذا من الكفر المخالف للشرع والفساد المخالف للعقل ما يتبين لمن نظر فيه لا سيما والفلاسفة لا يمنعون قيام الحوادث والصفات بالقديم الأزلي ولا كون الجسم قديما أزليا بل يوجبون ذلك كله ولا دليل لهم على قدم جسم معين كالأفلاك ونحوها

الوجه الثالث
أن يقال للفلاسفة : ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه فإن هذا يقتضى أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئا من الحوادث وذلك لأن الموجب لهذه الحوادث المتعاقبة إما أن يكون ثابتا في الأزل أو لا فإن كان الأول لزم وجود كل من الحوادث في الأزل وهو محال لأن الموجب التام لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه وهم يقولون : إن واجب الوجود علة تامة لا يتخلف عنه شيء من معلوله فإذا كانت هذه الحوادث المتعاقبة معلولة بوسط أو بغير وسط لزم مقارنتها له لأن العلة التامة يقارنها معلولها لا يتخلف عنها وإذا امتنع أن يتخلف عنها معلولها فما تأخر عنها فليس معلولا لها فيلزم أنه لم يحدث شيئا من الحوادث : لا بوسط ولا بغير وسط
وقولهم بتسلسل الحوادث لا ينفعهم والحال هذه إذا جعلوه علة تامة مستلزمة لمعلولها لأن التقدير على قولهم : إنه ليس له فعل قائم بذاته متجدد أصلا : لا خلق ولا استواء ولا غير ذلك
ومعلوم أن الحوادث الحادثة هي مختلفة الأجناس متعاقبة في الوجود فالأجناس الحادثة المختلفة إذا قدر أن حال الفاعل لها لم يزل على حال واحدة لا يقوم به فعل ولا وصف بل هو واحد بسيط امتنع أن يختلف حاله في الإحداث وأن يحدث شيئا بعد أن لم يكن أحدثه كما يقولون هم ذلك ويجعلونه عمدتهم في قدم العالم وامتناع أن تحدث عنه الأنواع المختلفة الحادثة شيئا بعد شيء وهو في نفسه لم يتجدد له حال ولا فعل ولا حكم ولا وصف ولا شيء من الأشياء ؟
وهم أنكروا على المتكلمين نفاة الفعل الاختياري القائم به أن يحدث عنه شيء بلا سبب حادث وقالوا : إن هذا مخالف لصريح العقل
فيقال لهم : الباطل بعض قولكم وإذا كان حدوث بعض الحوادث عن هذا ممتنعا فحدوث الحوادث المختلفة دائما عن علة تامة لم يحدث فيها ولا منها شيء أعظم امتناعا من قول هؤلاء
وأيضا فالحادث لا يحدث حتى يحصل الفعل التام المحدث له والممكن لا يحصل حتى يحصل الموجب التام المرجح له والموجب التام يستلزم موجبه ومقتضاه فكل من الحوادث الممكنات ما حدث ووجد حتى حصل له الموجب التام وذلك الموجب التام لا بد له من موجب تام وهلم جرا فيلزم أ يحصل لكل من الحوادث موجبات تامة لا نهاية لها في آن واحد وذلك تسلسل في العلل والمؤثرات وهو باطل باتفاق العقلاء
وإنما لزم ذلك لأن الحوادث يمتنع حدوثها عن العلة التامة القديمة فإن العلة التامة القديمة لا يتخلف عنها معلولها والمحدث يجب أن تكون علته تامة عند حدوثه
وهم يقولون بكلا القولين فلزم من هذين القولين أن واجب الوجود لم يحدث شيئا من الحوادث وأن الحوادث لا محدث لها ويلزم أيضا وجود علل ومعلولات لا نهاية لها وفاعلين لا نهاية لهم وكل ذلك مما يعلمون هم وسائر العقلاء فساده ولا مخلص لهم عن هذا إلا بأن يقولوا بأن واجب الوجود تقوم به الأفعال الاختيارية المقدورة له وتقوم به الصفات وإذا قالوا ذلك بطل قولهم بنفي الصفات ووجوب قدم الأفلاك
فعلم أن ما ذكروه من الحجج الصحيحة الدالة على دوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولهم في أفعال الرب تعالى وصفاته وعلى ضد قولهم في قدم العالم وتوحيد واجب الوجود وهذا هو المطلوب وقد بسط ما يتعلق بهذا الكلام في موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على أن كل ما تقيمه كل طائفة من الناس من الحجج العقلية التي لا مطعن فيها فإنها إنما تدل على موافقة الكتب والسنة وإبطال ما خالف ذلك من أقوال أهل البدع متكلمهم ومتفلسفهم والله سبحانه أعلم
ومما يوضح هذا أن عمدة الحجة المتقدمة في دوام فاعليته من جنس الحجة المتقدمة لمن منع حدوث الأفعال القائمة به حيث قالوا : إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن ذاته كافية في حصولها أو لا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة وهكذا قال القائلون بقدم الفعل قالوا : ذاته إما أن تكون كافية فيه وإما أن تكون متوقفة على غيره فإن كانت كافية فيه لزم قدم الفعل لوجود موجبه التام في الأزل وإن لم تكن كافية فيه لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه وهذا هو الذي يعتمدون عليه
والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : هذا يبطل قولكم ويرد عليكم في جميع الحوادث فإن ذاته إن كانت كافية في حدوث الحوادث لزم قدمها وهو ممتنع وإن لم تكن كافية لزم توقف الحوادث على غير ذاته ثم ذلك الشرط في حدوث الحوادث : إن كانت ذاته كافية فيه لزم قدمه وإلا فالقول فيه كالقول في الحادث المشروط
ومهما قدر من الممكنات أمكن أن يقال : حدوثه موقوف على حادث قبله كما علم حدوثه من المحدثات
وإذا قالوا : مبدأ الحدوث هو حركة الفلك والحركة لذاتها تتجدد شيئا بعد شيء وسبب ذلك تجدد التصورات والإرادات
قيل : هذا بعينه يبطل حجتكم فإن هذا الذي هو كذاته يتجدد شيئا بعد شيء لو كان ذات واجب الوجود وحده كافية في وجوده لزم مقارنته له في الأزل وهو ممتنع فعلم أن ذاته لا تكفي في وجود شيء منه بل كل منه مشروط بما قبله وذاته لا توجب شيئا من الشروط
وإذا قيل : الذات أوجبت وجوده متعاقبا دائما لزم أن يكون الواحد البسيط القديم الذي لا صفة له ولا فعل يوجب لذاته أمورا منفصلة عنه متعاقبة مختلفة سواء كان بواسطة لازمة له أو بغير واسطة وهذا مع أنه باطل في ضرورة العقل فإنه ينقض أصولهم في تناسب الموجب والموجب ولزوم المعلول للعلة التامة وأن الواجب علة تامة
ومن المعلوم بصريح العقل أن المعلول الموجب إذا كان حادثا شيئا فشيئا فلا بد من حدوث أمر في علته الموجبة اقتضت ذلك وإلا فالعلة موجبة إذا كانت عند الحادث الثاني كما كانت عند الحادث الأول كان تخصيصها للأول بالتقدم تخصيصا بلا مخصص وكان ترجيح الأول ترجيحا الأول ترجيحا بلا مرجح
وأيضا فيمتنع أن تكون الحركات الحادثة شيئا بعد شيء معلول علة تامة قديمة أزلية يقارنها معلولها فإن العلة الأزلية التامة يقارنها معلولها والحركات الحادثة شيئا فشيئا ليس شيء منها مقارنا للعلة فامتنع أن يكون معلولا لها
وهذا بخلاف ما إذا كان الفاعل يحدث أفعاله القائمة به شيئا بعد شيء فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فلا يمتنع أن تكون مستلزمة لدوام الفعل وأما المفعولات فكلها ممكنة ليس فيها واجب بنفسه فامتنع أن يكون فيها ما يوجب الفعل الدائم بل ذلك مستند إلى الواجب بنفسه
الثاني : أن يقال : هذا إنما يصح فيما كان لازما لنفسه في النفي والإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله ولا يكون إذا لم يشأه وهم لا يمكنهم إقامة الدليل على أنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته إلا ببيان أنه لازم لذاته ولا يمكنهم بيان أنه لازم لذاته إلا بنفي مشيئته وقدرته فلا تصح حجتهم
فإن قالوا : فتلك الأمور التي يقف عليها الفعل إن كانت قديمة لزم قدمه وإلا فلا بد لحدوثها من سبب
قيل : هذا غايته أنه يجب التسلسل في الشروط والآثار وذلك جائز عندكم
ثم نقول إن كان التسلسل في الشروط جائزا بطل هذا السؤال لجواز تسلسل الشروط وإن كان ممتنعا بطل أيضا لوجوب كون جنس الحوادث مسبوقا بالعدم
والثالث : أن يقال : أتعني بقولك : ذاته كافية : أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده ؟ فإنه عنيت الأول انتفض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما قدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذا كان ما لا تكفي فيه الذات مفتقرا إلى سبب منفصل
وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذا كان ما تكفي فيه الذات يمكن تأخره
الرابع : أن يقال : قولك : يفتقر إلى سبب منفصل : أتعني به سببا يكون من فعل الله أو سببا لا يكون من فعله ؟
أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب وفاعلها يحدث بها فهو فاعل الجميع وليس مفتقرا في فعل إلى غيره إلا أن يعنى به أنه لا يحصل أحد فعليه إلا بشرط فعله الآخر وهذا ليس فيه افتقار إلى غيره ومن سمى هذا افتقارا إلى غيره فهو بمنزلة من قال : إنه يفتقر إلى صفته
وقد ذكر غير مرة أن هذا بمنزلة قول القائل : إنه مفتقر إلى نفسه وهذا إذا أطلق لا ينافي ما وجب له من الغنى بل هذا الغنى الذي لا يتصور غيره
وإن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله لزمك أن كل ما لا تكفي الذات فيه ولا هو لازم لها في الأزل لا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مفعولاته وهذا مع أنه باطل بالإجماع الذي توافقون عليه أهل الملل فبطلانه معلوم بصريح العقل كما تقدم بيان بطلانه
الخامس : أن يقال ما تعني بقولك : ذاته كافية في ذلك ؟ أتعني به بالذات المجردة عن فعل يقوم بها ؟ أم تعني به الذات الموصوفة بقيام الفعل بها ؟ وأيهما عنيت بطل قولك
فإن عنيت الأول لزم أن تكون الذات المجردة عن الفعل القائم بها تفعل أمورا مختلفة متعاقبة مع أن حالها مع فعل الشيء هو حالها مع فعل خلافه ومع أن حالها بالنسبة إلى وجود المفعول وعدمه سواء وهذا باطل
ثم يقال : إن جاز أن يكون هذا صحيحا جاز أن يكون حالها قبل الفعل وحين الفعل سواء فيمكن قول القائل بأن الحوادث لها أول وإن لم يجز أن يكون صحيحا بطل قولهم بأن الحوادث تصدر بواسطة أو بغير واسطة عن ذات لم يقم بها فعل
وإن عنيت الثاني فالذات الموصوفة بقيام الفعل بها إذا قيل : هي كافية في المفعولات لم يلزم قدم المفعولات لأنها مشروطة بالفعل ولا يلزم من ذلك افتقارها إلى غيرها لأن فعلها الذي هو شرط في المفعولات من لوازم ذاتها كما أن صفاتها من لوازم ذاتها لكن قد يكون اللازم نوعا كالفعل المتعاقب وقد يكون عينا كالحياة التي لم تزل ولا تزال
وهذه الحجة هي التي يعتمد عليها أولوهم وآخروهم لكن يصرفون ألفاظها ومعانيها

كلام السهرودي المقتول في التلويحات
وذلك كقول السهروري المقتول في تلويحاته فإنه قال : واجب الوجود لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن فإنه إن كان المرجح هو نفسه أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم فيجب دوام الترجيح ودوام وجود المعلول وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي في فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف فواجب الوجود لا تسنح له إرادة وحال كل ما يتجدد حال ما لأجله التجدد في استدعاء مرجح حادث وليس قبل جميع الوجود وقت يتوقف عليه الفعل ولا يمتاز في العدم البحث حال يكون الأولى به أن يصدر عنه شيء أو بالشيء أن يحصل عنه فلو حصل فيه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته ولتسلسل الحوادث فيها إلى غير النهاية وهو محال ففعله دائم

الرد عليه من وجوه الوجه الأول
وجواب هذا من وجوه
الوجه الأول
أن يقال له : ما تعني بقولك : لا يصدر عنه بعد أن لم يكن ؟
إن عنيت له أنه لا يصدر عنه شيء من أعيان الحوادث بعد أن لم يكن ذلك المحدث فهذا باطل لوجهين :
أحدهما : أن هذا خلاف قولكم وقول أهل الملل فإن الحوادث متجددة شيئا بعد شيء سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة وإذا قلتم : الحركة هي السبب فيها فكل جزء من أجزاء الحركة صادر عنه بعد أن لم يكن
الثاني : أن ما ذكرته من الحجة لا ينفي ذلك فإن كون ذاته تقتضي دوام الترجيح لا يوجب أن تقتضي دوام ترجيح كل ممكن ولا كل مفعول بل يكفي أن توجب دوام ترجيح أمر ما كما تقولون أنتم : إن الذي رجحه هو الأفلاك والعناصر دون أعيان الحوادث
وإن عنيت أنه لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن شيء من الأشياء صادرا عنه وهذا هو مراده
فيقال : غاية ما في هذا دوام فعله وحينئذ فهذا لا يستلزم دوام المفعول المعين لا الفلك ولا غيره بل يجوز تعاقب الأفعال القائمة به وتعاقب المفعولات المحدثة شيئا بعد شيء على قولك وتعاقبها جميعا
وعلى التقديرات الثلاثة فحدوث الأفلاك ممكن فيبطل استدلالك على قدمها

الوجه الثاني
أن يقال : حدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به : إما أن يكون ممكنا وإما ألا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم بأن سبب الحوادث هو حركات الفلك وإن كان ممكنا أمكن حدوث حوادث متعاقبة الفلك واحد منها كما أخبرت بذلك الأنبياء وهو قول قدماء الفلاسفة وأساطينهم

الوجه الثالث
أن يقال : دوام حدوث الحوادث إما أن يكون ممتنعا أو ممكنا كما ذكرت فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأجسام وحركاتها ودخل في ذلك الفلك وغيره وإن كان ممكنا لم يجب أن يكون الفلك دائما بل يجوز أن يكون حادثا بعد حوادث قبله كما تقدم

الوجه الرابع
أن يقال : قولكم : إما أن يكون المرجح نفسه أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم فيجب دوام الترجيح ودوام وجود المعلول وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي
لأهل الملل هنا جوابان :
أحدهما : قول من يقول : إنه لم يزل يقوم به الفعل والكلام بقدرته ومشيئته وعلى هذا فيمكن دوام الترجيح ولا يجب قدم شيء من المفعولات فضلا عن قدم الأفلاك
والجواب الثاني : قول من يقول : يمتنع وجود المفعول في الأزل
وعلى هذا فإذا قلت لهؤلاء : إذا قلتم : لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف
قالوا : فعل واجب الوجود لما فعله من المفعولات المختلفة الحادثة : إما أن يجوز صدوره عنه من غير فعل قائم به وإما ألا يجوز فإن لم يجز ذلك بطل قولك وإن جاز ذلك فحاله حين حدوث الطوفان كحاله حين إرسال محمد صلى الله عليه و سلم وقد وجد منه في أحد الزمانين من المفعولات ما لا يوجد في الزمان الآخر مع تماثل حاله بالنسبة إلى الزمانين
وإذا قيل : إن ذلك لأجل الحوادث المختلفة كالحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية
قيل : الكلام في الحوادث التي أوجبت حدوث الطوفان كالقول في الحوادث حين المبعث وغيره من الحوادث المختلفة
فإذا كان الفاعل حاله مماثل في جميع الأزمنة واللوازم عنه كذلك كان اختصاص أحد الزمانين بما يخالف الزمان الآخر ترجيحا بلا مرجح فإن كان ذلك جائزا جاز أن تحدث عنه الحوادث بعد أن لم تكن
وإذا نسبت الحوادث إلى الحركة الفلكية قيل : إن كانت الحركة الدائمة متماثلة لزم تماثل الحوادث وإن كان مختلفة كان قد اختص أحد الزمانين بما لم يوجد في الزمان الآخر بل قد يقال : الفاعل إن قيل : إنه يلزمه مفعولات مختلفة دائمة متعاقبة من غير فعل يقوم به ولا صفة له كان كذلك أبعد في العقل من أن يقال : إنه فعل مفعولات مختلفة في وقت دون وقت فإن هذا بعض ذاك فكان المحذور الذي هو في هذا هو في ذاك وزيادة

الوجه الخامس
أن يقال : قولك : وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف غايته أنه يستلزم امتناع كونه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا لازم لك
لكن نقول : لم قلت : إنه لم يزل يفعل شيئا بعد شيء ؟
فإن قلت : هذا يستلزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث شيئا بعد شيء جائز عندكم فبتقدير أنه لا يزال يفعل شيئا بعد شيء كان كل ما سواه حادثا مع التسلسل الجائز وذلك جائز عندك وهو موجب دليلك
فإن كان باطلا بطل مذهبك وإن كان حقا فيقال : ما المانع أن يفعل ما لم يكن فاعلا لحدوث حادث وذلك موقوف على حادث آخر لا إلى نهاية وتكون تلك الحوادث صادرة عنه ؟
ثم يقال : إما أن يكون كل ما حدث يجوز حدوثه بلا فعل يقوم به أو لا بد من فعل يقوم به وعلى التقديرين لا يلزم صحة قولك
فإن قلت : مقصودي أنه لم يزل فاعلا وقد حصل قيل : لا يلزم أن يكون فاعلا لمعقول معين بل ولا يلزم أن يكون هو الفاعل على قولك
فإنك تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أمر يحدث فيه ومنه وعندك يحدث الحادث المخالف لما قبله كالطوفان وغيره من غير أن يحدث منه ما لم يكن حدث قبل ذلك فأنت تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أن يحدث منه شيء يخص حادثا من الحوادث

الوجه السادس
أن يقال : قولك : لو حصل منه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته وتسلسل الحوادث فيها إلى غير نهاية وهو محال ففعله دائم
جوابه أن يقال : حصول الحوادث المنفصلة عنه إما أن يقف على حدوث شيء في ذاته وإما أن لا يقف فإن لم يقف بطل قولك : لو حصل شيء بعد أن لم يحصل لتغيرت ذاته وتسلسلت فيها الحوادث فإنك تجوز أن تحدث عنه جميع الحوادث من غير حدوث شيء في ذاته فلا يكون حدوث الحوادث مستلزما لحدوث شيء في ذاته
وإن كان حدوث الحوادث المنفصلة متوقفا على حدوث شيء في ذاته لم يكن في ذلك بمحذور فإن حدوث الحوادث مشهودة وأنت لم تذكر حجة على امتناع هذا المعنى ولكن أحدث امتناعه مسلما
وتسميتك لذلك تغيرا ليس بحجة عقلية فإن لفظ التغير مشترك وهنا لا يراد به الاستحالة بل يراد به نفس الفعل أو التحول أو ما يشبه ذلك وأنت لا دليل لك على انتفاء ذلك بل أنت تجوز على القديم أن يكون متغيرا بهذا الاعتبار وتجوز على القديم أن يكون محلا للحوادث
وتحقيق الكلام في هذا الموضع أن التسلسل هنا يراد به شيئان :
أحدهما : التسلسل في الفعل مطلقا
والثاني : التسلسل في فعل شيء معين
فالأول أن يراد به أنه لا يحدث شيئا من الأشياء أصلا حتى يحدث شيئا فتكون حقيقة الكلام أنه لا يخلق حتى يخلق ولا يفعل حتى يفعل ولا يحدث حتى يحدث وهذا ممتنع بالضرورة وهذا في حقيقة دور وليس بتسلسل فإن معناه أنه لا يكون الشيء حتى يكون الشيء فيلزم الجمع بين النقيضين فإنه إذا لم يوجد حتى يوجد لزم أن يكون معدوما موجودا
وأما إذا قيل : لا يفعل شيئا إلا بشرط يقارنه ولا يفعل ذلك الشرط إلا بشرط يقارنه فهذا التسلسل في تمام التأثير وليس بتسلسل أمور متعاقبة وهذا هو التسلسل في تمام التأثير والأول تسلسل في أصل التأثير وكلاهما ممتنع
والأول هو الذي ينبغي أن يراد بقول القائل : إذا لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث شيء : إما قدرة وإما إرادة وإما علم وإما أمر من الأمور ثم القول في حدوث ذلك كالقول في حدوث الأول فإن هذا الثاني أيضا لا يحدث إلا بحدوث شيء يكون حادثا معه فإن ما كان من تمام التأثير فلا بد أن يكون موجودا حين التأثير لا يكفي وجوده قبله
وحينئذ فيمكن تصوير هذه الحجة على وجهين :
أحدهما : أن يقال لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا ولا يفعل شيئا حتى يفعل شيئا فإن حدوث الحادث بلا سبب حادث ممتنع
والثاني : أن يقال : لا يحدث مفعولا إلا بحدوث قدرة أو إرادة أو علم أو نحو ذلك ولا يحدث ذلك إلا بحدوث ما يوجب حدوثه فيلزم أن لا يحدث شيئا فإن هذا تسلسل في تمام التأثير والتسلسل في تمام التأثير كالتسلسل في المؤثرين فكما أنه يمتنع أن لا يكون مؤثرا إلا عن مؤثر ولا يؤثر إلا عن مؤثر وأنه يمتنع وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلذلك يمتنع أن لا يتم كون الشيء علة أو فاعلا إلا بوجود أمر ولا يتم وجود ذلك التمام إلا بوجود تمام آخر إلى غير غاية فهذا أيضا ممتنع باتفاق العقلاء
وأما إذا قيل لا يوجد الشيء حتى يوجد قبله شيء آخر ولا يوجد ذلك الثاني حتى يوجد قبله شيء آخر فهذا فيه النزاع المشهور وهو تسلسل الآثار المعينة لا تسلسل في أصل التأثير فيجب تصور الفرق بين الأمرين
وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى بـ حكمة الإشراق وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده ولم يقلد فيه المشائين بل بين فيه خطأهم في مواضع وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند
كما أن ابن سينا في كتابه المسمى بـ الحكمة المشرقية ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده وكذلك الرازي في المباحث المشرقية

كلام السهرودي المقتول في حكمة الإشراق
فقال السهروردي : نور الأنوار والأنوار القاهرة يعني واجب الوجود والعقول : لا يحصل منهم شيء بعد أن لم يحصل إلا على ما سنذكره فإن كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد وإلا هو مما لا يتصور وجوده أو توقف على غيره فما كان هو الذي يتوقف عليه وقد فرض أن التوقف عليه وهو محال وكل ما سوى نور الأنوار لما كان منه فلا يتوقف على غيره كما يتوقف شيء من أفعالنا على وقت أو زوال مانع أو وجود شرط فإن لهذه مدخلا في أفعالنا ولا وقت مع نور الأنوار متقدم على جميع ما عدا نور الأنوار فإن نفس الوقت أيضا من الأشياء التي هي غير نور الأنوار فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة فيدوم بدوامه ما فيه لعدم توقفه على أمر منتظر ولا يمكن في العدم البحث قرض تجدد مع أن كل ما تجدد يعود الكلام إليه
فنور الأنوار والأنوار القاهرة : ظلالها وأضواؤها المجردة دائمة وقد علمت أن الشعاع المحسوس هو من النير لا النير من الشعاع وكلما يدوم النير الأعظم يدوم الشعاع مع أنه منه
ثم قال : كل هيئة أي عرض لا يتصور ثباتها هي الحركة وكل ما لم يكن زمانا ثم حصل فهو حادث وكل حادث إذا حدث شيء مما يتوقف عليه هو حادث إذ لا يقتضي الحادث وجود نفسه إذ لا بد من مرجح في جميع الممكنات ثم مرجحه إن دام مع جميع ما له مدخل في الترجيح لدام الشيء فلم يكن حادثا ولما كان حادثا فشيء مما يتوقف عليه هذا الحادث حادث
ويعود الكلام إلى ذلك الشيء فلا بد من التسلسل والسلسلة الغير المتناهية مجتمعة وجودها محال فلا بد من سلسلة غير متناهية لا تجمع آحادها ولا تنقطع وإلا يعود الكلام إلى أول حادث بعد الانقطاع فينبغي أن يكون الوجود حادث متجدد لا ينقطع وما يجب فيه لماهيته التجدد إنما هو الحركة
وذكر تمام الكلام في وجوب استمرار حركة دائمة وأنها حركة الأفلاك

الرد عليه من وجوه الوجه الأول
فيقال له عن هذا أجوبة :
أن يقال : كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد إلى قوله : وما كان من نور الأنوار فلا يتوقف على غيره إلى آخره
ما تعني بقولك : ما كان من نور الأنوار ؟ تعني : الله فلا يتوقف على غيره ؟ أتعني به : أنه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله ؟ أم تعني به : لا يتوقف على فعل قائم بذات الرب يفعله بمشيئته وقدرته ؟
أما الأول : فلا ينفعك لأنه لا يلزم من كونه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله أن لا يتوقف على فعله الواقع بمشيئته وقدرته وحينئذ فلا يلزم قدمه بل إذا كان الفعل المراد المقدور حادثا فالمعلق به أولى أن يكون حادثا فإنه لا يكون قبله وما لا يسبق الحوادث يجب أن يكون حادثا
وإن قلت : إنه لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه فهذا محل النزاع وأنت لم تذكر دليلا على أن وجود الممكنات لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه بل الدليل يوجب توقف المعقولات على فعل الفاعل وتوقف المعلول على اقتضاء العلة والعلة شيء واقتضاؤها المعلول شيء وإذا كانت العلة مشروطة بما يقوم بها بالمشيئة والقدرة لم يحصل المشروط قبل الشرط وأنت لم تقم دليلا إلى ثبوت علة مجردة خالية عن شرط بل الدليل ينفي ذلك لأنه يلزم من قدم هذه العلة قدم معلولها ومعلول معلولها فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها وحينئذ فلا يكون للحوادث فاعل أصلا وهذا من أبين الأمور المعلوم فسادها بالضرورة

الوجه الثاني
أن يقال : ما سوى الله هل يتوقف شيء منه على غيره أم لا ؟
فإن قلت بالثاني لزم قدم جميع الممكنات الموجودة حتى الحوادث وهو مكابرة وإن توقف منه شيء على غيره بطل قولك : ما سوى نور الأنوار لا يتوقف على غيره وإيضاح ذلك :

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فوائد من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جمع فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

فوائد من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جمع  فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ حقوق الطبع والنشر لكل مسلم بسم الله الرحمن الرحيم المقد...